وفي القرن الرابع والخامس للميلاد بدل عن النسك المعيشة الرهبنية، وفي سنة 328 للميلاد أسس القديس «هبلايون» الرهبنة في فلسطين، وشاد «أثناسيوس» أسقف «سبسطية» الرهبنات في أرمينيا، وفي سنة 360 للميلاد أقام «باسيليوي» رهبنات على سواحل البحر الأسود الجنوبية، وكانت الرهبنات في أيام يوحنا فم الذهب متكاثرة في جوار أنطاكية، فزادها نموا وتقدما بكلامه وأعماله. وأما النسك فلم يكن محبوبا كثيرا عند آباء الكنيسة الأولين، فإنهم قصدوا بترويج الرهبنات الحصول على الفضائل الناشئة عن الاعتزال المؤقت لتربية رجال ذوي كفاية لإذاعة التعاليم الدينية بين أهل المدن، ولم يكونوا ينظرون بعين الرضاء التام إلى أعمال الذين يضايقون أجسامهم بأعمال غير عادية، ويؤلمونها في سبيل العبادة.
وقد انتقلت الرهبنات من الصحارى إلى المدن، وبعد ذلك أخذ الكتاب الدينيون يشكون من الذين كانوا يأوون إليها وينخرطون في سلكها طلبا لراحة البال والجسم، وقالوا: إن البعض يحب الكسل والتواني والشر بدافع التقوى والتعبد والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، وإن الإفراط في الاعتزال والتقشف والزهد جلب على كثيرين الدعارة والجنون واليأس والانتحار ، وإن الجهل مع المغالاة في الدين أو الإفراط في التعصب جعل بعض الرهبنات أداة ذات خطر في يد رجال ذوي مطامع. وقد أفرغ الإمبراطور «فالنسيوس» وغيره جهدهم لمنع امتداد الرهبنات، ولكن محاولاتهم ذهبت سدى، ونشأ عن إفراط بعض الرهبنات في التأمل اعتقادهم الحلول الإلهي في الكون، فحرموا من الكنيسة وتعاظمت الشكوى. وكان من أثر نفوذ إمبراطوريي بيزانطية المتعاظم أن الكنيسة الشرقية لم تحاول رهبنات جديدة. وتبعت الرهبنات الشرقية إلى أيامنا القانون المنسوب إلى «باسيليوس»، وانتسبت إليه أو إلى «مار أنطونيوس».
الفصل التاسع
اليهود في مصر السابقة وإيران
جاء في مقدمة كتاب «اليهود في مصر» تأليف المؤرخ اليهودي «موريس فيرجون»: «إن المصريين اشتهروا في حكم بعض أمرائهم بالمقدرة العسكرية، وذلك بفضل ما كان لديهم من القوانين والعلوم. فقد نبع أكثر العلوم والفنون عندهم، وكان من أثر تتلمذ اليونان لهم، أن كانوا معلمي أوروبا. وهذه الأمة المصرية المشهورة قد آوت الشعب اليهودي، ذلك الشعب الذي تفرق في جميع بلاد العالم وخضع لألوان الحكومات والنظم، ومع هذا لبث محتفظا بعاداته وقوانينه ولغته، في حين أن أكثر الأمم الأوروبية ليست متحققة من أصولها.
ومما يفخر به اليهودي أن له نسبا عريقا. وسواء أكان يسكن بولندا أم إسبانيا، في وسعه أن يقول: إن آبائي سكنوا الصحراوات في مصر وروما وآثينا وسبارطة، وتلك البلاد التي كانت مواطن المجد العالمي الغابر الزائل.»
ترجع هذه الظاهرة السياسية إلى قوة تعليم النبي موسى؛ ذلك أنه بعزله شعبه اليهودي عن سائر الناس، جعل تفرقهم سهلا، كما جعل فناؤهم مستحيلا، فكان اليهود، إذا ما كانوا غزاة غالبين، لا يعمدون إلى إدماج الأمم التي أخضعوها. أما إذا كانوا مغلوبين على أمرهم فإنهم لا يفنون في الغالبين. أما الآثام التي تعزى إلى اليهود الآن، فإن أكثرها يرجع إلى حالة الذل التي كانوا خاضعين لها في كل مكان، فلم يكن لهم أي حظ في الدولة، ولم يكن مرخصا لهم بملكية الأراضي أو الاستمتاع بحرية الحقول التي تقوي الروح، ولكنهم كانوا ملزمين بأن يسكنوا في أحياء منعزلة في المدن، وأن يقبعوا في مساكنهم مع مغيب الشمس كالجثث المتراكمة، وأن لا يشتغلوا بأي فن حر. فكان من أثر هذا، أن انحصر ميدان عملهم في البيع والشراء، والحصول على الذهب الذي يستطيعون به أن يهدئوا حدة ظالميهم، وأن يتيح لهم شيئا من المعيشة الهينة، ومن هنا أصبح الذهب غاية مطامعهم. وعلى هذا ليس مما يطابق الحق أن يعزى ما يرمون به من المثالب إلى شريعتهم؛ ذلك أن الرجل إذا شعر أنه حر ومحترم، سرعان ما يبدو أنه كريم وشجاع، مهما يكن الدم الذي يجري في عروقه، كما أن هذا الرجل نفسه يصبح خبيثا ماكرا وحائرا متى كان عبدا حقيرا. وحسبنا أن نذكر أنه حيث تسود مصر ديانة سمحاء، تحسنت حال اليهود ونبغ بينهم رجال ذوو فضل وأدباء بارزون وعلماء أصبحوا مجدا لوطنهم الحر.
هذا؛ ولما هبط اليهود مصر، احترفوا التجارة والجندية، وكان منهم جنود في أسوان، التي أقاموا فيها قلعة في جزيرة أسوان، كما بنوا معبدا لهم يذبحون الضحايا خاصة الكبش على مذبحه ويحرقونها قربانا لله. وقد جاء في القرآن الكريم أن إبراهيم ذبح الكبش فدى لابنه إسماعيل، أما عند اليهود والمسيحيين - طبقا للإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين - فإن الرب إنما أراد أن يختبر إبراهيم، فأمره بذبح ابنه الأصغر «إسحاق»، فلما صدع بأمر ربه، جاءه الملاك وأمسك بيده ثم قدم له الكبش ليفدي ابنه «إسحاق».
ولما كان المصريون يقدسون الكبش، فقد كانوا في خصام دائم مع اليهود الذين يضحون بالكباش كما قدمنا، ومن أجل هذا استعان المصريون بالوالي الفارسي على تخريب المعبد فجعله أثرا بعد عين.
اليهود والفرس
Unknown page