مقدمة
1 - كلمة عامة عن نشأة اليهود
2 - الأمم السامية واليهود
3 - الأسماء التي أطلقت على اليهود
4 - بداية الدولة اليهودية
5 - أصل الديانة اليهودية
6 - اللغات السامية واللغة العبرية
7 - حياة اليهود السياسية والأدبية والاجتماعية
8 - الأراضي والأماكن المقدسة
9 - اليهود في مصر السابقة وإيران
10 - الإسرائيليون والعرب قبل الإسلام وبعده
11 - تفوق اليهود في التجارة والمال واضطهادهم
12 - ميلاد الوطن القومي اليهودي
13 - أثر التصريح في اليهود والعرب
14 - الانتداب على فلسطين وفاتحة الوطن القومي
15 - كيف يستعمر اليهود فلسطين؟
16 - مؤتمر فلسطين في لندن
17 - جامعة الأمم العربية وميثاقها
18 - الصهيونية بين الحربين العالميتين وبعدهما
مراجع الكتاب
مقدمة
1 - كلمة عامة عن نشأة اليهود
2 - الأمم السامية واليهود
3 - الأسماء التي أطلقت على اليهود
4 - بداية الدولة اليهودية
5 - أصل الديانة اليهودية
6 - اللغات السامية واللغة العبرية
7 - حياة اليهود السياسية والأدبية والاجتماعية
8 - الأراضي والأماكن المقدسة
9 - اليهود في مصر السابقة وإيران
10 - الإسرائيليون والعرب قبل الإسلام وبعده
11 - تفوق اليهود في التجارة والمال واضطهادهم
12 - ميلاد الوطن القومي اليهودي
13 - أثر التصريح في اليهود والعرب
14 - الانتداب على فلسطين وفاتحة الوطن القومي
15 - كيف يستعمر اليهود فلسطين؟
16 - مؤتمر فلسطين في لندن
17 - جامعة الأمم العربية وميثاقها
18 - الصهيونية بين الحربين العالميتين وبعدهما
مراجع الكتاب
المسألة اليهودية
المسألة اليهودية
تأليف
عبد الله حسين
مقدمة
منذ عشرين عاما أصدرت كتاب «المرأة الحديثة وكيف نسوسها؟» تحدثت فيه عن نهضة المرأة وتطورها إلى القيام بالأعمال التي كانت قبل يومئذ وقفا على الرجل. وقد كنت معتزما أن أتابع إصدار كتب تتناول صورا من النهضة الحديثة متمثلة في القوميات التي بدت في الغرب والشرق. وقد لبثت منذ يومئذ أعد عدتي لهذه المؤلفات. وكان مما استرعى نظري، ما شغلته مسألة اليهود من الأهمية منذ طالبوا بالوطن القومي والدولة اليهودية المستقلة، وصدور تصريح بلفور في هذا الصدد، وما قامت عليه النازية الهتلرية في ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، من اضطهاد اليهود على صورة تقرب مما كان عليه حالهم قبل اعتراف الأوروبيين بمساواتهم بسائر السكان، وما بلغه اليهود من المكانة في الأحزاب السياسية، والمصارف المالية، والدوائر التجارية والعلمية والأدبية والصحفية والفنية في أوروبا وأمريكا وغيرها؛ وذلك لما لهم من صفات أعدتهم لهذه المرتبة.
ونحن، إذ نعرض لهذا الموضوع: نرمي إلى بسط مراحل اليهودية نشأة وهجرة ودولة وزوالا وانبعاثا وانتشارا، إلى أن نبلغ المرحلة الحاضرة لهذه القضية الخطيرة، وهي قضية مزدوجة؛ فهي قضية اليهود من ناحية ما يرددون وما يطلبون، وقضية الشعوب التي راعتها مكانتهم وأفزعتها مطالبهم أو أثر فيها نشاطهم ونهضتهم، ولئن كان بسطنا للموضوع على هذه الصورة لا يهدف إلا لإيضاح الوقائع التاريخية في عدل ونزاهة واستقلال وحسب؛ غير أننا نرجو أن يكون هذا معينا على علاج هذه القضية، خاصة مشكلة فلسطين وعلاقات اليهود بالبلاد التي اتخذوها مقاما أو ميدانا للعمل؛ لكي يكون السلام العالمي تاما.
عبد الله حسين
الفصل الأول
كلمة عامة عن نشأة اليهود
المعروف أن العبريين إحدى الأمم السامية، وكانوا في جودا قبل سنة 1000ق.م، وبعدئذ اتخذوا «بيت المقدس» عاصمة لهم. وقد أفضى موقع بلادهم بين الإمبراطوريات الشرقية إلى اتصالهم بمصر جنوبا وسوريا وآشور وبابل شمالا، وإلى أن أمسى الوطن العبري طريقا كبيرا متأثرا بما يقوم بين الممالك المتجاورة من الحروب والعلاقات.
وقد اكتسب العبريون مكانتهم التاريخية بما امتازوا به من الأدب المكتوب والقوانين والمدونات التاريخية والمزامير «الزبور»، وكتب الحكمة والشعر والخيال، والأقوال السياسية، مما انتهى إلى ما يعرفه المسيحيون باسم «العهد القديم» أو «التوراة العبرية»، ومن المرجح أن الأدب العبري ترجع موارده إلى بابل. فقد غزا الفرعون المصري نيخاو الثاني الإمبراطورية الآشورية، حين كانت تدفع عن حياتها غزوات الميديين والإيرانيين والكلدانيين، وكان الملك العبري في جودا قد هزم وذبح في 608ق.م، حين تصدى لنيخاو الثاني، وأصبحت «جودا» ولاية تابعة لمصر. ثم إنه بعد أن أتم نيبو كادانيزار العظيم - ملك بابل العظيم - إكراه نيخاو الثاني على الجلاء عن «جودا» والانسحاب إلى مصر، أمست «القدس» يحكمها ملوك عبرانيون كانوا لعبة في يد بابل؛ فثار العبرانيون على «نيبو كادانيزار» وذبحوا موظفيه البابليين، وعلى أثر هذا اعتزم أن يمحو هذه المملكة الصغيرة، فنهب «بيت المقدس» وأحرقها، وأخذ الباقين من سكانها أسرى في بابل، فلبثوا فيها إلى أن أخذ «سيراس» بابل في 538ق.م، فأعادهم إلى وطنهم «بيت المقدس» معيدا أسواره ومعبده.
ويبدو أن اليهود لم يكونوا قبل هذا شعبا موحدا متحضرا؛ ذلك أن الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة نفر قليل، ولم يعرف تاريخهم أن النسخ الأولى من التوراة كانت تقرأ، فقد ذكرت للمرة الأولى في عهد أشعيا، ومن أجل هذا كانت ثقافتهم وليدة أسرهم في بابل. فقد عادوا منه ملمين بأدبهم موحدي الكلمة والسياسة، ويبدو أن التوراة كانت يومئذ «البنتاتوخ»؛ أي الأسفار الخمس الأولى من العهد القديم، فقد وضعوا أسفارا أخرى مستقلة، أصبحت «البنتاتوخ» تتضمنها: كالمدونات التاريخية، والزبور، والأمثال.
وإن ما أوردته «التوراة» عن قصة آدم وحواء وقصة الطوفان جاء مطابقا لما ورد في الأساطير البابلية؛ إذ إنه يبدو أن هاتين القصتين من جملة القصص التي تشترك الأمم السامية في الإيمان بها. فقد وردت قصص موسى وشمشون في القصص السومرية والبابلية. أما ما يتصل بقصة إبراهيم وما بعدها، فإنها مستقلة عن القصص المشار إليها.
هذا؛ ويبدو أن إبراهيم كان معاصرا لحامورابي في بابل، وأنه كان من الجنس السامي، وكان رحالة وقورا، وقد أورد سفر التكوين قصة أسفاره، وقصة أبنائه وأحفاده، فقد جاز كنعان، وقد تلقى إبراهيم من ربه وعدا بأن تكون تلك الأرض المبهجة الشاملة المدن الرخية له ولأولاده. وبعد أن أقاموا طويلا في مصر، وبعد أن أمضوا أربعين سنة ضاربين في الفلاة الموحشة، تحت زعامة موسى، أصبحوا 12 قبيلة وسعها أن تغزو أرض كنعان من صحراء العرب إلى الشرق بين 1600ق.م و1300ق.م. غير أنهم لم يستولوا على أكثر من الأراضي التلية خلف «أرض الموعد»، فقد كان يسيطر على ساحلها الفلسطينيون الذين ينتمون إلى عنصر بحر إيجه بعد إجلاء الاحتلال الكنعاني، وقد صدت مدنهم - مدن غزة وجاث وأشدود وإسكالون وجوبا - غارات العبريين.
وقد نشبت بين أبناء إبراهيم والفلسطينيين الإيجيين والأقوام المرتبطة بقرابتهم، كالمؤابيين والميدبانيين، من المناوشات والمعارك والكوارث ما سجل سفر القضاة أنباءه، وقد لبث يحكم العبرانيين في أكثر هذه الحقبة، قضاة من الكهنة يتولى انتخابهم كبار السن في الأمة اليهودية، إلى أن اختاروا شاءول ملكا عليهم وقائدا حربيا سنة 1000ق.م، غير أن حكمه لم يكن أكثر توفيقا من حكم القضاة، فقد أبادته سهام الفلسطينيين في موقعة مونت جيلبوا، وقد ذهب درعه في معبد فلسطين فينوس، وسمرت جثته في جدران بيت شان.
ثم إن «داود» قد خلفه، وكان أكثر توفيقا وأبعد سياسة، فلم يتح للعبرانيين لا قبله ولا بعده أن يستمتعوا بعصر سعيد مثله، فقد كان داود حليفا لصور الفينيقية؛ إذ كان يحكمها الملك هايرام، وكان موهوبا ألمعيا، يعنيه أن يتخذ من أرض المملكة العبرانية، طريقا مأمونا إلى البحر الأحمر؛ إذ إن الحالة في مصر ما كانت مرضية يومئذ للحركة التجارية الدولية. وقد لبث هايرام أو «حيرام» على أوثق الصلات بسليمان كما كان شأنه مع أبيه داود، هذا ويرجع إلى رعاية هايرام هذا، إقامة معبد بيت المقدس مقابل الترخيص لهايرام ببناء السفن وتسييرها في البحر الأحمر، وكان من أثر هذا ازدهار التجارة شمالا وجنوبا مجتازة بيت المقدس، واستمتاع سليمان بنعيم وثروة لا مثيل لهما في تاريخ قومه، وقد زوجه فرعون مصر بابنته.
غير أنه ينبغي أن نذكر هنا أن الملك سليمان كان ملكا ثانويا في مملكة مقصورة على أورشليم «بيت المقدس» التي كانت مدينة صغيرة، وكانت سلطته وقتية؛ إذ إنه بعد وفاته ببضع سنوات استطاع شيشاق - أول فراعنة الأسرة الثانية عشرة المصرية - أن يغزو بيت المقدس وأن ينهب أكثر نفائسها، وقد وردت قصة سليمان وكنوزه ومركباته البالغة الأربعمائة في سفر الملوك والتواريخ.
هذا؛ ويؤخذ من الآثار القديمة أن «أهاب» الذي خلف «سليمان» أرسل 2000 مركبة إلى الجيش الآشوري، ويؤخذ من التوراة أن سليمان كان معنى بالمظاهر مرهقا قومه بالعمل والضرائب. وبعد موته انفصل الجزء الشمالي من مملكته من بيت المقدس وصار يدعى مملكة إسرائيل. أما بيت المقدس فقد لبثت عاصمة جودا «أرض الموعد».
وبعد قليل انقضى عهد سعادة العبرانيين، فقد مات هايرام، وحبست دولة حور مساعدتها عن أورشليم «بيت المقدس»، واشتد ساعد مصر مرة أخرى، وأصبح تاريخ كل من المملكتين الصغيرتين جدا: إسرائيل وجودا، تابعا لسلطان سوريا، ثم آشور، ثم بابل شمالا ولمصر جنوبا، وهو تاريخ مليء بالمآسي والكوارث التي تتخللها فترات قصيرة من التحرير والسكينة، وبملوك همجيين يحكمون همجيين، وفي 721ق.م اكتسح الآشوريون مملكة إسرائيل، وانتهى تاريخ الأمة الإسرائيلية. أما جودا فقد لبثت تناضل حتى أصبحت أثرا بعد عين في 604ق.م.
هذا؛ وسنوضح ما قدمنا بعد ذاكرين هنا أن تعيين التواريخ أمر مختلف عليه بين المؤرخين والمستنتجين.
الفصل الثاني
الأمم السامية واليهود
كانت الأمم السامية هي الأمم المتحضرة المتغلبة في الشرق وشمال أفريقيا، فقد كانت مستأثرة بالتجارة، وكانت إمبراطورياتها تشمل سوريا وبابل، وأخضعت مصر طويلا. وكانت لغات بعض الساميين يفهمها البعض الآخر، واستطاعت صيدا وصور - وهما بمثابة الأم لمدن الساحل الفينيقي - أن تنشئا المستعمرات في أفريقيا وإسبانيا وصقلية، وفي قرطاجنة التي كان تأسيسها في 800ق.م، وكان سكانها منيفين على المليون، ووسعها أن تصبح أكبر مدن الدنيا بعض الوقت، وقد وصلت سفنها إلى السواحل البريطانية وإلى الماديرا، وإلى شواطئ البحر الأحمر ناقلة التجارة إلى بلاد العرب والهند، وطافت بعثة فينيقية في عهد الفرعون نيخو حول أفريقيا.
هذا ما كان من أمر الأمم السامية. أما الأمم الآرية، فقد لبثت على الحالة الهمجية إلا الأمة اليونانية؛ فإنها شرعت تستيقظ جاهدة في بناء حضارة جديدة على أطلال الحضارة التي أتت عليها يد العفاء، ثم إن الميديين أصبحوا ثابتين في وسط آسيا.
غير أن الآريين قد استطاعوا أن يقضوا على الإمبراطوريات والحضارات السامية كلها إلا في الصحارى الشمالية من البلاد العربية؛ وذلك لبقاء سكانها بدوا رحلا، وقبل بزوغ فجر القرن الثالث قبل الميلاد، صار الساميون إما في ضمن رعايا الدول الآرية وإما تابعين لها.
غير أنه مما ينبغي ذكره - إلى ما تقدم - أن الأمة اليهودية قد استطاعت أن تحتفظ بطابعها وتقاليدها وآدابها حيال الكوارث التي نزلت بها وبالأمم السامية عامة، وذلك منذ أن أعاد سيروس - ملك إيران - اليهود إلى أورشليم «بيت المقدس» أو القدس . أما مرجع استئثار اليهود بتقالديهم دون سائر الساميين، فهي التوراة التي سوتهم خلفا جديدا، وآثرتهم بالمبادئ القويمة التي اختلفت عما كان يجري عليه جيرانهم؛ ذلك أن التوراة علمتهم أن الله ذات غير منظورة وبعيدة، غير منظورة في معبد لم تصنعه يد صانع، وهو سيد الحق في الدنيا كلها، ومنزلته في السماء فوق الكهنة جميعا، على حين أنه كان للأمم الأخرى جميعا يومئذ آلهة ممثلة في تماثيل وأصنام أقيمت في المعابد، فمتى تهشم التمثال ودك المعبد، مات الإله لساعته!
وعند اليهود أن رب إبراهيم قد اختارهم لكي يكونوا شعب الله، وليعيدوا «أورشليم» فتكون عاصمة الحق في الدنيا، وقد أزهاهم اعتقادهم أن مصيرهم واحد، ومن أجل هذا كانوا مشبعين بهذه الروح حين عادوا من مأسرهم في بابل.
وعلى أثر سقوط صيدا وصور وقرطاجنة والمدن الفينيقية الأسبانية، كتب على الفينيقيين الفناء فجأة، وأصبحوا أثرا بعد عين، على حين أنه قد تخلف أو ظهر فجأة جالية يهودية، لا في «أورشليم» وحدها، بل في كل من إسبانيا وأفريقيا ومصر وبلاد العرب والشرق، وقصارى القول في كل بلد اختلف إليه الفينيقيون. وقد كانت التوراة هي رابطة اليهود، وكانت قرابتها هي الجامعة لهم، وكانت مدينتهم الحقيقية هي التوراة. أما أورشليم فقد كانت عاصمتهم الاسمية منذ نشأتهم. ولئن كانت بذور هذه الروح قد غرست قبل أن يكتب المصريون والسومريون لغتهم الهيروغليفية، غير أن هذا الحادث كان هو الأول من نوعه في التاريخ؛ ذلك أن الأمة اليهودية لبثت قائمة بعد أن أصبحت لا دولة لها ولا ملك، بل لا معبد لها، منذ قوضت أورشليم ذاتها في سنة 70م. هذا؛ ولم تكن هذه الحالة الفريدة الشاذة في التاريخ وليدة خطط السياسيين أو من بنات أفكار الكهنة، بل إنهم لم يتوقعوها، فقد كانوا في عهد ملكهم سليمان أمة صغيرة تسكن رقعة صغيرة من الأرض وتخضع لتصاريف الملك ولحكمة الكهنة، ثم إن دبيب الخلاف قد تدسس إلى هذه الأمة الصغيرة؛ فانقسمت شيعا ومذاهب، وفي تضاعيف هذا شرع صنف جديد من الرجال يبرز إلى ميدان الحياة مسيطرا على وجهتها الروحية في صورة لم يعهد التاريخ لها نظيرا؛ ذلك هو ظهور الأنبياء منتمين إلى أصول مختلفة. فقد كان النبي حزقيل ينتسب إلى عنصر الكهنة. أما النبي آموس فقد كان راعي غنم، غير أن الأنبياء جميعا كانوا لا يدينون بالطاعة إلا لرب الحق، وكانوا يتحدثون إلى الناس من غير وساطة. يقول النبي منهم: «لقد جاءتني كلمة ربي.» منددين بتراخي الكهنة وخطايا الملك وبأكل الأغنياء أموال الطبقة الفقيرة وأخذها بالباطل، وبمحالفتهم الأجانب ومحاكاة ما هم فيه من الترف والنعيم؛ لأن هذا يكرهه رب إبراهيم، هذا الرب الذي سيعاقب هذه الأرض حتما. إلى هذا كان يذهب أنبياء بني إسرائيل.
الفصل الثالث
الأسماء التي أطلقت على اليهود
لما كان يطلق على اليهود أسماء كثيرة، منها العبريون والإسرائيليون والصهيونيون، فقد عقدنا هنا هذا الفصل لإيضاح الكثير من هذه الأسماء المتعددة: (1) اليهود
فأما عن كلمة «يهود» فقد جاء في القرآن الكريم:
وقالوا كونوا هودا أو نصارى ، وهود هنا هي يهود، وهو لفظ غير منصرف للعلمية ووزن الفعل. ويجوز دخول الألف واللام فيقال: اليهود، فلا يمتنع التنوين لأنه نقل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، والنسبة إليه يهودي.
وهود الرجل ابنه تهوديا: جعله يهوديا، وتهود: دخل في دين اليهود.
وقيل: إن اليهود نسبة إلى «يهودا» رابع أولاد يعقوب من «ليئة»، مصدره «يده» بضم الدال بمعنى الشكر؛ لأنها شكرت الله على ولادة «يهودا»، وهو الذي حين كبر قدمه أبوه وجعله حاكما على إخوته الأحد عشر، وانتقلت بعد «يهودا» إلى أولاده، إلى أن أرسل الله إليهم «موسى» فأنقذ اليهود من فرعون، ورتب موسى اليهود الاثني عشر سبطا من أولاد يعقوب أربع فرق، وقدم عليهم سبط يهودا، إلى أن جاء الوحي بتقديم عثنيتيل بن قفاز على سائر الأسباط، إلى أن ملك داود ثم ابنه سليمان. (2) الإسرائيليون
أما الأصل في تسميتهم بالإسرائيليين فهو أنه تحت قيادة إبراهيم في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد رحل اليهود إلى أن نزلوا أرض كنعان جنوب الشام، ومن نسل إبراهيم : إسماعيل وإسحاق ويعقوب «أو إسرائيل». ومن أبناء إسرائيل «أو يعقوب» هذا ، يوسف صاحب القصة المشهورة، وهو الذي أحضر بني قومه الإسرائيلين إلى مصر فأقاموا بها أربعة قرون، وقد اضطهد فراعنة مصر الإسرائيلين، وأرسل الله إليهم النبي موسى، فأنقذهم من فرعون مصر في الأسرة الثامنة عشرة، وكان موسى إسرائيليا منهم تربى في بيت فرعون. هذا؛ وإسرائيل بالعبرية معناه «الرب» «أو يحكم» كان الاسم يحمله سلفهم يعقوب أبو القبائل العبرية، ثم إنه قد طبق على المملكة الشمالية مميزة عن جودا، ولو أن شعور الوحدة الوطنية قد جعلها شاملة المملكتين، وهي تدل على الأخص على مركز اليهود كجالية دينية مرتبطة بأغراض مشتركة وصلتهم بالإله الوطني
Jahweh .
أما إسرائيل إسحاق بن سليمان: فقد كان فيلسوفا وطبيبا يهوديا بين القرنين التاسع والعاشر، معاصرا لسيديا، وقد ولد وعاش في أفريقيا الشمالية، ومات في 950م في القيروان، وله مؤلفات طبية بالعربية ترجمت إلى اللاتينية. هذا؛ وقد جاءت تحت عنوان «أمة اليهود» في ص75 وما بعدها في الجزء الأول من تاريخ «ابن الوردي»، وهو زين الدين عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس الوردي المعري الشافعي: أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام؛ ولإسرائيل اثنا عشر ابنا: روبيل، ثم شمعون، ثم لاوي «ليفي»، ثم يهودا، ثم إيشاخر، ثم زيولون، ثم يوسف، ثم بنيامين، ثم دان، ثم نفتالي، ثم كادثم، ثم أشار. ومنهم أسباط بني إسرائيل. هذا؛ وجميع بني إسرائيل أولاد الاثني عشر سبطا.
واليهود أعم من بني إسرائيل؛ إذ من العرب والروم والفرس وغيرهم من تهود وليسوا من بني إسرائيل، وغير بني إسرائيل دخيل في ملتهم. يقال: هاد الرجل: إذا رجع وأناب. قال موسى: إنا هدنا إليك. فلزم هذا الاسم اليهود، وكتابهم «التوراة» مشتمل على أسفار: في السفر الأول مبتدأ الخلق، ثم الأحكام، والحدود، والأحوال، والقصص، والمواعظ، والأذكار، كما سنوضحه بعد.
خروجهم مع موسى إلى الطور
وخرج موسى بقومه إلى الطور ولبثوا فيها أربعين سنة، وهناك أوحى الله إلى موسى بشريعة التوراة، التي سنتحدث عنها في فصل خاص بعد.
وبعد موسى تولى أمرهم يوشع الذي قادهم إلى أرض كنعان، وأقاموا هناك وولوا قضاة يحكمونهم. ومن القضاة انتقل الحكم إلى ملوك منهم كان أولهم شاول (أو طالوت) في 1092ق.م، وخلفه داود ثم سليمان، كما ذكرنا قبلا.
مملكتا يهوذا وبني إسرائيل
ثم انقسمت الدولة اليهودية إلى مملكتين: مملكة يهوذا ومدتها «389»، ومملكة بني إسرائيل ومدتها «255»، وقد دمرهما البابليون والآشوريون.
الفرق الأربع
وبعد أن خرب بختنصر بيت المقدس، انقسموا فرقا أربع: الربانيين، والقرائيين، والعنانية، والسمرة.
أما السمرة فليسوا يهودا، ولكنهم تهودوا. وسنتحدث عنهم بعد.
هذا؛ ومما تمتاز به طائفة القرائيين حرصها على التقاليد القديمة مستمسكة بالتوراة نابذة ما عداها من التفسيرات والحواشي، فهم مع نص الكتاب مستقلون في الرأي. أما الربانيون فعلى نقيض هؤلاء، و«الرباني» لغة، هو العارف بالله. (3) العبريون
جاء في كتاب «القراءون والربانيون» تأليف «مراد فرج»: «العبريون جمع عبري نسبة إلى عبر - بكسر العين - هو أبو فلغ أبو رعو أبو سروغ أبو نحور أبو تارخ أبو إبراهيم، أول من ذكر بالانتساب إليه؛ لأنه كان أعظم أولاد سام وأكرمهم. جاء في السفر الأول من التوراة بالفصل الرابع عشر ما نصه: «فجاء من نجا وأخبر إبراهيم العبري.» فلما انتسب هذا الانتساب عليه السلام، انتسبته مثله ذريته. فهو جدهم الأول. فقيل لهم «العبريون»، وهي أول تسمية لهم.»
1
وروي أيضا أن كلمة «عبر» - كما جاءت في معجم لسان العرب - قد تعربت، ومعناها جانب النهر أو جانب الوادي، وأنها بفتح العين شاطئه وناحيته. وعلى هذا كان المعنى أن إبراهيم أو العبري قد انفرد بناحية - أو بمعرفة الله - وسائر الأمم في ناحية أخرى. كذلك عرفت لغة العبريين باللغة العبرية أو العبرانية.
ولقد كان العبريون يسكنون قطعة صغيرة من الأرض على الشاطئ الغربي لنهر الفرات، وكانت أور الكلدة - وطن تيراه والد «أبراهام» - أقرب كثيرا إلى الخليج الفارسي الذي كان يومئذ أكثر بعدا من جهة الشمال منه الآن، وفي اتجاه الجنوب الغربي امتدت شبه جزيرة العرب التي كانت القبائل الغربية تقوم بزراعة بعض أراضيها.
وكان العرب الصميمون كأجداد تيراه في جماعة من أبناء عبر. ويقال : إن اسم عبري مشتق من أبراهام، وهو الذي يقابله في اللغة العربية إبراهيم.
وفي التوراة أن «عبر» من أولاد سام بن نوح، ومنه أيضا تسلسل الآشوريون والآراميون. وهؤلاء وهؤلاء يتكلمون لغات وثيقة القربى؛ أي اللغات السامية. أما لغة الكنعانيين فهي أقرب اللغات إلى العبرية، على أن التوراة قد سلكت الآشوريين والآراميين مع المصريين في التسلسل من شام شقيق سام.
هذا؛ ويبدو أن العبريين قد أقاموا في أرض كنعان من القرن السادس عشر قبل الميلاد، وأنهم ملكوها بالوسائل السلمية؛ أعني بالمفاوضات والمعاهدات مع رؤساء كنعان الوطنيين، وأن العبريين كانوا شعبا حرفته رعي الخراف والماعز، وأنهم كانوا ينتقلون بها من مرعى إلى آخر، غير أن تربة الأرض الفلسطينية قد دعتهم إلى الاشتغال بالزراعة. وقد تم هذا تدريجيا. كذلك جاءت إلى هناك جماعات من أراضي الصحراء، أما إبراهيم فقد غرس خيامه حول حبرون. هذا؛ وقد تألف من سبط يهودا وسبط بنيامين بالتدس أناس يقال لهم: بنو يهودا. وأما الثانية فقد تألفت من العشرة الأسباط الباقية في مدينة شمرون «أي نابلس»، وكان يقال لهم: بنو إسرائيل، فلما انقرضت المملكة الثانية أصبح اليهود جميعا خاضعين لملوك بني يهودا إلى أن قدم بختنصر، وخرب القدس؛ مما أدى إلى هجرة اليهود جميعا إلى بابل؛ وهناك عرفوا باسم بني يهودا، وكان يقال لكل منهم: «يهودي». (4) الموسويون
ومما يطلق على اليهود اسم الموسويين؛ نسبة إلى النبي موسى عليه السلام.
وقد أقام إسحاق في جيرار والنجب. وكذلك فعل يعقوب الذي يطلق عليه أيضا اسم «إسرائيل» كما قدمنا. هذا؛ وقد كان عدد القبائل الإسرائيلية 12 مقسمة قسمين: أولها قد تناسل من السيدة ليا أو ليئة، وهن زوجات إسرائيل، وروبين وشمعون وليفي جودا وإيزاكار وزينولون. وثانيهما تناسل من السيدة راشيل، ومنه يوسف وبنيامين كما قدمنا.
ولقد كانت الأقوام التي سكنت فلسطين إلى عهد الإسرائيلية في ازدياد؛ لأن هؤلاء جاءوا من نسل الحظايا كما اتخذوا زوجات أجنبيات؛ فتميزوا عن جيرانهم ومساكنيهم الذين احتفظوا بنقاء أصولهم.
على أن هؤلاء الأمراء الوطنيين حين راعهم تدفق اليهود على فلسطين؛ عمدوا إلى اضطهادهم؛ فكانوا ينزحون إلى مصر، فلبثوا فيها إلى أن أرغمهم الاضطهاد على مغادرتها. (5) السامرة
السامرة - وبالعبرية «كوتيم» - هم من جاء بهم ملك بغداد من بابل وكوته وعواء وحماة وسفراويم ولان إلى شمرون، ليحلوا بها محل من أجلاهم من اليهود، وشمرون هي نابلس التي انحرف اسمها من «نيافوليس» - أحد قياصرة الروم - وفي تعريب التوراة كوث، وفي المقريزي كوشا. أما السامرة فكانوا يطلقون على أنفسهم اسم شومريم؛ أي سامرة من اسم شمرون أو بني إسرائيل، وكانوا يقولون: إنهم من أولاد يوسف، وكانوا مشركين عبدة أوثان، فسلط الله عليهم السباع ففتكت بهم، فأرسل إليهم الملك الكهنة لإرشادهم كما ورد في الفصل السابع عشر من سفر الملوك.
هذا؛ وقد هدم يوشناهو - ملك يهودا - أنصابهم كما جاء في الفصل الرابع والعشرين من سفر أخبار الأيام، كذلك يبدو أنه كان باقيا في شمرون بعض اليهود بعد إجلائهم.
وقد حرف السامرة التوراة، بل ذهبوا إلى إنكار اليهودية وإلى ممالأة أعداء اليهود. وكان من أثر هذا، أن زحف هرقانوس بن شمعون الكاهن على بلاد السامرة، مستوليا على نابلس ومخربا هيكل جريزيم. وفي 1623 مات آخر كاهن عظيم لهم من ذرية هارون؛ فانتقلت كهونتهم إلى ذرية غزيتيل من لهات. ونقص عددهم إلى أن أصبح 300 كما ورد في صفحة 122 من تاريخ مكاريوس بك سنة 1909. وكانوا ينزلون جبل جريزيم منزلة القدس وإنكار اليوم الآخر، وفي هذين يفترقون عن اليهود في بداية الأمر، ثم شايعوا اليهود القرائيين في إنكار التلمود. (6) المكابيون
والمكابيون - وبالعبرية مكابيم - ليسوا من الفرق المختلفة ولا المستقلة ولا البائدة، وإنما هم أسرة من بيت الكهنوت العظمى، وهم متاتيا من يوحنان وأولاده الخمسة، ماتوا كلهم شهداء جهادا عن بيت الله وأعداء اليهود. (7) الصدوقيون والبيتوسيون
الصدوقيون - وبالعبرية صدوقيم - من الفرق الإسرائيلية الكبيرة ذات الثروة والشرف؛ نسبة إلى كبيرهم صدوق، بدءوا بإنكار البعث والثواب والعقاب والتقشف، وبالحرص على نعيم الحياة، وذهبوا إلى أن العبد مسير ، وكل شيء مرجعه إلى القضاء والقدر، على نقيض الربانيين والقرائيين وأهل السنة، وقالوا بالعمل بمبدأ النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن على الحقيقة لا المجاز منكرين الدية.
هذا؛ والبيتوسيون نسبة إلى كبيرهم بيتوس، وهم والصدوقيون واحد. (8) الصديقون
الصديقون - وبالعبرية صديقيم - جمع صديق، وهي كما في العربية: الرجل الصالح التقي. وهم ليسوا فرقة، وإنما أهل نسك وزهد. (9) الحسيديم
الحسيديم جمع حسيد، ومعناه الورع الفاضل البار المحسن. وهي فئة بلغ من تفانيها في العبادة أن عندها أن من قتل في يوم السبت حية أو عقربا عد من غير الأتقياء. (10) الأسييم
الأسييم أو الأسينيم فرقة من الأتقياء، تفانى بعضهم في حب بعض وفي كبح جماح النفس إلى حد عدم الزواج، والقناعة بتربية أولاد غيرهم، وإلى احتقار المال والنظافة، ملابسهم بيضاء، يقبلون من يلتحق بهم، ليس بينهم غني ولا فقير ولا تفاضل. وهم أهل سلام يدعون الأمور إلى رؤسائهم المختارين، أحكامهم صارمة عادلة. وهم على أربعة أقسام.
هذا؛ وتماثلهم فرقة أخرى تفترق عنهم باستحسان الزواج بعد اختبار عفة المرأة ثلاث سنوات. (11) الكتاب
الكتاب، بتشديد التاء - وبالعبرية سوفريم من «سفر»، بضم الفاء - بمعنى حسب وأمان، ومنه السفر بمعنى الكتاب، وهم ليسوا فرقة، وإنما أهل فقه وتعليم ونسخ وتوراة وحفظ. (12) الفريسيون والربانون والتلموديون
الفريسيون - وبالعبرية فروسيم - هم الربانون أنفسهم.
وللكلمة معنيان: أولهما الاعتزال؛ أي إن الفريسيين قد اعتزلوا الأسييم والصدوقيين؛ ذلك أن الفريسيين حافظوا على التوراة والتلمود، وتشددوا في أمر الطهارة والنظافة والأطعمة، غير مستهينين بأمر الحياة. أما ثاني المعنيين فهو العمل بالتفسير؛ أي بالمشنا، والتوفيق بينه وبين التوراة.
هذا؛ ويقال للربانين: ربانيون وربيون، وهم من عدا القرائين. وبالعبرية ربانيم جمع ربان بمعنى الإمام الخبير الفقيه. وفي العربية الرباني: وهو العالم. أما ربيون فنسبة إلى الرب؛ أي السيد العالم. وقد ورد في سورة المائدة في القرآن الكريم:
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء .
جاء في صفحة 385 من الجزء 11 من صبح الأعشى للقلقشندي: «أما جماعة الربانين فهم الشعب الأكبر والحزب الأكثر ...»
هذا؛ ولا يتقيد الرباني بحرفية التوراة، بل يأخذ بتفسيرها الوارد في المشنا والتلمود. أما التلموديون فهم اسم آخر للربانين نسبة إلى التلمود. (13) القراءون
القراءون هم من يقتصرون على المقرا بمعنى المقرأ؛ أي ما يقرأ فيه، وهو التوراة دون المشنا أو بالعبرية المشنة، وهو كتاب عبري فقهي بمنزلة التفسير للتوراة، يشتمل على سنة نبوية متواترة أوحي بها إلى موسى في سينا في أثناء المدة التي قضاها كما أوحت إليه التوراة. غير أن الله أمره بأن لا يكتبه وإنما يبلغه شفها، فالمشنة عند الربانين هي التوراة الشفوية أو الثانية. فإن شنه بالعبرية تقابل ثنى في العربية، فالمشنا يضارعها المثنى. جاء في معجم الفيروزآبادي: «والمثنى ما استكتب من غير كتاب الله أو كتاب فيه أخبار بني إسرائيل بعد موسى أحلوا فيه وحرموا ما شاءوا.»
والمشنة في ستة أسفار لكل منها مباحثه: (1) الزراعة و(2) الأعياد و(3) النساء و(4) إرش الجنايات أو ضمان الضرر و(5) الوقف و(6) الطهارة.
وبينما ينكر القراءون المشنا، يعتقد الربانون أنها سماوية كالتوراة، ويتقيدون بما وضعه علماء التلمود للمشنا من الترجيح والشرح والتفسير، وهو الجمرا.
وفي المشنا كثير من التناقض، الذي دعا علماء اليهود يغلقون باب الاجتهاد وتحريمه منذ نحو 1450 سنة، فوقع تفسيرهم هذا في عشرين جزءا كبيرا، عرفت باسم التلمود من مصدر مد بفتح فضم ممدودا، بمعنى تعلم علم، ومنها تلميد بمعنى تلميذ، وعرف أيضا «بجمرة» من مصدر «جمر» بفتح فضم ممدود، بمعنى أتم أو وفى؛ أي إن الجمرة أتم وأكمل من المشنا، التي هي التفسير دون الترجيح والشرح. أما التلمود فيصدق على المشنا والجمرة. (14) الفرق اليهودية البائدة
ورد ذكر الفرق اليهودية البائدة في كتاب الملل والنحل ولم يرد في المقريزي، وهم العيسويون، واليودجآنيم، والشدجئوينم، والموشكتم، والشهركينم. (15) السفرويم والإشكنازيم
السفرويم بمعنى الإسبانيين والإشكنازيم الألمانيين؛ أي من اليهود الذين أقاموا في إسبانيا وألمانيا، بعد جلائهم، وإن كانوا قد انتشروا في جهات أخرى أيضا. والسفرويم يحرمون تعدد الزوجات، ويقيدون الذبح والصلاة بقيود، في حين أن الإشكنازي يتسامح فيما يتشدد فيه السفردي. (16) الصهيونيون
أما الصهيونيون، فهم ذلك الفريق من اليهود الذي يسعى جاهدا لاستعادة الدولة اليهودية المستقلة ذات السيادة، مستمسكا بأن فلسطين هي الوطن القومي اليهودي الأصيل، وبأنه ينبغي فتح باب الهجرة إليها لكي يصبح اليهود أكثرية والعرب أقلية. وهذا ما سنوضحه في الجزء الأخير من الكتاب، وحسبنا أن نقول هنا: إن صهيون الذي ينسب إليه الصهيونيون هو تل أو جبل صغير في القدس، وإنه من قبيل إطلاق الجزء على الكل؛ أي القدس.
الفصل الرابع
بداية الدولة اليهودية
كان بين الأقوام التي تقسمتها الاختلافات اللغوية وغادرت مواطنها الأصلية، بعض القبائل التي من الأصل السامي الرحالة الساكنة بين الدجلة والفرات، قد طردها المغيرون والظالمون إلى سواحل البحر المتوسط، وكان الطيراقيون أو العبريون من نسل إبراهيم الذين لم يكن الإسرائيليون سوى فرع منهم. وكانت فلسطين أول مهبطهم، وكانت أخلاقهم ساذجة لكونهم رعاة وزراعا، وكانوا يقودون قطعانهم في أعالي البلاد في وادي نهر الأردن، وعلى مقربة منهم كان يسكن الكنعانيون «أو الفينيقيون» الذين استعمروا ساحل البحر المتوسط، وأكثرهم من الملاحين والتجار، وعنهم تلقى الإسرائيليون هاتين المهنتين؛ مما كان له الأثر البعيد في مصير الإسرائيليين.
وحين دخلوا مصر كانوا يتألفون من ستين أبا أسرة، فلما خرج أبناؤهم منها كانوا - كما ذهب مؤرخو الفرنجة - أمة أصبحت تؤلف مملكة من الكهنة، أمة مقدسة، ومنحوا قانونا، حفره «موسى» على ألواح من الحجر، فحفر في قلوب الإسرائيليين. خوطب بها العقل والقلب ومنحها دستورا أساسه «جمهوري وديموقراطي، وأن الله هو مرشد الخلق والمثل الأعلى للعدالة وليس له من يمثله على الأرض.» وخلف موسى نبي آخر، كان هو وأعضاء المجلس الأعلى أنبياء من الشعب وللشعب من غير تفريق بين طبقة وطائفة.
لم يتح للإسرائيليين بعد موسى وجوزيه، عظيم يسعه صون وحدة الأمة ويكافح الفوضى والغزو الخارجي، وكانت قبائلهم بين أن تخضع للأجنبي أو أن يسعها أن تتحرر من نيره لا يعنيها غير المصلحة الوقتية؛ فنسيت ديانتها، وعبدت آلهة الفينيقيين.
وبعد فترة طويلة مليئة بالمآسي، ظهر رجل الساعة القاضي العادل «صمويل» بعد ثلاثة أجيال من وفاة «موسى »، ثم نزلت الهزيمة بهم في حربهم مع الفلسطينيين. هذا؛ وقد كان صمويل، مع مدرسة من الأنبياء بالبلاد، موحدا القبائل، وبعد ذلك تمت وحدة الأمة، التي طلبت من صمويل ملكا فانتقلت من الجمهورية إلى الملكية. وفي عهد الملوك الثلاثة الأولين - خاصة الملك داود - بلغت الأمة أوجها السياسي. كذلك كان عهد الملك سليمان، فاتسعت مساحة المملكة من سوريا إلى البحر الأحمر، وتقدمت تجارتها وامتدت ملاحتها، وعقدت مع جارتيها مصر وفينيقيا المعاهدات، وأخرجت آدابها الوطنية، وأسست عاصمتها «أورشليم» ومعبدها «موريا»، وركزت جميع قوى الأمة، غير أن هذا النعيم قد أفضى بها إلى الإسراف في الظلم.
وفي خلال قرنين ولي الملك «إيلي» ذو الحمية والغيرة في زي من الشعر حزامه من الجلد، وكان إيايزيه تلميذه المحبوب، وآموس راعي تيوقا وإيساي أكبر الأنبياء وزكريا وهوسيه، وميشا الذي ساد العدل البلاد في عهده على الأرض كلها، فساد السلام جميع الأقوام.
يهود أورشليم
أورشليم «جيروسلايم» عبرية. يؤخذ من مكتوبات وجدت في تل العمارنة موجهة من أحد الحكام الأقدمين لأورشليم أن اسمها كان «أورسليم»؛ أي «مدينة سليم» أو «مدينة السلام» منذ أعوام عديدة قبل أن يدخل الإسرائيليون تحت جوزهوا أرض كنعان. ولما أعاد «الإمبراطور هادريان» بناء المدينة أبدل اسمها إلى «إيليا كابيتولينا». وكان العرب يطلقون عليها أسماء تعبر عن تقديسها «كبيت المقدس» و«المقدس»، ومختصرها «القدس».
والتاريخ البعيد جدا «للقدس» غامض، وجهد ما وصل إلينا - كما يؤخذ من المكتوبات المشار إليها - أنه قبل أن يغزو جوزهوا
Joshua
القدس، كان المصريون يحتلونها؛ إذ كان موقعها استراتيجيا في أرض تلية جنوبي فلسطين. وليس معروفا كيف هجرها المصريون، وإن يكن من المحقق أنه حين غزاها الإسرائيليون، كان يحكمها الجيبوزيون من مواطنيها، وهم سكان مدينة «جيبوز» التي لم يعرف موقعها بعد، وإن يكن بعض المؤلفين يحددون هذا الموقع عند التل الغربي المعروف الآن باسم «صهيون»
Zion ، ويحددها آخرون على التل الشرقي بعدئذ في المكان الذي يشغله معبد ومدينة داود، ومما تدل عليه التوراة أن «أورشليم» كانت جزءا منها في يهودا «جودا» والآخر في «بنجامين »؛ ذلك أن الخط الفاصل بين قبيلتي جودا «يهودا» وبنجامين أو بنيامين يخترق المدينة. وعلى هذا كان الجزء المسمى زيبوس
Jebus
في التل الغربي. أما الجزء المعروف باسم حصن صهيون الخارجي، فكان على التل الغربي، على أن الجوديين والبنجاميين لم يستطيعا الاستيلاء التام على هذا المكان، فقد كان الجيبيون يشغلونه حين أصبح داود ملكا على بني إسرائيل، ذلك الملك الذي وفق في الاستيلاء على «أورشليم» بعد بضع سنين وشدائد. فقد أنشأ مدينته الملكية في التل الشرقي القريب من صهيون، حين صارت «جيبوز» المدينة التي في الجانب الغربي لوادي تيروبيان، المدينة التي عين «جوب» قائد داود حاكما عليها، وقد أحاطها داود بسور وقلعة يرجح أنها كانت في موقع الحصن الجوبوزي، بينما كان حصن «جوب» في المدينة الغربية. أما في شمال مدينة داود فإن الملك - مؤتمرا بأمر سماوي - اختار موقعا لمعبد جيهوفا الذي أنشأه سليمان، وأكثر المؤلفين يذهبون إلى أن الموقع الحالي الذي يشغله هذا المبنى لا بد أن يكون واقعا على أحد أجزاء المسافة المعروفة باسم هارام. •••
هذا؛ وقد كان يسكن فلسطين في القرن الخامس عشر ق.م أناس لغتهم وأفكارهم وديانتهم لا تختلف أساسا خلال مئات السنين؛ ذلك أن فلسطين كان يحكمها أمراء وطنيون تابعون لمصر، التي بعد طردها الهكسوس امتدت فتوحها إلى الفرات، وبعد بضعة قرون ادعت بابل ملكية الدول التي تقع في غربها. وقد استخدمت الكتابة واللغة الآشورية لا فيما يتصل بالمكاتبات الدبلوماسية، بل في الشئون الخاصة واليومية بين الأمراء الفلسطينيين أنفسهم.
وكانت كنعان «أي فلسطين» وجنوب الساحل الفينيقي وعامر
Amor ؛ أي كنعان وما إليها، تسيطر عليها مصر سيطرة دائمة. وكان موظفو مصر يجوبون بلادها لتحصيل الجزية، ولسماع شكوى الشاكين، وللتثبت من ولاء الحكام. ففي لوحات العمارنة وما وجد عند تناخ وما كشفت عنه الآثار، ما يوضح ما كان عليه القوم من الثقافة والحضارة من غير تعيين حدود ذلك، وكان الحيثيون يقلقون مصر ويتعدون حدود فلسطين التابعة لها. وفي نهاية الربع الأول من القرن الثالث عشر قبل الميلاد استعادت مصر ولايتها .
وكان هناك بين الحين والحين أناس منعزلون أصاخوا إلى تعاليم الأنبياء، وعلى رأس أولئك الملك جوزياس.
1
الفصل الخامس
أصل الديانة اليهودية
كانت الديانة الكنعانية ذات طابع سامي متعددة الآلهة، فكان لكل مدينة، بل لكل حقل، بل لكل كرمة عنب، ولكل بئر وينبوع سيدها «بآل. أدون»، أو سيدتها «بآله»، وهو مالكها وحاميها المقدس. وكانت مراسم الحياة الجنسية تحت رعاية الآلهة استارته «أو أشيره»، ويقابلها عند البابليين «إستار»، وكان يخدمها أتقياء وتقيات منحوا أجسامهم تكريما لقداستها.
وإلى هؤلاء الآلهة الرئيسيين - ثم آلهة أقل مرتبة، وهي أرواح - كانت الصور المزخرفة تقدم احتراما للعابدين وللمعبودين. وإلى جانب المذبح تقام عماد من الخشب «آشيرة»، أو عامود من الحجر «مازبة». أما المذبح فهو مائدة الإله توضع عليه الهدايا شكرا لوفرة المحصول أو غزارة الماشية، وكانت هناك كئوس تستقبل دم الضحايا من الحيوان أو يصب فيها النبيذ، ويدخل العابدون مع الإله مشتركين في الوليمة المقدسة. وكان الحيوان يوضع أحيانا على المذبح لكي يفنى على النار ويصعد البخار كرائحة طيبة نحو الإله، والمفروض أن مقامه في السماء، وكان يحتفل بالمواسم الزراعية الدورية وجمع الفاكهة في مرح صاخب، ويصحب هذا رقص على نغمات الموسيقى الصاخبة، وإسراف في شرب الخمر واللذات والطعام، مغمدين السيوف والحراب في أجسامهم إلى أن يسيل الدم منها. وكانت الألقاب الفخرية المقدسة تمنح إلى أرواح الموتى، وكذلك كان الطعام يقدم إلى المدفن، وكان في الوسع الحصول على الأخبار عن طريق السير ليلا في المقابر أو مناجاة أرواح الموتى، كما كانت الأولاد تحرق، سواء لأغراض مقدسة أو تضحية من أجل باعث غير عادي.
وكان اليهود في بداية إقامتهم في كنعان يروعهم هذه التضحيات. غير أنهم مع الأيام، انتهوا إلى محاكاتها وإدخالها بتفصيلاتها كلها إلى طقوسهم، على أنهم ارتدوا إلى صفاتهم الأولى حيال ما شهدوا من صنوف الفساد وعواقبه البغيضة الناشئة عن حضارة آسنة.
غير أنه قد بقي أثر مظاهر تلك الطقوس الكنعانية كالمازبة «الدعامة»، الذي يوجد إلى جانب المذبح، الذي حل محله الآن «الطيبة»، وهي ما يشبه المصطبة التي يقف عليها الكاهن. وكذلك النبيذ الذي يوضع الآن في كأس ويشرب في المعبد هو أثر لدم القرابين، والكبش الذي كان يضحى به ويحرق على المذبح كان موضع تكريم الإسرائيليين إلى أن ألغي على أثر تدمير معبد القدس.
ثم إن لغة اليهود - كما سنوضحها - كانت ذات لهجة آرامية أقرب إلى العربية. والآرامية تنسب إلى آرام بن سام، وترجع إلى بعض القبائل السامية، التي نزحت طائفة منها إلى أرض كنعان التي عرفت باسم فلسطين منذ القرن الثالث عشر ق.م. كما نزحت طائفة أخرى إلى العراق في القرن العاشر ومنهم الكلدانيون. أما من بقي منهم هناك فقد لبثوا يتكلمون هذه اللغة منذ العصر العباسي، ومنهم أيضا الآشوريون. وثمة طائفة ثالثة أقامت في الشام وقضت على الحيثيين.
جاء اليهود «الآراميون» إلى أرض كنعان «فلسطين»، وتكلموا لغتها الكنعانية، كما كتبوا بها مع تأثر بالآرامية، فاختلفت لغة اليهود التي أطلق عليها عندئذ اسم العبرية عن الكنعانية بعض الاختلاف.
ولعل الكتاب المقدس هو أكبر مصدر عن اليهود تاريخا وأدبا عبريا، والكتاب المقدس يشتعب العهد القديم «التوراة» والعهد الجديد «الإنجيل»، وهو كتاب دين وتاريخ وأدب. فأما التوراة فهي أساس الديانة اليهودية والأدب اليهودي، وهي - إلى هذا - أساس الديانة المسيحية؛ ذلك أنه بينما يؤمن المسيحيون بالتوراة وبالإنجيل، يؤمن اليهود بالتوراة والتلمود.
التوراة
التوراة كلمة عبرانية معناها: الشريعة، أو الناموس، وهي تطلق عند اليهود على خمسة أسفار «كتب» يقولون إن موسى كتبها. وهي سفر التكوين - بدء الخلق - وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع كما سنوضحه بعد.
ويطلق «النصارى» لفظ التوراة على جميع الكتب التي يسمونها العهد العتيق؛ وهي كتب الأنبياء، وتاريخ قضاة بني إسرائيل وملوكهم قبل المسيح، ومنها ما لا يعرفون كاتبه. أما التوراة، في عرف القرآن، فهي ما نزل من الوحي على موسى ليبلغه قومه. وعند مؤرخي العرب وغيرهم أنه قد فسد بنو إسرائيل بعد موسى، وأضاعوا التوراة التي كتبها، ثم كتبوا غيرها، ثم إن «عزرا» الكاهن، وهو الموصوف في التوراة المكتوبة الآن بأنه هيأ قلبه لطلب شريعة الرب، والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء - عزرا هذا كتب لهم التوراة، بأمر «أرثحشستا» - ملك فارس - الذي كان قد أذن لهم في العودة إلى فلسطين.
وعلى هذا يذهب هؤلاء المؤرخون إلى أن جميع أسفار التوراة التي عند اليهود والنصارى قد كتبت بعد السبي في 537 قبل الميلاد، ويدل على ذلك كثرة الألفاظ البابلية فيها. وإنما جاءتهم البابلية أثناء إقصائهم عن وطنهم، وسبيهم في بابل.
هذا؛ وقد اعترف علماء اللاهوت من النصارى بفقد توراة موسى التي هي أصل دينهم وأساسه.
قال صاحب «خلاصة الأدلة السنية، على صدق أصول الديانة المسيحية»: «والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن، ولا نعلم ماذا كان من أمرها، والمرجح أنها فقدت مع «التابوت» لما ضرب بختنصر الهيكل، وسبى بني إسرائيل، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا بعد موسى جمع النسخ المتفرقة وكتبها.»
أما اليهود فيقولون: إن عزرا كتب ما كتب بالإلهام.
ثم إن بعض علماء الفرنجة قد أوضحوا: «أن أسفار التوراة قد كتبت بأساليب مختلفة، فلا يمكن أن تكون كتابة واحد.»
قال الأستاذ الشيخ محمد عبده: «إن التوراة التي يشهد لها القرآن، هي ما أوحاه الله إلى موسى ليبلغه قومه. وأما التوراة التي عند القوم اليوم، فهي كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة؛ لأن القرآن يقول في اليهود: إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، كما يقول: إنهم نسوا حظا مما ذكروا به. ولأنه يستحيل أن تنسى تلك الأمة بعد فقد كتاب شريعتها، جميع أحكامها، فما كتبه «عزرا» وغيره مشتمل على ما حفظ منها على عهده، وإن كان فيه تخليط وتحريف.» (جزء 3 تفسير القرآن للشيخ محمد عبده).
هذا؛ وقد كان خروج موسى مع بني إسرائيل من مصر، ثم نشر تعاليمه في التوراة سنة 1220 قبل الميلاد.
وجاء في التفسير المشار إليه الجزء الخامس عند شرح قوله تعالى:
من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه
بأنه قد أثبت العلماء تحريف كتب العهد العتيق «التوراة» والعهد الجديد «الأناجيل» بالشواهد الكثيرة ، وفي كتاب «إظهار الحق» للشيخ رحمة الله الهندي رحمه الله، مائة شاهد على التحريف اللفظي والمعنوي.
قال (هورن) في المجلد الأول من تفسيره لسفر «تثنية الاشتراع» من التوراة: لا يمكن أن تكون تلك الفقرات من كلام موسى، وإن (عزرا) الكاتب زاد بعض العبارات في التوراة.
هذا؛ وقد جاء في دائرة معارف لاروس تحت كلمة توراة ما يأتي: «العلم العصري - ولا سيما النقد الألماني - قد أثبت بعد أبحاث مستفيضة في الآثار القديمة والتاريخ وعلم اللغات، أن التوراة الحالية لم يكتبها موسى، وأنها عمل أحبار لم يذكروا اسمهم عليها، ألفوها على التعاقب، معتمدين في تأليفها على روايات سماعية، سمعوها قبل سبي بابل.»
تلك هي جملة ما قيل عن «التوراة»، أوردناها لكي يقف القارئ على منزلة هذا الكتاب لا ككتاب دين وحسب، بل ككتاب تاريخ، وخاصة تاريخ اليهود، وهو - إلى هذا - كتاب أدب.
جاء العبريون - كما قدمنا - من الصحراء عابرين الأردن، وهبطوا فلسطين. وكانت لغتهم الآرامية؛ أي لغة آرام بن سام، وهي جماعة القبائل السامية التي تفرقت في أنحاء شتى، فمنها ما استوطن كنعان «فلسطين» بين القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، ومنها ما نزل العراق حول القرن العاشر قبل الميلاد، كالكلدانيين والآشوريين، وثمة قبائل عاشت في شمال سوريا وقوضت حكم الحيثيين. وقد اتخذ اليهود لغة الكنعانيين - سكان فلسطين الأصليين - لغة عبرية لهم مع تأثرهم باللغة الآرامية، فجاءت اللغة اليهودية مختلفة بعض الاختلاف مع الكنعانية كما أشرنا إلى هذا في ما تقدم.
أقسام الكتاب المقدس والتوراة
يشتعب الكتاب المقدس التوراة «العهد القديم» وهو عمدة الدين اليهودي والأدب المسيحي. والتلمود لليهود والإنجيل «العهد الجديد» للمسيحيين.
أما «التلمود» فهو مجموع قوانين وتقاليد مقدسة هادية، شرحها رجال الدين اليهودي، وتناقلها اليهود إلى عهد النبي موسى. وقد جمع التلمود في ثلاثة قرون من القرن الرابع إلى السادس، وهو قسمان: (1) مشنا - بكسر الميم - وهو أحكام شرعية، بالعبرية، مقيسة على «التوراة». و(2) جمارا - بكسر الجيم - بالعبرية والآرامية.
هذا؛ والتوارة 39 سفرا في 3 مجموعات: أسفار القانون «الشريعة»، وأسفار الأنبياء، ومتنوعات .
وفي الفصول الأربعة الأولى من سفر التكوين ذكرت قصة الخلق في الجنة وآدم وحواء، وقابيل وهابيل. وفي بقية السفر، ذكرت سير نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته وغيرها.
أما سفر الخروج، فيتحدث عن خروج بني إسرائيل من مصر وتجلي الله لموسى في سينا وسيرة موسى، التي تمثل تاريخ بني إسرائيل في أسفار موسى الخمسة.
أما سفر اللاويين - المنتسبين إلى لاوي أو ليفي - فيتحدث عن الشعائر الدينية في القرايين وهارون وابنيه. وأما سفر العدد الذي يعدد القبائل ويبين أنصباءها في الغنائم، فيتحدث عن خروج بني إسرائيل من سينا إلى شرق الأردن واضطراب الشعب. وأما سفر تثنية الاشتراع فيتحدث عن إعادة التشريع مرة أخرى بتطهيره من بعض الشعائر، وتعيين مكان للعبادة.
وفي سفر يوشع «خليفة موسى» أن يوشع عبر بالإسرائيليين الأردن من غير أن تبتل أقدامهم، واحتل مدينة أريحا بالنفخ بالأبواق والصياح، ووقفت الشمس والقمر عن المسير حين أشار إليهما، وقد أراد يوشع أن يتمم ما بدأ به موسى، وهو عبور الأردن والاستيلاء عليه، فجمع الإسرائيليين للفتح، وأرسل جاسوسين نزلا على بغي اسمها «راحاب» التي أبت أن تسلمهما إلى ملك أريحا بأن خبأتهما في سطح منزلها، ثم عاهداها على أن يستحييها الإسرائيليون هي وأباها وأمها وإخوتها وأخواتها إذا فتح يوشع وقومه «أريحا». وقد وفى يوشع بالعهد ثم أحرق المدينة.
وفي سفر القضاة قامت «بورة» بمثل ما قامت به «جان دارك» الفرنسية؛ ذلك أن بورة كانت نبية إسرائيلية، وكانت تجلس تحت نخلة للحكم بين المحتكمين إليها، وحين دعت «باراق» أن يقود الإسرائيليين لمحاربة كنعان ليتحرروا من سلطانها، اشترط عليها أن تصحبه، ففعلت وانتصروا، ووضعت أنشودة النصر، وفيها: «اسمعوا - أيها الملوك - وأصغوا - أيها العظماء - إني أغني لله، إله بني إسرائيل. يا إلهي، لقد تجليت للجبال فدكت، للأرض فزلزلت، وللسماء فانشقت، وللسحب فأمطرت.»
وفي سفر القضاة: قصة شمشون، الذي أعدته القدرة الإلهية، منذ كان جنينا لهلاك أعداء الإسرائيليين، وقد أحب شمشون فتاة كنعانية «فلسطينية»، وتزوجها على الرغم من معارضة والديه في بداية الأمر، ولما سافرا معه لإتمام الزواج، فتك شمشون بأسد هاجمه، ولم يعرف والداه هذا الحادث، ثم عاد إلى مكان الأسد فوجد في جوفه خلايا أكل من نحلها. ولما تزوج شمشون أقام وليمة لثلاثين من الشبان، وسألهم عن الأسد والعسل في الصيغة الغامضة التالية: «ما شيء كان آكلا فنتج منه الأكل، وكان جافا فخرجت منه حلاوة؟» ووعدهم بأن يمنحهم 30 ثوبا و30 قميصا إذا ما حلوا اللغز. فلما عجزوا عن الحل، نهضت زوج شمشون بحله. فقال: «لولا ما احتلتم على نعجتي ما عرفتم أحجيتي.» ثم إنه لما أحب بغيا في غزة، أغلق سكانها أبواب المدينة وحبسوه إلى الصباح ليقتلوه، غير أنه خرج في منتصف الليل إلى الجبل. ثم أحب أخيرا امرأة تدعى «دليلة» أغراها الكنعانيون بمعرفة سر قوته، فعرفت منه بعد لأي أن شعره هو مصدر قوته؛ فحلقوه وقلعوا عينيه وسجنوه في غزة تمهيدا لقتله، غير أن الشعر عاد فنبت ثانية، وعادت إليه قوته، وبينما كانوا في بيت أمسك بعموديه فسقط البيت عليهم، وعليه فكان من قتلهم في موته أكثر ممن قتلهم في حياته. وقد صاغ «ملتون» الشاعر الإنجليزي هذه القصة في قصة جديدة، مطلقا عليها اسم «شمشون الجبار»، وكذلك فعل «سانت سانيس» الفرنسي في رواية تمثيلية.
هذا؛ وفي سفر روث أو «راعوث» أربعة فصول قصيرة 100 سطر، وبها قانون للمرأة وللميراث.
وفي أسفار الملوك - وعددها أربعة - ذكر الإسرائيليون في مجد دولتهم، فلما غفلوا عن ذكر الله سيموا العذاب والهزيمة والأسر، فقد دبت في صمويل المتدين الباسل الشيخوخة بعد أن صارع الأعداء، وضعف بنوه الفاسدون عن الصراع، فاستنجد الإسرائيليون بشاءول الذي خضع لضعفه، وأعقبه يوناثان الذي لم يكن يصلح للقيادة مع أنه أشجع من أبيه، فنهض داود القائد الحكيم بالعبء وقتل جولياث، وقد عزت التوراة إلى داود صفات خارقة لطبائع البشر إلى جانب أحزانه وغضبه وجوانب ضعفه.
وجاء بعد داود ابنه سليمان الحكيم العظيم في دولة المجد والثراء، وهو إلى ما عزته إليه التوراة من الحكمة، كان منحرف المسلك، خاصة في شيخوخته، فارتد إلى الوثنية والغرام بالنساء تاركا ملكا متصدع البناء، متهدم الأركان. وكان خلفاؤه ضعافا.
ثم ظهر من بعدهم «الياهو» وأحد أتباعه «اليسع» لهما معجزات الأنبياء، فقد انحسر لهما ماء «الأردن»، وانفتح أمامهما الطريق، وأعادا الحياة إلى الموتى، وأضافا إلى طعام الأرملة الفقيرة طعاما من لا شيء، على أنهما قد أرغما الناس على الإيمان بهما في قسوة، كان من آياتها الفتك بأربعين يافعا سخروا من اليسع كما يسخر الأطفال.
ثم إن أمور الإسرائيليين قد سارت من سيئ إلى أسوأ إلى أن استولى ملك بابل «بختنصر» على أورشليم «القدس»، فسبى نساءها، وشرد أبناءها، وأزال دولتها كما ذكرنا قبلا.
وفي سفري عزرا ونحميا أن اليهود عادوا من بابل وجددوا بناء أورشليم، ونفخ لها نحميا فيها روحا جديدة، وأعادوا قوانينها، ونشر عزرا وخمسة من الكتاب في أربعين يوما، مائتي كتاب وأربعة.
وفي سفر «إستير» أن «إستير» كانت امرأة يهودية فارسية، وسعها أن تسيطر بجمالها على ملك فارس، فاستطاعت مع مربيها اليهودي «مردوخاي» أن توقع بالوزير «هامان» الذي كان يضطهد الإسرائيليين ويسفك دماءهم، وأن يقتل هؤلاء من الفارسيين 75800 في يوم واحد، وأصبح يوم عيد اسمه «بوريم».
وفي سفر «أيوب» أنه كان شقيا فقد أبناءه، وكان يطيع ربه، وعاش شيخوخة مطمئنة سعيدة غنية، ورزق بنين وبنات.
وفي كتاب «قصة الأدب في العالم» أن النقاد قد أجمعوا على أن أشعار أيوب والمزامير ونشيد الأناشيد قد كتبت كلها شعرا جيدا ممتازا، وأن سفر الأناشيد سفر غرامي، يظن أنه مجموع من الأغاني التي كان الشعب الإسرائيلي يرددها عند الزواج أو أنها أغان دينية رمزية.
ومن نشيد الأناشيد، سفر أشعيا؛ وهو نبي مؤمن متشائم لإثم الإنسان، جاء بشيرا ونذيرا للإسرائيليين، ويعلن قدرة «يهواه» على إنقاذ أورشليم، ثم يتنبأ بقدوم المسيح هاديا ومخلصا.
وفي سفر أرميا الذي يصف العصر المظلم لليهود قبيل سبيهم، يتجلى تشاؤم أرميا، ومراثيه لما حل باليهود من القوارع، وثورته على فساد الدولة وديانتها التي أصبحت لا حياة فيها ولا روح.
وفي سفر حزقيال - الشغوف بالرمز في التصوير الرائع - أن ملك مصر قد تحطم بشجرة دب في جذوعها السوس ونخرت منها الفروع.
وفي سفر دانيال، معجزات وتفسير أحلام، وأن دانيال ألقي في عرين الأسد فخرج منه سليما من الأذى، وأن النار كانت بردا وسلاما على دانيال حين قذف به في أتون مستعر، وقد حث اليهود على طلب المعالي مع وصف نكباتهم.
هذا؛ وقد كانت رسالة أرميا موجهة إلى العالم أجمع لا الإسرائيليين، حين كان للآشوريين السلطان العالمي، فكانت مصر وبلاد أخرى خاضعة لهم. وكان أرميا شاعرا ثائرا.
الأدب
في الأدب العبري شعر غنائي أو عاطفي، والرثاء أشعار شعبية حزينة تتحدث عن مجد صهيون الغابر والبكاء عليه.
المزامير «المزامير» عند العرب «الزبور»، ومن أقسامها: ما يتصل بالعبادة وبالأغاني الدينية وبالمراثي، وبالشكر والمدائح الملكية، وهي من وضع مؤلفين عديدين في عصور متوالية. أما نشيد الأناشيد فهو غرامي. وعند بعضهم أنه غزل رمزي، وعند آخرين أنه غزل دنيوي.
ومن الشعر العبري الشعر التعليمي في كتاب الأمثال، الذي يشمل مجموعة متفرقة من الحكم والأمثال وضعها كثيرون. أما في سفر الجامعة فيبدأ «باطل في باطل، وكل شيء باطل.» وواضعه حكيم عظيم خبير ومتشائم شاك في قيمة كل شيء.
أما سفر أيوب فهو كتاب نفيس في الأدب العبري والأدب عامة، أسلوبه شعري رائع، وموضوعه فلسفي جيد قوي عميق يتصل بالجزاء.
أنبياء بني إسرائيل
قال ج. ج. فريزر في كتابه «أدوينس وأتيس وأزيزيس»: إن النبوة التي من قبيل النبوة العبرية لم تقتصر على إسرائيل، بل شملت العالم كله، فقد برز في أراض كثيرة وفي عصور عديدة، رجال ونساء
Frenzied ، استقبلت كلماتهم الشديدة
Whirling
كأنها وحي من الله. على أن ما يميز النبوة العبرية من سواها هو أن عبقرية الأنبياء قد جعلت هذه الأداة القوية - النبوة -
Wrested
من اتخاذها في النواحي الوضيعة إلى
Wielding
في مصلحة خلق عال؛ مما أفضى إلى نفع للإنسانية يعز تقويمه، وفي هذا يتجمع مجد إسرائيل.
الإنجيل
الإنجيل هو تاريخ حياة المسيح وحياته في أشخاص حوارييه ورسله، خاصة بولس الذي نشر نبوغه المسيحية في أوروبا، ووردت قصة عيسى في الأناجيل الأربعة : أناجيل متى، ومرقص، ولوقا، وحنا.
كان المسيح وأصحابه يعظون الناس بالقول، فلم يكونوا كاتبين.
هذا؛ وينتهي الإنجيل بسفر الرؤيا، وهي قصيدة غامضة ملأى بالرؤى والتشبيه، ومحورها الوعد بمدينة مقدسة طاهرة للمؤمنين وحدهم، تعقب هذا العالم المدنس بالخطايا منذ القديم إلى عهد موسى. وفيه حكمة وهداية، وهو مترجم، وقد نيف جمعه على ثلاثة قرون منذ القرن الرابع الميلادي، وهو مجموعة أحكام شرعية بالعبرية مقاسة على ما جاءت به التوراة. و2 جمارا - بكسر ففتح - بالعبرية والآرية.
الفصل السادس
اللغات السامية واللغة العبرية
«اللغات السامية» نسبة إلى سام بن نوح، وهي تقسم أقساما ثلاثة كبيرة ذات فروع: (1) العربية، ومن فروعها: الحميرية، والأتيوبية «الحبشية»، (2) الآرامية، وفروعها السريانية والكلدانية والسامرية والآشورية والعيلامية و(3) العبرية، وما ماثلها كالكنعانية والعيلامية المنسوبة إلى عيلام. هذا؛ والكنعانيون على نقيض لغتهم، من نسل حام.
وعند الدكتور فؤاد حسنين أن اللغات السامية فرع من تلك الدوحة اللغوية العظيمة التي نطقت بها شعوب شبه الجزيرة العربية، وكثرة سكان وادي النيل، بما في ذلك البلاد الحبشية، والكثرة المطلقة من القبائل الأفريقية النازلة فيما بين خط عرض 16 من شمال خط الاستواء إلى البحر الأبيض المتوسط. أما الوطن الأصلي للغة السامية «الأم» أو في صورة أخرى للشعب السامي الأصلي، فهو الجزيرة العربية، أو «أرض العراق»، أو المنطقة المعروفة الآن بالبلاد القوقازية. ولم تستقر هذه القبائل منذ عرف التاريخ في قطرها الأصلي، بل دفعتها طبيعتها البدوية إلى الحل والترحال، فهاجرت جماعات منها إلى شرق أفريقيا، واستوطنت بلاد الحبشة، ثم تلتها هجرة أخرى، ونزلت بوادي النيل، وأخذت بعد ذلك تتعدد الهجرات إلى شمالي أفريقيا حتى ازدحم بها. ومع الزمن تألفت بين هؤلاء السكان الأفريقيين لغات تختلف لحد ما عن لغات أقطارهم الآسيوية التي نزحوا منها، وقد أطلق علماء اللغات عليها اسم اللغات الحامية. ولما كان الفرق بينها وبين أخواتها الآسيوية كالفرق الذي نلحظه الآن مثلا بين اللهجة العربية المصرية وشقيقتها العراقية أو السورية، أطلق اللغويون على هذه الأسرة الآسيوية الأفريقية اسم اللغات السامية الحامية. أما هذه التسمية فإنها لم تطلق عبثا أو تخترع اختراعا، بل ترجع أصلا إلى الإصحاح العاشر من سفر التكوين من الكتاب المقدس. وقد جاء في هذا الإصحاح أن بني نوح ثلاثة: سام وحام ويافث. ويحدثنا الإصحاح نفسه أن من ذرية هؤلاء تكونت الشعوب والقبائل. لكن إذا أردنا أن نتوخى الحقيقة فإن هذه الأسماء هي أسماء للشعوب وليست للأفراد كما يفهم من أول وهلة، ومن الأشياء الأخرى التي لوحظت على هذا الإصحاح أنه لم تراع فيه عند الكلام عن الأنساب الصلات العنصرية واللغوية والاجتماعية بقدر ما روعيت العوامل الأساسية، ولا أدل على ذلك مثلا من أنه ذكر سبأ وحويلة مرة من نسل حام (راجع الآيتين 6 و7) وأخرى من نسل سام (راجع الآيات من 21 إلى نهاية الإصحاح)، وذكر في الآية السادسة الكنعانيين ضمن الحاميين علما بأنهم ساميون.
وقد ظلت هذه التسمية محفوظة بين مطويات الكتاب المقدس حتى بعثها المستشرق «شلتزر» عام 1781م من مرقدها، وأطلقها على مجموعة اللغات التي نحن بصددها الآن، ومن ذلك الحين شاع استعمال هذا اللفظ بين اللغويين.
هذا؛ وقد قسم علماء الساميات هذه اللغات الأقسام الرئيسية الآتية:
شرقية:
وهي عبارة عن اللغة الأكدية أو كما يطلق عليها قديما المسمارية أو البابلية الآشورية. وهي لغة القبائل العربية التي نزلت أرض ما بين النهرين. وإذا استثنينا اللغة المصرية القديمة فإنها أقدم اللغات السامية التي استطاعت أن توجد لنفسها شخصية مستقلة. أما تاريخ نزوح هذه القبائل إلى أرض دجلة والفرات فنستطيع أن نقول، في تقريب: إنه كان حوالي الألف الرابع ق.م، مع ملاحظة أن هذه الهجرة لم تكن الأولى من نوعها إلى تلك البلاد. وقد أخذت هذه الشعوب النازحة عن سكان البلاد الأصليين النقوش المسمارية التي استعملتها في تدوين علومها وآدابها وقوانينها. وقد بقيت اللغة الأكدية حية بالرغم من زوال سلطان الأكاديين السياسي قرونا عديدة، إلى أن قضت عليها كلغة حية شقيقتها الآرامية. وذلك عند فتح الإسكندر أو قبيله.
وغربية:
وهي تنقسم إلى شعبتين رئيسيتين: شمالية، وجنوبية. والشمالية تشمل ما يأتي: (أ)
الكنعانية:
وهي لغة القبائل العربية التي هاجرت إلى شمال الجزيرة، واستوطنته، وامتدت ممتلكاتها حتى بلغت شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وكان ذلك حوالي الألف الثاني ق.م. وتشتمل هذه اللغة على اللهجات الآتية:
الكنعانية القديمة والموابية والعبرية، ثم الفينيقية التي رحلت أيضا مع الفينيقيين خارج وطنهم الأصلي إلى مستعمراتهم، ولكنها لم تتأصل إلا في شمال أفريقيا «قرطاجنة»، حيث تركت لنا اللغة التي تعرف بالبونية. وقد عاشت حتى القرن الخامس الميلادي رغما من قضاء الآرامية على اللغة الفينيقية حول القرن الأول قبل الميلاد. (ب)
الآرامية:
وهي لغة القبائل العربية التي أخذت تنزح إلى أرض بابل وآشور عند ابتداء ضعف سلطان الأكاديين، وقد كانت هجرتها تقريبا حول القرن الثاني عشر ق.م. وقد نمت لغتها وانتشرت، حتى إنها أصبحت لغة الشرق الأدنى، وهي تضم عدة لهجات أهمها: الآرامية الغربية، والآرامية المصرية، والتدمرية، والنبطية، ومن أهم لهجاتها الشرقية اللغة السريانية، وبعض لهجاتها لا يزال حيا حتى الآن، فهي تتكلم في طور عابدين في «أرض الجزيرة» وبعض الجهات الواقعة شرق وشمال الموصل وفي جهات أخرى.
والجنوبية:
وهي تشمل: (أ)
اللغة العربية:
وهي أهم اللغات السامية قاطبة وأغناها، وقد حفظت لنا بعض نصوصها وصيغها النقوش الكثيرة التي وجدت فيما بين دمشق والعلا في شمال الحجاز، وأقدمها هو نقش التمارا بالقرب من دمشق، وقد وجد على قبر ملك عربي، ويرجع تاريخه إلى عام 328م. والنقش الثاني الذي يليه وجد في زبد بالقرب من حلب. وهو مكتوب بثلاث لغات: العربية، والسريانية، واليونانية. ويرجع تاريخه إلى عام 512م، والنقش الثالث وجد في حران جنوب دمشق، وهو مكتوب بالعربية واليونانية، ويرجع تاريخه إلى عام 568م. ونستطيع أن نميز بين لهجات عربية شمالية متعددة، منها اللحيانية والصفوية. وهذه اللهجات الثلاث هي أقربها إلى العربية الفصحى، ثم النبطية وهي خليط من الآرامية والعربية. أما اللهجة الخامسة - وهي أهم الجميع - فهي اللهجة المكية التي نزل بها القرآن الكريم فأكسبها قوة وحياة سادت بهما على سائر اللهجات العربية ثم بقية اللغات السامية. وقد صاحبت هذه اللغة الجيوش الإسلامية في فتوحاتها، وحازت نصرا إلى جانب نصرها؛ إذ بينما كانت البلاد المهزومة تئد مدنياتها التي هرمت وتقاليدها التي نخرت؛ حملت اللغة العربية على لغاتها فأردتها، فنجدها في مصر، وشمال أفريقيا، وبلاد الأندلس، وصقلية، ومالطة. (ب)
اللغة العربية الجنوبية أو المعينية السبئية:
وهي لغة المدنيات العظيمة التي تكونت في الممالك اليمنية الأربع، أعني المعينيين والقبطانيين والحضرميين والسبئيين. وقد عاشت اللغة العربية الجنوبية حتى القرن السادس الميلادي تقريبا. (ج)
الحبشية:
وهي تسمى الجعزية أيضا، وهي أقرب اللغات السامية إلى العربية الجنوبية. وهي لغة القبائل التي هاجرت في زمن قبل المسيحية من جنوب الجزيرة إلى البلاد الحبشية واستعمرتها، وقد أدخلت إلى تلك البلاد كتابتها وثقافتها. ولكن لم يكتب لهذه اللغة الخلود، بل أخذت في الضعف والزوال، ولم يأت القرن الثالث عشر تقريبا إلا وكانت قد حلت محلها اللغة الحبشية الحديثة، ألا وهي الأمهرية التي هي الآن لغة الإمبراطورية، وبجانبها توجد لهجات عديدة أهمها التجرانية والتجرية والجوراجية ثم الهارارية.
هذا؛ وقد كانت اللغات السامية هي السائدة في الجنوب الغربي من آسيا، أعني فلسطين، وفينيقية، وسوريا، وأرض الجزيرة، وبلاد العرب، يحدها شمالا جبال الأرمن، وجنوبا بحر العرب، وشرقا خليج العجم، وغربا البحر الأحمر، فالآرامية في الشمال والشرق، والعبرانية في الغرب. أما العربية ففي الجنوب ممتدة إلى بلاد الحبشة. وقد وصل الفينيقيون الغرب ببعض الجزائر وسواحل البحر المتوسط، خاصة قرطاجنة.
ثم إن اللغات السامية تؤلف مجموعة مماثلة لمجموعة اللغات الأوروبية الغربية، كالجرمانية وفروعها القوطية، والدانيماركية الشمالية القديمة، والأسوجية، والألمانية، ولمجموعة اللغات السلافية، وفروعها السلافية القديمة، والليتوانية، والنبطية، والسربية، والروسية، والبولية، والبوهيمية.
وثمة أقسام أخرى - كما أوضحنا قبلا - للغات السامية شمالية وجنوبية. أما الشمالية فتشمل: (1) البابلية القديمة؛ أي الآشورية، ومنها كتابات ترجع إلى 4000 و250ق.م، و(2) الكنعانية، ومنها نقوش ألواح تل العمارنة، والعبرية لغة التوراة والمشنا، وما بعدهما؛ أي الموابية والفينيقية، و(3) الآرامية، ومنها الغربية، وتشتمل كتابات الزنجولي، والآرامية اليهودية والفلسطينية، والتي تشمل ترجوم «ترجمة» أو نقلوس ويوناشان. ومنها الآرامية الجليلة التي تشمل ترجوم أورشليم، ولغة التلمود الأورشليمي، والمدراشيم، وترجمة الإنجيل ، واللغة السامرية، وكتابات تدمر، والنبطية، ولغة قرية معلولا في الشام. ومنها الآرامية الشرقية، وهي تشمل نقوشا بابلية قديمة، ولغة التلمود البابلي، والماندية، وكتابات سريانية في شمالي سوريا، والسريانية الحالية في طور عبدين، وكوردستان، والموصل، وأوروميا.
أما القسم الثاني؛ أي القسم الجنوبي، فيشمل - كما أوضحنا قبلا - (1) العربية الشمالية، وهي لغة قريش، والكتابات القديمة المنقوشة على الصخور بين دمشق وبلاد العرب، والعربية الحديثة كالمصرية والسورية والتونسية والجزائرية والمالطية والعمانية. و(2) العربية الجنوبية، وهي الكتابات السبائية المنقوشة على الصخور، واللغات المستعملة الآن في مهرة وسقطرة وسائر الجهات الجنوبية العربية. و(3) الأثيوبية، وتشمل كتابات حبشية قديمة والحبشية الحديثة على اختلاف لهجاتها كالأمهارية والطغرية. •••
ومن مزايات اللغات السامية، أن بين حروفها الصحيحة حروفا حلقية كالحاء والخاء، والعين والغين، وأن كلماتها المجردة تتألف غالبا من ثلاثة أحرف، وأن لأفعالها زمانين فقط وتصاريفها قياسية، ومشتقاتها متشابهة، وأن ليس فيها سوى المذكر والمؤنث. أما علامات الإعراب فهي بسيطة، وليس فيها أفعال وأسماء حركة سوى الأعلام المزجية، وهي تكتب من اليمين إلى اليسار «حديثا على الأقل فالكتابات الحجرية من اليمين»، وأنه يستعمل فيها حركات للدلالة على بعض الأصوات، وأن ثمة مشابهة بينها في أسماء حروفها وأصل ترتيبها، غير أن العرب غيروا ترتيب الأبجدية، ووضعوا الحروف المتشابهة في الشكل بعضها تلو بعض، مثل ب ت ث ج ح خ د ذ. وينسب هذا التغيير إلى نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر في عهد عبد الملك بن مروان في القرن الأول الهجري. والسامية مختلفة عن اللغات المجاورة لها من الهند إلى أوروبا إلا في النادر. ففي العربية لفظ لحس لعق لعك لعص لعطم. وفي العبرية لحخ لعن لعط. وفي السريانية لحح. وعند الراب أيا أريخا العالم اليهودي في القرن الثالث، أن الآرامية أصل اللغات، وعند لوزاتو أن العبرية مشتقة من السريانية، وعند أولهاوس ومرجوليوث أن العربية هي الأصل، ويقول العرب: إنها كانت لغة آدم في الجنة، وإنها بعد الطوفان حرفت إلى السريانية، وإن جرهم هو الوحيد الذي كان يتكلم العربية في سفينة نوح، وجرهم هو هورام - المذكور في التوراة - بن يقطان بن عابر بن شالح بن أرفخشاد بن سام بن نوح، وإن آرام تزوج من بعض بنات جرهم، فامتد اللسان العربي من ولده غوص بن عاد.
ومن كتابات تل العمارنة منذ 3400 سنة كلمات كنعانية مستعملة في اللغة المصرية قبل ذلك التاريخ بقرون، وأن العبرية أو الكنعانية كانت من 4000 سنة.
ومن السامية ما باد كالفينيقية والآشورية، وما بقي أثره كالسريانية بين النهرين وسوريا وكردستان، والحبشية والأمهارية في الحبشة، وما بقي أصله كالعبرية والعربية. ذلك منذ أن ولد إبراهيم في أوركسديم، ثم أقام في حوران بين النهرين مدة، ثم هاجر إلى كنعان. (1) اللغة السريانية
عند «الدكتور هلال فارحي» أن اللغة السريانية كانت لغة أمة عظيمة في قسم كبير من آسيا في بلاد الشام والجزيرة والعراق وآشور وما يجاورها إلى حدود الفرس شرقا وبلاد الأرمن واليونان شمالا، وحدود بلاد العرب جنوبا. وكانت تسمى هذه البلاد عند اليهود بلاد آرام؛ نسبة إلى آرام بن سام بن نوح. ولذلك سميت اللغة السريانية، وفي العهد القديم آرامية. ويقول رينان: إن اسم آرام بدل في عهد الملوك السلوقيين في الشرق باسم سوريا اختصارا من «أسوريا» وأثوريا حسب اللفظ اليوناني، وهو اسم عام يطلقه اليونان على آسيا الداخلية كلها، ثم اختصت الآرامية بمن لم يعتنقوا الديانة المسيحية كالنبط وأهل حران، فكأنها كانت مرادفة للصابئ والوثني، ولما اعتنق الآراميون الديانة المسيحية أهملوا اسمهم القديم، وتسموا بالسريان تمييزا لهم من الآراميين الوثنيين.
ويزعم البعض أن لغة العبرانيين كانت السريانية؛ لأن جدهم إبراهيم كان آراميا مولدا ووطنا. ولما استقر نسله في أرض كنعان تغيرت لغتهم باختلاطها بلغة تلك البلاد الفينيقية.
تمتاز اللغة السريانية عن سائر الألسن السامية بما يأتي: (1)
ليس لها أداة للتعريف. (2)
لها أداة خاصة للإضافة، وهي الدال، تدخل على المضاف إليه بمعنى «خاصة». (3)
استعمال النون بدل ميم الجمع . (4)
لا أثر للمثنى فيها إلا ما لا يعد به. (5)
ينتهي آخر الاسم المفرد وجمع المؤنث السالم بالألف على الإطلاق. (6)
تقلب النون راء في بعض الأسماء الأولية. (7)
يستعمل الحرف ن بدل ي من حروف «أنيت» في المضارع. (8)
وجود صيغة «سفعل» أو «شفعل» في الأفعال خصوصا في السريانية. (9)
ليس لها حركة للتشديد.
أما أقدميتها فمثبوتة من الكتابات والنقوش الحجرية التي وجدت حديثا في مواقع بابل ونينوى القديمة بالقلم المسماري، وهي مكتوبة باللسان الآرامي. وقد جاء ذكرها في سفر التكوين 7:31 في «يغر شهدوتا»؛ أي رجمة الشهادة، وهو أول أثر وصل إلينا باليقين التاريخي المحقق نحو سنة 1740ق.م. ثم بعدها ما كتبه دانيال وعزرا وغيرها.
تفخر الأمة السريانية بنسبها إلى آرام بن سام، وبأن الأمة الإسرائيلية نفسها خرجت منها؛ لأن عابر الذي ينسب إليه العبرانيون بعيد عن نوح بأربعة أجيال، وأما رام أبو السريان فهو بعيد عن نوح بجيلين فقط. وآشور أبو السريان الشرقيين هو ابن لسام لحا فكأنها تحوي العنصر السامي بوجه خاص. كذلك تفخر بأنها انتشرت في مصر؛ إذ كان يوجد دير قديم مشهور في الصعيد يحتوي على خزانة كتب سريانية ثمينة لا يوجد مثلها في العالم. وكان القبط يستعملون السريانية في طقوسهم، وبأن السريان الشرقيين نشروها إلى أقصى البلاد الشرقية في ملبار من بلاد الهند منذ ظهور البدعة النسطورية. إلا أن أتباع هذه البدعة النسطورية قسموها بيعة رومانية وبيعة يعقوبية إنطاكية منذ نحو 300 سنة، وبأن بعض أسفار الكتاب المقدس كتبت بالسريانية في الأصل، وبأن لغة أورشليم والأراضي المقدسة كانت سريانية مدة سبعة قرون؛ إذ كانت لغة اليهود العامة، وبأن السريانية كانت لغة يسوع ومريم والرسل الأصلية، وبأنها اللغة الطقسية في الكنائس وسائر الأمور الدينية إلى الآن عند كثير من نصارى بلاد الشرق، وهم الكلدانيون النساطرة أصلا، واليعاقبة في الجزيرة والعراق وآشور، وفي كردستان، وملبار في الهند، والموارنة في جبل لبنان. وبأنها من جملة لغات ملافنة الكنيسة مع اليونانية واللاتينية، وبأنها اللغة الوسيطة بين اليونانيين والعرب في ترجمة الكتب العلمية إلى العربية. وبأن أهلها، ولا سيما أهل بابل، أول الناس الذين اشتغلوا بالعلوم، خاصة بعلم الهيئة والفلك والرياضيات، وبأن كثيرا من كتب اليهود الثمينة : التلمود البابلي، وترجمات العهد القديم التي يتلوها اليهود إلى يومنا هذا بالكلداني أو السرياني. وبأن المؤرخ الشهير يوسف الأشقر كتب تواريخه بلغة جيله السريانية في القرن الأول، ثم نقلها إلى اليونانية لفائدة الغرباء.
وتجد آثارها بعدما انقرضت في العربية: (1)
في الألفاظ الدخيلة منها «وليس من اليونانية» مثل قسيس، عماد، ناقوس، كنيسة، نياحة، ساعور، ترشيم، فندق، وغيرها، وفي الألفاظ اليونانية الموجودة في السريانية، والتي نقلت إلى العربية بوساطتها. (2)
وفي لغة سوريا العامية: الآن إسكان المتحرك في أول الكلمة مثل: كبير، صغير، نروح. (3)
تسكين المتحرك في وسط الكلمة بحركة الاختلاس مثل عمتك، علتي، زلقطة. (4)
قلب الميم إلى نون في ضمير المخاطبين مثل أبوكن بدل أبوكم، بيتهن بدل بيتهم. (5)
وجود بعض الألفاظ من السريانية مثل: ديق، فقع، الشرش، الأشكاره، الدقن. (6)
وجود بعض أسماء قرى ومدن مثل: راشيا، حاصبيا، بيت لهيا، داريا، معرا ... إلخ. (7)
وجود أناس يتكلمون السريانية إلى الآن في سورية في قرية معلولا قرب دمشق، وسريانيتهم أفصح من سريانية آشور والجزيرة والعراق، وكانت دارجة في لبنان حتى القرن الثالث عشر.
واللغات السريانية المعروفة اليوم منها مكتوب ومنها غير مكتوب.
فأول اللغات المكتوبة هي لغة بابل. ثم لغة العراق أو المندوية، ثم اللغة الكتابية الدارجة اليوم. أما السامرية واللغات الغير المكتوبة، فهي سريانية كردستان وسريانية ما بين النهرين؛ أي الجزيرة، وسريانية بلاد الشام. (1)
أما البابلية فكانت في العراق وآشور وسائر البلاد التي كانت تابعة لدول بابل ونينوى، وهي لغة بعض أسفار التوراة، ولغة اليهود بعد رجوعهم من السبي. وكانت تسمى آرامية أو سريانية، والإنجيل يسميها عبرية، والإفرنج الكلدانية، والعرب النبطية، وهي لغة التلمود البابلي والترجومات وجملة قصائد طقسية دينية عند اليهود إلى الآن.
فالنبطية هي التي يسميها الإفرنج الكلدانية، وهي لغة أمة الصبا أو المندوبين في جنوب شرقي العراق، ومحفوظة في كتبهم الدينية. (2)
وأما السريانية الكتابية الدارجة اليوم، فهي مستعملة عند النصرانية ما عدا أمة الصبا، وفي قرية معلولا وقريتين مجاورتين لها في الشام إسلامية. وتوجد في مدينة زاخو فيما بين النهرين جماعة من اليهود لسانهم العامي السرياني المحرف الشائع في كردستان.
وقد انتهت هذه السريانية الدارجة الآن إلى الآرامية في القرن الأول. وأشهر كتبها هو الكتاب المقدس، ولم يتغير إلى يومنا هذا. وقد انقرضت تدريجيا بعد القرن الثالث وأمست ميتة. وقد ظهرت كتبها كلها بعد القرون الأولى، ولم يبق منها سوى نقوش حجرية في «تدمر» القلم «التدمري»، وفي نينوى المسماري.
وهذه اللغات الكتابية على نوعين: شرقية وغربية، فالشرقية تسمى النصيبية نسبة إلى مدرستها لغة بلاد الشرق من الآرامية، وهي لغة النساطرة الكاثوليك، واليعاقبة في ملبار في الهند، وهي الأفصح والأصح. والغربية وتسمى الرهاوية لغة غربي نصيبين حتى البحر، وهي لغة السريان الكاثوليك الطقسية، وخصوصا الموارنة اليعاقبة العثمانيين. ومما يدعو إلى الأسف أنها أدخلت إلى أوروبا؛ إذ كان الأولى إدخال لفظ الشرقيين؛ لأنه الأقدم والأحسن كما نجده في أسماء القرى راشيا وحاصبيا وبكفيا وعبدا. ولو لفظت هذه كالغربيين لكانت راشيو وحاصبيو وبكفيو وعبدو. (3)
وأما السامرية فهي لغة فرقة من الإسرائيليين يقال لهم السمرة في نابلس بقية السامريين الذين افترقوا في عهد الملك يربعام بن نباط، ومن الذين أرسلهم شملناصر - ملك آشور - من السريان من بابل، وحفظوا لغة السريان وخلطوها بألفاظ عبرية، وتولد منها لغة خاصة تسمى السامرية، ولهم خط خاص، وقد ترجموا التوراة إلى لغتهم يدرسونها ولا يتكلمونها خالية من الحركات والنقط كما سبق. ومن عاداتهم إذا بدءوا بحرف ساكن أضافوا إلى اللفظ ألفا مفتوحة، ويلفظون الحروف الحلقية كهمزة.
واللغات الغير المكتوبة: (1)
الأولى اللغة الآشورية في آشور والجبال الشرقية من الجزيرة وكردستان، وهي سريانية محرفة مبلبلة بألفاظ أعجمية، ويسمون أنفسهم سريان، ولكن جيرانهم يسمونهم الفلاحين ولغتهم الفلاحية، لفظها يشبه لفظ الشرقيين. (2)
الثانية لغة الجزيرة؛ أي جبال طور عبدين، وهي أقل فسادا من السابقة، وأكثر قربا من اللغة الفصيحة يتكلمها السريان اليعاقبة. (3)
الثالثة يسميها الإفرنج الفلسطينية، كانت يوما في بلاد الشام وفلسطين، واليوم محصورة في قرية معلولا. فيها مسلمون يتكلمون هذه اللغة ونصارى كاثوليك، وهي تقرب من الشرقية، وأهلها يلفظون القوف «ق» كافا والتاء المثناة جيما. وقد هذب البروتستانت هذه اللغات ودرسوها وطبعوا كتبا فيها إلا لغة معلولا.
وبإجمال الكلام: إن هذه الفروع السبعة تلفظ كلفظ الشرقيين إلا لغة جبل الطور ولغة معلولا، وإن لغة بابل تقرب من الآرامية الأصلية، ثم الكتابية المشهورة الآرامية الأصلية، ثم الكتابية المشهورة الآن، ثم لغة معلولا، ثم لغة المندوبين، ثم السامرية، ثم لغة طور عبدين، ثم لغة آشور، ومع اختلافها من بعض في كثير من الأمور تتفق لغة بابل مع السامرية ولغة معلولا فقط بحرف المضارعة اليود «ي» من «أنيت أنيت» كما في العربية والعبرية. وتتفق السبعة إلا الكتابية والآشورية والطورية في جميع الأسماء الخالية من تاء التأنيث بزيادة الياء المشددة في آخرها، والسامرية تتفق مع المعلولية في صيغة الفعل التي لا توجد في العربية والعبرية.
ثم تتفق البابلية مع العربية في: (1)
ضمير المتصل للمؤنث، وهو: هاو جمع المتكلم نا. (2)
وفي ك الضمير للإشارة. (3)
في ياء المضارع: يكتتبون. (4)
وفي مصادر الأفعال المزيدة التي في أولها ألف مثل استلام، إدراك. (5)
وفي ك التشبيه، وفي مشابهة ألفاظ كثيرة في الصيغة والمعنى أيضا. (2) الكتابة
كان المذهب الشائع أن الكتابة اخترعتها الأمة الفينيقية، وبمهاجراتها علمتها الأمم. ومن جملتها الأمة اليونانية. وكانت إذ ذاك «فينيقيا» بقعة صغيرة من بلاد السريان، ولكن الحقيقة هي أن الفينيقيين تعلموها من البابليين؛ لأن التاريخ لم يشهد لهم في العلوم كما شهد للبابليين والآشوريين الذين وضعوا أسس العمران في العالم، فظهرت عندهم العلوم والمعارف، ولا سيما علم الفلك والرياضيات. وقد شهد بذلك إقليميس الإسكندري في القرن الأول، وبلينيوس الفيلسوف في القرن الثاني، وديودوروس الصقلي. وقد ثبت أن الحروف الأبجدية اليونانية أخذت عن السريانية وزادوا عليها بعض الحروف والألف كعادة السريان اليوم، ألفا، بيتا، جما، دلتا ... إلخ. ولكن السريان اليوم أسقطوا الألف من أواخرها، وقد اتفقا في حساب الجمل.
وزعم يوسف هلفي الفرنسوي أن الفينيقيين نقلوا الكتابة عن المصريين، وأن الحروف التي أخذوها عنها هي 13 حرفا فقط أ ب س م ر ط ك ن ف ت ع ه ش. ولكن هذا ليس بمعقول وغير محقق، وتوجد أدلة تدحضه: (1)
العين والطاء لا توجدان في المصرية. (2)
ثم لو كان الساميون أخذوا 13 حرفا فقط واخترعوا البقية لسردوها بعدها، ولما فرقوها بين الحروف المأخوذة. (3)
ومن المعقول أنه كانت عند المصريين حروف أخرى غير ال 13 حرفا، فيستبعد أن يكونوا أخذوا البعض وتركوا البقية واخترعوا صورا جديدا لبقية الحروف. (4)
يزعمون أن أسماء هذه الحروف متشابهة عند المصريين والساميين، ولكن ليس من يعلم البتة كيف كانت أسماء الحروف عند المصريين، حتى إن القبط أولاد المصريين القدماء استعاروا أسماء يونانية عندما اتخذوا أبجديتهم في القرون المتأخرة. (5)
ومن أمعن النظر مليا في صور الحروف المصرية الثلاثة عشرة لا يرى أدنى مشابهة للحروف السامية.
وإنه لأمر معلوم أن الرومانيين أخذوا صناعة الخط عن اليونانيين أو عن الذين تعملوا منهم «أي عن السريان»؛ فإنه مسطور في صحف اليونانيين القدماء أنه في سنة 2560ق.م، جاءت فئة من أهل الشام بزعامة رجل اسمه قدم إلى أرض اليونان، وأخذت معها صناعة الكتابة، وصار اليونانيون يكتبون بالسريانية، وحفظوا أسماءها السريانية بعينها، وأبقوها على الترتيب والصيغة الأصلية مع الألف الملحقة، بخلاف اللاتينيين الذين أضاعوها، وبدءوا يكتبون من اليمين إلى اليسار، ثم تركوا هذه العادة، وربما صاروا يكتبون على أسلوب الحراثة، ثم من اليسار إلى اليمين إلى يومنا هذا. ومن العجب أنه لا يوجد من يكتب من اليمين إلى اليسار إلا السريان والعرب والعبران والبهلويون؛ أي الفرس القدماء.
وزعم البعض أن الرومان أخذوا صناعة الخط رأسا عن السريان؛ لأن بعض الحروف اللاتينية تختلف عن اليونانية وتقرب من السريانية، وبعض الحروف السريانية سقطت من أبجدية اليونان وموجودة في الرومية، وهما: و، ق.
وهكذا الفرس، فإنهم كانوا يكتبون بالسرياني، وإلى يومنا هذا حفظ القلمان الفارسيان وهما الزندي البلوي، وهما مأخوذان من القلم السرياني.
القلم العبري: لا بد أن ترتيب الحروف الأبجدية قد اتخذته إحدى الأمتين من الأخرى لاتحاده عند كلتيهما. ولما كان اليهود في عبودية وتيه وبلبلة ولم يحصلوا على شيء من العمران والقوة الأدبية إلا في نحو زمن الملك داود؛ فالغالب أنهم لم يخترعوا هذا الترتيب، بل أخذوه عن السريان.
والمعلوم أن الأرمن كانوا يكتبون السريانية قبل اختراع حروفهم الجديدة في القرن السادس. وقد ذهب المحققون إلى أن أفضل الأقلام في بلاد الهند وما يجاورها وفي بلاد الحبشة أيضا مأخوذة عن الآرامي.
ولقد تعلم العرب الكتابة من السريان، وأخذوا عنهم القلم السرياني، وهو الذي يستعملونه إلى الآن، إلا أنهم أحدثوا فيها بالتدريج تغييرا كثيرا.
أما القلم الذي اخترعه الآراميون فلا نعرف بالتحقيق كيف كانت صور حروفه، ولكن ذهب بعضهم إلى أنه هو القلم المسماري الذي نراه في النقوش على الأحجار التي كانت مطمورة في مواقع بابل، ونينوى، وهذا القلم قد تغير شيئا فشيئا، وتولد منه القلم السامري كما سبق ذكره، وثمة أقلام لا ترى إلا في الآثار القديمة المنقوشة على الأحجار كالفينيقي في الجانب الغربي من بلاد الشام، وفي مواضع أخرى، والقلم التدمري في آثار مدينة تدمر، والقلم النبطي الذي نتج منه الحميري العربي الذي تولد منه القلم الكوفي، ومن هذا نشأ القلم العربي المعروف اليوم الذي يقال له: النسخي. كل هذه تشبه بعضها بعضا، وتشبه القلم اليوناني واللاتيني أيضا.
أما أقدم قلم آرامي اتصل بنا عهده فهو البابلي الذي استعمل في زمان كورش - ملك فارس - والذي تعلمه اليهود في بابل، وهم يستعملونه إلى يومنا هذا، ويسمونه القلم الآشوري، ويسميه البعض اليهودي، ويسميه الإفرنج القلم المربع. أما اليهود فيسمونه القلم المقدس. وقد اشتقوا منه أقلاما أخرى أقل زخرفة أطلقوا عليها نصف قلم، كالقلم الراشي، والقلم الألماني الخاص بالروس والألمان اليهود.
والقلم المشهور اليوم عند السريان من بين الأقلام الكثيرة المتولدة هو المعروف بالقلم السطرنجيلي، وهو أول قلم سرياني عرفا وشهرة، وكان مستعملا في نحو القرن الأول ب.م. ويقرب من التدمري، غير أن التدمري للآثار، والسطرنجيلي للكتابة، وحروفه شبيهة بالبابلي، ومنه تولد القلم العامي، ومن هذا تولدت أربعة أقلام: (1)
قلم مختص بالنساطرة والموارنة، وبه تكتب في القرن السابع عشر. (2)
قلم مختص بالسريان الغربيين؛ أي اليعاقبة والموارنة ، وبه تكتب السريان الآن، وتستعملة مطابع أوروبا. (3)
قلم مختص بالملكيين في بلاد الشام قبل أن يتخذوا العربية لغة لهم، وهو شبيه بالعامي. (4)
القلم الفلسطيني، وهو مختص بالملكيين في فلسطين.
ثم إن الأقلام القديمة: قلم المندوبين أو الصبا تعد أقدم من السطرنجيلي، وقد نشأ من البابلي ثم العربي، وهو ناشئ من السرياني كما تقدم. وهذا محقق وثابت من المشابهة القوية بين العربي الأصلي، أي الكوفي، والسطرنجيلي، ومن ترتيب الأبجدية، ومن مشابهة الحروف المقطوعة إلا الهاء والصاد والتاء، ومن عددها، ومن كون أن العرب كانوا يكتبون آثارهم بالسريانية. وبالإجمال لم يكشف أحد إلى اليوم كتابة بالعربية سابقة لعهد الإسلام، ثم الجرشوني «الكرشوني عند العامة» كلام عربي يكتب بالسريانية، ظهر في نواحي القرن السابع لإخفاء ما يرغب تدوينه، والجرسوني بالسين كتابة الملباربو الهنديون المسيحيون. على أنني لم أوفق إلى الوقوف على أصل اشتقاق كلمة جرشوني، بل أعتقد بأنها منسوبة إلى اسم أول من كتبها، وهو «جرشون»، وهو اسم دارج قديما.
بقي أن نلمع إلى: أي قلم من الأقلام السريانية والمتولدة منها أفضلها حسنا وطرافة؟ إن مذاهب الناس تختلف في أمر الحسن النظري، فمنهم من قال: إن السطرنجيلي الأظرف ثم اليوناني ثم اللاتيني ثم المربع؛ أي العبراني، ثم النسطوري ثم العامي ثم اليعقوبي ثم البقية. ووضع بعضهم اليعقوبي في الأول، غير أن كثيرين يضعون المربع في المقدمة.
أما نظام الحركات فلم يكن له أثر قبل القرن الثامن. ثم تألفت تدريجيا من نقط صغيرة وكبيرة وخطوط وحروف. فالعبرانيون أول من وضعوا نظام الحركات قبل انتهاء التلمود، ثم تعلم السريان من اليهود طريقة الحركات الخمس القائمة الآن من وضع يعقوب الرهاوي، ثم تبعهم العرب في بدء ظهور الإسلام. غير أن السريان الغربيين استعاروا من اليونانيين الحروف الأربعة أ و ح ع للحركات. واتخذ النساطرة طريقة النقط الصغيرة، واليعاقبة والموارنة النقط الصغيرة والكبيرة . وأما السامريون الملكيون فلا يزالون يستعملون لغاتهم بلا حركات.
وبالاختصار، فإن اللغة السريانية كانت منتشرة في جانب عظيم من آسيا الغربية قبل التاريخ الميلادي بأكثر من ألفي سنة، ودخلت فلسطين في القرن الثامن ق.م. ثم عمت بلاد اليهود كلها في القرن السادس وجانبا عظيما من المملكة الفارسية، وبلغت آدابها أوج الكمال في عصرها الذهبي، وقد دام هذا إلى الجيل الرابع الذي ظهر فيه فحول العلماء، وتأسست مدرسة سلوق في العراق، ومدرسة الرها والنصيبين في الجزيرة. ومن أشهر الذين نبغوا في هذه اللغة برديصون الملحد وإفرهاط الحكيم الفارسي، وأفرام الملفان، وبالاي، وفورلونا، وماروثا، وإسحاق الإنطاكي، ورابولا، ويعقوب الرهاوي، وغريغوريوس الشهير، وغيرهم. وقد دام هذا العصر إلى القرن التاسع، ثم أخذت في التقهقر تدريجيا إلى القرن الثالث عشر حتى وفاة غريغوريوس بن العبري، وبذهابه سقطت ولم تقم من سقطتها إلى يومنا هذا. (3) نظرة إجمالية في المقارنة بين اللغات السامية (1)
إن المشابهة ظاهرة في أسماء الحروف الأبجدية ولفظها ما عدا الحرفين ض ظ، ثم في كتابتها من اليمين إلى اليسار. (2)
في قسمة الحروف إلى صحيحة ومعتلة، وأساسية واستخدامية، وحروف المعاني، وواو العطف، وغيرها، وفي الحركات. (3)
في كثير من الأوزان للأسماء والنعوت وأسماء الآلة والمكان وغيرها. (4)
في أوزان الأفعال، وأنواعها، ومزيداتها، والجنس، والإضافة، والنسبة، والأعداد، والضمائر، والحروف. (5)
في صرف اللغة ونحوها. (6)
في مادة كثير من الأفعال والمفردات، وإليك بعض الأمثلة:
في ظواهر الطبيعة:
مثل أرض، سماء، شمس، كوكب، يم، ريح، نهر، بئر، غيم، بركة، مطر، برد، ثلج، وغيره.
في الزمان:
يوم، نهار، ساعة، دقيقة، أسبوع، سنة، دور، وغيرها.
فيما يتعلق بالدين:
دين، رب، قضاء، إله، نبي، ملاك، بركة، شبح، ركوع، وغيرها.
في أسماء الحيوانات والطيور:
بهيم، ذئب، كبش، ثور، حمار، نسر، وغيره.
في أسماء النباتات والأعشاب:
عشب، قش، تفاح، بطيخ، بصل، تين، عنب، ذهب.
في المعادن:
مثل فحم، كبريت، ذهب، نحاس.
في أسماء الآلات والصنائع:
قدوم، محراث، منشار. صياد، ملاح، حمار، جمال، خياط.
في النعوت والصفات:
قصير، قاس، لين، كاذب. طيب، يابس، حاد ... إلخ.
في الجنس البشري:
أب، أخ، أم، ابن، وغيره.
في الأفعال:
مثل أكل، ملأ، شبع، قتل، سمع، حلم، رأى، وغيرها.
أما كيفية المشابهة فإما بالوضع التام بالحروف والحركات، مثل: مطر، يم، نهر، أو بالإبدال بين الحروف التي من مخرج واحد، مثل: صعق، وزعق، وضحك، ونزح، ونسع، ونزع، والتي من شكل واحد: شام، وسالم، طلف وظلف، أرض أرص، أو بإبدال حروف التبادل «لمنر» مثل أرمل والمن ابهام بوهن.
أو نقل الحروف: كبش وكشب، كعب وعقب، حلج وحلق، ركع وكرع، حزام وميزج، أرب وأبر، أو بواسطة زيادة ونقصان بعض الحروف: أزروع ذراع، أبطيح بطيخ، أخزاب كذاب، وصميع قريح أقرع.
أو بتغيير الحركات مثال: حامور حمار، جمال جمل، شالوم سلام.
أو بإدغام بعض الحروف كالنون وتعويضها بشدة، مثل: حنطة حطة، مشور منشار، سدان سندان، أبوب أنبوب، شبولت سنبلة، وغيرها. (4) اللغة العبرية
قلنا: إن اللغات السامية تمتاز عن غيرها بقواعد منها أن الحروف تحتوي على حروف صوتية حلقية من طبقات مختلفة، وأن الحركات أصلها ثلاث: أ. إي. أو. هذا؛ وأكثر مصادر اللغات السامية كلمات ثلاثية. وللفعل: ماض ومضارع وأمر مع استعمال خاص. ولا يوجد شاذ في تركيب الكلمات. وينقسم الاسم إلى مذكر ومؤنث، ومفرد ومثنى وجمع.
هذا؛ وأصل القلم العبري الحالي هو القلم الآشوري، نسبة إلى آشور، وهي الموصل، ويقال: إن آشوري مشتقة من مؤشار؛ أي ممدوح ومشكور.
أما طريقة كتابة العبرية وقراءتها فإنها من اليمين إلى اليسار كسائر اللغات السامية؛ وذلك لكونها في الأصل كانت تنقش على الأحجار، والنقش ميسور من اليمين أكثر من الشمال. أما الحروف العبرية فهي غير متصلة عدا الألف واللام أحيانا، وعدد أحرفها 22، وأحيانا أكثر من ذلك، وحركاتها بالفتحة والضمة والكسرة والشدة والمدة والوصلة كالعربية. وللعبرية نحو وصرف وبلاغة.
هذا؛ وقد كان ابتداء استعمال الخط الآشوري أو المربع، وهو الخط العبري الحاضر، من عصر «عزرا» الكاتب؛ أي من عهد رجوع سبي بابل. أما الخط العبري القديم فعلى نقيض هذا.
ثم إنه لم يرد في التوراة اسم اللغة العبرية؛ إذ هي بالعبري «لاشون عبريت»؛ أي اللسان العبري، ولكن الأمم المجاورة للعبرانيين كانت تسمي لغتهم بهذا الاسم، وقد ورد هذا الاسم للمرة الأولى في المشنا في يدايم 4:4، وجطيم 9:8. وقد سميت «سفات كناعن»؛ أي شفة، ولغة كنعان «اش 9»، وسميت أيضا «يهوديت»؛ أي اليهودية، كما جاء في سفر الملوك الثاني 18: «كلم عبيدك بالآرامية؛ لأننا نفهمه ولا تكلمنا باليهودية.» (واش 11:36 و13 ونح 24:13)، وكانوا يسمونها «لاشون هقودش»؛ أي اللغة المقدسة؛ تمييزا لها من اللغة العامية (تلمود. سوطه 10:8).
ومن المؤكد أنها كانت اللغة المستعملة عند الكنعانيين الذين كانوا يسكنون فلسطين قبل مهاجرة إبراهيم، بدليل وجود بعض أسماء عبرية عند الكنعانيين، مثل «ملكي صيدق» ملك العدل، و«قريت سيفر» مدينة الكتاب، وأبيمالك وأدوني بازق، وغيرها.
يقسم تاريخ اللغة العبرية مدتين: المدة الأولى وهي نحو ألف سنة مدة استقلال اليهود، وتنتهي بسبيهم إلى بابل نحو سنة 600ق.م. وتعرف بالمدة الذهبية؛ لأنه فيها تقدمت اللغة وانتشرت وكتب فيها القسم الكبير من الكتاب المقدس العبري مع ما فيها من تاريخ ونثر وشعر وقصائد مرتبة على الحروف الأبجدية.
وقد اختلف أسلوب الكتاب في هذه المدة في الإنشاء وآداب اللغة حسب الأوقات والكتب، فإن أسلوب أشعيا مثلا يختلف عن أسلوب أرميا الذي جاء بعده بنحو قرن، وعن أسلوب ميخا الذي كان معاصرا له، وعن أسلوب المؤرخين الذين كتبوا الكتب التاريخية أيضا. غير أن متن اللغة وتراكيبها كانت واحدة تقريبا. وكان الشعر يختلف عن النثر بالإكثار من الاستعارات والكنايات فوق اختلافه عنه بالوزن والقافية واستعمال كلمات خاصة مثل: «أنوش» بدل «آدم»، وبتطويل بعض الحروف والظروف بإضافة بعض حروف إلى آخرها.
ولقد تقدمت اللغة في هذه المدة أيضا بتقدم الصناعة والتجارة والعلوم وإدخال كثير من الكلمات الأجنبية عن طريق التجار الفينيقيين من الآشورية والفارسية واليونانية والمصرية، ولا سيما من الكلدانية.
والمدة الثانية - وتعرف بالفضية - وهي مدة انحطاط اللغة، وتبتدئ منذ انتهاء المدة الأولى إلى زمن المكابيين سنة 160ق.م. في هذه المدة ظهر تأثير اللغة السريانية بكثرة الكلمات السريانية في الشعر والنثر بسبب اختلاط اليهود بالكلدانيين في بابل مدة السبي، حتى إنه بطل استعمال اللغة العبرية في الكلام والحديث، وانحصر استعمالها عند الكهنة والعلماء في كتاباتهم فقط «نحميا 8:8»، وظهر تأثير اللغة الكلدانية كما يرى في الأسفار التي كتبت حينئذ، وهي عزرا ونحميا ودانيال وأخبار الأيام وسفر إستير وأسفار بعض الأنبياء وبعض المزامير الأخيرة. ولا شك أن كتبا كثيرة كتبت بالعبرية في هذه المدة ولكنها فقدت ولم يبق منها إلا هذه الأسفار.
ومما يستحق الذكر أنه كان هناك بعض لهجات خاصة عند بعض الطوائف، وقد ورد أن الأفرانيميين كانوا يلفظون الشين سينا فيلفظون «شبولت» مثلا «سبولت»؛ أي سنبلة (قض 6:12). وجاء أنه كان للأشدوديين لهجة خاصة (نح 24،23:13).
وبعد أن انحطت اللغة وبطل استعمالها تدريجيا في الكلام، جمعت الأسفار في كتاب واحد هو المسمى بالعهد القديم، وأخذ علماء اليهود في شرحه وترجمته، وأول ترجمة كانت إلى اليونانية، ويقال لها: الترجمة السبعينية؛ لأنها تمت على يد سبعين مترجما في أوقات مختلفة، فابتدئ بترجمة الأسفار الخمسة في عهد بطليموس فيلادلفوس في الإسكندرية لفائدة اليهود القاطنين فيها وفي بلاد اليونان نحو سنة 280ق.م. ثم أتت بعدها الترجمة السريانية. وقد قام بترجمة الأسفار الخمسة وبقية أونقلوس والأسفار الأخرى يونانان بن عزئيل في فلسطين وبابل في أواخر القرن الأول. وبعدها كانت الترجمة المصرية «القبطية» بين القرن الثاني والثالث للمسيح.
وأما التفاسير والشروح والأحكام الشرعية والقضائية، فقد كتبت في المشنا في القرن الثالث والجمارا «أي التلمود».
والمشنا هي ابتداء اللغة الحديثة. وأما الجمارا فتقرب كثيرا من الكلدانية في القرن السادس، وتختلف لغة المشنا عن لغة التوراة في الأمور الآتية: (1)
وجود كلمات آرامية، ووضع صيغة الجمع بالآرامية بالنون. (2)
وجود نحو 300 كلمة دخيلة من اليونانية واللاتينية. (3)
كثرة استعمال أفعال المطاوعة واسم الفاعل. (4)
استعمال الضمائر الوصولية في حالة الإضافة في الملكية. (5)
زيادة عدد الحروف والظروف، وتحديد استعمالها. (6)
استعمال كلمات من التوراة في غير معناها الأصلي، واشتقاق أفعال منها. (7)
استعمال بعض ألفاظ مخالفة لقواعد اللغة حسب الظاهر.
وكان الإسرائيليون القاطنون في فلسطين وبابل يومئذ يحافظون على نسخ التوراة العبرية مع الدقة والحرص حتى على كل نقطة كتبت فيها لازمة كانت أو غير لازمة. وقد اعتمد عليها المترجمون كلهم في الترجمة والمقابلة مثل إيرونيموس في ترجمته اللاتينية عن السبعينية وأورجانوس في جمعه الهكسابلا؛ أي مجموع خمس ترجمات مع الأصل العبري في كتاب واحد نحو القرن الثاني.
وكان متن التوراة إلى الجيل الأول مؤلفا من حروف فقط بدون حركات وفواصل بين الآيات والفصول. وقبل انتهاء كتابة التلمود بقليل شرع العلماء اليهود في وضع الحركات لزيادة الضبط، وأقدم نظام للحركات كان البابلي والآشوري، ولكنه لم يستعمل إلا قليلا، وبطل مع تمادي الأيام، وأبدل به النظام الطبراوي، وهو المستعمل إلى يومنا هذا مع بعض إضافات، مع الدقة والكمال، وهو يحتوي على 18 حركة منها ما تدل حتى على نصف حركة وربع حركة، وهو أتم من نظام حركات بقية اللغات السامية. وقد أخذ السريان عنهم نظام حركاتهم، ووضعوا أيضا حركات لحنية منها 19 فاصلة و8 واصلة تستعمل في التوراة، و22 فاصلة وواصلة خاصة بأسفار أيوب والأمثال والمزامير، وفي أواخر ذلك الجيل؛ أي السادس، قرر الباحثون بعد التدقيق والانتقاد قراءة الكتاب المقدس العبري الحاضرة، وهي المعروفة بالماسورة، وإليها ينسب وضع الحواشي الموجودة في الكتاب.
ولما انتقل بعض اليهود من الشرق إلى أوروبا أخذوا معهم نسخا عديدة من الكتب المقدسة يعتمد عليها. من هذه نسخة: جليل، وجدت في إسبانيا، ونسخة ابن شير وابن نفتالي رئيسي مدرستي بابل وطبريا، ونسخة أريحا، وهي أصح نسخ الشريعة الموسوية، والنسخة الهندية، والنسخ السينمائية، ونسخ عديدة غيرها يبلغ عددها نحو 854 نسخة جميعها في مكاتب أوروبا.
وقد حفظت إلى الآن عند السامريين في نابلس نسخ من الخمسة الأسفار بالخط السامري القديم، وهم يدعون أن عندهم نسخة باقية بخط فينحاس بن أليعازار بن هارون. أما ادعاؤهم أقدمية هذه النسخة فباطل؛ لأنه قد ثبت أنها مأخوذة عن الترجمة السبعينية مع بعض تغييرات موافقة للمعتقد السامري. ومن مقابلة هذه النسخ جميعها يبين أنها قد حفظت مع التدقيق والصحة، وأن اختلاف القراءات لا يمس عقيدة أو عملا، بل يسير على دقة لهجة بعض كلمات وضبط حركاتها.
هذا؛ وأول من بحث في قواعد اللغة العبرية الأستاذ سعيد الفيومي في القرن العاشر، وهو من أساتذة بابل ؛ فقد ترجم العهد القديم كله تقريبا إلى العربية بالحروف العبرية، ومن معاصريه الذين بحثوا في اللغة دوناش بن لبراط، وابن تميم، ومناحم بن سروق، ويهوذا بن قريش. وقد بحث هذا الأخير في اللغات السامية الثلاث وقابل بينها وبين لغة التوراة ولغة المشنا. ولأبي يهوذا حيوج، ويهوذا بن قريش، وأبي الوليد مروان، وابن أشير، ويهوذا بن بلعام، وإبراهيم بن عزرا، وعائلة قمحي، وسلمون يارحون، وربي ليفي بن جرسون، وابن جبيرول، وهارون بن يرسف وغيرهم مؤلفات عديدة قيمة في اللغة العبرية.
وممن اشتهر من العلماء المسيحيين في اللغة العبرية روكلين، اللغوي الشهير، وجون باكستروف، وشولتز، وشريدر، وجزينيوس، وروبنصون، وإيوالد، وغيرهم.
وقد بلغ عدد المؤلفات التي تبحث في اللغة العبرية في سائر اللغات ما ينيف عن 800 مجلد لكتاب مسيحيين أكثر من نصفها.
النحو العبري
وعند الدكتور فؤاد حسنين أن اليهود يدينون للكنعانيين بلغتهم العبرية، وللعرب المخضرمين بتذوق هذه اللغة وآدابها، وللمسلمين بوضع الكتب العلمية وصرفها؛ وذلك أن العبريين هاجروا من شمال الجزيرة العربية حول منتصف الألف الثاني ق.م إلى فلسطين أو أرض كنعان، فوجدوا فيها شعبا ساميا راقيا، يتكلم الكنعانية ويكتب بها، فلما استقر بالعبريين المقام أخذوا يتركون لغتهم الأصلية التي جاءوا بها، والتي كانت تتألف من لهجة آرامية، ويستعملون مكانها لغة وطنهم الجديد، شأنهم في ذلك شأنهم اليوم في البلاد التي يأوون إليها، فهم يتكلمون الإنجليزية في إنجلترا وأمريكا، والفرنسية في فرنسا، والألمانية في ألمانيا، وهلم جرا، لكنهم كانوا فيما يفكرون ويكتبون متأثرين بلغتهم الأصلية، لذلك اصطلح على تسمية هذه اللغة التي أصبحت خاصة بهم «اللغة العبرية» التي ظلوا يتكلمونها حتى القرن الثاني ق.م. ففي ذلك القرن اختفت من الحياة العامة، ورضيت بالمعابد، وصارت لغة طبقة خاصة من علماء اليهود، وأخذت تحل محلها لغات أخرى، منها السامية ومنها الأجنبية، وأصبح اليهود في الشام والعراق يتكلمون لغة تزداد مع سير الزمن فسادا، حتى أصبحت قبيل الإسلام خليطا من العبرية والكلدانية واليونانية الدارجة التي لا أدب لها.
لكن حدث في ذلك الوقت أن أرسل الله رسوله «محمدا» بالهدى ودين الحق، وقام بعض يهود الجزيرة العربية وألبوا الناس عليه.
وكان من بين هؤلاء اليهود الذين ناصبوا النبي العداء، وأجلوا عن قلب الجزيرة بنو قينقاع وبنو النضير، ويهود خيبر ووادي القرى وغيرهم، الذين نشئوا في الجزيرة العربية نشأة تتفق إلى حد ما والخلق العربي والمثل العربية من حيث الشجاعة والكرم والأمانة والوفاء، إلى جانب العناية بالفصاحة والبلاغة وقرض الشعر، على نقيض إخوانهم في الشام والعراق الذين كانوا يقاسون آلام الاستعمارين البيزنطي والفارسي. ولا أدل على رقي يهود قلب الجزيرة من أن دواوين الأدب العربي حفظت لنا كثيرين من شعرائهم أمثال السموءل بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعبة بن غريض وغيرهم، الذين يدل نبوغهم في الشعر على سلامة ذوقهم اللغوي، وتأصل العربية والطباع العربية فيهم، وقد نقلوها إلى إخوانهم في العراق والشام؛ لذلك لم يكد يمضي نصف قرن على فتح المسلمين تلك البلاد حتى أصبح اليهودي يجيد العربية قراءة وكتابة. ولم يقف أثر المسلمين عند هذا الحد، بل نجدهم يحولون اهتمام اليهود إلى كتابهم المقدس ليجادلوا من يجادلهم من ناحية، وليحافظوا عليه من التغيير والتبديل من ناحية أخرى، فضبطوه بالحركات كما ضبط المسلمون القرآن الكريم. وكانت النتيجة المحتومة لانتشار معرفة اللغة العبرية ودراستها، وفهم الكتاب المقدس والعناية به، أن ولد شعر عبري حديث انصرف صاحبه إلى فنون أخرى غير فنون الشعر العربي، التي كانت تتجلى في ذلك العصر في مدح السيف والفروسية والحب، ورثاء المجد الغابر، وهجاء الخصم الذي لا يستطيع الشاعر قتله أو الوصول إليه، بينما يتغنى الشاعر العبري بمديح الله ورثاء الأمة العبرية؛ ومن ثم تفنن فنظم للكنيس كثيرا من الشعر الديني الذي يستخدم في العبادة، ومع سير الزمن وكثرة تأثر هؤلاء الشعراء بالعرب والعربية، أدخلوا القافية في شعرهم بعد أن كان غير مقفى.
إن التاريخ يحدثنا أن اليهود لم يكتبوا كتبا علمية في قواعد لغتهم إلا بعد أن تتلمذوا للعرب، وبعد أن نشئوا في مهد الثقافة الإسلامية نشأة مكنتهم من فهم العلوم العربية على اختلاف أنواعها، ففي أواخر القرن التاسع والنصف الأول من العاشر الميلادي ظهر «سعديا» «892-942م»، وهو سعيد بن يوسف الفيومي، فيلسوف اليهود في القرن العاشر، فقد تأثر سعديا هذا لا بالعلوم اللغوية العربية فقط، بل بالعلوم الدينية الإسلامية أيضا، وتشربت روحه بمذهب المعتزلة، حتى إنه استعان به عند معالجته للديانة اليهودية، ويطلق عليه نحويو اليهود «أبا النحو العبري»، فقد وضع مؤلفا يقع في اثني عشر كتابا يسمى «كتب اللغة»، وهو يعد أول مؤلف منظم في قواعد اللغة العبرية، ومن بواعث الأسف أن أكثره قد فقد، وقد عالج فيه الأبجدية، وخواص الحروف الحلقية، وإبدال الحروف وإدغامها، وتصريف الأفعال، كما عالج الأسماء والحروف، كذلك وضع كتبا أخرى بالعربية والعبرية لسنا في حاجة إلى الإشارة إليها هنا، وحسبنا أن نذكر مؤلفه العظيم «أجرون»؛ أي «معجم لغوي»، فقد قسم فيه الكلمة إلى «أصل» و«زيادة»، أو بمعنى آخر إلى أصل وعلامة إعراب، وقد أورد فيه قائمة تشتمل على تسعين كلمة عبرية وآرامية نادرة الوجود في العهد القديم، فاسترعى بذلك النظر إلى وجوب العناية بالدراسة المقارنة التي عالجها هناك في الوقت نفسه «يهوذا بن قريش»، الذي ولد في شمال غربي أفريقيا. وغير سعديا ويهوذا نجد أمثال «مناحم بن سروق» اليهودي الإسباني «حول عام 960م»، و«دونش بن لبراط» تلميذ سعديا، وقد ولد في مدينة «فاس»، وهو يعد أول من قسم الفعل العبري إلى خفيف «مجرد» وثقيل «مزيد»، كما أنه استخدم معلوماته في اللغة العربية وطبقها على العبرية، وخاصة العروض، واستعان باللغة العربية في فهم الكتاب المقدس، فقارن بين اللغتين، واستشهد على وجوب العناية باللغات السامية بذكر قائمة تشتمل على مائة وسبعين كلمة من الكتاب المقدس لن تفهم إلا عن طريق اللغة العربية.
ومن الشخصيات الأخرى التي ساهمت في تاريخ النحو العبري «يهوذا بن داود» الملقب «حيوج»، فقد اهتم هذا النحوي باللغة العربية اهتماما عظيما يرجع إليه الفضل فيما وصل إليه من نتائج خاصة، عندما عرض للأفعال ذات الحروف اللينة أو اللفيفة المقرونة، وقد مهدت مؤلفاته وما كتبه المتقدمون من عرب وعبريين إلى ظهور العلامة أبي الوليد مروان بن جناح في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي، وقد عرض مروان هذا إلى ما ألفه «حيوج» ونقحه، كما أنه ألف كتابه المشهور «التنقيح»، وهو يقع في جزءين: الأول في القواعد واسمه «كتاب اللمع»، والثاني يشتمل على معجم لغوي أسماه «كتاب الأصول»، سلك في تأليفه الطريق الذي سلكه نحويو اللغة العربية. ويعد كتابه من أحسن الكتب في قواعد اللغة العبرية. وإذا استثنينا «مناحم» و«دونش» فإن علماء إسبانيا جميعا قد ألفوا باللغة العربية، لذلك بقيت مؤلفاتهم غير معروفة لدى يهود أوروبا القاطنين خارج البلاد الإسلامية، حتى ظهرت شخصية «أبراهام بن عزرا» المتوفى عام 1167م، فألف ثمانية كتب باللغة العبرية، عرف يهود العالم المسيحي عن طريقها مؤلفات أمثال حيوج ومن جاءوا بعده. وإلى جانب ابن عزرا قام يهودي إسباني آخر اسمه «يوسف بن إسحاق قمحي» في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، وخلفه ابناه موسى وداود قمحي، وإن كانا لم يأتيا بجديد فيما كتباه عن النحو العبري، إلا أنهما يعدان خير من ظهر في القرن الثالث عشر، كما أن كتبهما تعد أحسن مما ألف في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. أما القرن السادس عشر، فيعد الحد الفاصل في تاريخ النحو العبري، فقد كان ذلك العلم حتى ذلك الحين وقفا على اليهود لم ينازعهم فيه منازع حتى ظهرت حركة إحياء العلوم في أوروبا، وقربت بين اليهود والمسيحيين، فأقدم الأخيرون على دراسة اللغة العبرية للعلم والعلم فقط، ولفهم الكتاب المقدس فهما علميا صحيحا على ضوء حركة الإصلاح الديني التي أخذت تظهر في أوروبا في ذلك القرن. وظهرت بوادر هذا الاهتمام في مؤلفات أمثال «يوحنا رويشلين» الذي ألف كتابا في قواعد اللغة العبرية عام 1506م. وقد ترك هذا الكتاب الذي وضع باللاتينية أثرا بعيدا في الجامعات الألمانية، فأفسحت لهذه اللغة صدرها، وأولتها عنايتها. وبعد موت «رويشلين» عام 1522م، ظهر في ألمانيا عالم يهودي يدعى «إليا لفيتا»، وقد بذل مجهودا كبيرا في سبيل نشر هذه اللغة حتى توفي في عام 1549م.
مضى القرنان السادس عشر والسابع عشر، ولم يظهر فيهما من المؤلفات ما يستحق الذكر، على نقيض القرن الثامن عشر الذي ظهر فيه اتجاه جديد، وهو دراسة اللغة العبرية دراسة مقارنة، وقد حملت لواء تلك النهضة، المدرسة الهولندية، وعلى رأسها «ألبرت شولتنز» المتوفى عام 1750م، و«شرودر» الذي فارق الحياة في عام 1798م. أما العبرية كما تدرس اليوم في الجامعات العالمية، فإنها تدين في تطورها للمستشرق الألماني «وليم جيزنيوس» «3 فبراير 1786-23 أكتوبر 1842م»، فقد نشر في عام 1813م كتابه المشهور في قواعدها، ولا أدل على النجاح الذي صادفه من أن العلماء الألمان أعادوا طبعه تسعا وعشرين مرة، وفي آخر طبعة حاول إخراجها الأستاذ «برجشتراسر» عام 1918م.
وعدا هذا العالم المسيحي كان هناك في ألمانيا زعماء هذه المادة مثل «أفالده»، و«الهوزن»، و«شتاده»، و«كاله»، و«بروكلمان»، كلهم من المسيحيين، ويعد «كاله» زعيم علماء النحو العبري في قرننا هذا. (5) اللغات السامية والكتابة العربية
عند الباحث «إبراهيم جمعه» أن المصادر العربية الأدبية تكاد تجمع على أن الخط الذي كتب به العرب «توقيفي»، علمه آدم عليه السلام فكتب به الكتب المختلفة، فلما أظل الأرض الغرق، ثم انجاب عنها الماء، أصاب كل قوم كتابهم، وكان الكتاب العربي من نصيب إسماعيل عليه السلام.
1
وهذا الرأي لا يقوم على أساس من العلم، أو سند من التاريخ الصحيح، قال به العرب وأشاعوه لتأييد النظرية التي تذهب إلى أن إسماعيل أبو العرب المستعربة التي منها قريش، أول من تكلم العربية، تعلمها من العرب المتعربة، ثم تعلمها منه بنوه.
2
ولقد فطن إلى ما في هذا الرأي من غثاثة المؤرخ الاجتماعي «ابن خلدون»، الذي يقرر «في المقدمة» أن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية ، فهو على هذا ضرورة اجتماعية اصطنعها الإنسان ورمز بها للكلمات المسموعة، وهو - على ما هو معروف - المرتبة الثانية من مراتب الدلالة اللغوية، تابع في نموه وتطوره - شأن كثير من الصناعات المعاشية - لتقدم العمران ... وهو لذلك ينعدم مع البداوة، ويكتسب بالتحضر، لا يصيبه البدو عادة إلا مقيمين على تخوم المدنية.
والمعروف أن العرب اشتغلوا من قديم الزمن بنقل التجارة عبر شبه الجزيرة، بين اليمن والبطراء، وجنوب الشام، وأنه كانت لقريش بوجه خاص علاقات تجارية مع أهل الشمال وأهل الجنوب، مع الأنباط والغساسنة في تخوم الشام، ومع المناذرة واللخميين في إقليم الحيرة، ومع العرب الجنوبيين في اليمن، ويشير القرآن إلى رحلتي الشتاء والصيف إلى تلك الأنحاء، وكانت تقوم بهما قريش بقصد التجارة والكسب في الجاهلية، فأفادت منهما شيئا غير يسير من أسباب الحضارة ومظاهر العمران.
3
هذا؛ وقد شاع بين العرب أن خطهم مشتق من «المسند الحميري»، وأصحاب هذا الرأي، سواء من القدماء، أو ممن نحوا نحوهم في البحث، لا يستندون إلى دليل مادي، فليست هناك علاقة ظاهرة بين خطوط «حمير» في اليمن، وبين الخط العربي الذي انتهى إلينا. ويرجح أن يكون منشأ هذه النظرية أن اليمن التي فرضت في وقت ما سلطانها السياسي على بعض الأمم العربية الشمالية، في حكم دولتي «سبأ وحمير» في القرنين الأول والثاني قبل الميلاد، لا بد أن تكون قد فرضت على تلك الأمم ثقافتها كذلك. وقد يكون الباعث على هذا الرأي ما يعرفه العرب من أن مؤسسي الدولة «السباية» في اليمن أصلهم من إقليم «الجوف» في شمال نجد والحجاز، وهو الإقليم الذي كان الآشوريون يعرفونه باسم إقليم «عريبي»، وكانت تحكمه ملكات من بينهن ملكة سبأ.
4
لهذا لا يبعد أن تكون هذه العلاقات السياسية، وعلاقات الهجرة بين بلاد العرب الجنوبية وبلاد العرب الشمالية، سببا في الاعتقاد بأن العرب الشماليين اشتقوا خطهم من الخط «المسند الحميري» الجنوبي.
والمعتقد الآن أن النقوش الحميرية الجنوبية لم تجاوز في رحلتها نحو الشمال في أثر سلطان اليمن السياسي «بلاد مدين»، وأن ظهورها في تلك الأنحاء كان أثرا من آثار الاستعمار اليمني لديار اللحيانيين والثموديين والصفويين، لم يلبث أن زال بزوال ذلك السلطان. وقد نفت المقارنة التي عقدت بين النقوش الحميرية، وأقدم النقوش العربية وجود أية علاقة بينهما.
5
وعند ابن خلدون في كلام له يتصل بهذه النظرية الجنوبية
6
أن الخط بلغ في دولة «التبابعة» في اليمن مبلغا من الإحكام والإتقان والجودة، لما بلغت دولة التبابعة من الحضارة والترف، ويذهب إلى أن الخط انتقل من اليمن إلى الحيرة، لما كان بها من دولة «آل المنذر» نسباء التبابعة في العصبية والمجددين لملك العرب في العراق. ثم يذهب في زعمه إلى أبعد من ذلك فيقول: «ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش.» ويقع ابن خلدون بذلك في الخطأ الذي وقع فيه كثير من غيره، فهو يعتقد أن الخط الذي انتهى إلى قريش فكتبت به في الإسلام متصاعد إلى الحيرة من اليمن، ثم منحدر من الحيرة إلى الحجاز، وبمعنى آخر يرى أن الأصل في الخط العربي الحجازي خط التبابعة في اليمن وهو «المسند الحميري». وقد أثبت البحث العلمي إسراف هذه النظرية العربية في الخطأ. على أن «ابن خلدون» يعترف في كلامه عن الخط العربي أن الخط «المسند» خط منفصل الحروف، وليس الخط العربي الذي انتهى إلى قريش على هذه الصورة.
وثمة نظرية عربية أخرى يذكرها عدد من المؤرخين العرب، وعلى رأسهم البلاذري
7
الذي يروي عن عباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن جده، وعن الشرقي بن القطامي أن ثلاثة من «طي» اجتمعوا «ببقة»،
8
هم: «مرامر بن مرة»، و«أسلم بن سدرة»، و«عامر بن جدرة»، وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية ... فتعلم منهم قوم من أهل «الأنبار»، ثم تعلم عن هؤلاء نفر من أهل «الحيرة». يقول: وكان «بشر بن عبد الملك» أخو «لأكيدر» صاحب دومة الجندل، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، فتعلم الخط العربي من أهلها، ثم أتى مكة في بعض شأنه، فرآه «سفيان بن أمية بن عبد شمس» و«أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب» يكتب، فسألاه أن يعلمهما الخط، فعلمهما الهجاء، ثم أراهما الخط فكتبا، ثم أتى «بشر وأبو قيس» الطائف في تجارة يصحبهما «غيلان بن سلمة الثقفي»، وكان قد تعلم الخط منهما، فتعلم الخط منهم نفر من أهل الطائف. ثم مضى «بشر » إلى ديار «مصر»، فتعلم الخط عنه نفر منهم، ثم رحل إلى الشام، فتعلم الخط منه أناس هناك، وهكذا عرف الخط بتأثير الثلاثة الطائيين عدد لا يحصى من الخلق في العراق والحجاز وديار مصر والشام.
تحاول هذه النظرية أن تفسر لنا كيف انتهت الكتابة إلى الحجاز من إقليم الحيرة، ونحن نستسيغ منها أن تكون «الحيرة» مركزا من مراكز تعليم الخط، لا ضير في ذلك؛ لأن خط العرب الشماليين انتهى في وقت ما، كما أثبت البحث الحديث، إلى هذه البقعة في رحلته من موطنه الأول إلى الحجاز، بطريق العراق فدومة الجندل؛ ونستسيغ منها كذلك أن تكون «الأنبار» قد تلقفت هذا الخط من بعض جهات الشام، ثم أزجته إلى الحيرة قائمة بدور الوسيط؛ ثم نستسيغ منها أيضا أن تكون دومة الجندل طريق انتقال ذلك الخط إلى المدينة ومكة.
نستسيغ ذلك كله، ولكنا لا نكاد نفهم لماذا يناط انتقال الخط بشخصية «بشر بن عبد الملك» الكندي الذي تجعل منه الرواية جائلا يكلف نفسه مشقة الانتقال في أرجاء مترامية في شبه الجزيرة يعلم الخط؛ وهو ذلك «الأرستقراطي» المترف الذي لا يجول لهذا الغرض. وانتقال ظاهرة ثقافية كظاهرة الكتابة أمر يكون بطبعه بطيئا، ويصعب أن نستفيد من الرواية شيئا هاما آخر، فعلى فرض أن شخصية بشر هذه وجدت حقا، وكلفت نفسها مثل هذه المهمة الشاقة، فلا بد أنها قد عاصرت «سفيان وحربا» ولدي أمية، بمعنى أن الكتابة العربية الشمالية لا بد أن تكون قد رحلت رحلتها من الحيرة صوب شبه الجزيرة في خواتيم القرن الخامس الميلادي.
وتهمل رواية ابن النديم
9
ذكر اسم بشر، وتحل محله في هذه المهمة اسم «أبي قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب»، واسم «حرب بن أمية»، وتنسب إلى واحد منهما نقل الكتابة من الحيرة إلى الحجاز. ولا نرى تفسيرا لهذا التناقض خيرا من القول بأن انتقال الكتابة كان نتيجة لرحلة الأعراب من شبه الجزيرة إلى وادي الفرات، والعكس، بقصد تبادل المنافع بالتجارة.
وإن صح أنه كانت لمرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، جهود في شأن الكتابة العربية، فلا تعدو هذه الجهود أن تكون اقتطاعا لخط يكتب به العرب من خطوط النبط الذين كانوا يجاورون حوض الفرات الأوسط «في حوران». على أن الشك يعتور أسماءهم ذاتها، فهي أسماء يغلب عليها التسجيع، ويغلب أن تكون هذه الأسماء قد صيغت على هذا النحو من السجع ليحسن وقعها في الأسماع، والحق أنه يصعب أن يقوم ثلاثة من بولان من طي بمهمة «أكاديمية» شاقة كهذه لمجرد الرغبة في توفير خط يكتب به الأعراب!
يكاد يكون هناك اتفاق على أن العرب لم يصيبوا دراية بالكتابة إلا حيث كان لهم بالمدنية اتصال. وقد كان اتصال العرب بالمدنية نتيجة لانتجاعهم تلك الأطراف الغنية المحيطة بشبه الجزيرة «في اليمن ووادي الفرات وسوريا ونجوع النبط وحوران». هنالك خرجت بعض القبائل العربية عن طبيعتها البدوية، وعرفت نوعا من الاستقرار، وأخلدت إلى حياة جديدة، واتخذت أساليب الحضر في كثير من طرائق المعيشة ومظاهر العمران. وكان أكثر تلك القبائل العربية تأثرا بالحضارة ما نزل منها على تخوم الشام، لطول عهدها بالاحتكاك بحضارة الرومان، ففي المنطقة الممتدة من شمال الحجاز وخليج العقبة وحيث يقع الآن إقليم شرق الأردن، حتى منطقة دمشق نزلت قبائل من الأعراب تمت إلى عرب الجنوب بصلة وثيقة، ولم تلبث أن تكونت لها في موطنها الجديد وحدة جغرافية خاصة، ونشأت لها في ديارها هذه ثقافة العرب الجنوبيين.
10
عظم شأن هذه القبائل بضعف الدولة الرومانية والأمم المتمدينة المجاورة لها، وبفضل ما كسبته لنفسها بمرور الزمن من مران على القتال والتجارة، تكونت منها وحدات سياسية عربية الأصل كما لا يخفى، أهمها «الأباجرة» في «أذاسا» «والأرزاس» في «البطراء»
11
وتدمر، وتعرف مملكة هؤلاء الأرزاس باسم مملكة «النبط»، وظلت عاصمتهم «البطراء» مزدهرة زهاء خمسة قرون، كانت في خلالها مركزا تجاريا عظيم الأهمية على طريق القوافل بين سبأ «اليمن» والبحر المتوسط. ومهما يكن من أمر هؤلاء النبط فهم عرب أغاروا أول أمرهم على أقاليم آرامية، وتحضروا بحضارتها، واستخدموا لغة الآراميين وكتابتهم في سائر شئونهم العمرانية، وإن احتفظوا بلغتهم العربية التي ظلوا يستعملونها في شئونهم الخاصة وأحاديثهم اليومية.
12
ابتدع هؤلاء لأنفسهم خطا اشتقوه من الخط الآرامي هو الخط الذي عرف باسمهم، وإنه على الرغم من أن مملكة النبط «169ق.م-106ب.م» قد تلاشت من الوجود في أوائل القرن الثاني الميلادي، إلا أن طريقتهم في الكتابة ظلت باقية يستخدمها الأعراب النازلون في أقصى شمال شبه الجزيرة زهاء قرون ثلاثة
13
فعرب هذه الأقاليم الشمالية مروا بكتابتهم في مراحل ثلاث؛ الأولى: المرحلة الآرامية، والكتابة الآرامية التي اتخذها الأنباط قبل اتخاذهم خطا خاصا بهم مربعة الحروف تقريبا «ومن سلالتها التدمرية والعبرية». والثانية: مرحلة انتقال من الخط الآرامي المربع إلى الخط النبطي. والثالثة: مرحلة نضج انتهى فيها الخط النبطي إلى صورته المعروفة التي تميل إلى الاستدارة رغم ما يبدو فيها من نزوع إلى التربيع. ودراسة هذه المرحلة لا تهم إلا الباحث في تطور الكتابة،
14
ولا تهمنا في إلمامة كهذه، وقد أثبت البحث العلمي أن العرب اشتقوا خطهم من هذا الخط النبطي.
15
هذا؛ والمرجح أن تكون الكتابة النبطية قد وجدت سبيلها من بلاد النبط إلى بلاد العرب بسلوك أحد طريقين؛ الأول: الطريق الدائر من حوران «إقليم دمشق» إلى وادي الفرات الأوسط «الحيرة والأنبار»، ثم إلى دومة الجندل فالمدينة فمكة فالطائف. والثاني: طريق أقصر، من بلاد النبط إلى البطراء إلى العلا فشمال الحجاز حتى مكة والمدينة. وسواء كانت رحلة الخط النبطي العربي عن هذا الطريق أو ذاك فالثابت أنها تمت بين عام 250 للميلاد - وهو تاريخ أقدم نقش عربي نبطي معروف - ونهاية القرن السادس الميلادي، وهو الوقت الذي حذق فيه الحجازيون الكتابة العربية على صورتها المعروفة لديهم قبل الإسلام بقليل.
وهكذا تعد هذه المرحلة مرحلة اقتباس وانتقال. ويساعد على الاعتقاد باشتقاق العرب لخطهم من خطوط بني عمومتهم من الأنباط وجود سوق نبطي بالمدينة في نهاية القرن الخامس الميلادي
16
يثبت وجوده هذا وجود علاقات تجارية هامة بين بلاد النبط والحجاز كان يمارسها القرشيون من دون القبائل العربية الأخرى، فليس ببعيد، والحال كذلك، أن تكون الكتابة قد انتهت إلى عرب الحجاز مع قوافل التجارة على يد تجار من العرب أو اليهود،
17
كما لا يبعد أن يكون للسوق النبطي الذي أشرنا إليه بالمدينة أكبر الأثر في تعريف العرب الحجازيين بالكتابة التي قدر أن تكون كتابتهم فيما بعد. وقد كانت الكتابة النبطية التي أصبحت كتابة العرب الحجازيين في أول أمرها غير مشكولة، ولا منقوطة، أدركها الشكل والنقط في زمن متأخر مخافة التصحيف واللحن. (6) اليهودية والفلسفة اليونانية
حين بدا في بلاد اليونان مذهب الأقانيم الثلاثة بزغ نجم مذهب آخر مشابه له لدى عدد كبير من أمم الشرق، وكان مذهب الأقانيم ذاك عند اليونان ثمرة تفكير فلسفي ومنطقي دقيق التفكير. أما المذهب الآخر المشابه له لدى الأمم الشرقية فكان من الدين بحكم تدينهم الشديد الذي رجحت كفته على العقل وحده. وقد كان هذا المذهب ناقصا بدائيا غير واضح المعالم إلى حد ما في أديان الهندوس والمصريين والفرس، لكنه اتخذ أخيرا صورة أكثر كمالا في دين اليهود. وعند الأستاذ الباحث «محمد يوسف موسى» أن العبقرية اليهودية، السامية البحتة أصلا والمفرقة بسبب هذا، لم تفكر غالبا من نفسها في أن تضع وسائط بين الخالق والمخلوق. وفي خلال مدة الاستبعاد الطويلة في مصر كان شعب إسرائيل متصلا بدين غير غريب عن فكرة التثليث؛ أي بدين المصريين القدامى. غير أن الآلهة الثلاثة في الثالوث المصري - وهم أوزوريس وإيزيس وهورس؛ أي الأب والأم والابن - لم يكن لهم إلا صلة بعيدة بالأقانيم اليونانية الثلاثة التي سيوجد ما يقابلها في الكتب المقدسة اليهودية، حتى إنه لهذا يمكن أن يقال: إن أثر التثليث أو الثالوث المصري في العقائد الدينية اليهودية ما زال موضع شك. ومع ذلك فلا يمكن أن ننكر أن الشعب اليهودي كان عند خروجه من مصر ميالا ميلا كبيرا إلى الوثنية وإلى الشرك.
18
لكن إقامة أربعين سنة في الصحراء كان من شأنها تقوية وحدة الله في نفوس بني إسرائيل، فكان الكفاح بين التوحيد والشرك ملحوظا ومستمرا. ومن البديهي أن هذا كان حريا به أن يجعل الإسرائيليين مرغمين على تقبل عقيدة التثليث التي لا يبعد أن يكونوا أخذوا عنها في مصر فكرة ولو غامضة، والتي ترمي إلى التوفيق في ذات الله بين الوحدة والكثرة؛ أي بين وحدة الذات وكثرة ما يظهر عنها، وهذا الكفاح استمر حتى بعد إقامة الشعب المختار في أرض الموعد،
19
كما كان مستمرا أيضا في عصر سبي بابل،
20
وبعد عودة المنفيين انتصر التوحيد نهائيا في شعب إسرائيل،
21
ولكن في الوقت نفسه بدأ مذهب التثليث يتحدد بشكل أكثر وضوحا في الكتب المقدسة التي ظهرت بعد السبي، وذلك بأن المنفيين في بابل كانوا قد اتصلوا
22
بالعقلية الآرية المجمعة للفرس
23
وبدين زرادشت،
24
وهذا الدين احتوى على مذهب الكلمة الإلهية مع تصور مشابه نوعا للمذهب الأفلاطوني الخاص بالمثل، إن لم نقل احتوى على نظرية كاملة واضحة للتثليث. ومذهب الكلمة هذا وجدت فيه العقلية اليهودية فكرتها الحقة؛ فتقبلته في حمية كبيرة لتجعله أدنى إلى الكمال. والواقع أن العقيدة اليهودية على رغم أنها كانت تحت سلطان فكرة الإله السامي، الإله الواحد الذي تفصل هوة كبيرة بينه وبين العالم الذي خلقه بقدرته العظمى، قد مالت من زمن بعيد إلى أن تميز بين الله وبين القوى المتدرجة التي خلق العالم بواسطتها، كما يؤثر فيه ويحافظ عليه ويحكمه بواسطتها كذلك. والسبب في هذه الفكرة هو السبب نفسه الذي تأثر به أفلاطون؛ أي المحافظة على قداسة الله وعدم تغيره.
وهذه القوى صورت أولا في شكل ملائكة أو رسل من الله ثم، تجمعت عندئذ في شكل فكرة واحدة ستتخذ لنفسها فيما بعد شخصية يمكن أن يعبر عنها بالحكمة أو العقل الإلهي،
25
ومن جهة أخرى، هذه القوى تظهر في الخارج في شكل روح أو نفثة إلهية كما جاء في الآية الثانية من التوراة وفي مواضع أخرى منها.
وبالإجمال، فإن ملائكة الله - أعني تلك القوى التي تكلمنا عنها - فيها تنبؤ على نحو غامض بفكرة الأقانيم الإلهية، وفي سفر الأمثال المتأخر عن عصر السبي، والذي يكشف عن أثر الفارسيين، وإن كان لا يكشف عن أثر الرواقيين كسفر الحكمة
26
مثلت الحكمة تمثيلا واضحا كمبدأ أزلي أبدي مميز عن الله وغير منفصل عنه في الوقت نفسه، ففي الإصحاح الثامن نجد الحكمة تقول: «الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم منذ الأزل مسحت منذ البدء منذ أوائل الأرض لما ثبت السموات كنت هناك أنا، لما أسس الأرض كنت عنده صانعا.»
وقصارى الكلام أن الله لم يخلق الكون مباشرة، ولا بذاته السامية العلوية، بل بواسطة الحكمة التي ليست إلا «أقنوما» إلهيا ثانيا.
27
وفي الوقت نفسه بزغ في الأفق - بشكل أقل غموضا مما في سفر التكوين - فكرة أخرى اتحدت اتحادا وثيقا بفكرة النفثة أو الروح الإلهية، فأصبحت بعدئذ هي فكرة الأقنوم الإلهي الثالث؛ أي الروح، ففي سفر الأمثال سميت الحكمة مرتين شجرة الحياة.
وهكذا، بالرغم من الطابع الأسمى لله عند الساميين، أو على الأخرى بسبب هذا الطابع الأسمى، تبدو فكرة التثليث بذرة في أقدم أسفار التوراة، وهذه النزعة التثليثية القديمة نسبيا برغم غرابتها عن العبقرية السامية المفرقة، نرى لها تفسيرا في الاتصالات المتوالية بين شعوب بني إسرائيل المشركة أصالة والتي كانت مجمعة كثيرا أو قليلا في أوائل تواريخها، حتى جاء تأثير المذاهب الفارسية ذات النزعة التمثيلية الواضحة، فعمل على نمو تلك البذور التي كانت موجودة من قبل.
ثم جاء اتصال جديد بين الدين اليهودي والتفكير الآري في أنقى أشكاله؛ أي في شكل الفلسفة الإغريقية، فاندمج التياران التثليثيان فأفاد ذلك كليهما؛ إذ آتى التيار اليهودي الفلسفة الإغريقية حمية وقوة دينية، كما قدمت هذه الفلسفة للدين اليهودي مقابل ذلك ما كان ينقصه من وضوح.
على أن هذا التزاوج لم يؤد إلى إدخال عناصر جديدة شعرت بها العقيدة اليهودية أو الفلسفة الإغريقية، فالتفكير الإغريقي ما كان له إلا أن يتذكر أفلاطون وأرسطو ليعود فيجد فوق الروح العامة والعقل الإلهي المثل والإله الذي لا يدرك. أما العقيدة اليهودية فلم يكن إلا أن تعود بذكراها إلى بعض آيات كتبها المقدسة لتجد تحت إلهها الذي لا يدرك، العقل والروح الإلهية، وبأخذ كل منهما من الأخرى لم يحسا بأن على كليهما دينا يجب أداؤه، اللهم إلا في بعض التفاصيل.
وبديهي أن تقابل هذين التيارين واندماجهما بعضهما في بعض، وقد جاء أحدهما من الغرب والآخر من الشرق، كان يجب أن يحدث في الإسكندرية، عاصمة العالم القديم، وملتقى القارات الثلاثة، هنالك في عهد البطالسة، وفي الحين الذي كان يبشر المسيح فيه، ظهر فيلون اليهودي الذي حاول التوفيق بين عقائد دينه والنظر الفلسفي الهيليني، فكان أول من توصل إلى وضع مذهب للتثليث الديني فيه تماسك وكمال، ومن ذلك نجد في مؤلفاته العناصر الهامة لمذهب التثليث الإسكندري المستقبل.
28
لقد كان أول من شرح - في إيضاح - نظرية الفيض أو الانبثاق الإلهي التي تعطي وحدها معنى عميقا لمذهب التثليث، والتي تقدم أخيرا حل المسألة الكبرى التي ظلت الفلسفة الإغريقية زمنا طويلا واقفة حيرى أمامها، ألا وهي «كيف يستطيع الله أن يخلق العالم ولا يخرج من كماله ووحدته وعدم تغيره؟» إنه أخذ نصا واردا في سفر الحكمة، وهو «الحكمة تستطيع كل شيء برغم أنها واحدة، وهي تجدد كل شيء برغم أنها تبقى هي هي هي.»
29
ثم شرحه بقوله: «إن النار تظل كما هي لا ينقص منها شيء بعد إضاءة آلاف من المشاعل.» وكذلك الأمر فيما يتعلق بالحكمة وبالعلم، «فعلم الأستاذ لم ينقص بأي حال مهما كان عدد التلاميذ الذين اغترفوا منه.» إن من عيوب الأشياء المادية أنها تنقسم وتنفد بالانتقال، أما ما ليس ماديا كالحكمة فإنه على العكس يتزايد دون أن ينقسم. وهذه الطريقة من طرق الإنتاج تسمى الفيض.
وبعد مضي نحو قرنين أخذ فلاسفة الإسكندرية الذين عرفوا بالأفلاطونيين المحدثين - وهم أمونيوس ساكاس وأفلوطين وتلاميذه - مذهب التثليث عن قيلون، وبخاصة المبدأ الرئيسي الآتي: إن الله يصل طبيعته إلى الغير دون أن يفقد شيئا منها، فهو يعطي ما له مع استمراره «أي الأول وهو الله» واحدا كاملا غير متغير، وكذلك نشأ الأقنوم الثالث عن الثاني، وهذا الأقنوم الثالث؛ أي الروح الإلهية، هو في الوقت ذاته روح العالم وأقل كمالا من العقل، كما أن العقل أقل كمالا من الله، ومن أجل ذلك يكون الأقنوم الثالث قابلا للتغير بحكم ضرب من الكثرة، فضلا عن أنه ينتج جميع الأرواح الخاصة بالعالم عن طريق الفيض دائما، وأخيرا تكون الأرواح هي التي تنتج أجسامها.
الفصل السابع
حياة اليهود السياسية والأدبية والاجتماعية
تحدثنا في الفصول السابقة عن نشأة اليهود، وهجرتهم، وعصر أنبيائهم وكهنتهم، ونتحدث هنا عن حكامهم وملوكهم بعد وفاة موسى، ونسارع إلى القول بأنه بعد أن ظهر «موسى» في مصر وقاد بني إسرائيل إلى التيه، كما ورد في قصة موسى المعروفة؛ أي بعد مقامهم في مصر 215 سنة، قام حكام بني إسرائيل مقام الملوك إلى أن قام طالوت فكان أول ملوكهم كما جاء في ص19 من الجزء الأول من تاريخ ابن الوردي. أما الحكام فقد وردوا في سفر «القضاة»، والملوك في سفر «الملوك»، وهما سفران من أسفار التوراة الأربعة والعشرين.
ومن هؤلاء: يوشع، وفينحاس، وعثننثال، ولمغلون، وأهوذ، وشمكار، وباراق، ولذعون، وإيمالخ، وبؤاثير، ويفتح، وأبصن، وأيلون، وعبدون عفلون، وشمشون، وغالي، وشمويل، وشاول، وإيش يوشف، وداود الذي ملك أربعين سنة، وتوفي في السبعين إلى أواخر سنة 535 لوفاة موسى، و«سليمان»، وكان عمره 12 سنة. وقد عمر بيت المقدس وجعل ارتفاعه 30 ذراعا وطوله ستين في عرض عشرين ذراعا، وجعل له سوارا امتداده 500 في 500 ذراع، وشيد دار الملك. وفي الخامس والعشرين من ملكه جاءته ملكة اليمن «بلقيس» وأطاعه الملوك. وبعد سليمان تولى ابنه «رحبعم» ثم «بريعم» عبد سليمان، واستقر لولد داود الملك على السبطين فقط وعلى بيت المقدس، وصار للأسباط العشرة ملوك تعرف بملوك الأسباط. وقد استمر رحبعم ملكا للسبطين إلى أن غزا ملكه «شيشان» فرعون مصر، ونهب المال المخلف من سليمان. وبعد رحبعم تولى ابنه أفيسا، ثم إيشا، ويهوشا قاظ، ويهورام، واحزياهو، ويواش ، وأمصياهو، وعزياهو، وآخر، وأشعيا، وحزقيا، ومنشا، وآمون، ويوشيا، ويهوياخين، ويهوياقيم، وبخت نصر «في سنة 979 لوفاة موسى». وقد فتح بخت نصر نينوى المواجهة للموصل، وسار إلى الشام وأبقى «يهوياقيم» بعد غزو الإسرائيليين، ولما عصاه قام بعد يهوياقيم ابنه «يخنيو» مائة يوم، ثم أخذه بخت نصر إلى بابل وأخذ إليها علماء الإسرائيليين، وقام الملك صدقيا، ولما عصى بخت نصر، أحرق هذا بيت المقدس وهدم بيت سليمان وأباد الإسرائيليين. وكانت مدة صدقيا 11 سنة، وهو آخر ملوك الإسرائيليين، واستمر بيت المقدس خرابا سبعين سنة، ثم عمر على يد ملك الفرس دارا، وغزا بخت نصر مصر لرد اليهود الذين هربوا إليها وقتل فرعون وخرب مصر.
يوسف الوارد في القرآن والكتب المقدسة
جاء تحت عنوان «ذكر يوسف» ص36 من الجزء الأول من تاريخ «عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس الوردي المعري الشافعي»، أنه ولد ليعقوب «يوسف» وليعقوب إحدى وتسعون سنة، وفارقه «أي يوسف» وعمره ثماني عشرة سنة، وافترقا إحدى وعشرين سنة، فعمر يوسف، لما توفي يعقوب ست وخمسون سنة، وعاش يوسف مائة وعشر سنين، فمولد يوسف لمضي 251 سنة، من مولد إبراهيم، ووفاته لمضي 361 سنة من مولد إبراهيم. وتكون وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع سنين محققا.
وهنا يروي «ابن الوردي» قصة يوسف المعروفة، ويعنينا منها أن ما يقوله من أنه لما أنقذ يوسف من الجب الذي ألقاه فيه إخوته وبيع «للعزيز» المعين على خزائن مصر «وزارة المالية» من قبل الوليد بن الريان أحد ملوك الرعاة، وكان حب «راعيل» يوسف لجماله وسجن وأخرج وخلف «العزيز» بعد موته.
الأدب اليهودي في أمثال سليمان
عالج «أدولف أرمان» الذي توفي في 26 يونية سنة 1937م علم المصريات الخفاق؛ إذ يرجع إليه وإلى تلاميذه الفضل في كشف القناع عن صفحات تاريخنا وسجل تراثنا العقلي، وفي 12 يونية سنة 1924 قدم إلى المجمع العلمي البروسي كتبه القيمة «مصدر مصري لأمثال سليمان»،
1
فسجل حسنة جديدة من حسنات العقلية المصرية القديمة على الكتاب المقدس، وعند الدكتور فؤاد حسنين: أن أحدث وأنضج كتاب ظهر في هذا الموضوع هو كتاب تلميذ «أرمان» أعني «جيمس هنري بريستد» فجر الضمير:
2
أما بحث «أرمان» فهو يدور حول كتاب «تعاليم أمين-أم-أوبه» الذي يرجح أنه عاش حوالي أوائل الألف الأولى ق.م. وقد اكتشف هذه التعاليم المحفوظة في بعض أوراق البردي الهيراطيقي بالمتحف البريطاني السير «وليزبدج»، ونشرها عام 1923م،
3
ومن الغريب أن هذا الحكيم المصري سلك في وضع نصائحه التي ضمنها ثلاثين بابا الطريق الذي سلكه حكماء الشرق منذ القدم، فساقها على صورة نصائح والد لولده، كما هو الحال في هذه الحكم التي ينصح بها لقمان ابنه حسبما ورد في القرآن الكريم، وليس المصدر المصري هو الوحيد الذي عده في سفر الأمثال، بل هناك مصادر أخرى أظهرها البابلي الآشوري. والآن وقد اتفق رجال المصريات مع نقاد الكتاب المقدس على أن هذا السفر ليس كله تراثا عبريا، سقطت الحجة القائلة: إن سليمان هو مؤلفه، وإن كنا لسنا في حاجة إلى عناء كبير لسرد كثير من الأدلة المقتبسة من السفر نفسه، والتي تنفي نسبته إلى ابن داود، فكتاب الأمثال عبارة عن مجموعة متفرقة من الحكم والأمثال التي لا تربط بينها رابطة، ولا تلمس في أسلوبها وحدة أو تناسقا في الأفكار، فهو لن يمكن أن يكون من وضع فرد بعينه، أو نتاج قريحة عصر بمفرده، ومتى كانت أمثال أمة من الأمم من وضع فرد أو عصارة عصر من عصور تاريخها المختلفة؟ أليست الأمثال أدبا شعبيا تتناقله الألسنة، وتتوارثه الأجيال، فتغيره العصور، وتبدله الأذواق، حتى يأتي عصر التدوين فيقدر لها من يثبتها؟ وهذا وهذا ما حدث فعلا لسفر الأمثال، فهو مجموعة من المجاميع التي لكل واحدة منها لونها الخاص، ومذهبها الخاص، فهي إما دينية، وإما دنيوية، ومنها الخاص بالنصح، والخاص بالتحذير والإنذار، ومنها الألغاز، ومنها الهجاء، ومنها ما سيق في أسلوب قصصي لطيف، ومنها ما عبر عنه باللفظ الوجيز. ومن حسن الحظ أن هذه المجموعات وردت مسندة إلى شخص بعينه أو هيئة بعينها، كما أننا إذا قارناها بالترجمة اليونانية لوجدنا فرقا كبيرا ، ومرجع هذا أن الترجمة اليونانية اعتمدت على نسخة تغاير هذه التي بأيدينا، وهذا ما ذهبنا إليه من قبل.
وينقسم سفر الأمثال الأقسام الآتية:
أولا:
أمثال سليمان، وهي تقع في الإصحاحات 1-9: عبارة عن نصائح والد لولده لا تلبث أن تعرض لله فتلخص رأيها فيه في الحكمة المأثورة «رأس الحكمة مخافة الله»، ونجد فيها علاوة على ذلك الشيء الكثير من النصح، والتحذير، وفي الإصحاحين الثامن والتاسع نقرأ شيئا من الحكم القصصية كالوليمة التي أعدتها الحكمة بعد أن بنت بيتها، ونحتت أعمدتها السبعة، وذبحت ذبحها، ومزجت خمرها، وأعدت مائدتها، وأرسلت جواريها إلى ساحات المدينة العالية ينادين الجاهل والغبي ليأكل ويشرب؛ فتنصرف عنه الجهالة وتدبر الغباوة.
ثانيا:
أمثال أخرى لسليمان من إصحاح 10 إلى إصحاح 22 آية 16، وهي تبلغ نحو 385 مثلا من الأمثال البسيطة التي تناولت شتى المواضيع، مثل: «فم الصديق ينبوع حياة، وفم الأشرار يغشاه ظلم.» و«القليل مع العدل خير من الجزيل مع الظلم.» و«محتكر الحنطة يلعنه الشعب والبركة على رأس البائع.» و«لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام.»
ثالثا:
أمثال حكماء من إصحاح 22 آية 17 إلى إصحاح 24 آية 22، وهي عبارة عن نصائح والد لولده مثل: «لا تسلب الفقير لكونه فقيرا، ولا تسحق المسكين في الباب.» أو تحذيره خاصة من شرب الخمر، مثل: «لمن الويل؟ لمن الشقاوة؟ لمن المخاصمات؟ لمن الكرب؟ لمن الجروح بلا سبب؟ ... للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج، لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة، في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان.»
رابعا:
أمثال أخرى لحكماء إصحاح 24 آيات 33-34، وهي تخالف السابقة في أسلوبها، ومنها: «محاباة الوجوه في الحكم ليست صالحة.» و«من يقول للشرير أنت صديق تسبه العامة، تلعنه الشعوب.»
خامسا:
أمثال لسليمان جمعها رجال الملك حزقيا من إصحاح 35 إلى 29، وهي تشبه تلك التي جاءت في القسم الثاني، ويبلغ عددها نحو 127 مثلا، تناولت مختلف الموضوعات مثل: «اجعل رجلك عزيزة في بيت قريبك لئلا يمل منك ويبغضك.» و«لا تفتخر بالغد لأنك لا تعلم ماذا يلده اليوم.» «وليمدحك الغريب لا فمك، الأجنبي لا شفاتك.» و«قال الكسلان: الأسد في الطريق، الشبل في الشوارع.» و«الباب يدور على صائره، والكسلان على فراشه.» و«الكسلان يخفي يده في الصحفة، ويشق عليه أن يردها إلى فمه.»
سادسا:
كلام أجور بن ياقة إصحاح 300، ومعظم آياته عبارة عن ألغاز وهجاء، مثل: «ثلاثة عجيبة فوقي وأربعة لا أعرفها: طريق نسر في السماء، وطريق حية على صخر وطريق سفينة في قلب البحر، وطريق رجل بفتاة، كذلك طريق المرأة الزانية أكلت ومسحت فمها وقالت: ما عملت إثما.» ومن أمثلة الهجاء «جيل يلعن أباه، ولا يبارك أمه، جيل طاهر في عيني نفسه، وهو لم يغتسل من قذره، جيل ما أرفع عينيه وحواجبه مرتفعة، جيل أسنانه سيوف، وأضراسه سكاكين، لأكل المساكين على الأرض والفقراء من بين الناس.»
سابعا:
كلمات للملك لموئيل إصحاح 31 آيات 1-9، وهي عبارة عن نصائح أمه له لما صار ملكا: «ماذا بني؟ ماذا يا بن رحمي؟ ماذا يا بن نذوري؟ لا تعط حبلك للنساء، ولا تتبع مهلكات الملوك، ليس للملوك يا لموئيل، ليس للملوك أن يشربوا خمرا وللأمراء أن يسكروا؛ لأن الشرب قد ينسيهم الفرض فيغير حق الفقير، أعطوا المسكر للهالك، والخمر لمري النفس، يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد، افتح فمك للأخرس في دعوى اليتيم، افتح فمك، اقض بالعدل وحام عن الفقير والمسكين.»
ثامنا:
مدح مرتب ترتيبا أبجديا في ربة الدار إصحاح 31 جاء فيه: «امرأة فاضلة، من يجدها؟ لأن ثمنها يفوق اللآلئ، بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى غنيمة، تصنع له خيرا لا شرا كل أيام حياتها، تطلب صوفا وكتانا وتشتغل بيدين راضيتين، هي كسفن التاجر تجلب طعامها من بعيد وتقوم إذ الليل بعد، وتعطي أكلا لأهل بيتها وفريضة لفتياتها، تتأمل حقلا فتأخذه وبثمر يديها تغرس كرما ...»
هذا عرض موجز لهذا السفر، نتبين منه نوع محتوياته، والشخصيات التي أسندت إليها هذه المحتويات، والآن نتساءل: لماذا نسب هذا السفر إذن إلى سليمان؟
نحن نعلم أن ابن داود تولى الملك بعد وفاة أبيه حول منتصف القرن العاشر قبل الميلاد، وحكم ما يقرب من أربعين عاما انصرف فيها إلى الإصلاحات الداخلية، وتوثيق العلاقات الخارجية بينه وبين جيرانه، فخط المدن وأمن الطرق، فازدهرت التجارة وارتقى مستوى المعيشة. بنى المعبد وزوده بمختلف الأواني التي تدل على روعة الفن وجمال الذوق، هذا إلى جانب الأبنية العظيمة التي شيدها في مختلف المدن، وكما يفيض سفر الملوك الأول بأعمال سليمان كذلك القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور . وكانت النتيجة المحتومة للانصراف إلى الإصلاحات الداخلية وارتقاء مستوى المعيشة أن توجه الشعب إلى ضروب الفنون، وشعب الأدب المختلفة، خاصة الشعر. وكانت للشعب أسوة حسنة في ملكه الشاعر الحكيم الذي يقول فيه الإصحاح الثالث من سفر الملوك الأول: إنه في أول عهده بالملك ذهب إلى مدينة «جبعون» وقدم قرابين لله، فتراءى له حلم ليلا أن الله سأله حاجته. فقال سليمان: «إلهي لقد ملكت عبدك مكان داود أبي، وأنا ما زلت فتى صغيرا لا أعلم الخروج والدخول ... فأعط عبدك قلبا فهيما لأحكم على شعبك وأميز بين الخير والشر.» ويحدثنا السفر نفسه أن «الله أعطى سليمان حكمة وفهما كثيرا جدا، ورحبة صدره «قلبه» كالرمل الذي على شاطئ البحر، وفاقت حكمة سليمان جميع أبناء الشرق وكل حكمة مصر، وكان أحكم من جميع الناس؛ من إيثان الأزراحي وهيمان وكلكول ودردع بني ماحول، وبلغ صيته جميع الأمم التي حوله، وتكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت قصائده ألفا وخمسا، وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك ...» وفيما يقرب من هذا المعنى يقول القرآن الكريم:
وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين .
الفن اليهودي
في اعتقادنا أن الحديث عن الفن اليهودي يتطلب البحث في أمرين: الأول طبيعة الديانة الموسوية وروحها، والثاني قومية اليهود ومصيرهم السياسي. أما الأمر الأول فإن قوامه بالنسبة إلى ما نحن بصدده ما جاء في الوصية الثانية من الوصايا العشرة، وإلى القارئ نصها في الإصحاح العشرين من سفر الخروج:
لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن.
وعند الدكتور زكي محمد حسن أن المعروف أن الإنسان في العصور القديمة كان يصنع الصور والتماثيل لهذا الغرض قبل كل شيء؛ ولذا كان كل فن دينيا إلى حد كبير. والحق أن الفن في ذروة مجده يعبر عن شيء إلهي في الإنسان أو بوساطته، وحسبك أن تفكر في معبد كمعبد الأقصر أو البارتينون، وفي لوحات فنية من تصوير رفائيل أوروبنز، وفي قطعة موسيقية من بيتهوفن أو واجنر، وفي مسجد كجامع السلطان حسن، أو كاتدرائية قوطية الطراز ككاتدرائية نوتردام في باريس. نقول: حسبك أن تذكر هذه الآثار لتدرك أن أعظم المنتجات الفنية ما كان تعبيرا عن الشعور الديني؛ ذلك أن الفن لا يتجلى في أعمال طبقة خاصة من الناس، كأعلام الفنانين فحسب. وقد كان الإنسان الأول يصنع الإناء ليستعمله في حاجاته اليومية. ولم يكن يعرف الفن للفن، فيتخذ الإناء تحفة يستمتع بالنظر إليها، ولذا كان لكل منتجاته أغراض تستعمل فيها، ولكنها لم تكن على رغم ذلك أقل روعة من التحف الفنية في العصور التالية، بل كانت تفوقها في معظم الأحيان وضوحا وبساطة وجمالا.
على أننا إذا درسنا شئون الأمم القديمة وأحوال القبائل التي لا تزال على الفطرة أو في أدنى درجات الحضارة، عرفنا أن الفن كان خادما للدين منذ البداية؛ ولذا كانت أهم مظاهره الأولى بناء المعابد والهياكل، وعمل تماثيل الآلهة، وصنع التحف والأواني والأدوات التي تستعمل في العبادة. وحسبنا دليلا على صحة ذلك أننا لا نستطيع أن ندرس الفنون المصرية القديمة أو الصينية أو الإغريقية من غير أن نعرف شيئا عن ديانات الأمم التي ازدهرت فيها هذه الفنون، وبغير أن تكون الطقوس الدينية نبراسا هاديا في فهم معظم التحف والمنتجات الفنية. بل إن الأمم المسيحية نفسها ساد فيها زهاء خمسة عشر قرنا فن ديني قوامه تصوير الأحداث الدينية وتوضيح تاريخ الكنيسة باللوحات الفنية والتماثيل. أما الحياة العادية البعيدة عن الدين فلم يكن لها من الفن نصيب يذكر، إلا منذ عصر النهضة بإيطاليا في القرن الخامس عشر.
وطبيعي أن بني إسرائيل لم تكن بيئتهم وتعاليمهم الدينية مرتعا خصيبا لنمو الفنون وازدهارها، كما كان الإغريق أو قدماء المصريين مثلا. فإن نواة الفن عند هذين الشعبين الأخيرين كانت تصوير الآلهة والأبطال، وعمل التماثيل لهم، أو تصوير الأفراد لأغراض دينية، أو صنع التماثيل لتدفن معهم، وما إلى ذلك مما له اتصال قوي بمعتقداتهم الدينية. والإغريق مثلا كانوا شعب حس ومادة يتصورون آلهتهم شبه آدميين وإن نسبوا إليهم الخلود، ويظنون أن العالم أكبر وأعظم من أن يكفيه إله واحد، ولم يكن المثل الأعلى عندهم الإله الواحد الذي لا جسم له والذي لا يمكن تصوره، وإنما كان الإله الجميل أو القوي الذي يرضي العين ويسعد اللب.
أما بنو إسرائيل فقد كانوا في البداية يتصورون ربهم مخلوقا يتميز بقوة غير عادية، ولكنهم وصلوا سريعا إلى الاعتقاد في إله واحد روحي لا مادة له؛ فلا يمكن تصوره أو تصويره أو عمل التماثيل له، ولذا فقد كانوا يكرهون تمثيل هذا المعبود الواحد في صورة أو رسم أو تمثال، وتأيد هذا الكره بالتحريم الصريح الوارد في الوصية الثانية من الوصايا العشر في سفر الخروج.
وطبيعي أن يتخلى بنو إسرائيل في خيالهم عن الصور والتماثيل، منصرفين إلى الصلوات والحكم والأغاني. ولا عجب فإن الفنون التصويرية أو التجسيمية تنشأ من البعد عن الروحية، فإن أساسها استطاعة تسجيل المتصورات في تحف فنية، وهي بطبيعة الحال بعيدة عن الروحية، والاكتفاء بالتفكير في الشيء دون تصويره وتسجيله في صورة أو تمثال. وقد كان اليهود يحرمون تصوير الإله كأنهم كانوا يذهبون إلى أن مثل هذا التصوير لا يتفق مع فكرة الألوهية العظمى.
ولكن الشريعة الموسوية لم تحرم إلا التصوير. أما العمارة والفنون الزخرفية فلم تعرض لها بشيء. والمعروف أن تحريم التصوير كان قائما في الإسلام أيضا، فكيف نشأ للإسلام فن نما وازدهر، واتسعت مناطق نفوذه، بينما لم تستطع اليهودية أن تطبع بطابعها الخاص بعض أساليب فنية يمكن عدها فنا يهوديا قائما بذاته؟
والرد على هذا السؤال يشمل البحث في المسألة الثانية التي أشرنا إليها قبلا، وهي قومية اليهود ومصيرهم السياسي.
ولسنا نريد أن نعرض هنا لما اختلف فيه العلماء بشأن تعريف اليهودية، وهل اليهود أبناء جنس واحد أو هم أمة واحدة أو هم أتباع دين واحد؟
وحسبنا أن نشير إلى أن الإسلام انتشر انتشارا عظيما وامتد سلطانه إلى كثير من البلاد التي كان للفن فيها شأن عظيم، واختلط العرب بكثير من الأجناس الأجنبية عنهم، وساهم العرب والإيرانيون والترك كل منهم بنصيبه في قيام الفنون الإسلامية التي جمع الإسلام بين عناصرها المتفرقة، وطبعها بطابع مشترك جعل أفضل تسمية لها أن ننسبها إلى الإسلام على الرغم من أنها لم تكن قبل كل شيء وسيلة لشرح الأفكار الدينية والتعبير عنها كما كانت سائر الفنون في العصور الوسطى.
أما بنو إسرائيل فقد نشئوا في الصحراء ثم استقروا في فلسطين، وامتزجوا بالكنعانيين في الألف الثاني قبل الميلاد، وكان من ملوكهم داود بين عامي 1000 و960ق.م. ثم ابنه سليمان «960-930ق.م». وانقسم اليهود في عصر ابنه إلى مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها سامريا، ومملكة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، وسقطت مملكة إسرائيل حين استولى الآشوريون على سامر وسامريا سنة 721ق.م، وحل ببني إسرائيل أول أسر في بلاد الجزيرة، ثم سقطت المملكة الجنوبية حين استولى نابوخد ناصر «بختنصر» - ملك الكلدانيين - على أورشليم سنة 586، واقتاد اليهود إلى بابل حيث ظلوا في الأسر إلى أن استولى الفرس على بابل، فعاد بنو إسرائيل إلى فلسطين سنة 539، وشيدوا معبدهم المشهور في بيت المقدس، ولكنهم فقدوا ملكهم السياسي، وآلت الرياسة بينهم إلى رجال الدين، وتوالت الأحداث السياسية على البلاد فخضعت للإسكندر ثم للسلوقيين. ودخلها الرومان بقيادة بومبي سنة 63ق.م. وفي سنة 70م هدم طيطوس الروماني المعبد اليهودي الأكبر في أورشليم، ثم كانت نهاية اليهود كأمة متحدة ذات وطن قومي، وكان ذلك على يد الإمبراطور الروماني هادريان سنة 130م.
ويمتاز تاريخ اليهود بتشتتهم في أنحاء الأرض - وهو ما يعبرون عنه في اللغات الأوروبية باسم
Diaspora - على أثر الاضطهاد والخلافات الدينية، ولا سيما في العصور الوسطى حين كانوا يطردون من بلد إلى آخر.
وصفوة القول أن اليهود لم يتح لهم تأسيس ملك سياسي زاهر أو إمبراطورية متسعة الأرجاء، يمكن أن تزدهر فيها أساليب فنية يطبعونها بطابعهم بدون الخروج على تعاليمهم الدينية في تحريم التصوير. ولأن اليهود تفرقوا بين شعوب الأرض، ولم يستطيعوا أن يظلوا شعبا قائما بذاته أو عصبة أمم تجمعها روابط قوية، لذلك كله لم يكن ميسورا أن ينشأ لهم فن قائم بذاته.
أجل كان هناك فنانون من اليهود، ولكن آثارهم الفنية تابعة للطرز الفنية المختلفة، فبينها المصري القديم، وبينها الفينيقي، والإغريقي، والروماني، والهليني، والفارسي، والبيزنطي، والإسلامي، وبينها ما ينسب إلى شتى الطرز الفنية التي ازدهرت في الغرب منذ العصور الوسطى إلى القرن العشرين، ولسنا ننكر أن بعض هذه الآثار الفنية كان يحمل ما يبين صلته باليهودية، مثل كتابة عبرية أو رسوم هندسية اتخذها اليهود رموزا لبعض المعاني، ولكن مثل هذا لا يفصل تلك التحف عن سائر الآثار الفنية التي تنتمي للطراز نفسه والتي صنعت لأقوام غير يهود أو على يد فنانين من المسيحيين أو المسلمين.
وقد كان بين الفنانين الذين سطع نجمهم في أوروبا إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أفراد من أصل يهودي، ولكن الغريب أن معظمهم ترك الديانة الموسوية ودان بالمسيحية. ومن الفنانين الذين يمتون لليهودية بأسباب قوية فيليب فيت
«1793-1877م»، وإسماعيل منجز
Ismael Mengs «1690-1764م»، وابنه أنطون رفائيل منجز، ثم إدوارد بندمان
Eduard Bendemann «1811-1889م»، وموريتز أوبنهايم
Moritz Oppenheim «1799-1882م »، وجوزيف إسرائيل
Goseph Israels «1824-1911م»، وكاميل بساروا
Camille Pissarro «1830-1903م»، وماكس ليبرمان
Max Liebermann «1847- ...»
ولن يفوتنا أن نذكر الفرق بين اليهودية والإسلام بشأن تحريم التصوير. فقد كان اليهود في البداية أقل تمسكا بهذا التحريم، ثم ازداد تمسكهم به شيئا فشيئا، بينما قل تمسك المسلمين بكراهية التصوير بعد أن بعد عهدهم بترك الوثنية، واطمأنوا إلى بعد الخطر الذي تجره الصور والتماثيل.
والمعروف أن هيكل سليمان كان فيه صور حيوانية وصور للشيطان، ولعل ذلك راجع إلى أن اليهود كانوا لا يزالون في ذلك متأثرين بالأمم الوثنية المحيطة بهم على الرغم من أنهم كانوا شديدي التمسك بإبعاد التصوير عن الفكرة الإلهية، وهو أساس التحريم إطلاقا. ولكن الديانة الموسوية ازدادت في العصور التالية انصرافا إلى الروحية، وأصبح التصوير عند اليهود أمرا وثنيا بحتا.
وصفوة القول أن اليهود ليس لهم فن، وأن ذلك راجع إلى تحريم التصوير عندهم، وإلى أنهم فقدوا استقلالهم السياسيي والقومي منذ العصور الأولى.
وقد كتب اليهود المؤلفات الواسعة عن مقام بني إسرائيل في عالم الفكر،
4
ولكنهم لم يعرضوا للفنون الجميلة أبدا، وحسبنا هذا اعترافا منهم بأن الفنون لم تكن في يوم من الأيام ميدانا من ميادين تفوقهم، أو حتى من الميادين التي كانوا صالحين لخوض غمارها.
فبنو إسرائيل - على حد قول الأستاذ شفيق غربال - «أمة لم تترك رسوما ومعابد ضخمة، ولكنها تركت دينا وآدابا، وأثرت بذلك في تاريخ الحضارة أثرا لا يقل عن أثر الإغريق، أمة كانت أول من عرف عقيدة الوحدانية السامية وعبدت الله ولم تتخذ له من الأوثان زلفى.»
أعياد اليهود
جاء في تاريخ ابن الوردي أن أعياد اليهود هي: عيد الفصح «خامس عشر من نيسانهم، عيد كبير أول أيام الفطير السبعة، يحرمون فيها الخمير، وآخرها الحادي والعشرون من الشهر المذكور. والفصح يدور من ثاني عشر آذار إلى خامس عشر نيسان، وسببه أن بني إسرائيل، لما تخلصوا من فرعون وحصلوا في التيه، اتفق ذلك ليلة الخامس عشر من نيسان اليهود، والقمر تام الضوء والزمان ربيع، فأمروا بحفظ هذا اليوم، وفي آخر هذه الأيام غرق فرعون في بحر الشعب، وهو القلزم. «وعيد العنصرة» بعد الفطير بخمسين يوما. في السادس من شيون. فيه حضر مشايخ بني إسرائيل إلى طور سيناء مع موسى، فسمعوا كلام الله تعالى من الوعد والوعيد، فاتخذوه عيدا، و«عيد الحنكة» معناه التنظيم، وهو ثمانية أيام أولها الخامس والعشرون من بسليو، يسرحون في الليلة الأولى سراحا، وفي الثانية اثنين، وكذا في الثامنة ثمانية سرج، وذلك تذكار أصغر ثمانية إخوة، قتل بعض ملوك اليونان، فإنهم قد تغلب عليهم ملك من اليونان ببيت المقدس، كان يفترع البنات قبل الإهداء إلى أزواجهن، وله سرداب، قد أخرج منه حبلين، عليهما جلجلان، فإن احتاج إلى امرأة، حرك الأيمن، فتدخل عليه، فإذا فرغ منها حرك الأيسر، فيخلى سبيلها. وكان في بني إسرائيل رجل، له ثمانية بنين وبنت واحدة، فتزوجها إسرائيلي وطلبها، فقال أبوها: إن أهديتها افترعها الملعون، ودعا بنيه لذلك فأنفوا، ووثب الصغير منهم، فلبس ثياب النساء، وخبأ خنجرا، وأتى باب الملك على أنه أخته، فحرك الجرس، فأدخل عليه، فحين خلا به قتله، وأخذ رأسه وحرك الحبل الأيسر وخرج، فخلي سبيله، فأفرح بذلك بني إسرائيل، واتخذوه عيدا تذكارا بالإخوة الثمانية. و«المظال» سبعة أيام أولها خامس عشر تشرين الأول، يستظلون فيها بالخلاف والقصب وغيره فريضة على المقيم تذكارا لأطلالهم بالغمام في التيه. وآخرها وهو حادي عشر تشرين يسمى «عرابا» تفسيره شجر الخلاف. وعر عراب وهو الثاني والعشرون من تشرين يسمى «التبريك» تبطل فيه الأعمال، ويتبركون فيه بالتوراة، وفيه استتم نزولها بزعمهم. وليس في صومهم فرض غير «صوم الكبون» عاشر تشرينهم وابتداء الصوم من التاسع قبل الغروب بنصف ساعة تمام خمس وعشرين ساعة، وكذلك صياماتهم النوافل والسنن».
عادة الختان عند اليهود والعرب
عند العالم «ويلهاوزن» أنه توجد في أفريقيا قبائل منها همجيون تألف عادة الختان. فلم تسر هذه العادة من اليهود إلى العرب. بل إن العرب القدامى أخذوها عن الفدائيين لأسباب صحية ودينية.
لا تبشير في اليهودية - شعب الله المختار
يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون - العالم اليهودي المصري - في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب» ص72: إنه «لا شك أنه كان في مقدرة اليهودية أن تزيد في بسط نفوذها الديني على العرب حتى تبلغ منزلة أرقى مما كانت عليه لو توافرت عند اليهود النية على نشر الدعوة الدينية بطريقة مباشرة. ولكن الذي يعلم تاريخ اليهود يشهد بأن الأمة الإسرائيلية لم تمل بوجه عام إلى إرغام الأمم على اعتناق دينها، وأن نشر الدعوة الدينية من بعض الوجوه محظور على اليهود. ولسنا نعرف في تاريخ اليهود أنهم أرغموا - بقوة السيف - أمة من الأمم على اعتناق اليهودية، إذا استثنينا حادثة واحدة أرغم فيها الملك اليهودي يوحنان هوركانس طوائف بني أدوم على اعتناق اليهودية صاغرين. ولكن يجب أن لا يغيب عن بالنا أن اليهود كانوا يعتبرون بني أدوم إخوة لهم في الجنسية. وهناك عامل آخر حال دون انتشار اليهودية في الحجاز؛ فاليهودية - كما نفهمها - هي خلاصة القانون التلمودي بعقائده وتقاليده وطقوسه. وهذا القانون الذي نشأ في بيئة معينة وفي مدة قرون معينة، والذي استمد مبادئه وتعاليمه من نصوص التوراة، قد أدخلت عليه تغييرات تلائم الأحوال الجديدة التي طرأت على اليهود مع التغيير الاجتماعي والرقي الروحاني الذي طبع العقلية اليهودية بطابع جديد لم يكن يعرف في العصور الإسرائيلية القديمة. وقد نجم عن ذلك أن الذين أرادوا أن يقبلوا جوهريات صحف التوراة دون أن يخضعوا للناموس التلمودي وعقائده، لم يؤذن لهم باعتناق اليهودية. ولا شك أن هذا كان من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور النصرانية، فإن طوائف اليونان والسريان المجاورة لفلسطين قد تأثرت بالدين الإسرائيلي وارتاحت لتعاليم التوراة، فاعتنقت العقائد الجوهرية، وآمنت بالمبادئ الأساسية، ورفضت ما لا يناسب روحها القومي ولا يتفق مع تقاليدها القديمة. كذلك وجدت هذه النفسية في الجزيرة العربية، وأخذ العرب يخضعون لبعض الأصول الجوهرية من التوراة دون أن ينقادوا للبعض الآخر. فلم ترض منهم اليهودية ذلك. وهناك أمر آخر عاق انتشار اليهودية بين العرب، ذلك أن التوراة والتلمود كلفا الإنسان بتكاليف صعبة وربطاه بتقاليد كثيرة. هذا إلى أن اليهود يعتبرون أنفسهم أبناء الله وشعبه المختار بين شعوب الأرض. ولا تسمح أنفسهم أن تكون هذه الميزات لشعب آخر ليس منهم، لهذا لا يقرون بأن الله يختار نبيا غير إسرائيلي.» (راجع آية 1 وما بعدها من الإصحاح 14 تثنية).
الفصل الثامن
الأراضي والأماكن المقدسة
القدس - بضم القاف - لغة، لفظ معناه: الطهر. والأرض المقدسة هي الأرض المطهرة، و«بيت المقدس» أو «القدس»: المدينة المعروفة عاصمة فلسطين الآن. يقال : تقدس الله؛ أي تنزه، والله القدوس: المنزه، وعند العرب أن إبراهيم الخليل قد دعا تلك الأرض «أي بيت المقدس» بالقدس، بضم القاف، فسميت بذلك، والله أعلم. ويبدو أن لكل ديانة وأهل دين، أراضي وأماكن، تعد مقدسة، فالأراضي الحجازية عامة، ومكة والمدينة خاصة، والحرم النبوي الشريف وقبور الخلفاء الراشدين على وجه أخص، تعد مقدسة. كذلك تعد من المقدسات مدينة القدس عامة أو قل الأماكن المقدسة، خاصة كنيسة القيامة، التي عند المسيحيين أنها بنيت في المكان الذي صلب فيه سيدنا «عيسى ابن مريم» عليه السلام. وقد أصبحت مبنى دوليا، لكل دولة ولكل طائفة من الطوائف المسيحية العديدة من الكاثوليك والأرثوذكس به أملاك متوارثة، أكثرها رمز من الأحجار والجدران. فهي مقصد المصلين، والحجاج المسيحيين، ومن أجل هذا كان لمسألة فلسطين وقضية الصهيونية والوطن القومي اليهودي أهمية خاصة عند المسيحيين إلى جانب المسلمين. هذا؛ وقد علت «مكان الصلب» طبقات من التراب والأحجار على تعاقب السنين.
ومما ينبغي أن نذكره هنا أن أقباط مصر - كسائر الطوائف - يملكون في القيامة أملاكا يرجع تاريخها إلى أقدم العهود. وحسبنا أن نقول: إن المستر ربتشموند - مدير مصلحة الآثار بحكومة فلسطين - في تمهيده للتقرير الرسمي عن ترميم بناء القيامة الذي كان مرجعه فيه الوثائق الرسمية للحكومة الفلسطينية، والمصادر التاريخية المنزهة، ذكر أنه من الثابت أنه في سنة 1400، كان للروم واللاتين والأرمن والأقباط والسريان والأحباش أملاك في القيامة.
وذكر في موضع آخر أنه في سنة 1664 نزعت ملكيات «طائفة الجوجيين لعجزها عن دفع الضرائب، وفي سنة 1668 نزعت أملاك الحبش للسبب نفسه. وإذا كان بعض الطوائف قد فقد حقوقه في القيامة، إلا أن الأقباط ظلوا محتفظين بها من قبل سنة 1400 إلى الآن. وليس في ذلك ما يدعو إلى الغرابة؛ فإن الذي دشن كنيسة القيامة هو البطريرك العظيم البابا الإسكندري الأنبا إثناسيوس الرسولي بناء على دعوة من الملك قسطنطين نفسه. هذا؛ وقد جاء في كتاب الشيخ المؤتمن أبي المكارم سعد الله بن جرجس بن مسعود الذي توفي منذ سبعة قرون ونصف أنه كان للأقباط بالقدس لغاية سنة 1184م عدة كنائس ذكر منها ما يأتي بحروفه: (1)
وكان في بيعة القيامة في الأسكنا الكبير «القبة» مذبح على اسم السيدة العذراء مفرد للقبط «117». وهذه الكنيسة لا تزال باقية إلى الآن. (2)
كنيسة بأورشليم أنشأها النبراوي مقاره في خلافة هارون الرشيد بما اجتمع له من المال في بطريركية يعقوب، وهو الخمسون في العدد، وهي ملجأ من يمضي إليها من المؤمنين «125». وهذه هي كنيسة المجدلانية، وقد بقيت في يد الأقباط إلى سبعة قرون مضت. (3)
وبيعة اليعاقبة عمرها منصور اليعقوبي المصري، ودشنت في بطريركية أنبا كيرلس السابع والستين في العدد «135»، وهذه الكنيسة لم يعين مكانها تماما، والراجع أنها في دير السلطان. وقد ذكر المقريزي المؤرخ المعروف في الجزء الخاص بالقبط: «ولهم بغزة كنيسة مريم، وبالقدس القيامة وصهيون.»
فمما تقدم يبين أن أملاك الأقباط في القيامة ترجع إلى أبعد عهودها. على أنه مما لا شك فيه أن مركزهم ازداد قوة منذ عهد مجدد مصر رأس الأسرة العلوية محمد علي باشا الذي كان يرعى الأقباط ويخصهم بعنايته واهتمامه. هذا؛ وكل طائفة تزعم لنفسها نسبة أكبر مما للأخرى. ويقلل من نسبة ما للطوائف الأخرى تعظيما لشأن طائفته. ولو كان بالإمكان تحديد هذه النسبة لكانت الحكومة الفلسطينية أول من يعنى بتحديدها، ولكنها تحاشت ذلك بامتناعها عن تعيين الحصة التي تستحق على كل طائفة في المبالغ المطلوبة لترميم كنيسة القيامة، وتركت الطوائف حرة فيما تدفعه - وهي تتبارى في ذلك - حتى ولو زاد ما يدفع من الكل عن المبلغ المطلوب للترميم؛ إذ تعتزم الحكومة حفظ ما يزيد منه لأعمال الصيانة مستقبلا في كنيستي المهد والقيامة.
ومن البديهي أن عدم إمكان تحديد نسبة بين أملاك الطوائف إنما يرجع إلى اشتراكها في الأماكن التذكارية الأخرى بداخل القيامة. هذا؛ ويملك المصريون في القيامة كنيسة لا شك في أنها صغيرة في المساحة، ولكنها من أعظم الكنائس قيمة؛ فهي الكنيسة الوحيدة المتصلة بالقبر المقدس والملاصقة له، وهي الكنيسة الوحيدة التي تقع قبلتها على القبر ذاته؛ الأمر الذي تغبطها عليه جميع الطوائف؛ لأنه إذا كان بعضها يحرص على حقوقه في إقامة صلوات على القبر المقدس في مناسبات معينة فإن للأقباط هذا الحق على الدوام بحكم موقع كنيستهم.
وعلى هذا كان المقياس الصحيح لتقدير نسبة أملاك الطوائف إلى بعضها ذلك هو «الموقع». والأقباط يمتازون في المرتبة عن السريان، ومع أن الفرق بين أملاك الطائفتين، سواء من حيث القيمة أو من حيث اتساع حق الملكية ومزاياه لا يدع أي مجال للمقارنة بين الطائفتين. فللأقباط - دون السريان - غرفتان «تختان» بالقيامة شأنها في ذلك شأن باقي الطوائف الأولى بجوار المغتسل، وهي مكونة من دورين مساحة كل منهما 35 مترا تقريبا، والثانية أمام الكنيسة ومكونة من دورين أيضا تبلغ مساحة كل منهما نحو ثمانين مترا، وتشمل ثلاث بواك بها قناديلها وشموعها وبينها وبين الكنيسة وحول الكنيسة «الهيكل» مكان متسع لوقوف المصلين من الأقباط. هذا غير ما للأقباط من حقوق أخرى تماثل ما لباقي الطوائف كوضع قناديل فوق المغتسل وبداخل القبر وخارجه، وإجراء المراسم الدينية المعتادة يوميا «ليلا ونهارا» في جميع أنحاء القيامة.
وللأقباط عدا ما تقدم أملاك ليست داخل القيامة، ولكنها متصلة بها من الخارج ومجاورة لها، ويقع بعضها بأعلى بناء القيامة. فلهم كنيستان متصلتان بمبانيها لهما باب يطل على ساحتها بجوار أبوابها، ولهما باب علوي آخر يوصل إلى دير السلطان الذي يقول البعض إنه هبة من السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب - ملك مصر - إلى أقباطها، والبعض الآخر يرجع ملكيتهم له إلى ما قبل ذلك بنحو قرن. وقد كان الأقباط يهتمون بهذا الدير اهتماما كبيرا، ويواظبون على تعميره كما يؤخذ من نص الحجة الشرعية المؤرخة 13 شوال سنة 1098ه «22 أغسطس سنة 1686م». وقد جاء فيها:
بالمجلس الشرعي المحرر المرعي أجله تعالى لدى جناب سيدنا ومولانا، أقضى قضاة الإسلام، أولى ولاة الأنام، بدر سماء المعالي الفخام، الحاكم الشرعي الموقع خطه الشرعي الموقع خطه وختمه الكريمين في أصله أعلاه، دام فضله وزاد علاه. لما كان سابقا على تاريخ أدناه كشف على دير طائفة نصارى القبط بمحمية القدس المنيف المعروف قديما بدير السلطان بمحلة النصارى المحدود بمقتضى حجة السابق الآتي بيانها فيه بطلب المعلم سالم البنا المتكلم على أوقاف نصارى القبط. ووجد الدير المذكور مشرفا على الخراب وبعض أماكن منه تحتاج إلى الترميم والتبطين والعقادة والكحلة الضروريان، وإذن مولانا الحاكم الشرعي المشار إليه للمعلم سالم المتكلم المسطور أعلاه بترميم وتبطين ... إلخ.
وقد ختمت هذه الحجة بختم فضيلة القاضي الشرعي الشيخ أحمد راقم.
وللأقباط أيضا دير آخر ودار للبطريركية بها كنيسة كبرى تقع بأعلى بناء القيامة تماما، ويصل هذا الدير بدير السلطان باب تقع عنده المرحلة التاسعة لآلام المسيح التي يقدسها جميع الطوائف، وبعض حوائط هذين الديرين مشتركة بينهما وبين كنيسة القيامة.
هيكل سليمان والمسجد الأقصى
تدل الروايات الراجحة الواردة في الكتب القديمة على أن منطقة حرم المسجد الأقصى تحوي المصلى الذي كان يصلي فيه داود، وأن الصخرة التي أقيمت عليها القبة في صدر الإسلام هي المذبح الذي كان يشوي عليه داود قربانه، فكان الدم يسيل منها إلى غرفة تحتها، ومن هناك يجري إلى وادي كدرون، وأن أول ذكر للصخرة في كتب المتقدمين جاء من رجل من بوردو حج إلى بيت المقدس في سنة 330 للميلاد، فقال: إنه رأى بالقرب من التمثالين المنصوبين للإمبراطور «هارديان» داخل المعبد حجرا مخروقا من عادة اليهود أن يضمخوه بالزيت مرة في السنة حيث ينوحون ويعولون ويخرقون ألبستهم ثم ينصرفون. وكانت هذه المنطقة مقدسة عند الوثنيين قبل اليهود، ويدعى محلها «تل موريا»، وربما كان بيدرا لأحد اليبوسيين سكان فلسطين القدماء.
ثم إن سليمان الحكيم قد أقام حول هذه الصخرة معبده المشهور الذي يسمى «هيكل سليمان»، فجلب له الصناع والمهندسين من مدينة صور الفينيقية بمساعدة ملكها الملك حيرام، وذلك في سنة 1013 قبل الميلاد. وذكر رواة الأقاصيص والأخبار أنه أنفق في بناء هذا الهيكل مائة ألف وزنة من الذهب ومليون وزنة من الفضة، وهو ما يعادل في عملتنا الحاضرة زهاء ثماني مائة وتسعة وثمانين مليونا ونصف مليون من الجنيهات الإنكليزية. وهذا مبلغ يستكثره العقل. هذا عدا ما أفاضوا فيه من ذكر الحديد والنحاس والذهب والفضة والعاج والأحجار الكريمة وخشب الأرز الذي جيء به من لبنان، فتم بناؤه سنة 1005 قبل الميلاد.
وأقيم على الجانب الشرقي منه رواق من الأعمدة فأدار الملوك المتأخرون هذا الرواق حتى شمل الهيكل جميعا. وقد قام الصوريون بهذا البناء، وكان عملا فينيقيا من حيث التصميم والزخرف والبناء. ولقد بقي هذا الهيكل زينة من زينات العالم القديم حتى خربه ملك بابل في سنة 424ق.م. فلما عاد اليهود من السبي، جددوه من بعد ما اندثرت محاسنه، وأعادوه إلى هيأته الأولى. هذا؛ وقد تداعى هذا البناء وأصيب بأنواع التخريب من جراء الاضطرابات وحوادث الدهر مرة أخرى، فجدد بناءه الملك هيرود الكبير، وهو من أصل أدومي، كان ملكا على اليهود، ودام ملكه سبعا وثلاثين سنة من سنة أربعين إلى سنة أربع قبل الميلاد، وهو الذي جدد بناء مدينة «سامرة» فدعاها «سبسطية» كما تدعى اليوم؛ نسبة إلى «أغسطوس»، وحول «صرح ستراتو» إلى أسكلة على البحر عظيمة دعاها «قيصرية»، وباشر بناء الهيكل أو تجديده في السنة العشرين قبل المسيح، ودامت الأسمال فيه تسع سنوات ونصف سنة من غير أن يتم بناؤه. وقد أنفذ «عمر بن الخطاب» «عمرو بن العاص» إلى فلسطين فنزل بيت المقدس، لكن القوم امتنعوا عليه فجاءهم «أبو عبيدة بن الجراح» بعد أن افتتح «قنسرين»، وذلك في سنة 16 للهجرة، فطلبوا منه الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل الشام من أداء الجزية والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولي للعقد لهم عمر بن الخطاب، فكتب أبو عبيدة بهذا إلى عمر؛ فقدم عمر ونزل الجابية من دمشق ، ثم صار إلى بيت المقدس، فأنفذ صلحهم وكتب لهم كتابا، وكان ذلك في سنة 17 كما جاء في معجم البلدان لياقوت. ودائرة المعارف البريطانية. «زار عمر الصخرة المباركة بإرشاد البطريرك «صفرونيوس»، وهي مصلى داود ومكان معبد اليهود، فوجدها ملطخة بالأقذار وضعها عليها النصارى نكاية باليهود، فنظفها عمر وصحبه بأيديهم، وجعلوها مصلى. ومع أن هذا المصلى جدد بناؤه فيما بعد فقد احتفظ باسم الخليفة الثاني منذ ذلك الحين إلى اليوم.» ووصف المطران «أركولفوس» في سنة 670 للميلاد هذا المصلى فقال: إنه بناء بسيط من الخشب يستوعب ثلاثة آلاف مصل. ولكن لما ولي الخلافة عبد الملك بن مروان أمر بإنشاء المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ورصد لذلك خراج مصر سبع سنين، وانتهى من العمل سنة 72 للهجرة. ومال بعض النقاد - ولا سيما من الفرنجة ومن جاراهم - في تعليل البذخ الذي بذخه عبد الملك والأبهة البنائية التي أتى بها والفن المعماري الذي أحكمه في هذا العمل العظيم إلى القول: إنه أراد أن يحول به الأنظار عن الحرمين الشريفين حين أعلن عبد الله بن الزبير خلافته في الحجاز واستقل بها. فمثل هذا البناء البراق المشمخر يسترعي أنظار العامة ويستولي عليهم فيعود قبلة المسلمين الأولى. ولكن فات الذين يقولون هذا القول أن الإسلام في هذا العصر الذي نحن بصدده كان قد استحكم في القلوب وقواعده صارت ثابتة كالطود فلا مجال لمثل هذا التلاعب أن يحوز على الناس. ثم إن الأعمال البنائية العظيمة الأخرى التي قام بها عبد الملك كمسجد دمشق مثلا تدل دلالة صريحة على أنه أراد من هذه الأبهة وهذا البذخ ألا تكون معابد المسلمين دون معابد الأمم والدول الأخرى جمالا وجلالا، متى فازت من الغنى بسهم وافر.
وكتب الوليد اسمه منقوشا بالفسيفساء فوق الكرنيش الموضوع على المثمن الذي يحمل قبة الصخرة، وذلك عند مدخل الباب الجنوبي كما يأتي: «بنى هذه القبة عبد الملك أمير المؤمنين في سنة اثنتين وسبعين، تقبل الله عنه، ورضي الله عنه، آمين.» ولكننا نجد الآن اسم عبد الملك ممسوحا، ونجد في محله اسم الخليفة المأمون. كما يمسح الملك المتأخر اسم الشوارع التي تحتل اسم الملك المتقدم، ويدل على هذا التغيير الطارئ في قبة الصخرة إقحام الحروف الجديدة في المكان الممسوح، وازدحامها، واختلاف لون البلاط الذي يحملها، ونسيان الكاتب - سامحه الله - أن يغير التاريخ الأصلي؛ إذ أصبح المأمون بهذا النسيان قد شاد هذا البناء قبل أن يولد بنحو مائة سنة فقط! والواقع أن قبة الصخرة احتاجت في زمن المأمون إلى ترميم ففعل الخليفة ذلك، وطمع أن يخلد اسمه مكافأة على هذا الترميم، وإن شكل القبة ومظهرها لم يتغير تغييرا يذكر منذ الزمن الأموي إلى اليوم مع كل ما أصابها من الزلازل والكوارث.
على أن الكتاب العرب الأولين لم يذكروا أن عمر بن الخطاب بنى مسجدا في بيت المقدس باسمه، خاصة والمسجد الموجود الآن الذي يزدان باسمه العظيم هو مسجد ضئيل لم يلتفت إليه أحد من الجغرافيين المتقدمين، والغالب أنه مسجد بني ليخلد ذكرى صلاة اشتهرت في الخافقين امتنع عمر أن يقيمها في كنيسة القيامة فأقامها في هذا المكان الصغير - امتنع عمر أن يقيمها في الكنيسة لشعورين عميقين متأصلين في نفسه؛ شعوره بالحق من جهة وشعوره بأنه سيكون شخصية مقدسة من جهة أخرى، فلو أنه صلى في كنيسة قيامة المسيح ما أمن عليها من أتباع محمد.
قال أبو الفداء في معجم البلدان: «واتفق أن الإفرنج في هذه الأيام «القرن الخامس للهجرة» خرجوا من وراء البحر إلى الساحل فملكوا جميع الساحل أو أكثر، وامتدوا حتى نزلوا على بيت المقدس فأقاموا عليها نيفا وأربعين يوما، ثم ملكوها من شمالها من ناحية باب الأسباط عنوة في اليوم الثالث والعشرين من شعبان سنة 492، ووضعوا السيف في المسلمين أسبوعا، والتجأ الناس إلى الجامع الأقصى فقتلوا فيه ما يزيد على سبعين ألفا من المسلمين، وأخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا فضة كل واحد وزنه ثلاثة آلاف وست مائة درهم فضة، وتنور فضة وزنه أربعون رطلا بالشامي، وأموالا لا تحصى.» والظاهر أنهم حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة والمسجد الأقصى إلى قصر لسكنى مليكهم، وجعلوا القمم الأدنى منه إسطبلا للخيل ومأوى للخنازير. ولم يزل في أيديهم حتى استعاده الملك الناصر صلاح الدين يوسف سنة 583 بعدما بقي في أيدي الإفرنج إحدى وتسعين سنة.»
ويستدل من الآثار والكتب التي بأيدينا على أن الصخرة في إبان الاحتلال الإفرنجي كانت تقطع منها القطع لأخذها إلى أوروبا على سبيل الأثر، فإن الكهنة الذين كانوا على سدانتها كانوا يتناولون أثمانا بهيظة يبيعون بها هذه القطع. وقيل: إن سوء الاستعمال هذا أدى إلى تبليط الصخرة لحمايتها، فأمر السلطان صلاح الدين بإزالة البلاط عنها.
ولما استعاد السلطان صلاح الدين بيت المقدس أعاد الحرم إلى الحالة التي كان عليها، وأمر بترميم محراب المسجد الأقصى وكتب عليه بالفصوص المذهبة: «باسم الله الرحمن الرحيم، أمر بتجديد هذا المحراب المقدس وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس: عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة، وهو يسأل الله إذاعة شكر هذه النعمة، وإجزال حظه من المغفرة والرحمة.»
ولما احتل الإنكليز فلسطين في سنة 1917م، ودخل الجنرال اللنبي مدينة القدس دخولا رسميا في اليوم الحادي عشر من ديسمبر من تلك السنة، كانت الحكومة البريطانية قد أصدرت في اليوم الثاني من نوفمبر سنة 1917م تصريحا يدعى تصريح بلفور، وترجمة هذا التصريح هي كما يأتي:
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية مع البيان الجلي بأن لا يفعل شيء يضير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن ولا الحقوق أو المركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
حائط المبكى
حائط مبكى اليهود هو السور الغربي للمسجد الأقصى في القدس، يذهب إليه اليهود ذكورا وإناثا في يوم السبت يبكون ضارعين إلى الله أن يعيد اليهود المشتتين في جميع الأنحاء إلى فلسطين؛ لكي تكون لهم دولة وملكا خالصا.
الرهبنة والتقديس الديني
ومما يتصل بالتقديس الديني التقديس النفسي؛ أي تطهير النفس، ويكون هذا عند المسلمين بالزهد والتقشف ومجاهدة النفس رياضيا، والانقطاع للعبادة والتصوف، وعند المسيحيين بالامتناع عن الزواج.
وعلى هذا كانت الرهبنة - وهي اسم من معنى الراهب - فكرة قديمة تعني عند النصارى الامتناع عن الزواج. وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم فقال تعالى:
ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا رهبانية في الإسلام.» وعلى ذلك أصبحت الرهبنة غير موجودة بين المسلمين على نقيض الأمم الأخرى لأسباب لا محل لذكرها هنا، وعند «محمد السعيد» أنها تطلق على الرهبان أنفسهم مجازا. وعند النصارى من يتبتل لله ويعتزل عن الناس إلى بعض الأديرة طلبا للعبادة.
واسم الرهبنة بالإفرنجية معناه رتبة دينية. وتسمى أيضا «مونا كزم» باليونانية، ومعناها معتزل أو منفرد، والمقصود من الرهبنة عند المسيحيين إنما هو الاعتزال عن الدنيا وأمورها العادية لإشغال النفس بالعبادة وبالأشياء الدينية، ولم تنشأ إلا بعد القرن الثالث لما ظهر الإمبراطور الروماني «دنسيوس» واضطهد المسيحيين وحمل بعضهم على الهرب إلى الجبال والمكث بالصوامع، فنشأ من العبادة في الصومعة فكرة الاجتماع للعبادة في دير وفكرة الرهبنة ووقف الروح والعقل والجسد على خدمة الله.
وأول من اعتزل الناس دينيا الأسينيون الإسرائيليون فسمى بعض المؤلفين الأسينيين: الذين يضايقون أنفسهم بالصيام، والذين ينقطعون بضع ساعات نهارا وليلا إلى التضرعات والصلوات، والذين يبذلون أموالهم وأيامهم في سبيل إعالة الفقراء أو عيادة المرضى والاعتناء بهم. وكان الأسينيون من النصارى يسكنون عادة المدن، ويلبسون أثوابا فاحمة اللون خاصة كأثواب الحكماء، وكانوا يقفون وقت الصلاة بين خدم الدين والشعب. والذين يفوقون هؤلاء بالتعبد وبالانقطاع عن الدنيا إلى الله سبحانه وتعالى، ومضايقة الجسد، والاكتفاء باليسير جدا من أسباب المعاش يسمون «بالنسك أو الحبساء». وقد تكاثر هؤلاء جدا في القرن الثالث للميلاد حتى ملئوا البراري الجبلية في آسيا الصغرى وسورية ومصر.
وفي أواخر القرن الثالث ظهرت رهبنات للإناث، وأول دير أو جمعية رهبنة مسيحية هي التي أنشأها «بولس الطيوي» وتلميذه «بخوميوس»، ووضع أساسها الأول في جزيرة «تاينة» التي تبعد قليلا عن أول جنادل النيل إلى الجهة الشمالية، ووضع هذه الجمعية تحت إدارته سنة 340، وانقسم كل دير عدة أقسام كل منها يتعاطى عملا آليا مخصوصا تحت إدارة رئيس ، وكانت العائلة الراهبية 40 أسرة. ولما لجأ «أثناسيوس» إلى الجزيرة المار ذكرها سنة 356م لاقاه «بخوميوس» في جيش من الرهبان يترنمون بالزمور، واقتدى «آمون» ب «بخوميوس» في إنشاء دير على جبل فوق وادي النطرون في تخوم صحراء ليبيا، واجتمع لديه في برهة قصيرة هناك 5 آلاف راهب. ثم أنشأ «مكاريوس» أديرة كثيرة في الصحراء بين جبال النطرون والنيل، وقال بعض المؤرخين: «أصبح في سنة 356 للميلاد في أحد الأديرة عشرة آلاف راهب وخمس عشرة ألف راهبة، وكانوا يصلون ويترنمون ويقرءون التوراة والإنجيل، وينسخون الكتب الدينية، ويشتغلون في الزراعة والصناعة، ويقومون بالإحسان.»
وكانت تلك الأديرة مؤلفة من مدارس كبيرة صناعية. أما أديرة إقليم «طيوه» فكانت كمنازل للسياح في تلك المفاوز، وكان لكل دير منها مكان مخصوص لنزول المسافرين مجانا، كما أنه كان في كل دير من أديرة جزيرة «تابنة» عائلة رهبانية أعضاؤها من العلماء الحاذقين للآداب اليونانية، واقتدى أهل سورية وآسيا الصغرى وسواحل البحر الأسود الجنوبية بأهل مصر وأنشئوا رهبنات.
وفي القرن الرابع والخامس للميلاد بدل عن النسك المعيشة الرهبنية، وفي سنة 328 للميلاد أسس القديس «هبلايون» الرهبنة في فلسطين، وشاد «أثناسيوس» أسقف «سبسطية» الرهبنات في أرمينيا، وفي سنة 360 للميلاد أقام «باسيليوي» رهبنات على سواحل البحر الأسود الجنوبية، وكانت الرهبنات في أيام يوحنا فم الذهب متكاثرة في جوار أنطاكية، فزادها نموا وتقدما بكلامه وأعماله. وأما النسك فلم يكن محبوبا كثيرا عند آباء الكنيسة الأولين، فإنهم قصدوا بترويج الرهبنات الحصول على الفضائل الناشئة عن الاعتزال المؤقت لتربية رجال ذوي كفاية لإذاعة التعاليم الدينية بين أهل المدن، ولم يكونوا ينظرون بعين الرضاء التام إلى أعمال الذين يضايقون أجسامهم بأعمال غير عادية، ويؤلمونها في سبيل العبادة.
وقد انتقلت الرهبنات من الصحارى إلى المدن، وبعد ذلك أخذ الكتاب الدينيون يشكون من الذين كانوا يأوون إليها وينخرطون في سلكها طلبا لراحة البال والجسم، وقالوا: إن البعض يحب الكسل والتواني والشر بدافع التقوى والتعبد والانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، وإن الإفراط في الاعتزال والتقشف والزهد جلب على كثيرين الدعارة والجنون واليأس والانتحار ، وإن الجهل مع المغالاة في الدين أو الإفراط في التعصب جعل بعض الرهبنات أداة ذات خطر في يد رجال ذوي مطامع. وقد أفرغ الإمبراطور «فالنسيوس» وغيره جهدهم لمنع امتداد الرهبنات، ولكن محاولاتهم ذهبت سدى، ونشأ عن إفراط بعض الرهبنات في التأمل اعتقادهم الحلول الإلهي في الكون، فحرموا من الكنيسة وتعاظمت الشكوى. وكان من أثر نفوذ إمبراطوريي بيزانطية المتعاظم أن الكنيسة الشرقية لم تحاول رهبنات جديدة. وتبعت الرهبنات الشرقية إلى أيامنا القانون المنسوب إلى «باسيليوس»، وانتسبت إليه أو إلى «مار أنطونيوس».
الفصل التاسع
اليهود في مصر السابقة وإيران
جاء في مقدمة كتاب «اليهود في مصر» تأليف المؤرخ اليهودي «موريس فيرجون»: «إن المصريين اشتهروا في حكم بعض أمرائهم بالمقدرة العسكرية، وذلك بفضل ما كان لديهم من القوانين والعلوم. فقد نبع أكثر العلوم والفنون عندهم، وكان من أثر تتلمذ اليونان لهم، أن كانوا معلمي أوروبا. وهذه الأمة المصرية المشهورة قد آوت الشعب اليهودي، ذلك الشعب الذي تفرق في جميع بلاد العالم وخضع لألوان الحكومات والنظم، ومع هذا لبث محتفظا بعاداته وقوانينه ولغته، في حين أن أكثر الأمم الأوروبية ليست متحققة من أصولها.
ومما يفخر به اليهودي أن له نسبا عريقا. وسواء أكان يسكن بولندا أم إسبانيا، في وسعه أن يقول: إن آبائي سكنوا الصحراوات في مصر وروما وآثينا وسبارطة، وتلك البلاد التي كانت مواطن المجد العالمي الغابر الزائل.»
ترجع هذه الظاهرة السياسية إلى قوة تعليم النبي موسى؛ ذلك أنه بعزله شعبه اليهودي عن سائر الناس، جعل تفرقهم سهلا، كما جعل فناؤهم مستحيلا، فكان اليهود، إذا ما كانوا غزاة غالبين، لا يعمدون إلى إدماج الأمم التي أخضعوها. أما إذا كانوا مغلوبين على أمرهم فإنهم لا يفنون في الغالبين. أما الآثام التي تعزى إلى اليهود الآن، فإن أكثرها يرجع إلى حالة الذل التي كانوا خاضعين لها في كل مكان، فلم يكن لهم أي حظ في الدولة، ولم يكن مرخصا لهم بملكية الأراضي أو الاستمتاع بحرية الحقول التي تقوي الروح، ولكنهم كانوا ملزمين بأن يسكنوا في أحياء منعزلة في المدن، وأن يقبعوا في مساكنهم مع مغيب الشمس كالجثث المتراكمة، وأن لا يشتغلوا بأي فن حر. فكان من أثر هذا، أن انحصر ميدان عملهم في البيع والشراء، والحصول على الذهب الذي يستطيعون به أن يهدئوا حدة ظالميهم، وأن يتيح لهم شيئا من المعيشة الهينة، ومن هنا أصبح الذهب غاية مطامعهم. وعلى هذا ليس مما يطابق الحق أن يعزى ما يرمون به من المثالب إلى شريعتهم؛ ذلك أن الرجل إذا شعر أنه حر ومحترم، سرعان ما يبدو أنه كريم وشجاع، مهما يكن الدم الذي يجري في عروقه، كما أن هذا الرجل نفسه يصبح خبيثا ماكرا وحائرا متى كان عبدا حقيرا. وحسبنا أن نذكر أنه حيث تسود مصر ديانة سمحاء، تحسنت حال اليهود ونبغ بينهم رجال ذوو فضل وأدباء بارزون وعلماء أصبحوا مجدا لوطنهم الحر.
هذا؛ ولما هبط اليهود مصر، احترفوا التجارة والجندية، وكان منهم جنود في أسوان، التي أقاموا فيها قلعة في جزيرة أسوان، كما بنوا معبدا لهم يذبحون الضحايا خاصة الكبش على مذبحه ويحرقونها قربانا لله. وقد جاء في القرآن الكريم أن إبراهيم ذبح الكبش فدى لابنه إسماعيل، أما عند اليهود والمسيحيين - طبقا للإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين - فإن الرب إنما أراد أن يختبر إبراهيم، فأمره بذبح ابنه الأصغر «إسحاق»، فلما صدع بأمر ربه، جاءه الملاك وأمسك بيده ثم قدم له الكبش ليفدي ابنه «إسحاق».
ولما كان المصريون يقدسون الكبش، فقد كانوا في خصام دائم مع اليهود الذين يضحون بالكباش كما قدمنا، ومن أجل هذا استعان المصريون بالوالي الفارسي على تخريب المعبد فجعله أثرا بعد عين.
اليهود والفرس
هذا؛ ومنذ منتصف القرن السادس ق.م إلى ختام مدة حكم الفرس، لم يدون التاريخ حوادث ذلك العهد، وإن كان هناك ما يدل على أنه قد وجد فيه مفتاح ظهور التاريخ المكتوب في التوراة، كما عرف أنه قد نفي بعض اليهود على حين بقي أكثرهم.
وبعد مضي نحو 40 عاما منذ تدمير «أورشليم» ظهر في الشرق حكم آخر تولاه سيروس العظيم، وسقطت بابل 539ق.م. وقد استرعى اهتمام الأنبياء منذ يومئذ تقدم نهضة سيروس مؤمنين أنه من أثر سقوط بابل أن يستردوا كينونتهم؛ ولذا قابله اليهود هاتفين مبتهجين مرحبين، بعد أن كان الأنبياء يلحظون في الماضي، مجيء الآشوريين والكلدانيين.
ولئن كان سيروس نفسه ليس بالإيراني الأصيل، وليس من عباد يهوا، فقد كان يتسامى فيما يتصل بعقائد رعاياه وأقوام مملكته.
وكانت فلسطين تحت حكم الفرس، متأثرة بسير الحوادث في فينيقيا ومصر. ومن هذا حين كان قمبيز بن سيروس يجهز حملته على مصر متخذا أساطيل فينيقيا وقبرص وإبل العرب.
وقد سجل التاريخ لليهود قيامهم بحركة أبدوا فيها شعورهم الديني في السنة الثانية من حكم داريوس؛ أي في 520ق.م. على أن التاريخ لم يبين لنا هل كان اليهود يرمون إلى الاستقلال أم إلى كسب امتيازات مقابل عدم اشتراكهم في الثورة التي قامت ضد الفرس في جهات عديدة.
كذلك قامت في آخر حكم داريوس ثورة عليهم في مصر، أخمدها إكسركس
Xerxes «485-465ق.م»؛ ذلك أنه لم يتابع سياسة التسامح التي كان يجري عليها من سبقوه.
وقد ظهر أزرا ونحميا في حكم الملك أرتاكسيرسيس لونجيمانوس «465-423ق.م» كمصلحين.
وقد استعادت مصر استقلالها منذ دب دبيب الضعف في جسم الدولة الفارسية، فقد ظهرت في عهد أرتاكسيركسيس الثالث «359-338»، الثورة في مصر وفينيقيا وقبرص فقمعها مرتكبا الفظائع.
1
وقد أفضى بغض باجوس للملك أرتاكسيركسيس الثالث إلى إصابة نهضة الفرس بضربة كان من أثرها تقديم اليونانيين، وأن قضى الإسكندر على دولة الفرس في 333ق.م في موقعة أسومس، وكان غزو صور وغزة مفضيا إلى دخول اليهود تحت الحكم اليوناني، وأصبحوا من رعاياه يستمتعون بالحرية الدينية مقابل ما يدفعون من الجزية.
وكان من اليهود أقوام منعزلة، عاشت في سلام في مصر وإيران، وكانوا يؤدون التحية باسم الإله «ياهو إله السماء».
الفصل العاشر
الإسرائيليون والعرب قبل الإسلام وبعده
لئن كان الإسرائيليون من الأمم السامية، فإنهم ليسوا أقدمها، فقد وجدت قبلهم بآلاف السنين أمم سامية أخرى.
أما اللغة العبرية، فقد كانت - كما أوضحنا قبلا - في مقدمة اللغات السامية، فقد كانت شائعة قبل نشوء الإسرائيليين؛ إذ كانت لغة فلسطين الكنعانية ولغة بعض قبائل طور سينا والأردن، ومنها بنو أدوم وعمون وموآب وقبائل عماليقية ومديانية وإسماعيلية. ومن هذه الأقوام ظهرت بطون الإسرائيلين في طور سينا وأطراف الحجاز كما أوضحه كتاب «العلاقة بين العرب والإسرائيليين قبل ظهور الإسلام»، بالإنجليزية، للمستشرق مارجوليوث.
ثم إن اللغة العبرية أخذت تضمحل على أثر الحوادث السياسية، فنهضت الآرامية، وهي إحدى اللهجات الكنعانية، وأصبحت أغلب بطون فلسطين وسوريا والعراق وطور سينا تتكلم الآرامية، التي أخذت في الانكماش منذ نحو ميلاد المسيح أمام نهضة اللغة العربية، مما كان من أثره اتجاه القبائل الآرامية والعبرية إلى الاندماج في العنصر العربي شيئا فشيئا.
هذا؛ ويؤخذ من مؤلفات المستشرقين أمثال مان جوليوث في كتابه سالف الذكر، ودوزي في كتابه «الإسرائيليون في مكة»، وبيرني في كتابه «إقامة إسرائيل في كنعان»، وجلازر في كتابه عن بلدان شبه جزيرة العرب، وبعض أسفار التوراة أن اليهود سكنوا منذ التاريخ البعيد أطرافا في بلاد العرب، قال صاحب الأغاني في الجزء 11 ص94: «كان ساكنو المدينة في أول الدهر قبل بني إسرائيل، قوما من الأمم الماضية يقال لهم العماليق، وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل غزو وبغي شديد، وكان ملك الحجاز منهم يقال له الأرقم ينزل ما بين تيماء إلى فدك، وكانوا قد ملئوا المدينة، ولهم بها نخل كثير وزرع، وكان موسى بن عمران قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى يغزونهم، فبعث موسى إلى العماليق جيشا من بني إسرائيل، وأمرهم أن يقتلوهم جميعا، إذا ظهروا عليهم، ولا يستبقوا منهم أحدا، فقدم الجيش الحجاز ...»
وفي التوراة ما يؤيد وجود العلاقة بين بلاد فلسطين الكنعانية وبين البلاد العربية.
وعند «إسرائيل ولفنسون» - مؤلف «تاريخ اليهود في بلاد العرب» - أن تاريخ الإسرائيليين مع العرب قسمان أو طوران؛ أولهما: يشمل حوادث لبطون إسرائيلية بائدة في بلاد العرب إلى بداية القرن الخامس قبل الميلاد. أما ثانيهما فيتناول أخبار جموع من اليهود كان لها شأن عظيم في تاريخ شبه جزيرة العرب، وهذا الطور ينتهي بإجلاء عمر بن الخطاب لآخر الطوائف اليهودية من الجزيرة العربية.
العبادة
ففي الطور الأول يبدو أن الإسرائيليين كانوا يعبدون الله مع تقديسهم لبعض الأصنام عدا الكهنة والأنبياء وبعض الأشراف والملوك والنقباء المؤمنين برسالة موسى، فقد كان هؤلاء جميعا يعبدون الله وحده مخلصين له الدين، وكان الموحدون لله قليلين ثم كثروا قليلا قليلا.
أما الطور الثاني، فيبدأ من بعد رجوع اليهود من السبي البابلي سنة 638ق.م. والمرجع في الوقوف على أخبارهم إلى يومئذ هو التوراة، فقد ذكرت صحف «أخبار الأيام» عن أول هجرة مشهورة لهم إلى بلاد العرب، بأن بطون شمعون سارت إلى طور سينا مع ماشيتها لتبحث عن مرعى لها إلى أن وصلت إلى أرض قبائل معان فقاتلتها وفازت بطون شمعون، وقد ذكر دوزي في كتابه عن الإسرائيليين في مكة أن هذه الهجرة قد حدثت قبل عصر الملك داود في نحو ألف سنة قبل الميلاد. وعند مارجوليوث في كتابه «علاقة العرب بالإسرائيليين قبل ظهور الإسلام» أنها لم تحصل إلا في عصر الملك حزقيا، الذي حكم بلاد يهوذا من سنة 717-690ق.م. وهناك من يشك في صحة رواية هذه الهجرة وأغراضها.
هذا؛ ويقول الجغرافي سترابو: إن أول الجزيرة العربية كانت يومئذ هكذا: قبائل معان وعاصمتها قربا، وقبائل سبأ وعاصمتها مارن، ودولة ثمبا في باب المندب، ومملكة حضرموت وعاصمتها سيوة.
كانت فلسطين بمثابة الجسر الذي يربط البلاد العربية وسورية بمصر والعراق، وكان تجار اليهود يذهبون إلى سبأ في عهد سليمان وبعده كما جاء في الآية 26 الفصل الأول من سفر الملوك الذي جاء فيه أيضا أن أيلة «العقبة» كانت مستعمرة يهودية.
وقد اشتدت هجرة اليهود إلى الأرجاء العربية منذ القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، لضيق فلسطين بكثرة سكانها، ومهاجمة الدولة الرومانية لها حول القرن الأول قبل الميلاد، وإلغاء الدولة اليهودية، وإخضاع فلسطين للحكم الروماني، وثورات اليهود عليه؛ مما كان من أثره خراب فلسطين وتدمير هيكل بيت المقدس وتشتيت اليهود. قال صاحب الأغاني: «إنه لما ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعا بالشام فوطئوهم وقتلوهم ونكحوا نساءهم، وخرج بنو النضير وبنو قريط وبنو نهدل «من القبائل اليهودية» هاربين منهم إلى من بالحجاز من بني إسرائيل، وكانت فلسطين يومئذ غنية بالصناعات والمتاجر وبالقمح والشعير والزيتون والتمر والعنب للاستهلاك والتصدير. على أن اليهود المهاجرين والمقيمين في البلاد العربية قد ضعف شأنهم وحضارتهم. قال العالم شير: «إن اليهودية في بلاد العرب كانت لها صبغة خاصة، كانت يهودية في أساسها ولكنها غير خاضعة لكل ما يعرف بالقانون التلمودي.»
وقد أقاموا هناك الحصون والآطام على قمم الجبال، ويؤخذ مما ذكره ابن هشام جزء 2 و3 وص60 من فتوح البلدان للبلاذري وغيره: «أن اليهود قد حفروا في بلاد العرب الآبار وأخذوا الربا وربوا الماشية، وعنوا بالنسيج والصياغة وصنع الأسلحة، وأن العرب كانوا يرهنون عندهم الأمتعة ليستدينوا منهم ما يحتاجون إليه.» (ص16 و45 و116 البخاري). أما لغتهم هناك فكانت العربية مشوبة بالرطانة العبرية التي كانوا يستخدمونها في صلواتهم. وقد ذكر صاحب «فتوح البلدان» أن يهود يثرب كانوا أساتذة العرب في تعلم اللغة العربية.
وكان لليهود أحبار يتولون القضاء، وكانت قبلة اليهود بيت المقدس، ويؤدون الصلاة ثلاث مرات في اليوم، وفي ص27 و314 من الجزء الأول «ابن هشام» أن سيدنا محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان يفد إلى مكة وقبلته إلى الشام، وفي ص18 من الجزء الأول «البخاري» أن رسول الله كان أول ما قدم المدينة يصلي قبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكانت اليهود قد أعجبهم هذا، وفي ص498 جزء 1 «البخاري» أنه لما قدم محمد
صلى الله عليه وسلم
على المدينة، ورأى اليهود يصومون في يوم عاشوراء قال: ما هذا؟ قالوا: هذا صالح، يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. قال: فأنا أحق بموسى منكم. فصامه فأمر بصيامه، وكانت اليهود تعده عيدا.
قال «الواقدي» ص170: إن اليهود كانوا يوقدون النيران في الليل ليرشدوا السائرين، وليدعوهم إلى الضيافة والإكرام كما كان يفعل العرب إعلاء لشرفهم وصيانة لمجدهم، كذلك قرض اليهود الشعر بالعربية.
كذلك يؤخذ مما رواه الواقدي ص277 وابن هشام في الجزء الأول ص68 أن أفرادا من اليهود كانوا يجيئون إلى مكة للتجارة وغيرها، وأن المكيين أنفسهم كانوا يقصدون إلى خيبر ليجلبوا منها حلي آل أبي الحقيق، وأن كعب بن الأشرف قد جاء إلى مكة ليرثي قتلى بدر، وأن وفود يهود بني النضير جاءت إلى مكة لتحزب الأحزاب يوم الخندق بعد الهجرة، وأن رجال مكة كانوا يجلبون العبيد من اليهود. وفي فتوح البلدان للبلاذري (ص63 طبع مكة) أن قليلا من اليهود قد سكنوا مكة والطائف وغيرها، وفي ابن هشام جزء 1 ص22 أن النبي محمدا كان إذا صلى صلى بين الركنين البراني والأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام.
قبيل ظهور الإسلام
وقد حدثت قبيل ظهور الإسلام، حروب عظيمة بين بطون يثرب، عرفت بيوم بعاث دامت سنين طويلة، كما ظهرت حركة سياسية قوية بين زعماء الحجاز، كل منهم طامع في الاستئثار بالحكم، وظهرت نهضة فكرية عظيمة كان من أثرها أن أصبحت القلوب صالحة لقبول دعوة دينية جديدة، وصارت الديانة الوثنية موضع السخرية جهرا عند بعض المفكرين (راجع ص90 «من تاريخ اليهود في بلاد العرب بقلم ولفنسون»، والأغاني في ص40 جزء 14 وجزء 3 ص179).
يهود خيبر
جاء في كتاب «تاريخ الإسلام: تأليف عبد الوهاب النجار» أن خيبر مدينة تبعد عن «المدينة المنورة» نحو ميل في شمالها الغربي. كان سكانها من أشجع اليهود وأقواهم شوكة، كما كانوا من أشد الناس إيذاء لرسول الله، فكان سيدهم أبو رافع بن أبي الحقيق من ألد أعدائه
صلى الله عليه وسلم ، وكان هو وكعب بن الأشراف في إيذاء رسول الله كفرسي رهان. فلما استشرى شره أرسل رسول الله، عبد الله بن عتيك الخزرجي، فاحتال له واقتحم عليه حصنه وقتله بين ولده وأهله ليكفي رسول الله شره. ولما قتل أبو رافع ألقى اليهود بمقاليد الرياسة فيهم لأسير بن رزام. وقد قتل أصحاب الرسول «أسيرا» هذا لمحاولته الغدر: وكان ذلك في السنة السادسة من الهجرة.
ويقول الكتاب نفسه: «إن لليهود في كل زمان ومكان شهرة بالثروة ووفرة المال والكسب؛ لهذا رغب المخلفون من الأعراب الذين تخلفوا عن الحديبية أن يعرضوا أنفسهم على رسول الله يريدون الخروج معه لقتال أهل خيبر رجاء أن يصيبوا من متاع الحياة الدنيا ما يسد جشعهم، فقال رسول الله للمتخلفين: أن تخرجوا إلا رغبة في الجهاد. أما الغنيمة فلا أعطيكم منها شيئا. ثم سار الجيش «الإسلامي» حتى نزل على خيبر، والقوم «اليهود» غارون لا يعلمون بنزوله، وحاصرهم المسلمون وافتتحوها حصنا حصنا إلا حصنين منها. وقد أبلى علي بن أبي طالب وغيره من المسلمين بلاء حسنا، وقتل من المسلمين خمسة عشر رجلا، ومن اليهود ثلاثة وتسعون. وقد انتهى أمر من كانوا بالحصنين بالتسليم طالبين حقن دمائهم، وأن يخرجوا من أرض خيبر بذراريهم، ولا يصطحب الواحد منهم إلا ثوبا واحدا على ظهره، فأجابهم رسول الله إلى ذلك. وهذه عاقبة البغي الوبيل.
وبعد أن أتم الفتح رأى رسول الله أن يقر أهل خيبر في بلدهم ويترك الأرض في أيديهم يزرعونها بشطر ما يخرج منها؛ إذ قالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها، فصالحهم على ذلك وعلى أنه إذا شاء أخرجهم. وقد حدث أن بلالا استبى، فيمن استبى المسلمون في خيبر، امرأتين هما صفية بنت حيي بن أخطب وأخرى معها، فلما مر بهما على قتلى يهود صرخت المرأة وأعولت وحثت التراب على وجهها، فقال رسول الله: أغربوا عني هذه الشيطانة، وأخذ «صفية» خلف ظهره، فكانت «صفية» من المغنم، ولام بلالا على مروره بالمرأتين على قتلى قومهما وقال له: «نزعت منك الرحمة يا بلال؟ تمر بالمرأتين على قتلى قومهما!»»
نتائج غزوة خيبر
وقد استعقب فتح خيبر صلح يهود فدك وتيماء ووادي القرى، وانتهى الأمر ببقاء الأرض في أيدي سكانها بشطر ما يجتمع منها على نحو ما كان بخيبر، واختصاص رسول الله بملك أرض فنزلها، كما أن المسلمين قد أمنوا شر اليهود.
أي إنه كان من أثر غزوة خيبر القضاء على قوة اليهود الاقتصادية والسياسية والدينية في البلاد الحجازية، وانقطاع الخصومة بينهم وبين المسلمين. وبقي قليل من اليهود في مصر، وهم من بني قينقاع الحجاز، مطمئنين كما ورد في سيرة ابن هشام و«المغازي» للواقدي. ولعل مما ساعد على إقامتهم مهارتهم الصناعية والحسابية، وفي الجزء الثاني من تاريخ الخميس ص156، أنه لما توفي عبد الله بن أبي بكى عليه اليهود، ووقف النبي محمد على قبره وعزى ابنه وألبسه قميصه. ويقول البلاذري: إن الرسول صالح أهل مقنا اليهود وبني حبيبة «أو حنينة» على ربع عروكهم أخشبهم وغزولهم وربع كراعهم وثمارهم.
وعند الواقدي (ص271) أن عمر أجلى آل الحاراث أبي زينب المشهورين إلى أريحاء بأرض فلسطين. فأما الأسر التي كانت لها معاهدات مع الرسول فقد أقرها عمر وبقيت الأغلبية لليهود في وادي القرى إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وبقيت منهم طوائف تيماء في القرن الثاني عشر الميلادي. ثم انعدم وجودهم في الحجاز بهجرتهم وإسلامهم أو اندماجهم في الأعراب.
أما في بلاد اليمن وفي جهات مختلفة من الجزيرة العربية فلا تزال لهم طوائف إلى اليوم.
اليهود في اليمن
لم تعتمد الدعوة اليهودية الدينية في اليمن على العصبية اليهودية التي ظهرت في البلاد العربية الحجازية. بل إن سكانا في اليمن منهم ملوك حمير اتخذوا الموسوية دينا ثم انضم إليهم مهاجرون من يهود شمالي شبه الجزيرة العربية، نافرين من الرهبان المسيحيين والنجرانيين والحبشيين؛ لأنهم جميعا كانوا أداة في يد ملوك القسطنطينية لنشر النصرانية والقضاء على الموسوية، ويبدو أن الموسوية ظهرت في اليمن قليلا قبل المسيحية والإسلام، ثم زادت تبعا لانتشارها شيئا فشيئا في سوريا والبلاد العربية.
سيل العرم
يقول جلازر: إن منقوشات يمنية تدل على أن سيل العرم لم يحدث في مرة واحدة، بل في مرات عديدة، وأنه كان نتيجة إهمال شديد لهذا السد العظيم وليس نتيجة أحداث الطبيعة من الأمطار والسيول ونحوها، وهناك من ينكر وجود سيل العرم هذا.
أما سيل العرم الأول فقد حدث في 447 ميلادية، واستمر إلى 450، وكان من أثره هجرة الكثير من البطون الأزدية، وقبائل الأوس والخزرج إلى يثرب وحواليها.
يقول صاحب الأغاني في ص96 جزء 19: «فلما توجه الأوس والخزرج نزلوا في حرار ثم تفرقوا ...» ويقول السمهودي في خلاصة الوفاء ص83: «وقد وجد الأوس والخزرج الأموال والآطام بأيدي اليهود والعدد والقوة معهم، فتحالفوا وتعاملوا معهم، ولم يزالوا كذلك زمانا طويلا، وأثرت الأوس والخزرج.»
وقد لبثت البطون العربية عصورا طويلة على موالاة اليهود إلى أن أوعزت الدولة الرومانية إلى ملوك بني غسان بإثارة الفتن ضد اليهود، وعند العالمين فيلهاوزن وفوشتنفلد تعقيبا على «السمهودي» أن الكفاح بين النصرانية واليهودية في بلاد الحجاز كان عنيفا.
حروب اليهود قبل الإسلام
يشتهر بين اليهود، كاتب يهودي ملحوظ اسمه «فلافيوس جوزيفاس»، ولد في 37م، وزار روما في سنة 63م كمندوب إلى نيرو. وقد عين حاكما على الجليل حين نشبت الحرب مع روما، وبعد الهزيمة اعتقل ثم حارب مع الرومان عند القدس في عهد طيطوس في سنة 70م، وبعد أن منحه فسبيان لقب مواطن روماني مات في القرن الثاني. وقد رماه الألمان والناقدون بالتناقض والذبذبة ووهن الخلق. غير أن مواهبه ككاتب مؤرخ معترف بها، ومنذ أخرج كتابه «حروب اليهود» طبعت منه طبعات عديدة في الكثير من اللغات. والكتاب في سبعة كتب استغرقت 483 صفحة تحدث في الكتاب الأول عن ما حدث في المدة التي ابتدأت منذ استولى على القدس أنتيوكوس إيبيفانز إلى وفاة هيرود العظيم. وهي فترة من الزمن لبثت 160 سنة. أما الكتاب الثاني فيتحدث عن مدة التسع والستين سنة، التي تبدأ منذ وفاة هيرود إلى تولي فيسبيان، حين أوفده نيرو لإخضاع اليهود، أما الكتاب الثالث فيتناول مدة سنة تقريبا؛ أي منذ حضور فيسبيان لإخضاع اليهود إلى الاستيلاء على جامالا. أما الكتاب الرابع فيعرض عن مدة سنة تقريبا للفترة منذ حصار جامالا إلى حضور طيطوس لحصار القدس. أما الكتاب الخامس فيبسط ما حدث في فترة قدرها ستة أشهر؛ أي منذ حضور طيطوس إلى الحد الأدنى الذي أرغم عليه اليهود على النزول إليه، وأما الكتاب السادس فيتحدث عن شهر تقريبا منذ النزول إلى استيلاء طيطوس على القدس. أما الكتاب السابع فيتحدث عن ثلاث سنوات منذ الاستيلاء إلى فتنة اليهود في سيرين.
في عهد الدولة الإسلامية
كان من أثر اضطهاد المسيحيين - خاصة الدولة الرومانية - لليهود أن رحبوا بقيام الدولة الإسلامية خاصة في إسبانيا، على مقربة من أوروبا المسيحية الطاغية؛ لأن الحكومات الإسلامية قد جنحت إلى التسامح مع غير المسلمين، بل إن هذه الحكومات قد استخدمت من اليهود والنصارى الكثيرين، وظفروا بالمناصب العالية والنفوذ الواسع.
غير أنه في الإمبراطورية الكارلوفيجينية وفي إنجلترا وبعض إسبانيا المسيحية، كان اليهود يعاملون بشيء من العدل نظرا للحاجة إليهم في الشئون التجارية، التي وإن كانت تعد حرفة غير شريفة، غير أنها كانت أدعى إلى الكسب من مهنتي الجندية والدين، اللتين كانتا أشرف المهن يومئذ.
على أن تدهور الدولة الإسلامية في بغداد وقرطبة قد أفضى إلى اضطهاد الحكام الطغاة المسلمين خاصة غير العرب، لليهود وأمثالهم.
كذلك كان من أثر الحروب الصليبية، أن قام المسيحيون المتعصبون بالمذابح في أحياء اليهود؛ مما حملهم على وقف نشاطهم على الاشتغال بتسليف النقود والتجارة الصغيرة، خاصة حين شاع اتهام اليهود بأنهم يذبحون أولاد المسيحيين.
على أنه وسط الاضطهاد المشار إليه، كان هناك بين اليهود من يعدون أنفسهم أسمى وأرقى من جيرانهم من ناحية أنهم موحدون للإله، ومنكرون لكل عبادة للأصنام وما يماثلها، وأن دينهم يدعو إلى الأخوة والكرم والبر وإلغاء العبودية والتعليم العام والنظافة والطهر كغسل اليديد عند تناول الطعام، كما أنه كان بين الأمراء المسيحيين من لم يكن يعرف كتابة اسمه (راجع كتاب تاريخ اليهود تأليف بون جودمان ص105 وما قبلها وما بعدها).
وقد كان الكاهن أو القسيس اليهودي
Rabbi
يعلم الناس بالمجان، وكان المعبد اليهودي مدرسة، وهذا منذ كان واجبا تعلم التوراة، وكان ما يتناوله المعوز اليهودي لا يعد صدقة بل حقا، وكان اليهودي - مهما حقر مركزه - يعد ضيفا حين ينزل بدار يهودي آخر ليس بينهما تعارف، وكان اليهود يدفع بعضهم عن بعضهم الآخر الفدية إذا ما أسر أناس منهم.
وكان من جراء تقييد إقامة اليهود في حي واحد، أن أصبحوا داخل هذا الحي كالأسرة الواحدة، يعمل كل فرد منها لمصلحة أفرادها دون أن يحفلوا بالشئون العامة؛ إذ كان محرما عليهم التعرض لها والخوض فيها.
وكان لليهود داخل أحيائهم «فهر»، بضم فسكون، وهو موضع مدراس اليهود يجتمعون فيه للصلاة، قال أبو عبيد: هي كلمة نبطية أو عبرانية وأصلها بهر فعربت بالفاء.
وكان يهود الحبشة يسمون الفلاشة من كلمة فلاس الحبشية، ومعناها غريب، وعددهم بين 100 ألف و150 ألفا سمر البشرة إلى سواد في عزلة في قرى خاصة، وكان عليهم ملك سقط ملكه في سنة 1880م، وهم يدعون النسب إلى داود، ويحترفون الزراعة والنسيج والفخار والحدادة والبناء. وهم ذوو أنفة، لا يتزوجون من غير جنسهم، متدينون، يصومون يومين في الأسبوع وأربعين يوما قبل عيد الفصح، ويحافظون على يوم السبت، والحكم عندهم بثبوت زنا المرأة حكم عليها بأن تمشي عارية على نار مشبوبة.
الفصل الحادي عشر
تفوق اليهود في التجارة والمال واضطهادهم
ذكرنا قبلا أن اليهود سكنوا فلسطين حول 1100ق.م، وأنهم اتحدوا تحت لواء الملك داود، وهزموا السكان الأصليين في فلسطين، ثم قام بعده الملك سليمان الذي انتهى عهده حول 930ق.م، وأن سليمان قد بنى الهيكل، وأن دولتهم انقسمت بعده قسمين: مملكة إسرائيل، ومملكة يهوذا، وأن الأولى اندمجت في إمبراطورية آشور بين 721 و715ق.م، وأن الثانية دانت بالولاء لإمبراطورية آشور، وأنه في 588ق.م قام بختنصر ملك بابل التي حلت محل الإمبراطورية الآشورية، فضم مملكة يهوذا إلى مملكته ونهب القدس، ودمرها كما دمر الهيكل، ونفى اليهود إلى منطقة بابل في الفرات، ثم إنه في 536ق.م احتل قورش - مؤسس إمبراطورية الفرس - بابل، ورخص لليهود بالعودة إلى فلسطين، فعاد بعضهم دون البعض الآخر ورخص لهم في إعادة بناء الهيكل، ثم خضع اليهود بعد أكثر من قرنين لحكم البطالسة - خلفاء الإسكندر - وفي 63ق.م اكتسح الرومان القدس، وأصبح اليهود تحت حكم الدولة الرومانية إلى 70 ميلادية؛ إذ دمر «طيطوس» «بيت المقدس» محرقا الهيكل على أثر ثورة قام بها اليهود.
وعاد الرومانيون في سنة 135ق.م فدمروا «بيت المقدس» للمرة الأخيرة، وقد أقام الإمبراطور الروماني أدريانوس في مكان الهيكل اليهودي، هيكلا وثنيا باسم إلهة المشتري «جوبيتير» إلى أن قامت المسيحية، فدمر المسيحيون هذا الهيكل الروماني في عهد الإمبراطور قسطنطين ووالدته هيلانة، ولبثت فلسطين تحت الحكم الروماني إلى أن فتحها العرب المسلمون حين فتحوا الشام، فدخل عمر بن الخطاب «القدس» وتسلمها في 637م، من البطريرك الذي اشترط عدم الترخيص لليهود في دخول فلسطين.
تحت حكم العرب المسلمين كما قدمنا استمتع اليهود بالحرية، واتخذوا العربية لغة لهم، واتخذوا الأسماء العربية أسماء لهم، وكذلك عاشوا في كنف الدول الإسلامية من المماليك والترك وسلاطين استانبول، واستقر اليهود في مقدونيا وسالونيك، وفازوا بالمناصب العالية في الدولة العثمانية، وزادت هجرتهم إليها تبعا لما كانوا يلقونه من الاضطهاد في أوروبا الوسطى وروسيا.
ولقد كان من أثر تتلمذ اليهود للفينيقيين الملاحين التجار الجوابين الآفاق، ثم انتشار اليهود في بلاد العالم، واضطهاد المسيحيين لهم، وحرمانهم من الالتحاق بالمناصب الحكومية والاشتغال بالشئون العامة واحتراف الجندية، وتحديد أحياء لهم يعيشون فيها ولا يخرجون منها، واحتقارهم واستذلالهم - أن تخصصوا في شئون التجارة وإقراض المال، وأصبح لهم في هذا الميدان، مران ودربة، وحيل مبتكرة، واستكانة مصطنعة، أعدتهم لجمع الثروة، وشراء ذمم المضطهدين لهم، كذلك ألفت بين القلوب اليهودية فأصبحت قوة يخشى نفوذها، ويستنكر نشاطها. جاء في ص510 من كتاب تاريخ العالم تأليف و. ن. ويشر: أنه كان من أثر ازدهار التجارة على طول الطرق التجارية ابتداء من البندقية، أن طوائف الحرف قد فقدت نفوذها، وأن الرحالة قد أصبحوا نوعا من الفينيقيين المأجورين الذين ليس لديهم أدوات فنهم. ولم يعد لهم أي دخل في إدارة المدن، ومن ثم انحصرت السلطة والثروة في أيدي الثراة من ممثلي المقاطعات أمام مجلس الأمة؛ مما أدى إلى إحلال المجتمع القائم على النقود والمادة محل المجتمع الذي كان يقوم على استغلال الأرض، وأصبح المصرفي أهم من المالك، وكلما ضعف نفوذ الكنيسة نهضت مهنة المصرف؛ ذلك أن رجال الدين في القرون الوسطى كانوا يذهبون إلى أن الربا الفاحش وإقراض النقود بفائدة أمر مناقض للعقيدة المسيحية. ولما كان اليهود غير خاضعين لهذا القيد، فإن الصليبيين والطوائف قد فقدوا مركزهم كتجار، على حين أنه كان من أثر تفرق اليهود وحذقهم اللغات أن أصبحت مهنة إقراض النقود وقفا عليهم، ومن هنا نشأت كراهة اليهود؛ لأن الناس كرهوا أن يكون لليهود هذا الاحتكار، خاصة حين يكون الناس مدينين لهم، وأصبح يسيرا على الحكومات، حين تقع في ضائقة، أن تحرك الشعور الوطني ضد اليهود، الذين أصبح عنصرهم هدفا للاضطهاد الهمجي المستمر. ففي كل مدينة كان اليهود يرغمون على أن يسكنوا حيا خاصا، وأن يرتدوا زيا خاصا كان أحيانا مميزا بخيط أصفر اللون. وكان المسيحيون المتدينون يبصقون عليهم حين يلقونهم في الشوارع، وكان الأمراء المأزومون، يعمدون إلى سجنهم وتعذيبهم إلى أن يكشفوا مخابئ أموالهم. وعلى هذا كانت مهنة إقراض النقود مهنة خطرة، وحسبنا أن نذكر أن الفائدة قد بلغت، في خلال القرون الوسطى 40 في المائة، وأن البغضاء الدينية التي اقترنت بالغيرة المالية، قد لبثت إلى اليوم.
اضطهاد اليهود في ألمانيا
كان الاضطهاد الأول لليهود في ألمانيا، ولا سيما في بداية القرن الحادي عشر، خاصة حين انتقل قسيس مسيحي يدعى ويكلينوس إلى اليهودية، فقد كان من أثر هذا أن طرد الإمبراطور هنري الثاني اليهود من ماينس وغيرها، وأن أكره الكثيرين منهم على الانتماء إلى المسيحية. وقد دفع اليهود الأموال الكثيرة لوقف حركة الاضطهاد واستعادة دينهم.
واجتمع في شمال فرنسا 200 ألف صليبي اجتازوا بلاد الرين والدانوب ناشرين الرعب والفزع، ومقترفين ذبح اليهود الذين أبوا التخلي عن دينهم. وقيل: إن 11 ألف يهودي قد لقوا حتفهم في مدن الرين جزاء استمساكهم بعقيدتهم. وفي «وورمس» دفنت جثث 800 يهودي، كما أن 1300 ماتوا في «ماينس». وقد انتمى بعض اليهود إلى المسيحية فرارا من الموت، ولما وصل المسيحيون الصليبيون هؤلاء تحت قيادة جودفري دي بويون في طريقهم من أوروبا والمجر إلى بيت المقدس، توجوا اضطهادهم بأن وضعوا اليهود هناك في معبدهم وأحرقوهم أحياء في سنة 1099م. ومما يجدر بالذكر هنا أن الغوغاء هم معظم من اقترف هذه الفظائع والمناكر، وحسبنا أن نذكر أن الإمبراطور الألماني هنري الثاني، الذي كان في إيطاليا، غضب من المعتدين ورخص لليهود الذين أرغموا على تغيير دينهم بالرجوع إليه.
أما في الحرب الصليبية الثانية في سنة 1146م، فإن البابا يوجنيوس قد أصدر أمرا يقضي بأن كل مدين لليهود يعفى من دفع فائدة دينه متى أصبح في عداد المقاتلين الصليبيين، كذلك تعرضت أملاك اليهود للمصادرة في فرنسا وفاقا للأوامر التي أصدرها يومئذ لويس السابع ملك فرنسا.
واستمر اضطهاد اليهود في ألمانيا في أثناء الحرب الصليبية الثانية أيضا، ولولا تدخل الرجل الورع برنار كليرفو، لأبيدوا عن آخرهم، وقد لجأ بعض اليهود إلى قصر كبير أساقفة «هاينس» الذي كان أيضا رئيس وزارة الإمبراطور ومستشاره، وإن كان لم يحل دون فتك الغوغاء بهم في حضوره.
أما في الحرب الصليبية الثالثة التي أوحى بها البابا إنوستنت، فإن ما أعلنه قداسته من عدهم عبيدا دائمين؛ لأنهم قتلوا المسيح، قد شجع السلطات الرسمية في الكنيسة على معاملتهم في ازدراء.
ولما كانت أوروبا في القرن التاسع عشر تتنازعها الأهواء السياسية والاختلافات الدولية، نشأت بين هذه الحركات حركة موجهة ضد اليهود عرفت باسم «مناهضة السامية
Anti-Semitism ». وكانت الحركة في مبدئها تقوم على أساس كره اليهود الذي يرجع إلى القرون الخالية، ولكن زعماء هذه الحركة ألبسوها ثوبا عصريا، وزعموا أنهم يقصدون بها منع الأجناس السامية من التغلب على الأجناس الآرية، ووقف تدفق سيل الساميين من آسيا على أوروبا، ونادوا بأنها حركة غايتها إنقاذ المدنية الأوروبية من غارة الجاهلية الآسيوية!
وفي الحقيقة إن هذه الحركة كانت سياسية، فلن تجد منشأها في النزاع القديم بين أوروبا وآسيا أو في الصراع الطويل بين الكنيسة والهيكل - المسيحية واليهودية - ذلك الصراع الذي طالما سالت من أجله الدماء وأزهقت الأرواح في القرون الوسطى، وإنما كانت نتيجة تحرير اليهود في أواسط القرن التاسع عشر. فقد عاش اليهود آلاف السنين في أوروبا، ومع ذلك فما برح سواد الأوروبيين ينظرون إليهم نظرهم إلى أجانب دخلاء، ولا يقبلون اندماجهم في أوساطهم. ولعل السبب في ذلك أن اليهود حافظوا على قوميتهم، وقضوا السنين الطويلة معتكفين في أحيائهم لا يختلطون بالشعوب الأخرى، ولا يتزوجون من سواهم؛ فاحتفظوا بطابع خاص وصبغة خاصة. وكان حي اليهود «الجيتو» في كل مدينة شبه معزل لليهود أقامه المسيحيون حتى يقوا المسيحية شر «اليهودية»، ولكنه ما لبث أن أصبح مركزا انحصرت فيه الجهود المالية والسياسية والاجتماعية التي قضت على النظام الإقطاعي في أوروبا، فإن اليهودي الذي قضى السنين الطويلة في «الجيتو» مشردا غريبا عن بلاده، احتفظ بالتقاليد السامية وأضاف إليها النشاط الأوروبي. ولما كان محروما وفاقا لشرائع البلاد من دخول الجيش أو امتلاك الأرض أو تأليف الشركات التجارية فقد أصبح يشتغل بالمال ويكتنزه ويدخره. واضطهدته الكنيسة وضايقته الحكومة فأصبح داعية للمبادئ الديموقراطية، وأصبح شديد الحذر والحيطة، وتنبهت حواسه واشتد ذكاؤه وقوي جهاده ودهاؤه، ولما حرر من قيوده ورخص له في أن يغادر «حي اليهود» مستمتعا بحقوق المواطنين الآخرين برز من حيه مخلوقا جديدا فلم يعد ذلك اليهودي الشرقي، وإنما كان أوروبيا عصريا يمتاز عن الأوروبيين بدقة ذكائه وسعة حيلته.
ولما كان اليهود كلهم من طبقة واحدة هي الطبقة المتوسطة فقد توحدت جهودهم وقواهم في تلك الطبقة، وما لبثوا حتى أصبحوا في طليعتها ماليا وسياسيا واجتماعيا، خاصة في ألمانيا والنمسا، وظهر تفوقهم وتسلطوا على شئون البلاد، ونبغ منهم أفراد كثيرون، منهم لدويج بورنه وهنريك هينه وإدوارد جانز وكارل ماركس وموسى هيس. وقبض أغنياؤهم على الحركة المالية في البلاد، وتجلى النفوذ السامي في كل الدوائر. وهكذا بدأ القلق يساور النفوس، وشعر الألمانيون والنمسويون أنهم سيصبحون غرباء في ديارهم، وأنهم لن يطول بهم الوقت حتى يصبحوا عبيدا ويصبح اليهود سادة. وعلى الرغم من أن اليهود برزوا على مواطنيهم في ألمانيا في الكثير من الشئون فإنهم كانوا أكثر الناس محافظة على القانون وخضوعا للشرائع. ولم يترددوا في أن يبذلوا كل ما لديهم في سبيل رفعة ألمانيا التي اتخذوها وطنا ثانيا، حتى إن البرنس بسمارك نفسه اعترف بأن المال الذي حصلت عليه الحكومة للإنفاق على حرب سنة 1866م دفعه المالي اليهودي بليخرودر بعد أن رفضت الأسواق المالية تعضيد الحكومة الألمانية في سياستها الحربية. وقد حدث في 1870م عند توحيد ألمانيا بعد حرب السبعين أن تولى إدوارد لاسكر اليهودي زعامة حزب الأحرار الوطنيين، واشتد نفوذ اليهود واستولوا على معظم شئون البلاد المالية.
وكان الحقد على اليهود كامنا في النفوس ينتظر الفرصة لينفجر إلى أن سنحت الفرصة في سنة 1873م؛ إذ نشر صحفي صغير الشأن من هامبورج يدعى «ولهلم مار» رسالة دعاها «ديرسيج ديس يودنتوس أوبرداس جرمانتوم»؛ أي «انتصار اليهودية على الألمانية».
ولقيت هذه الرسالة أذهانا مهيأة لقبولها؛ فهاج الشعب ضد اليهود الماليين، وانفجر الغيظ المكظوم.
وحدث يومئذ أن بسمارك اختلف مع حزب الأحرار الوطنيين الذي يرأسه لاسكر اليهودي فأخذ يعضد هذه الحركة. ثم انحصرت زعامة الحركة في رجل يدعى «أدولف ستوكر» له نفوذ اجتماعي كبير وقوة خطابية وعزم من حديد، حتى إذا كانت سنة 1880م بلغت الحركة أشدها، وانتشر اضطهاد اليهود في كل مكان، وقوطعوا وأهينوا واعتدي عليهم، ورفعت العرائض إلى البرلمان الألماني بطلب حرمان اليهود من دخول المدارس والجامعات وعدم تعيينهم في وظائف الحكومة.
وعضد حزب المحافظين هذه الحركة مناوأة لحزب الأحرار الوطنيين الذي كان ينصر اليهود. ولم يخل اليهود يومئذ من أنصار بينهم ولي عهد ألمانيا «الإمبراطور فردريك بعد ذلك»، الذي صرح بأن هذه الحركة عار وفضيحة. ثم انتشرت فكرة اضطهاد اليهود بين طبقات الشعب الجاهلة، وثار العامة ضد اليهود، وأحرقوا معابدهم، وقتلوا منهم أشخاصا عديدين. وقبض في سانتن على جزار يهودي بتهمة أنه ذبح طفلا مسيحيا ليصنع الفطير بدمه، وحوكم فحكم ببراءته، ولكن ذلك لم يقنع العامة ببطلان هذه التهمة. وقام حزب الأحرار الوطنيين يدافع عن اليهود ويتهم حزب المحافظين بأنه يدير هذه الحركة. وقامت الاختلافات الشديدة بين الحزبين، وانتهى الأمر بتراجع حزب المحافظين وهدوء حركة العداء بين اليهود، حتى إذا كانت سنة 1893م خمدت تلك الحركة بعد أن أهاجت الرأي العام طويلا في نواحي أوروبا.
اضطهاد اليهود في روسيا
كان يهود روسيا يعيشون في أحيائهم مكدسين؛ إذ كان يعدهم الروسيون أجانب غرباء، وينظرون إليهم نظر الهنود إلى الأنجاس المنبوذين، ثم قامت حركة تحرير الفلاحين في روسيا، وكانت هذه الحركة صدمة قوية لأصحاب الأرض، فكان اليهود هم الفائزون في تلك الحركة؛ إذ لم يكونوا من أصحاب الأرض ولم يكونوا من الفلاحين، فاشتغلوا بالأعمال المالية ومضوا يقرضون الطرفين ونشطوا للاستفادة من أن يكونوا وسطاء بين الطرفين فقويت شوكتهم واشتد نفوذهم هنا وهناك. ثم كانت الحرب بين روسيا وتركيا، وشعر الشعب الروسي بأنه في حاجة إلى تعديل نظام الحكم في بلاده، وقام الفوضويون يبثون روح التذمر بين الفلاحين، وشعر القيصر إسكندر الثاني بخطورة الحالة فوقع مرسوما بمنح بلاده الدستور. ولكنه اغتيل قبل تنفيذ هذا المرسوم، وأبى خلفه أن ينفذ سياسة أبيه، وقويت عند ذاك أحزاب المعارضة وانتشرت مبادئها واشتد التذمر. وكان اليهود ينتهزون هذه الفرصة ليزيدوا نشاطهم المالي، وشعر الروسيون بأن اليهود يستولون على مال البلاد وينعمون به وهم في فقر مدقع، فبدأ الحقد يثمر ثمره. ثم انتشرت أخبار اضطهاد اليهود في ألمانيا، فنبهت الروسيين إلى ما لم يكونوا يدركون، وانفجر العداء ضد اليهود فجأة وعلى غير انتظار إثر مشاجرة في حانة خمر في «خرسون» حيث اشتبك بعض الروس في عراك مع بعض اليهود متهمين إياهم بأنهم يذبحون أطفال المسيحيين ليصنعوا من دمائهم الفطائر.
وثارت ثائرة المتشاجرين وقد أعماهم السكر فحطموا الحانة وانطلقوا ينهبون ويسلبون حي اليهود ويفتكون بهم فتكا ذريعا. وانتشرت الاضطرابات في سرعة في كل مكان، وانقض الأهلون في كل مدينة يقتحمون أحياء اليهود وينهبونها ويحرقون منازلهم. وبعد أسابيع كانت روسيا الغربية من البحر الأسود إلى بحر البلطيق شعلة نار مضطرمة ضد اليهود، وقد أحرقت مساكنهم ودمرت دورهم ونهبت ممتلكاتهم وسفكت دماؤهم. وذبح مئات من الرجال والأطفال اليهود، وهتكت أعراض المئات من اليهوديات، وأصبح الآلاف منهم لا يجدون مأوى ولا طعاما. وانتشرت المذابح والحرائق في أكثر من 167 مدينة وقرية بينها «وارسو» و«أودسا» و«كيف». وضجت أوروبا لهذه الفظائع، واتهمت الحكومة الروسية بأنها تؤيد هذه المذابح لتشغل الناس عن دعاية الفوضويين وعن التذمر من الحكم القائم في البلاد. ومما لا شك فيه أن أولي الأمر الحربيين والملكيين في روسيا كانوا يؤيدون هذه الحركة ولا يتخذون أي إجراء لإخمادها ومقاومتها. ومع أن القيصر أبدى في أول الأمر استياءه من هذه الحركة إلا أنه ما لبث أن ارتاح لها تحت تأثير وزرائه، وأصدر مرسوما قيصريا يقضي بوقف تدخل اليهود في شئون البلاد، وإرغامهم على أن يقيموا في أحيائهم لا يغادرونها ولا يشتركون في الشئون العامة، فكأنما قضى عليهم بالاعتقال الأبدي وحرمهم من كل الحقوق المدنية. وكان تأثير هذا المرسوم شديدا في الممالك الأخرى؛ إذ دل على قسوة لا مبرر لها، واحتجت دول أوروبا وأرسلت الحكومة الإنجليزية نداء إلى القيصر تناشده فيه أن يكف عن اضطهاد اليهود، فكان جوابه: «لا أريد أن أسمع شيئا عن هذا الشعب.» وكان من أثر هذا القانون القيصري أن شلت الحركة التجارية والمالية في البلاد، خاصة وقد هاجر من روسيا 78 ألف يهودي، وحملوا معهم ما قدرت قيمته بنحو 60 مليون روبل من أموالهم. ولما انتهت هذه الاضطرابات في سنة 1882م تبين من الإحصائيات أنها كلفت روسيا أكثر مما كلفتها حربها مع تركيا في سنة 1877م؛ فقد وقفت حركة التجارة وأفلست بنوك عديدة، ونقلت أموال جمة إلى مصارف أجنبية، ونزلت أسعار الأوراق المالية الروسية. ومع ذلك فإن الحكومة الروسية مضت في سياستها التي تقضي بالقضاء على اليهود؛ فغادر روسيا العدد الكبير من اليهود، واستمرت هذه الاضطهادات ثلاث سنوات إلى أن مات القيصر فكان خلفه أقل صرامة، وقد تعبت البلاد من تلك الحوادث الدموية فخفت تلك الاضطهادات.
اضطهاد اليهود في إنجلترا
وحين حكم السكسون إنجلترا، كان عدد اليهود قليلا، وكانت حرفتهم التجارة وقد زادوا مع وصول وليم الظافر في 1070م، وأقاموا في لندن «في أولد جوري شيبسايد»، وفي أكسفورد وغيرهما، وقد استمتع يهود فرنسا المهاجرون إلى إنجلترا بشيء من الحرية ورغادة العيش.
غير أنه قد كدر صفو عيشهم ما اتهموا به في عهد حكم ستيفين، بأنهم قتلوا في «نوريش» صبيا مسيحيا في 1144م، وكان هذا هو الاتهام الأول من هذا القبيل في العالم، وقد تبعه في إنجلترا اتهامان آخران على غراره.
ولئن كانوا قد استمتعوا في عهد هنري الثاني بشيء من الحرية والسلام، غير أنه قد حدث أن أشاع الغوغاء في إنجلترا حين احتفل بتتويج الملك ريتشارد قلب الأسد أن جلالته قد أمر بذبح اليهود. فسرعان ما كانوا فريسة السلب والنهب، وكانت دورهم عرضة للحريق والدمار، وزاد هذا حين خرج الملك في الحرب الصليبية. وقد حدث في «يورك» أن أحد الرهبان كان بين محاصري قلعة لجأ إليها اليهود، قد رماه أحد هؤلاء بحجر فثار ثائر المحاصرين للقلعة، واضطر اليهود أن يقتلوا أنفسهم بأيديهم، فقد ذبح رئيسهم «جوس» زوجه وأولاده، وذبح الكاهن اليهودي بوم توساس جويني-جوس ثم قتل نفسه. وقد حبس الملك جون جميع اليهود وصادر أموالهم.
الاضطهاد في سائر البلاد الأوروبية
ولم تظهر الحركة ضد السامية في مثل هذا المظهر العنيف إلا في رومانيا، فقد كان اليهود يعيشون في غبطة وسعادة في أيام الحكم التركي، فلما حررت رومانيا قام الرومانيون يضطهدون اليهود، وقام زعماؤهم يدعون لإعلان الحرب الدينية ضدهم، وصدر قانون يجعلهم من الأجانب على الرغم من إقامتهم القرون الطويلة في البلاد، وقام الأهلون في 1900م يضطهدونهم اضطهادا شنيعا وينهبون دورهم، وشرع اليهود يهاجرون من رومانيا ويفرون منها زرافات ووحدانا.
أما في النمسا فقد بدأت حركة اضطهاد اليهود في الوقت الذي بدأت فيه في روسيا وألمانيا. وكان مبدأها أن فتاة مسيحية تدعى «إسترسوبيموس» اختفت من قريتها في المجر في أبريل 1882م، وأشيع أن اليهود اختطفوها وذبحوها، فثار الأهلون وقبض على خمسة عشر يهوديا أودعوا السجن، ودبرت محاكمتهم تدبيرا، وجيء بشهود يشهدون زورا، وقبض البوليس على ابن أحد المتهمين وهو غلام في الرابعة من عمره وما زال يعذبه حتى حمله على أن يقرر أن أباه ذبح الفتاة. وبدأت المحاكمة في 19 يونية. وكانت من أشهر المحاكمات التاريخية، واستمرت إلى 3 أغسطس؛ فانكشفت في أثنائها مؤامرة البوليس، وافتضح أمره، وحكمت المحكمة ببراءة المتهمين جميعا. ومع أن هذه أخمدت حركة العداء ضد اليهود إلا أن المحرضين الألمانيين لم يدخروا وسعا في إثارة خواطر العامة في بلاد النمسا ضد اليهود، فاستمر اضطهادهم طويلا، ولم تخف وطأة هذا الاضطهاد إلا في سنة 1907م.
وقد حدث في 1518م أن أنشأت الحكومة النمسوية «محاكم لليهود»، وأخيرا طردتهم من فينا منذ 1670م، حين حولت معبدهم إلى كنيسة، وفي 1740-1780م طردت «ماريا تريزا» اليهود من بوهيميا، وفي 1750م أمرت بأن يضع اليهود الذين من غير لحية رباطا أصفر على ذراعهم الأيسر، كما قيد نشاطهم التجاري؛ من ذلك أنه قد حظر عليهم في براج أن يشتروا الأغذية من الأسواق قبل ساعة معينة، والخضر قبل الساعة التاسعة، والماشية قبل الساعة 11، والسمك في أيام معينة، كذلك ضوعفت عليهم الضرائب. غير أن جوزيف الثاني 1780-1790م ألغى كثيرا من هذه القيود، ومن ذلك الزي الخاص بهم، وضريبة ال
، ورخص لهم بالخدمة العسكرية، ولأولادهم بالالتحاق بمدارس الدولة، بما أصدره من لائحة التحرير في 1782م، ولكن هذا التسامح لم يستمر بعد جوزيف الثاني، فقد زاد القيود فرنسيس الثاني 1793-1835م؛ فحرم عليهم الزراعة، واستعاد مؤتمر فينا في 1815م طبع اليهود بطابع يغاير المواطنين، على أنه في 1846م ألغي اليمين الخاص باليهود، وفي 1848م زاد تحريرهم لاشتراكهم في الحركة الثورية الديموقراطية، فقد اعترف دستور 1849م بحرية الاعتقاد الديني بعد أن علا العرش فرنسيس جوزيف الأول 1848م. على أن القيود قد أعيدت في 1855م، حين علا نفوذ رجال الدين في النمسا في كونكوردا 1855م، وفي 1875م ألغيت جميع الفوارق بين الأديان، فأصبح اليهود أعضاء في مجلس الريشرات وفي مناصب الجنرالية والتعليم والفن، فبرز منهم يوليو وحللنيك وكاوفمان وكومبرت وفرانسوس وفرانكل وموسكتلز وهوسينال والممثل سونيتال والحسابي أثيبترز ولاعب الشطرنج شتاينتز. وقد فرض قانون 1875م على كل يهودي أن يكون عضوا في جمعية المركز الذين يقيمون به، ويكون للجمعية حق فرض ضريبة عليه. وكذلك في ألمانيا، ولليهودي أن يقدم تقريرا عن حالة فقره لكي يعفى من ضريبتها.
ولئن كانت فرنسا لم تتأثر بالدعاية ضد السامية كثيرا على الرغم من أن كل الظروف الاجتماعية والسياسية التي أثارت الألمان على اليهود كانت متوافرة فيها، إلا أنه قد ظهرت حركة الاضطهاد في سنة 1882م حين خرج من خدمة آل روتشيلد وكيل أعمالهم «بول بونتو»، فسعى لتحطيم ذلك البيت المالي الكبير، وأخذ ينشر الدعاية ضد اليهود، وكان لنفوذه الكبير أثره في إثارة الخواطر، وزاد في ذلك الكتاب الذي نشره «إدوارد درومون» في سنة 1886م، وعنوانه «فرنسا اليهودية»، وطعن فيه اليهود طعنا شديدا، وذكر عنهم فضائح شنيعة، وانتشر ذلك الكتاب انتشارا واسعا، ثم أصدر درومون جريدة اسمها «الكلمة الحرة» وقفها على الدعاية ضد اليهود فراجت رواجا شديدا، ثم كانت سنة 1892 عندما ظهرت فضيحة قتال باناما وانكشف ما كان في مشروع القنال من اختلاسات وسرقات شملت بعض اليهود؛ فانفجر الغضب الكامن، ثم اتسعت الحركة في الأوساط العسكرية حين قبض في سنة 1894م على ضابط يهودي يدعى «الكابتن ألفريد دريفوس»، وحوكم بتهمة الخيانة العظمى، فكان ذلك أساسا لاشتداد الحملات ضد اليهود، خصوصا بعد أن حكم بتجريد «دريفوس» من رتبته ونياشينه وبسجنه مؤبدا. ولما كانت أسرة دريفوس ذات مكانة ونفوذ واثقة من براءة ولدها، سعت دون تراخ في إثبات براءته، وعلى الرغم من ظهور الأدلة القاطعة ببراءته فإن وزارة الحربية صممت على عده مجرما، وأخيرا أعيدت محاكمته، ولكن حكم عليه مرة أخرى بالإدانة فكان لذلك الحكم وقع سيئ في نواحي أوروبا؛ مما أدى إلى أن الحكومة الفرنسية تداركت الأمر مشيرة على رئيس الجمهورية بالعفو عن «دريفوس » فتم ذلك.
وأعيدت إلى «دريفوس» رتبته العسكرية، ومنح وسام جوقة الشرف، وعوض عن الإساءات التي أسيء إليه بها، وكان ختام هذه القضية ختاما لاضطهاد اليهود في فرنسا.
إحصاء عدد اليهود
في مستهل القرن الحالي كان عدد اليهود 11 مليونا، وبعد ثلاثين عاما 16 مليونا، وأخيرا 20 مليونا. والعدد في كل هذه الإحصاءات تقريبي وبعيد عن الدقة. ولقد كان في روسيا قبل حرب 1914-1918م خمسة ملايين ونصف، وفي أمريكا ثلاثة ملايين، وفي ألمانيا مليون، وفي النمسا والمجر مليونان ونصف، وفي تركيا وفلسطين القديمة 600 ألف، وفي مصر 50 ألفا، وفي فلسطين وحدها 80 ألفا، وفي لندن 200 ألف. وفي البلاد البريطانية أقل من هذا. وفي فرنسا 200 ألف، ورومانيا 400 ألف، وبولندا أكثر من ذلك، وفي مراكش 150 ألفا، وفي إيطاليا 70 ألفا، وطرابلس 25 ألفا، والتركستان وأفغانستان 15 ألفا، والمكسيك 10 آلاف، وفي بلاد أخرى يتراوح العدد بين 50 و1000. هذا؛ وقد أنقصت المذابح النازية عدد اليهود كثيرا.
اليهود في أمريكا
بدأت إقامة اليهود في أمريكا في القرن السادس عشر، في البرازيل بعد الاحتلال الهولندي الذي استمتعوا في ظله بالحقوق المدنية كلها. أما في المكسيك وبيرو فقد كانوا ضحية الاضطهاد والتفتيش. وفي سيورينام كانوا يعاملون معاملة البريطانيين. وقد أقاموا في باربادوس وجامايكا ونيويورك منذ القرن السابع عشر. أما في حرب استقلال أمريكا، فقد كانوا بارزين مع الجانبين، منذ أن اكتسبوا الثروة والمكانة الاجتماعية تحت ظل الحكم البريطاني في أمريكا. وبعد أن تم الاعتراف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، انتشروا في أنحاء أمريكا كلها مستمتعين بوسائل التحرير، وزاد عددهم على أثر تزايد هجرة يهود روسيا، وقد فازوا بالمناصب العامة الكبيرة. وكان من أسباب نهضة اليهود في أمريكا اجتماع ربابنتهم واتحاد كلمتهم في مؤتمر في سينسيناتي، وفي 1908م تم إنشاء جمعية «الجالية اليهودية في نيويورك»، وكان لهم أربعة أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي، و30 نائبا في مجلس النواب، وعين كثيرون في المناصب الديبلوماسية، وعين مستر أ. س. ستاروس وزيرا، وآخرون في مناصب التدريس في الجامعات وفي القضاء، وغزوا ميادين الفن والأدب والصناعة والتجارة. وكان جاكوب «شريف» اليهودي من أكبر المحسنين والأجواد اليهود. هذا وقد أنشئوا في أمريكا كليات جراتز ودرويسي. وقد بذلوا أقصى المعونة لإخوانهم اليهود الذين كانوا مضطهدين في روسيا وغيرها في البلاد الأوروبية.
تحرير اليهود في أوروبا
كان حضور اليهود في إنجلترا معاصرين للغزو النورماني، فقد طردوا من بيري سانت إدموندز في 1190م بعد مذابح تتويج ريتشارد الأول، وطلب إليهم أن يرتدوا
Badges
1218م، وفي نهاية القرن الثاني عشر أنشئ منصب «مدير خزينة اليهود»، فيما يتصل بالقضايا المتعلقة بتسليف النقود، وفيما ينظم استمرار تدفق نقود اليهود إلى الخزينة الملكية، وقد دعي ما أسمي «برلمان اليهود». في 1241 وفي 1275م صدرت لائحة لليهود نص فيها على الترخيص لليهود بملكية الأراضي، ولما كانت اللائحة حرمت على اليهود مزاولة الشئون المالية التي كانت الوحيدة المفتوحة أمامهم كان الترخيص المذكور صوريا لا نتيجة له، بل كان مقدمة لطردهم في 1290م، وبقي منهم قليلون، واستوطن الكثيرون أمريكا ونفعوا التجارة البريطانية.
وقد كان مؤتمر
Whitehall
في 1655 نقطة التحول في حالة اليهود، فلئن كان المؤتمر لم يصدر قرارات منتجة، إلا أن القضاة قد قرروا أنه ليس ثمة عقبة تحول دون عودة اليهود إلى إنجلترا، ثم إن تشارلس الثاني قد تابع سياسة التسامح التي كان يجري عليها كرومويل. على أنه لم تتخذ أية خطوة جدية لتحرير اليهود إلى أن جاء قانون 1753م. وفي 1830م أصدر روبرت جرانت أول قانون في سبيل التحرير. وفي 1858-1860م حصل اليهود على جمعية الحقوق البرلمانية. وفتح لليهود باب وظيفة
Sheriff
أو محافظ المدينة في 1837م، وقد منح موسى مونتيفيور، شريف لندن، رتبة الشرف في 1837م، ومنح سير أ. ل. جولد سميد بارونا في 1841م، وانتخب البارون ليونيل دي روتشيلد عضوا في البرلمان في 1847م، ولو أنه لم يستطع أن يؤدي مهمته، وأصبح الدرمان «سير دافيد» سالومونر لورد مايور لندن؛ أي محافظ لندن
1
في 1855م، وفرنسيس جولد سميد سيرا في 1858م، وفي 1873م عين سير جورج جيسيل قاضيا. وكان لورد روتشيلد أول لورد يهودي في مجلس اللوردات في 1886م، هذا وقد انتخب عدد من اليهود نوابا وعين المستر هربرت صمويل وزيرا في 1909م، وسير ماثيوناتان حاكما لهونج كونج وناتال، وسير جولياس فوجيل وف. ل. سولومون رأسا الوزارة في المستعمرات. ويستمتع اليهود في المستعمرات البريطانية بحقوق المواطن. بل إن المستعمرات حررت اليهود قبل أمها إنجلترا. واستوطن اليهود كثيرا فيها منذ عهد وولف، ومنذ 1832م خولوا الجلوس في البرلمان الكندي، ولهم في كندا مزارع.
أما أستراليا فقد رحبت بهم، وفي سيدني أقدم جمعية للجالية اليهودية في سنة 1817. وفي ملبورن في 1844، وفي 1870م ألغيت كل القيود عن اليهود في أكسفورد وكامبردج، وأصبحوا ينتخبون للأستاذية ومناصب الجامعتين.
وفي سنة 1841م، أنشئت جمعية إصلاحية مستقلة، وكان «الحاخام» رئيسا لجماعة اليهود في إسبانيا والبرتغال. وفي سنة 1870م كان للحاخام الأكبر السلطة الاسمية على يهود الأقاليم والكنائس والطقوس اليهودية، وهو رئيس ديني للمعابد المتحدة، وقد أنشئ منصبها في 1870م وهي جماعة العاصمة، وكذلك لاتحاد المعابد، وتشترك الجمعيات اليهودية الإقليمية في انتخاب الحاخام الأكبر. وفي 1909م عقد أول مؤتمر من اليهود في لندن، وكان أعضاؤه من الأغنياء أصحاب المنشآت التعليمية، وتألف مجلس لليهود في 1859م وكلية اليهود في 1855م، والجمعية التاريخية اليهودية في 1893م. وبرز بين اليهود الإنجليز س. ج. مونتيفور في العلوم الفلسفية والنظرية، وفي الأدب إسرائيل زانجويل وألفريد سوترو. وفي الفن س. هارت ور. أ. وس. ج. سولومون. وفي الموسيقى جولياس بنيديكت وفريدريك هايمين كووبين، واشترك أكثر من ألف يهودي إنجليزي ومن يهود المستعمرات في حرب جنوب أفريقيا، وقد كان من أثر هجرة يهود روسيا صدور قانون 1905م. أما ألمانيا فقد أنشئت فيها الجمعية اليهودية الألمانية في 1872م، وفي أمريكا أنشئت الجالية اليهودية في 1906م، كما أنشئت جمعيات واتحادات وهيئات يهودية أخرى في بلاد العالم كلها للنظر في الشئون اليهودية في خاصة طقوسهم ومعابدهم ومدارسهم ومنشآتهم الفنية وأحيائهم، مثل: الجمعية الاستعمارية اليهودية التي أنشأها البارون هيرش في الأرجنتين.
أما الحركة التي نهض بعبئها تيودور هيرزيل في 1895م فكانت ثمرة الحركة الأولى؛ حركة مناهضة السامية، وكان الغرض الذي يرمي إليه هذا الداعي إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ولكن أكثر اليهود لم يستجيبوا إلى هذه الدعوة، فلبث أنصارها قلة منهم مؤثرين أن يظلوا منتشرين بين الشعوب المختلفة.
هذا؛ وقد كانت كل دولة تتخذ مع رعاياها اليهود من التشريعات والنظم ما يتفق ونوع الحكم ووجهته؛ ففي فرنسا رخص بإنشاء الحلف اليهودي في 1860م، وفي إنجلتر بالجمعية الإنجليزية اليهودية في 1871م.
الفصل الثاني عشر
ميلاد الوطن القومي اليهودي
ذكرنا أن إبراهيم بن تارح، الذي ولد بعد الطوفان هو رأس العبرانيين أو مؤسس اليهودية والعبرية. وعند بعض المؤرخين
1
أن إبراهيم هذا قد ولد بعد الطوفان بنحو 200 سنة في بلاد الكلدانيين الواقعة في جنوبي مملكة آشور وكانت تابعة لها، وأن الكلدانيين كانوا أهل معرفة وفنون، وعلى حظ من علوم الهيئة والنجوم، وكانوا يعبدون الأوثان، ويسجدون للشمس والقمر والنجوم. أما إبراهيم فكان يعبد الإله الحقيقي، وكان يرعى الغنم إلى أن مات أبوه، فأمره الله أن يخرج إلى أرض كنعان «فلسطين الآن»، ووعده ربه أن تكون كنعان ملكا لذريته، فأطاع إبراهيم ربه، وذهب مع زوجته سارة وخدمه وماشيته متنقلين من مكان إلى آخر، ثم رزق بإسماعيل من هاجر، وبإسحاق من زوجته الثانية سارة، ويقال: إن إبراهيم مات حين كانت سنه 175 سنة، وكانت وفاته في حبرون، «وهي الآن الخليل»، ودفن بجانب زوجته سارة في مغارة المكفيلة، التي يزورها الناس إلى الآن.
وقد ولد لإسحاق: عيسو ويعقوب، الذي رزقه الله 12 ولدا، وهم: راوبين، وشمعون، ولاوي، ودان، ويهوذا، ونفتالي، وجاد، وأشير، وبساخر، وزبلون، ويوسف، وبنيامين. ومن هؤلاء تسلسلت أسباط بني إسرائيل الاثنا عشر. أما يوسف - صاحب القصة المعروفة - فقد باعه إخوته للإسماعيليين، الذين أخذوه إلى مصر وباعوه عبدا في سنة 1729ق.م. وبعد أن عاش 14 سنة عبدا أسيرا، تقدم في باب الفرعون تحوتميس الثالث أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة. وكان من أثر تقدمه هذا، أنه استطاع أن يقي أباه وإخوته خطر الموت جوعا. وفي سنة 1706ق.م ذهب أبوه مع أولاده إلى مصر، وأقاموا فيها مع يوسف، وتكاثروا حتى أصبحوا أمة . أما يعقوب فقد مات في سنة 1689ق.م. وأما يوسف فقد مات في سنة 1635ق.م. وبعد وفاة الفرعون المشار إليه، خلفه آخرون تنكروا للإسرائيليين وعدوهم عبيدا، بل إن أحد الفراعنة قد أمر بأن كل ولد ذكر يولد لهم، يلقى حالا في النيل، لكي ينتهي مصيرهم إلى الفناء التام، خشية كثرتهم ونفوذهم.
وعندنا أن هذا هو عهد الاضطهاد الأول لليهود، ذلك الاضطهاد الذي اتخذ منذ يومئذ وفي فترات مختلفة من التاريخ صورا عديدة، لا تزال آثارها باقية إلى اليوم.
حدث بعد هذا أن ولد «موسى»، وأن ألقته أمه في تابوت، بين شجر الحلفاء على حافة النيل، وأن ابنة فرعون رأت التابوت هناك، وأخرجت منه الطفل «موسى» وأن أحضرت له مرضعا، اتفق أنها كانت والدة موسى، الذي تعلم في بيت فرعون علوم المصريين، ثم أوحى الله إلى موسى وأخيه هارون بأن يطلبا من فرعون إطلاق الإسرائيليين من الأسر، وعندنا أن هذا هو عهد الأسر الأول كما كان عهد الاضطهاد الأول لليهود. وقد أبدى موسى من معجزات النبوة أمام فرعون ما جعل هذا يستجيب إلى النداء، فيطلق للإسرائيليين حريتهم، بعد أن أقاموا في مصر 215 سنة، فخرجوا في عدد غير معروف قدره بعض المؤرخين
2
بمليونين ونصف المليون، وهو رقم يبدو كبيرا، وكان خروجهم في عهد الفرعون منفطا من الأسرة التاسعة عشرة، وكان عمر موسى يومئذ 80 سنة، ويقول موسى وبولس بأن مدة إقامة اليهود في مصر بلغت 430 سنة، وهي تشمل 25 سنة منذ وصل إبراهيم إلى بلاد كنعان إلى ولادة ابنه إسحاق، و60 سنة منذ ولادة إسحاق إلى ولادة يعقوب، و130 سنة منذ ولادة يعقوب إلى نزوله في مصر، و215 مدة إقامتهم في مصر. وثمة روايات أخرى عن مدة إقامة اليهود في مصر.
ولما أوحى الله إلى موسى بالخروج ببني إسرائيل، كان المراد من ذلك أن يذهبوا إلى أرض كنعان، التي وعد الله إبراهيم أن يجعلها ملكا لهم، لكن اليهود قد أغضبوا ربهم؛ إذ عادوا إلى عبادة الأصنام، فأهلك الله أكثرهم. ومنهم من ضل في صحراء سينا 40 سنة.
وقد مات موسى في سينا ولم يعرف قبره إلى الآن، ولم يدخل كنعان إلا يوشع بن نون وكالب بن يفنه من هؤلاء. ولكن دخلها أولادهم وأولاد أولادهم. وبعد موسى قاد يوشع بن نون الإسرائيليين إلى أرض الميعاد «فلسطين» التي قسمها على أسباط الإسرائليين الاثني عشر، وبعد موت يوشع ارتدوا إلى عبادة الأصنام، وقام بينهم قواد وزعماء عرفوا باسم «القضاة» يحكمون الشعب إلى أن قام الملك شاول الأول بعد أن بلغ عددهم 14 في مدة 310 سنين.
وكان بين هؤلاء القضاة شجعان، ظهر بينهم القاضي جدعون، وشمشون الجبار، الذي قيل: إن شعر رأسه كان يعطيه قوة تضاهي قوة مائة رجل، وأنه شق أسدا قسمين، وقتل يوما 30 رجلا. ولما ضاق اليهود بحكم القضاة لجئوا إلى النبي صموئيل، وكان يومئذ قاضيا وزعيما لهم، فاختار لهم شاول «شاءول» بن قيس، ومسحه ملكا عليهم، وهو أول ملوكهم، وكانت مدته 40 سنة، وكان مستقيما ثم عصى الله، وبعد موت شاءول اختار شعب يهوذا داود في سنة 1055ق.م، وبعده سليمان، ثم ابنه رحبعام في سنة 975ق.م. وفي عهده انقسم اليهود مملكتين: (1) الملك يوربعام بن ناباط، ومعه عشرة أسباط وعاصمته السامرة «أو سامر أو ساموريا»، ومملكتهم تدعى مملكة إسرائيل. و(2) رحبعام بن سليمان، ومعه سبطا يهوذا وبنيامين وعاصمته أورشليم، واقتتل الملكان، وزحف الفرعون شيشاق إلى أورشليم ناهبا الهيكل. أما مملكة رحبعام فقد أطلق عليها اسم مملكة يهوذا - كما أوضحنا قبلا.
وكان عدد ملوك إسرائيل 19 ومدتهم 250 سنة، وفي سنة 721ق.م حاصر شلمناصر - ملك آشور - «السامرة» وأسر الأسباط العشرة، وتلاشى أمرهم. وبقيت مملكة يهوذا وعدد ملوكها 19 من ذرية داود. وقد حدث أن ملكهم بهوياقيم أذعن لملك مصر ودفع الجزية، وأن زحف نبوخذ نصر «أو بختنصر» - ملك بابل - إلى أورشليم في سنة 606ق.م، وسبى جانبا من الإسرائيليين، وهذا هو السبي الأول. وبعد 80 سنة زحف في عهد الملك اليهودي يهواكين بن يهوياقيم وأسره مع بعض الإسرائيليين. فأقام المجلس مكانه ابنه هيرودس الكبير، الذي يقال: إنه قد أمر بقتل الأطفال في بيت لحم لكي يميت الطفل «عيسى» الذي أصبح عنوانا للديانة المسيحية.
الاشتراكية والوطن القومي
بعد أن نادى أحد أنصار كارل ماركس، «موسى هيس»، بأن المسألة اليهودية سوف تحل حين يتحقق البرنامج الاشتراكي، الذي يكفل الحرية للإنسانية كلها، عاد بعدئذ فذهب في 1862م في كتابه «روما وبيت المقدس» إلى أن الاشتراكية وحدها لن تضع حدا للمركز الضعيف الذي يشغله شعب لا وطن له، وأنه ينبغي الاعتراف لليهود بالقومية في أرض أجدادهم، تلك القومية التي اعترف بها للإيطاليين واليونان، خاصة بعد فتح قناة السويس.
جاء بعد هذا ربابنة وحاخامات أوروبا الشرقية، فحملوا الاتحاد الإسرائيلي العام الذي كان يسعى لتنوير أذهان اليهود على أن ينشئ مدرسة زراعية باسم «مجتمع إسرائيل» في فلسطين لإعداد الشبان اليهود للتحرير، وقد منحهم سلطان آل عثمان في 1870م قطعة من الأرض لهذا الغرض بجوار يافا. وفي الوقت ذاته أنشأت الهيئات الدينية الأمريكية في 1866م الكلية الأمريكية البروتستانتية، والهيئات الدينية الفرنسية في 1870م جامعة سان جوزيف الكاثوليكية، وذلك لتشجيع الحركة الوطنية العربية التي سارت إلى جنب الحركة اليهودية.
كان توافد اليهود المضطهدين المهاجرين من روسيا ورومانيا على فلسطين قليلا ومتقطعا. وقد هبطوا سهول شارون وتلال ساماريا والخليل. وقد أطلق على قراهم العديدة اسم باب الأمل والخطوة الأولى لصهيون والحجر الركني.
وقبل نشوب الحرب العالمية الأولى في 1914م، بلغ عدد القرى اليهودية، وكأنها الواحات المبعثرة في الصحراء الفلسطينية، 42 قرية. وكان البارون إدموند يمولها بالملايين من الجنيهات. هذا؛ وقد تألفت في أوروبا الشرقية، ثم الغربية، جمعيات محبي صهيون لإسكان يهود روسيا في فلسطين.
اهتمام الإنجليز بالتوراة في فلسطين
في 1890م طلب زعماء اليهود الإنجليز إلى الحكومة البريطانية أن يؤذن لليهود في الرجوع إلى الأرض المقدسة، وذلك حين برزت أهمية المصالح البريطانية في فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، منذ فتح قناة السويس والاحتلال البريطاني لمصر في 1882م؛ مما جعل لفلسطين مركزا عسكريا مهما. هذا إلى عناية البريطانيين بدراسة التوراة، والتنقيب عن آثار ماندا من الجهات التي وردت فيها، وقد فكرت إحدى الشركات البريطانية في مد خط حديدي بين آكر ودمشق. غير أن المشروع لم يكتب له التوفيق؛ إذ إن الحكومة التركية أعدت مشروعا أكبر لربط الحجاز حديديا بسوريا.
ثم تجدد الاهتمام بأمر عودة اليهود إلى فلسطين منذ أن تألفت في أوائل القرن التاسع عشر، جمعية إنجليزية مهمتها دراسة أرض التوراة، مما كان من أثره إعداد سلسلة من الكتب بدأت بشعر «دين ميلمان» عن سقوط «القدس» وتاريخ اليهود، وقد أصبح اليهود منذ يومئذ وكأن إنجلترا المتعطشة لقراء التوراة قد احتضنتهم أو حمتهم على مثال ما كان من ادعاء روسيا القيصرية يومئذ حماية المنتسبين إلى الكنيسة الأرثوذكسية، وفرنسا حيال اللاتين، وبروسيا حيال البروتستانت. كذلك كانت البعثات التبشيرية في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا تتسابق في إنشاء المدارس لأبناء لبنان وسوريا، وتضاعفت العناية بجعل التوراة غربية الطابع بعد أن كانت شرقيته. وقد ذهب اللورد شافتسبري «1801-1885م» من أقارب لورد بالمارستون - وزير الخارجية البريطانية يومئذ - إلى أن عودة بني إسرائيل إلى فلسطين ستكون قوة للسياسة البريطانية. وكان مما استند إليه اللورد شافتسبري في دعوته هذه، أنه سيتاح لأراضي فلسطين التي فشت فيها الفوضى والفقر وقل سكانها؛ الفوز بأموال اليهود، فتستصلح تربتها من غير أن يحمل أحد العبء عنهم، خاصة أن اليهود لا يحفلون بالشئون السياسية.
وهنا كتب اللورد بالمارستون إلى السفير البريطاني في استانبول، التي كانت مقر السلطنة التركية صاحبة السيادة على فلسطين يومئذ، يقول: إنه قد اتجه التفكير القوي بين يهود أوروبا المشتتين بأن الوقت قد حان لكي تعود الأمة اليهودية إلى فلسطين.
وكان بالمارستون يذهب مع الكثيرين إلى أن اليهود جميعا أغنياء. غير أن اليهود الإنجليز البارزين كانوا منصرفين يومئذ إلى التحرير المدني السياسي الذي كان يشغل بال الإنجليز في بلاد عرفت بالمحافظة وبالتدرج البطيء في الانتقال من طور إلى طور جديد.
ثم إنه قد ظهر بين يهود إنجلترا السير موسى مونتيفيور، الذي كان أول يهودي شغل منصب
Sheriff
لمدينة لندن، فزار الأراضي المقدسة في 1827م، وبعد عشر سنوات زارها للمرة الثانية، وفاوض إبراهيم باشا الذي كان واليا عليها في أن يأذن في أن يتاح لليهود أن يقيموا هناك. وقد كان عددهم في القدس أقل من خمسة آلاف. وكان مجموع سكانها 13 ألفا. أما في سائر فلسطين فقد كان عدد اليهود عشرة آلاف حين كان عدد العرب مائة ألف، وفي أواخر القرن التاسع عشر بلغ عدد العرب في الجزء الجنوبي 200 ألف.
على أن حملة إبراهيم باشا قد فتحت عيون العرب واليهود على مجدهم السابق، كما أعادت اهتمام الأوروبيين بالأراضي المقدسة بعد أن أهملوها منذ الحروب الصليبية.
بنيامين دزرائيلي
وقد حدث أن بنيامين دزرائيلي «اللورد بيكونسفيلد» - رئيس الوزارة البريطانية الأسبق - الذي كان من أصل يهودي، ودان للمسيحية، قد زار في منتصف القرن التاسع عشر فلسطين، وأمضى بها بضعة أسابيع في خلال رحلته الدراسية العامة لأوروبا والشرق الأدنى. وقد كان من أثر تأملاته في الأرض المقدسة أن ألف ثلاث قصص، وهي: «كونتاريني فليمينج» و«الروي» و«تانكرد». كذلك كان الرحالة المسيحيون الأوروبيون منذ القرن التاسع يرون أن فلسطين أرض موحشة، وأن القدس ذاتها - مع وفرة قصادها بأماكنها المقدسة - مدينة الأطلال.
وقد وصفها «كينجزليك» - الكاتب الإنجليزي - حين كان إبراهيم باشا واليا عليها بعد أن قطع دابر اللصوص، فقال: إن نهر الأردن هو الحد الفاصل بين الذين يسكنون تحت السقوف وبين عرب الخيام الجائلين.
وفي 1840م حين اتحدت إنجلترا وروسيا وبروسيا ضد إبراهيم باشا مطالبة إياه بالجلاء عن سوريا وفلسطين، حاول بعضهم إثارة مسألة حماية الأماكن المقدسة كجزء من المسألة الشرقية، غير أن روسيا عارضت في هذا، كما أن الاتحاد لم يتفق على الاقتراح؛ فعادت فلسطين إلى الحكم التركي بما كان عليه من الفوضى والمظالم.
وفي 1838م أنشأت إنجلترا قنصلية في القدس. وكان بين أغراض إنشائها حماية يهود أوروبا، واتفقت إنجلترا مع روسيا على إنشاء كنيسة في القدس، وكان اللذان شغلا منصبي القنصل والديانة مسيحيين يعرفان العبرية، وكان يراد من ذلك العمل على تنصير اليهود. ومن أجل هذا أوفدت كنيسة البريسبيتيريان في اسكتلندا بعثة في 1839م كان بين أعضائها بونارلو الذي كان أحد أجداد مستر بونارلو الوزير البريطاني المشهور. هذا؛ وعلى جدران الكنيسة الإنجليزية الأولى في القدس لا يزال مدونا الأوامر العشرة لمذهب ميمون.
ومما ذكره القنصل الإنجليزي عن يهود فلسطين يومئذ أن قيمة اليهودي لا تزيد على قيمة الكلب، وعلى هذا كان شيئا جديدا أن يطلب له العدالة. وكان بين اليهود 500 شحات تدفع لهم الجالية أسبوعيا 200 بارة. ثم إن القنصل بعد هذا نوه بما لحماية الإنجليز لليهود من الأثر في أصغر قرية أوروبية يسكنها اليهود، وأصبحت اللغة العبرية اللغة الشائعة التي يتخاطب بها يهود أوروبا والشرق، ومن أجل هذا عين القنصل مترجما للعبرية.
ثم إن حرب القرم أثارت عناية أوروبا بالأرض المقدسة، فقد أخذت ممالكها تتسابق إلى بناء المدن المقدسة والأديرة خارج المدن، وأخذت الأراضي تستصلح. وقد وضع القنصل الإنجليزي «جيمس فين» خطة لاستخدام اليهود في الزراعة، ولكنه أخفق في سعيه هذا.
محاولة لصياغة الصهيونية
ذكرنا قبلا أنه كان يسكن شاطئ أرض كنعان قوم يطلق عليهم اسم الفلسطينيين حين دخل أبناء إسرائيل بعد رحيلهم عن مصر، وعرفت عند اليهود منذ يومئذ باسم أرض إسرائيل. وقد وصفت بأنها أصغر الأقطار غير أنها كانت مجتمع الحضارة، والجسر الطبيعي بين نهر النيل والفرات، وبين أفريقيا والعالم الآسيوي الأوروبي.
ومنذ الحرب العالمية الأولى في سنة 1914م، قسمت فلسطين إداريا قسمين: القسم الأول الذي يقع غربي نهر الأردن، وهو الذي يسعى اليهود لكي يقيموا فيه وطنهم القومي. أما القسم الثاني الواقع على الجانب الآخر من الأردن، ويدعى الآن «إمارة شرق الأردن»، فكان يقيم به من الإسرائيليين قبيلتان إسرائيليتان ونصف القبيلة، وأرض هذا القسم صحراوية - وللرعي غالبا - وسكانه 400 ألف.
وفلسطين الحالية تشبه إقليم ويلز في إنجلترا، فمساحة كل منهما 10 آلاف ميل مربع، كما أن كلا منهما يتألف من ساحل وجبل. أما سكان فلسطين هذه فهم مليون ونصف المليون مع الزيادة المطردة عاما بعد عام. أما الجزء الخصب فهو يقع في السهل الساحلي ووادي أسدراليون من البحر إلى حيفا إلى الأردن، ووادي الأردن وسواحل بحيرة الجليل. وليس في الجبل ولا في الجزء الجنوبي المتاخم لشبه جزيرة سينا ما يصلح للزراعة.
قامت فلسطين بمهمة سامية منذ 4000 سنة؛ إذ كانت حلقة الاتصال بين حضارة إيجه والبحر المتوسط وبين حضارة الشرق، فإن فلسطين القديمة كانت معدودة جزءا من بلاد العرب كما كانت في الوقت ذاته جزءا من الشرق الأدنى
Levant .
أما ساحلها فقد كان منذ التاريخ البعيد مقسما بين الفلسطينيين الذين يبدو أنهم قدموا من الشمال أو أوروبا وبين الفينيقيين الذين قدموا من آسيا. وكان لها ثلاث ثغور هي غزة ويافا وآكر، التي كانت آخر ما وطئته أقدام الصليبيين. أما أورشليم «القدس الآن»، فإنها كانت - لجثومها على التلال اليهودية - بعيدة دائما عن طرق الجيوش والتجارة. أما الآن فقد أصبحت حيفا ثغرا لها؛ إذ تقع جنوبي خليج آكر. هذا؛ وإلى جوار يافا العربية، تقع المدينة العصرية ذات الطابع الأوروبي مدينة «تل أبيب»، وهي أحدث وأكبر مدينة فلسطينية، وهناك ميناء العقبة على البحر الأحمر متصلة بالشرق كما كانت على عهد الملك سليمان وفي القرون الوسطى.
ومنذ ألفي سنة حرم اليهود من دولة تحمل اسمهم وطابعهم لا في فلسطين ولا في سواها، غير أنهم لبثوا طوال هذه السنين يمنون النفس بالعودة إلى فلسطين كما يبدو هذا في صلواتهم وطقوسهم وأشعارهم. وكان بين الفينة والفينة يقوم من يدعي أنه المسيح المنقذ زاعما أنه سيقودهم إلى هذه الأرض.
وقد حدثت محاولات طفيفة أو مبهمة قصد منها إلى إحياء نوع من أنواع الحكم اليهودي، غير أن هذه الحركات لم تبلغ مداها إما لضعف القائمين بها أو قوة المناوئين لها، ولبث اليهود منتشرين في بلاد العالم، وكان يخصص لهم حيث يكثر عددهم ويقوى رابطتهم حي يسكنونه.
ولما استولى السلطان صلاح الدين الأيوبي على «فلسطين» سمح لبعض اليهود بالعودة لسكناها فقط دون إنشاء وطن أو دولة، فأقام بها من القرن الخامس عشر جماعات من المهاجرين اليهود المطرودين من إسبانيا وسكنوا في مدن القدس وحبرون وتيبريات وصفد في الجليل، وقد أنشئ بها مدارس. بل إنه في القرن السادس عشر استطاع «يوسف نازي» - من أكبر الأسر اليهودية في إسبانيا ومن الدبلوماسيين المقربين من الباب العالي التركي - ودوق ناكسوس، أن يزرعا قطعا من الأرض «الجليل». وكان على رأس السلطنة التركية يومئذ السلطان سليمان الملقب «بالقانوني» الذي أعاد بناء قلعة القدس وأسوارها وجدد هيكلها «حرمها».
غير أنه كان من أثر تدهور بلاد السلطنة العثمانية أن شمل الضعف فلسطين، فقل عدد يهودها وأصبحوا بضعة آلاف.
وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تجددت عناية فئتين دينيتين يهوديتين بأمر مدن فلسطين لا بزراعتها، فقد عمد أحد الحكماء اليهود في فلنا وأكبر رئيس ديني لليهود يومئذ إلى إنشاء نوع من
صهيون للإنفاق على المدارس في المدن المقدسة. كذلك تجمعت ثانية فئة من الأتقياء حول بحر الجليل، عاملين على مضاعفة المعابد، وجمعت الاكتتابات في المعابد اليهودية في أوروبا لإنشاء «مال الهلوكة» لمساعدة الطلبة على الإقامة في أربعة مدن فلسطينية. وكان هؤلاء، إلى صلاتهم وتعلمهم، يصنعون أشياء صغيرة، على أنهم كانوا فقراء جدا، يستندون أكف يهود أوروبا لمعونتهم، ويحرصون على اللغة العبرية. وكان الرحالة الأوروبيون المسيحيون الذين زاروا فلسطين يومئذ، يقولون: إن الله أراد أن يعاقب أبناء إسرائيل الحاليين بما جناه الأولون منهم.
وكانت الثورة الفرنسية وما تقدمها وما تلاها من المناداة بمبادئ الحرية والمساواة، نعمة على يهود أوروبا وبركة، فقد أتاحت لهم أن ينتفعوا بمواهبهم بعد أن لبثوا قرونا وهم في حكم المساجين داخل أحيائهم القذرة ومعابدهم الواهية.
ولم تكن وجهتهم حينئذ التفكير في إنشاء وطن أو دولة، بل كانوا يجاهدون في سبيل التحرير السياسي بأن يكون لهم ما لسائر السكان من الحقوق السياسية، وكانوا إلى هذا يفكرون في استصلاح مراكزهم الدينية في فلسطين بعد أن غمرتها الفوضى واشتدت بيهودها الضنك والذل. ثم امتدت هذه الحركة إلى دعوة اليهود بأن يعودوا إلى فلسطين وأن يستخلصوها.
وقد عمد نابليون بونابرت حين أراد غزو مصر والشرق في سنة 1799م إلى دعوة يهود أفريقيا وآسيا إلى استعادة وطن قومي لهم تحت حمايته في القدس. غير أن هذا الغرض لم يتحقق؛ لأن الجيش الفرنسي حمل على الجلاء بعد ثلاث سنوات، وزال حلم إقامة إمبراطورية فرنسية في الشرق.
وقد تبع هذا غزو محمد علي باشا الكبير للبلاد الفلسطينية والسورية بقيادة ابنه إبراهيم باشا الذي لبث واليا عليها سبع سنين، ثم كان من أثر تدخل الدول الأوروبية الكبرى، أن انجلت جنود محمد علي وإبراهيم عن فلسطين وسوريا ولم يوفقا في إنشاء إمبراطورية عربية.
كان هرزل ينادي بأن يكون الإسرائيليون أمة واحدة ذات وطن في فلسطين، وطن يمنح رسميا وتضمنه الدول. وتألف المؤتمر اليهودي من الجماهير اليهودية دون الكبراء، وجعل الحركة مشابهة لأعمدة الشمع السبعة في المعبد. وقابل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني والباب العالي في استنبول، ملتمسا منح امتياز بهذا الوطن، ولكن السلطان رفض هذا الطلب. وزار هرزل فلسطين مرة واحدة؛ وذلك لكي يقابل الإمبراطور الألماني الذي كان يزور السلطنة العثمانية التركية يومئذ.
تجاوب الصدى لنداء هرزل، في أحياء اليهود في المدن الأوروبية، ونهض لمؤازرته كتابهم كإسرائيل زانجويل الكاتب الإنجليزي اليهودي، واستجاب للدعوة اللورد روتشيلد الأول - كبير الماليين اليهود الإنجليز - وجوزيف تشمبرلين - وزير المستعمرات - الذي أذن بتفقد الجزء الشمالي من شبه جزيرة سينا حول العريش داخل الحدود المصرية لكي تكون وطنا صغيرا، غير أن عدم وجود الماء حال دون المضي في هذه الفكرة، وعلى أثر هذا عرضت عليهم قطعة من الأرض في أفريقيا الشرقية البريطانية لتكون لليهود مستعمرة مستقرة مستقلة، غير أن صهيونيي روسيا تمسكوا بأن يكون الوطن اليهودي في فلسطين دون سواها. وفي سنة 1904م مات هرزل متألما من هذا الانقسام، ومخاطبا ذلك المؤتمر بأن المسألة ليست حلما بل حقيقة.
وقد استمرت زيادة السكان اليهود ونمو التجارة في فلسطين منذ سنة 1904 إلى سنة 1914م حين أعلنت الحرب العالمية الأولى. وحسبنا أن نذكر أن يهود القدس كانوا يؤلفون أغلبية سكانها البالغ عددهم 30 ألفا في سنة 1911م، وزادت قيمة صادرات يافا من 250 ألف جنيه إنجليزي في سنة 1900 إلى 700 ألف في سنة 1911م، والواردات من 380 ألفا إلى مليون جنيه، والقضايا من 50 ألفا في سنة 1883م إلى مليونين في سنة 1923م، وكان 12 ألف يهودي يشتغلون في الزراعة وآخرون من يهود بخارى في الحرير، ومن اشتراكيي روسيا أنصار تولستوي كانوا يعملون بأيديهم وفنهم.
وفي سنة 1897م عقد المؤتمر الصهيوني الأول ممثلا خمسين جمعية. وقاومت الحكومة العثمانية الفكرة، ومنعت هجرتهم. وفي سنة 1895م ألف تيودور هرتسيل أو «هرزل» كتابه «الوطن اليهودي»، مقترحا أرضا في فلسطين أو في الأرجنتين لتكون وطنا لليهود؛ لأنهم شعب لا يمتزج بغيره ومضادتهم خطر على العالم. واقترح تأليف شركة يهودية صناعية استعمارية رأس مالها 50 مليون جنيه إنجليزي مركزها لندن، لكن يهود إنجلترا لم يعبئوا بدعوته. وكذلك قاومته جمعية زيوف في النمسا، كما قاومه رجال الدين اليهودي والمدنيون؛ لأن بعض رجال الحركة كانوا لا دينيين، وقال حاخامو اليهود: إن الصهيونية بعيدة عن اليهودية.
وبين سنة 1897 و1911م عقدت عشرة مؤتمرات؛ الأول: بازل في سويسرا في سنة 1897م، وقرر المؤتمر تعليم العبرية وإنشاء مدرسة لتعليمها ومدارس أخرى ولجنة للآداب العبرية، وإنشاء صندوق للتوفير وترقية الزراعة والتجارة، وتغذية الشعور اليهودي. وفتح الاكتتاب وجمع 400 ألف جنيه إنجليزي. وعقد المؤتمر الثاني في بازل في 1898م، واشترك فيه بعض المتدينين. والثالث في سنة 1899م في بازل. والرابع في كوينز هول في لندن في 1900م. وقد رفض السلطان عبد الحميد والباب العالي منح اليهود مشروع الامتياز والهجرة.
ولكن هرتسل ومعه داود ولفسون وأوسكار مارموزك في أيار سنة 1901م قابلوا عبد الحميد الذي منح هرتسيل المجيدي الأول. وفي كانون الأول سنة 1901م عقد المؤتمر الخامس، وقابل هرتسيل الإمبراطور غليوم الثاني في أثناء زيارته للقدس، وعرض على عبد الحميد 300 ألف قرش سنويا مقابل الحكم الذاتي لليهود.
واستمرت مشروعات اليهود في فلسطين في الخفاء. ثم إن هرتسيل قد عرض في مفاوضاته للورد كرومر - المعتمد البريطاني في مصر - استعمار شبه جزيرة سينا، وأرسل الفريقان في سنة 1903م بعثة ارتادت الأرض، لكن مصر رفضت إمداد سينا بالماء.
وفي 14 آب سنة 1904م عرض تشامبرلن - وزير الخارجية البريطانية - شرقي أفريقيا، ولكن المؤتمر السادس في بازل سنة 1903م رفض عرض أرض أفريقيا.
وفي سنة 1905م عقد المؤتمر السابع برياسة ماكس نوردو. وفي سنة 1911م استأنفت الجمعية الاستعمارية لفلسطين. وعقد المؤتمر العاشر في سنة 1913م والمؤتمر الحادي عشر في سنة 1914م، وحالت الحرب دون عقد المؤتمر الثاني عشر في 1915م.
ومما يذكر أن هولنكسورث الإنجليزي في سنة 1852م قد حض على إقامة حكومة يهودية لحماية طريق الهند، وأن السير موسى مونتفيوري طلب من محمد علي إسكان اليهود في فلسطين، وأن كاليشر في كتاب له قد تحدث عن استملاك أراضي فلسطين، وألفت الجمعية الأولى الاستعمارية في فرانكفورت في سنة 1861م وأسست المستعمرة اليهودية الأولى في دار عيون قارة في سنة 1874م.
لم يحاول اليهود مطلقا إخفاء ما يعنونه، فحين تحدث هرزل عن «الوطن القومي» كان يعني دولة ذات سيادة. أما بنستر فقد تحدث عن «الوطن» معرفا إياه «بأمة بين الأمم». وعلى هذا فإن «الحكم الثنائي» في فلسطين بين اليهود والعرب لم يكن في يوم ما هدف الحركة الصهيونية الحقيقية.
كتب لينارد شتاين يقول: «حين تحدث هرزل عن امتياز يمنحه السلطان عبد الحميد لليهود في فلسطين لم يكن قد دار بخلده كما هو ظاهر احتمال طرد العرب من فلسطين لإسكان اليهود، بل إنه لم يكد يشعر إذا حكمنا بما جاء في خطبه في المؤتمرات الصهيونية بأن في فلسطين سكانا، كما أنه - بسلامة طوية - حذف العرب تماما من حسابه.»
جاءت الحرب والصهيونية تستعد لتنفيذ برنامج استعماري واسع النطاق في فلسطين. وكان من أهم أركان هذا البرنامج إنشاء جامعة يهودية في القدس، وقد استعد البارون إدموند دي روتشيلد لشراء مساحات شاسعة لإقامة مستعمرات يهودية جديدة ... ولكن الحرب قضت على هذه الآمال كلها، وشطرت الحركة الصهيونية شطرين، فبينما كانت على أشدها في روسيا كان مركزها العصبي في برلين. وكان رصيدها المالي في البنوك البريطانية. وحاول الصهيونيون في مبدأ الأمر المحافظة على وحدة حركتهم الدولية؛ فافتتحوا لهم مركزا في كوبنهاجن بالدانمرك - وكانت محايدة - ولكن هذا لم يؤد إلى أية نتيجة؛ فاضطروا إلى التخلي عنه. وكان دخول تركيا الحرب عاملا مهما في هذا التنحي. فقد أعلنت تركيا الحرب على الحلفاء، وأصبحت معرضة لخطر الهزيمة، وبالتالي لفقدان جميع ممتلكاتها، ومنها فلسطين.
وعندما اختار زعماء الصهيونية إنجلترا ميدانا لنشاطهم، كان يدفعهم إلى ذلك الاختيار نجاح إنجلترا المدهش في سياستها الاستعمارية، وسمعتها الحسنة كدولة حرة، وكرمها مع اليهود.
واختاروا من الروس مسيو تشلينو من موسكو ومسيو ناحوم سوكولوف من فرصوفيا. وقد انضم إليهما في إنجلترا ثالث هو الدكتور حاييم وايزمان الذي لم يكن إنجليزي المولد، بل هو بولوني من جرودنو جاء إلى إنجلترا في سن الأربعين بعد أن عاش فترة من الزمن في سويسرا، وفيها عرف تروتسكي، وفي إنجلترا عمل كمحاضر للكيمياء في جامعة مانشستر، واكتسب الجنسية البريطانية، ثم بزغت شخصيته كخطيب، حتى إن مستر هورس صامويل كتب عنه يقول: إنه كان يخاطب كتيبة من الشبان اليهود المتطوعين في الجيش البريطاني في خلال سني الحرب الماضية، وكان المستمعون كلهم في قبضة يده، وعلى استعداد في أية لحظة للقفز إلى جيبه.
وقد شوهد خلال إحدى مآدب العشاء التي أقيمت في منزل اللادي آستور يجذب اللورد بلفور من يده ويجلسان وحدهما على إحدى الأرائك فترة تزيد على الساعة دون أن يشعر الرجلان بمن حولهما. ولقد كانت مثل هذه الساعات والجلسات هي التي أدت إلى وضع حجر أساسي للصهيونية السياسية في إنجلترا. إن الرجلين قد تعارفا قبل ذلك بإحدى عشرة سنة عندما تقدم بلفور «وكان يعرف باسم مستر بلفور» إلى الانتخابات عن دائرة مانشستر - مركز اليهود في الجزر البريطانية - وكان مدير حملته الانتخابية يهوديا يدعى مستر دريفوس، فانتهز الفرصة وسأله أن يدعو إليه من يستطيع إخباره بالأسباب التي حدت بالصهيون إلى رفض العرض البريطاني سنة 1903م بإسكان اليهود المهاجرين في شرق أفريقيا، وهو العرض الذي اقترح وقت أن كان بلفور رئيسا للوزارة البريطانية، فبعث دريفوس إليه بوايزمان.
وفي كتاب مسز داجديل - ابنة أخت اللورد بلفور - عن تاريخ حياته، وصفت المؤلفة هذه المقابلة فقالت: إن الانسجام التام بدأ يظهر منذ اللحظة الأولى، بين الرجلين المختلفي المزاج والظروف الاختلاف كله، ولم يكن الدكتور وايزمان قد ملك ناصية الإنجليزية السلسة الفياضة، ولكنه مع ذلك كسب السياسي الإنجليزي بفضل سرعة خاطره وقوة بديهته. ويتحدث وايزمان عن نفسه قائلا: بدأ العرق يتصبب على جبيني وكأنه قطرات الدم وأنا أحاول إيضاح ما أعنيه بإنجليزيتي العرجاء. وفي النهاية بذلت جهدا أخيرا وقلت: «يا مستر بلفور، لو عرضت عليك باريس بدلا من لندن أتقبلها؟! أتقبل باريس بدلا من لندن؟!» ... فحدق في مدهوشا ثم قال: «ولكن لندن بلدي.» فسارعت إلى القول: «إن بيت المقدس كانت بلدنا عندما كانت لندن مستنقعا.» وكان جوابه: «هذا صحيح.» وكتبت مسز داجديل عن نتيجة هذه المقابلة التي قالت: إن بلفور حدثها عنها بنفسه بعد سنوات فقال: «لقد أدركت من محادثتي هذه مع وايزمان أن الوطنية اليهودية فريدة في نوعها.»
أما المقابلة الثانية بين السياسي الإنجليزي والداهية الصهيوني فقد حدثت بعدئذ بثماني سنوات في شهر ديسمبر من سنة 1914م وبعد أن مرت على بدء الحرب أربعة شهور كاملة، وفي هذه السنين الثماني كان وايزمان قد اشتهر في مانشستر، وعرف مستر س. ب. سكوت - رئيس تحرير جريدة مانشستر جارديان - الذي ما لبث أن تعلق بالقضية الصهيونية حتى خصص أعمدة جريدته للدعاية لها والدفاع عنها.
وفي كتاب مسز داجديل عن حياة لورد بلفور، تتحدث عن مقابلة وايزمان لبلفور الثانية فتقول: إن وايزمان «وجد حديثه الأول مع بلفور منذ ثماني سنوات ما زال ماثلا في ذهن بلفور، فواصلاه في عبارات عامة لا تحديد فيها. ولكن قبل أن يفترقا تساءل بلفور هل كان يستطيع معاونة وايزمان في شيء ما، فقال هذا وهو يبتعد: «ليس والمدافع تزأر.» ثم قال: «عندما يتضح الموقف الحربي سآتي مرة أخرى.» فقال بلفور: «لا تنس أن تعود ... إنها لقضية عظيمة تلك التي تعمل من أجلها، وأود منك أن تعود مرة بعد أخرى».»
ولكن بلفور لم يكن يومئذ عضوا عاملا في الوزارة البريطانية على الرغم من كونه عضوا في وزارة الحرب، حين دخلت تركيا الحرب قدم وايزمان مقترحات عديدة عن وطن قومي لليهود في فلسطين تحت الحماية البريطانية، وقدم هذه المقترحات بتوصية من سكوت إلى سير هربرت صامويل ومستر لويد جورج. وفي سنة 1935م ألقى سير هربرت صامويل محاضرة في جمعية التاريخ الإسرائيلية في لندن ضمنها ما حدث من اتصال وايزمان به في سنة 1914م، وأنه اهتم بالمسألة اهتماما بالغا لسببين؛ أولهما: تأثره بشخصية وايزمان، والثاني: أنه لما كان هو أول عضو في الجالية اليهودية يعين عضوا في الوزارة البريطانية - باستثناء دزرائيلي الذي كان قد اعتنق المسيحية - شعر بأن من واجبه تأييد الحركة الصهيونية مع أنه لم يكن على اتصال بها. ثم قال سير هربرت في محاضرته: «وسرعان ما وصلت إلى نتيجة حاسمة هي أنه إذا كسب الحلفاء الحرب - كما كنا نأمل جميعا - فإن فلسطين يجب أن تفصل من الإمبراطورية التركية، وأن الفرصة يجب أن تنتهز لتسهيل إنشاء جالية يهودية عظيمة ذات استقلال ذاتي هناك، وأن يكون هذا تحت نوع من الحماية البريطانية.» ثم قال: إنه تحدث في نوفمبر سنة 1914م إلى سير إدوارد جراي - وزير الخارجية البريطانية - في الموضوع وقال له: «ربما تسنح الفرصة لتحقيق أمنية اليهود القديمة وإعادة إنشاء دولتهم هناك «في فلسطين».» واختتم سير هربرت صامويل محاضرته قائلا: «إن هذا كان نص المقترح الصهيوني.» على أن سير إدوارد جراي رد على زميله قائلا: إن الفكرة ظلت تجذبه مدة طويلة، وإن العامل التاريخي فيها قوي، وإنه يحبذ المقترح بكل قواه، وهو على استعداد للعمل من أجله، حين تحين الفرصة الملائمة، وحتى إذا عرضت فرنسا أو أية دولة مقترحات بشأن سوريا فمن المهم أن لا يوافق الجانب البريطاني على ما لا يتفق وفكرة إنشاء «دولة يهودية» في فلسطين، ثم تساءل: هل كان سير هربرت صامويل يرى ضرورة تطبيق المبدأ اليهودي على سوريا مضافة إلى فلسطين؟ على النقيض، يجب ألا يتضمن المشروع أماكن كبيروت أو دمشق وغيرهما؛ نظرا لأنهما يضمان في صدورهما أغلبية عظيمة من غير اليهود، ومن الصعب صبغهما بالصبغة اليهودية. على أن اليهود من سكان فلسطين كانوا في هذا الوقت لا يزيدون على 83 ألفا، بينما كان العرب يبلغون 757 ألفا؛ أي بنسبة 9٪ إلى 91٪.
حدث بعد هذا أن أرسل سير إدوارد جراي - وزير خارجية بريطانيا - إلى مسيو زازونوف - وزير خارجية روسيا - مذكرة عن إعادة اليهود إلى فلسطين وما ينشأ عنه من تحول العناصر اليهودية المعادية لقضية الحلفاء في الشرق وفي الولايات المتحدة إلى جانب هذه القضية. وقد قوبلت هذه المذكرة في روسيا في ترحاب مجيد. غير أنه حدث يومئذ أن الانهيار الروسي قد أظهر للحلفاء حقيقة كانت خافية عليهم قبل ذلك، وهي أنه كان لا بد لهم إذا أرادوا النصر في حربهم ضد ألمانيا أن يحصلوا على المعونة الإيجابية من الولايات المتحدة ... وكان المعتقد أن العقبة الوحيدة في طريق انضمام أمريكا إلى قضية الحلفاء كامنة في معارضة عدد كبير من الأمريكيين الذين من أصل ألماني ... ولكن معظم هؤلاء كانوا من اليهود، وإذن أصبح مرجع الاهتمام بالحركة الصهيونية الحصول على عطف الأمريكيين الذين من أصل ألماني على قضية الحلفاء.
وقبل هذا كانت مقاليد وزارة الخارجية البريطانية قد انتقلت من بين يدي سير إدوارد جراي إلى يدي لورد بلفور، وإن أدق صورة لما كانت عليه علاقات الصهيونية بالحكومة المعدلة الجديدة هي التي كتبها مستر صامويل لاندمان في مذكراته تحت يومي 22 فبراير وأول مارس سنة 1917م. وقد أدلى بهذه المذكرات فيما بعد إلى مجلة «ورلد جوري»، ومستر لاندمان هذا كان في ذلك الوقت سكرتيرا لمسيو سوكولوف، ثم أصبح سكرتيرا للهيئة الصهيونية العالمية، ولهذا كان ملما بأسرار الحركة الصهيونية.
يقول مستر لاندمان: إن سير مارك سايكس حاول كثيرا الاتصال بالأمريكيين اليهود الذين من أصل ألماني، ولكنه لم يفز بأي نجاح يذكر، وكان سير مارك سايكس يومئذ يشغل منصب مساعد وزير الحربية البريطانية، كان نقطة اتصال بين وزارة الحربية ووزارة الهند وأقلام المخابرات السرية وبعض الهيئات الأخرى ذات الأهمية العظيمة. وحدث مرة أن أعرب سير مارك عن أسفه لعدم نجاحه في الاتصال بيهود أمريكا. وكان مستر جيمس مالكولم - وهو بريطاني معروف من أصل أرمني - حاضرا، وكانت له صلة وثيقة ببعض دعاة الصهيونية السياسية المعروفين، فسارع إلى القول: «إنك تنتهج الطريق الخطأ فإن سراة اليهود الذين تلتقي بهم ورجال الدين الإسرائيليين ليسوا الزعماء الحقيقيين للشعب اليهودي، بينما الصهيونية السياسية أو الصهيونية القومية «أي إنشاء وطن قومي في فلسطين» هي مفتاح التأثير في يهود الولايات المتحدة.»
وأضاف مستر مالكولم إلى ذلك: إن هناك طريقة يمكن باتباعها اجتذاب اليهود الأمريكيين إلى الحلفاء، وإنه يعرف رجلا في أمريكا يحتمل أن يكون أصدق صديق للرئيس ولسون ... وعن طريق هذا الرجل يمكن تحويل الرئيس الأمريكي إلى الاشتراك الفعلي في الحرب إلى جانب الحلفاء، وكان هذا الرجل الذي عناه مستر جيمس مالكولم هو القاضي لويس برانديس - عضو المحكمة الأمريكية العليا.
ولم يقف مالكولم عند هذا الحد، بل استطرد في نصائحه لسير مارك سايكس قائلا: «لن تستطيع أن تكسب عطف اليهود في كل مكان إلا بطريقة واحدة هي أن تعرض عليهم أنك ستحاول الحصول لهم على فلسطين.»
ولما كان سايكس هو الذي قام بالمفاوضة في اتفاق سايكس-بيكون مع الفرنسيين، القاضي بفرض الانتداب الدولي على فلسطين، فقد قال مجيبا: إن هذا مستحيل، فنصحه مالكولم بعرض الأمر عاجلا على الوزارة البريطانية، ولما فعل سير مارك سايكس هذا، تقرر البدء فعلا بالمفاوضات عبر المحيط. وسبقت هذا اجتماعات عقدت في منزل الدكتور وايزمان في شارع أديسون في لندن بين زعماء الصهيونية ورجال الحكومة البريطانية «ثم أرسلت رسالة سرية بالشفرة عن طريق وزارة الخارجية إلى القاضي برانديس تضمنت أن الوزارة البريطانية ستساعد اليهود في الحصول على فلسطين في مقابل عطف اليهود العملي وعونهم في الولايات المتحدة إزاء قضية الحلفاء.» ومنذ يومئذ عدت الصهيونية «حليفا للحكومة البريطانية»، وتدفقت عليها المساعدات الممكنة من كل فرع حكومي. وقد اعترف التقرير الصهيوني بهذه المفاوضات، وجاء فيها: «وهكذا فتح باب المفاوضات التي انتهت بعد تسعة شهور من بدئها بتصريح بلفور.»
وبعد هذا وجه الصهيونيون أنظارهم إلى باريس وروما، وقد بدأتا تثيران الصعوبات في وجه مشروع «إسكان اليهود في فلسطين تحت الحماية البريطانية». وللمرة الثانية تدخل مالكولم الأرمني في الأمر - وكان صديقا للزعماء الفرنسيين - فأسدى بذلك أجل خدمة للصهيونية.
كان مسيو سوكولوف قد حاول من قبل أن يحصل على إذن بمقابلة رجال الحكومة الفرنسية، ولكنه لم يستطع لسببين؛ أولهما أن فرنسا كانت لا تزال تعد نفسها حامية المسيحيين في الشرق الأدنى، والثاني أن غالبية يهود فرنسا كانت من معارضي الصهيونية السياسية ومشروعها في فلسطين، وحتى البارون إدموند دي روتشيلد نفسه لم يستطع أن يتحدث في الأمر إلى أي فرد من أعضاء الوزارة الفرنسية.
ولكن مالكولم فعل ما لم يفعله روتشيلد، واستيقظ زعماء اليهود الفرنسيين ذات صباح وفتحوا أعينهم على نبأ منشور في جريدة «الطان» جاء فيه أن مسيو بيشون - وزير الخارجية الفرنسية - استقبل مسيو سوكولوف واستبقاه لتناول طعام الغداء على مائدته، وأن مسيو سيلفان ليفي ومسيو جاك بيجار الزعيمين اليهوديين سألا مسيو سوكولوف ليتأكدا من النبأ، فلما جاءهما التأييد ختما المحادثة بدعوة سوكولوف إلى مائدتيهما.
ومكث سوكولوف وصحبه طول الشهر في باريس، وفي النهاية تغلبوا على اعتراض الحكومة الفرنسية بالتلويح بموقف أمريكا من الحلفاء. وقد كتبت مسز داجديل قائلة: «أبرق مسيو سوكولوف بالنتيجة من باريس يوم 24 أبريل سنة 1917م إلى صهيونيي أمريكا، وقد جاء فيها أن وزارة الخارجية الفرنسية وافقت على أن انتصار الحلفاء في الشرق الأوسط يعني الاعتراف بالصهيونية السياسية.»
أما في إيطاليا فإن مسيو سوكولوف وصل إلى ما كان يبتغيه رغم أنه لم يحصل على تصريح رسمي بذلك. وهكذا تم للصهيونية على الأقل تعديل اتفاق سايكس-بيكون السري فيما يتصل بوضع فلسطين تحت حماية دولية، وهو الأمر الذي جاء في مذكرة سير إدوارد جراي إلى وزير الخارجية الروسية: إنه يلقى معارضة كبيرة من غالبية اليهود في العالم.
مقدمات تصريح بلفور
دخلت الولايات المتحدة الحرب وصدر تصريح «بريطاني» شبه رسمي بأغراض الحرب في الشرق الأوسط متضمنا خمس مواد خاصة بإعادة اليهود إلى فلسطين طبقا لأمانيهم القومية:
أولا:
أساس الاستعمار: الاعتراف بفلسطين كوطن قومي لليهود.
ثانيا:
مركز السكان اليهود في فلسطين على العموم:
للسكان الحاليين ومن سيأتون في المستقبل أن يتمتعوا ويمتلكوا في جميع أنحاء فلسطين الحقوق المدنية والقومية والسياسية الكاملة.
ثالثا:
الهجرة إلى فلسطين: تسمح الحكومة صاحبة السيادة بالحرية التامة في هجرة يهود جميع البلدان إلى فلسطين.
رابعا:
إنشاء شركة احتكارية قانونية: ستمنح الحكومة صاحبة السيادة امتيازا لشركة يهودية باستعمار فلسطين، بحيث يكون لها السلطة اللازمة لتملك وإدارة أية أرض للمنفعة العامة، وهي الأراضي التي رخص بها من قبل أو التي قد يرخص بها في المستقبل، كما يكون لها السلطة والامتياز التي تمنح عادة لمثل هذه الهيئات الاستعمارية.
خامسا:
استقلال الجالية الذاتي: تتمتع الجالية اليهودية في جميع أنحاء فلسطين بالاستقلال الذاتي الكامل في أمور دينها وتعليمها ورفاهيتها.
ولم يمض على هذا التصريح طويل وقت حتى كان لورد بلفور بوصفه وزيرا للخارجية يزور الولايات المتحدة الأمريكية ليعرض موقف الحلفاء على مطامع الرئيس ويلسون وليلتقي بالقاضي رانديس ليبحث وإياه مشروع فلسطين ... وعاد إلى إنجلترا في شهر يونية مرتاح الضمير إلى النتائج السارة التي وصل إليها بين أمريكا وصهيونييها.
ولكن الصهيونية في إنجلترا كانت في خلال ذلك قد تلقت ضربة كانت في أول الأمر مؤلمة، ولكنها استطاعت التغلب عليها في آخر الأمر. ففي العشرين من مايو سنة 1917م ألقى الدكتور وايزمان خطابا في اجتماع ممثل الهيئات اليهودية في بريطانيا شرح فيه المشروع الصهيوني بجعل فلسطين وطنا قوميا لليهود.
ومرت ثلاثة أيام دون أن يحدث شيء ما، ولكن في اليوم الرابع أرسل مستر ألكسندر - رئيس مجلس ممثلي اليهود البريطانيين - ومستر مونتفيور - رئيس الجمعية البريطانية الإسرائيلية - احتجاجا إلى جريدة التيمس على مشروعات الصهيونية السياسية التي تناقض الصهيونية الدينية، واختتما احتجاجهما قائلين: «إن مقترح الصهيونية السياسية لا يمكن التسامح فيه؛ لأن اليهود يؤلفون - وسيظلون كذلك مدة طويلة في الغالب - أقلية ضمن سكان فلسطين، وقد يؤدي هذا المشروع إلى الوقوع في حمأة أعظم الاشتباكات الدموية مع جيرانهم من الأجناس والأديان الأخرى، وهو ما سيعطل تقدمهم لدرجة كبيرة، كما أن من شأنه أن يولد تأثيرا سيئا جدا في الشرق القريب.»
على أن الحركة الإسرائيلية الدينية التي بدأت ضد الصهيونية السياسية بهذا الاحتجاج لم تلبث أن أخفقت بفضل تدابير الطوارئ السريعة التي اتخذها وايزمان وأعوانه، وانتهت باستقالة الرئيسين اللذين احتجا على المشروع الصهيوني ... وهكذا عادت الطريق ممهدة أمام وايزمان للخطو خطوة بل خطوات أخرى كثيرة إلى الأمام، وخاصة بعد أن احتضنت الحكومة الفرنسية المشروع، وجاء في تصريحها الرسمي عن ذلك أن «دول الحلفاء تساعد - كعمل من أعمال العدل والتعويض - على بعث الجنسية اليهودية في هذه البلاد «فلسطين» التي طرد منها بنو إسرائيل منذ قرون طويلة مضت.»
ولم يضع وايزمان الوقت سدى، بل سارع إلى اللورد روتشيلد يجذبه من ذراعه إلى مكتب لورد بلفور في وزارة الخارجية البريطانية ليضعا أمام عينيه قرارهما بأن الوقت قد حان وأن الساعة قد دقت «لإصدار تصريح حاسم بالمساعدة والتشجيع».
لم يكن وصول المندوبين الصهيونيين إلى وزارة الخارجية البريطانية في طلب تصريح بريطاني بمساعدة اليهود مفاجأة للوزير، فإن المفاوضات التي كانت دائرة منذ شهر فبراير كانت ترمي إلى هذا الهدف وحده.
وما كاد بلفور يستمع إلى طلب المندوبين حتى سألهما أن يزود «بمشروع يعرضه على وزارة الحرب للموافقة عليه». وكان المفروض أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية ستحدد سياستها في الوثيقة المزمع إصدارها. ولكن الطريف أن وزير الخارجية سلك في سبيل ذلك طريقا غير عادي؛ إذ طلب إلى دكتور وايزمان وصاحبه المحترم أن يزوده بالمشروع المطلوب لسياسة حكومة صاحب الجلالة حتى يعرضه هو على هذه الحكومة فينشر باسمها وكأنه من وضعها.
واتخذ الصهيونيون تدابيرهم في الحال لوضع صيغة المشروع، مؤلفين «لجنة سياسية» من أعضاء الهيئة الصهيونية كان بعضهم من إنجلترا والبعض الآخر من بلاد أخرى. وكان بينهم السادة كاون، إتنجن، هياسون، ماركس، سيف، ليون سيمون، تولكوسكي، جابوتنسكي، هاري ساشبر، شادها عام. وكان لاندمان سكرتيرا للجنة الصهيونية، التي خرج من سجلاتها القديمة مشروع الشركة الاحتكارية، والتصريح بأغراض الحرب، وبرنامج أكتوبر، وغيرها، ووضعت على أساسها عدة صيغ تبودلت بين أمريكا وبريطانيا.
وقد كتب مستر يعقوب دي هاس - مؤرخ القاضي لويس برانديس الأمريكي - يقول: «إن الرئيس ويلسون بنفسه ساعد في وضع صيغة التصريح، أو على الأقل أشرف على تعديل النصوص التي جاءت من إنجلترا، وهكذا اتسع ميدان البحث الدولي، وعرضت جميع صور التصريح على البيت الأبيض للموافقة.»
وكانت بعض الصيغ المقترحة طويلة ومفصلة، بينما كانت الحكومة البريطانية لا تود أن تضع نفسها في مركز المسئول إلا عن تصريح عام يدور حول المبدأ ليس إلا، وفي اليوم الثامن عشر من شهر أبريل سنة 1917م - وبعد موافقة الرئيس ويلسون - قدم لورد روتشيلد تصريح بلفور إلى لورد بلفور كما يأتي: تقبل حكومة صاحب الجلالة - بعد بحثها أهداف الهيئة الصهيونية - مبدأ الاعتراف بفلسطين وطنا قوميا لليهود، وتعترف بحق الشعب اليهودي في أن يشيد بناء حياته القومية في فلسطين تحت حماية تفرض عند توقيع الصلح بعد النهاية الناجحة للحرب. وتعد حكومة صاحب الجلالة أن من الضروري لتحقيق هذا المبدأ، أن تمنح الاستقلال الداخلي للجنسية اليهودية في فلسطين، وتسمح بحرية الهجرة لليهود، وإنشاء شركة يهودية قومية استعمارية لإعادة استعمار البلاد وإنهاضها اقتصاديا. و«ترى حكومة صاحب الجلالة أن شروط الاستقلال الداخلي وشكل الامتياز الذي يمنح للشركة الاستعمارية اليهودية القومية يجب أن يجري تفصيله وتقريره مع مندوبي الهيئة الصهيونية.»
كان هذا هو التصريح الذي كان سيصدره مستر لويد جورج ولورد بلفور لو لم يحدث ما اضطرهما إلى طلب تعديله، ولا شك أنه يفهم منه يقينا أن حكومة صاحب الجلالة تنوي الاعتراف بفلسطين كلها، وطنا قوميا لليهود، وإعطاء اليهود استقلالهم الداخلي من البداية، وكان مهاجرو الصهيونيين سينزلون البلاد كحكام لها. أما الهجرة فحرة بلا أي عائق يعوقها، وعلى الشركة صاحبة الامتياز أن تعيد إسكان البلاد وكأنها خالية من السكان.
على أن الصهيونيين قد ارتكبوا خطأ كان هو الباعث على طلب الحكومة البريطانية إبدال الصيغة المتقدمة ووضع أخرى تكون أقصر وأقل تضمينا للمطالب المحددة؛ فإنهم أذاعوا نص الصيغة في دوائر اليهود بإنجلترا قبل موافقة الحكومة عليها. وهكذا اطلع عليها بعض معارضي الصهيونية وبينهم مستر مونتفيور السابق الذكر؛ فقدموا للحكومة احتجاجا مطولا على صيغة التصريح. وكانت النتيجة أن الصيغة السابقة أبدلت واختفت منها مادة إنشاء شركة استعمارية يهودية قومية، ولو أنه يقال: إن السبب الحقيقي في اختفاء هذه المادة هو أن الصهيونيين لم يستطيعوا في هذا الوقت جمع رأس المال الكافي لإنشائها، وفيما يلي نص الصيغة الجديدة المقترحة: (1)
تقبل حكومة صاحب الجلالة مبدأ إعادة تنظيم فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي. (2)
ستستخدم حكومة صاحب الجلالة كل وسائلها للوصول إلى تنفيذ هذا الغرض، وستبحث الطرق اللازمة لذلك مع الهيئة الصهيونية.
وكانت هذه الصيغة معدة في اليوم الثامن عشر من شهر سبتمبر سنة 1917م.
وقد وافق عليها الرئيس ويلسون، وبعد ما عطل اليهود الإنجليز الصيغة الأولى عطلوا الثانية؛ إذ رأوا أن الصيغة الثانية لا تزال مصرة على تسليم فلسطين للصهيونيين تحت حجة «إعادة تنظيمها». ولا شك في أن الفضل الأكبر يعود إلى مستر أدوين مونتاجو وسير فيليب ماجنوس وزملائهما من اليهود في وقفتهم الصامدة ضد الصهيونية.
وقد كتب مستر ج. م. ن. جيفر في كتابه «فلسطين: الحقيقة» يقول متحدثا عن الصيغة الثانية من مشروع تصريح بلفور، وعن احتجاجات اليهود الإنجليز عليها؛ مما أدى إلى إبدالها بصيغة ثورية: «إن ما يلفت النظر هنا أنه لو لم يكن لحركة اليهود الإنجليز هذه وجود لكانت الحكومة البريطانية قد سلمت فلسطين إلى الهيئة الصهيونية؛ ففي الصيغتين المقترحتين أغضت الحكومة نظرها عن العرب تماما وكأنهم لم يكونوا في الوجود.»
كان من أثر احتجاج الشخصيات البارزة من اليهود الإنجليز على الصيغة الثانية لمشروع تصريح بلفور لأنها تضمنت تسليم فلسطين للصهيونيين وإعادة تنظيمها؛ أن الحكومة البريطانية طلبت من اللجنة السياسية تعديل الصيغة للمرة الثانية؛ فعدلتها دون أن تذكر فلسطين على أنها الوطن القومي لليهود، ولكنها بدلا من ذلك ذكرت رغبة الحكومة البريطانية في «إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين».
ولكن هذا أيضا لم يحز قبول اليهود الإنجليز الذين أصروا على حذف كلمتي «الوطن القومي» من التصريح. والواقع أن زعيمهم مستر أدوين مونتاجو استطاع بحكم منصبه كوزير لشئون الهند أن يعرض الأمر مباشرة على أعضاء الوزارة، وقدم لهم مذكرة شديدة كادت تفضي بهم إلى إغضاء النظر عن السياسة التي تناصر الصهيونية لو لم يضطر هو إلى السفر إلى الهند في اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر 1917م ليبدأ سلسلة من الإصلاحات التي لا تزال تحمل اسمه حتى اليوم.
على أن الجو لم يخل تماما للورد بلفور؛ فإن المعارضة بين أعضاء الوزارة استمرت، وخاصة من جانب لورد كيرزون، ولو أن معارضته لم تكن قوية فسرعان ما نزل عن اعتراضاته.
وفي الوقت ذاته كان الصهيونيون قد فقدوا الصبر؛ فبعثوا إلى بلفور بمذكرة أخيرة طالبوا فيها بإصدار التصريح ملوحين بخطر تحول الشعور الإسرائيلي ضد الحلفاء، ثم استخدموا النفوذ الأمريكي حتى بعثت الحكومة البريطانية إلى البيت الأبيض بصيغة التصريح التي وافقت عليها، وفيما يلي نصها:
تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للجنس اليهودي في فلسطين، وستبذل كل مساعيها لتسهيل الوصول إلى هذا الهدف على أن يكون مفهوما أن لا يتخذ أي شيء يضر بالحقوق المدنية والدينية للجاليات غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو بالحقوق والمركز السياسي الذي يتمتع به يهود البلاد الأخرى الذين هم قانعون بجنسياتهم ورعويتهم الحالية.
وعرض ويلسون هذه الصيغة على القاضي برانديس وأعوانه فلم تعجبهم الخاتمة، وفي النهاية عدلت الجملة الأخيرة بحذف كلمات «الذين هم قانعون بجنسياتهم ورعويتهم الحالية»، وأبرق ويلسون إلى الحكومة البريطانية بموافقته.
وفي لندن عدلت كلمة «الجنس اليهودي» فصارت «الشعب اليهودي»، ومضى أسبوعان ثم أدرج الموضوع في جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء التي عقدت يوم 2 نوفمبر سنة 1917م، وكان جماعة من زعماء الصهيونية يجلسون في الحجرة الخارجية، وحين وافق المجلس على الصيغة النهائية خرج سير مارك سايكس من قاعة الاجتماع مملوءا حماسا، وألقى بقنبلته إلى الجماعة قائلا: «إنه ولد!»
وكان التصريح في صورة خطاب رسمي صادر من لورد بلفور - وزير الخارجية البريطانية - إلى لورد روتشيلد، نسجله بنصه فيما يلي:
وزارة الخارجية
2 نوفمبر سنة 1917م
عزيزي لورد روتشيلد
يسرني كثيرا أن أبلغك بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي المتضمن عطفها على الأماني الصهيونية التي عرضت على الوزارة وحازت قبولها.
إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل كل مساعيها لتسهيل الوصول إلى هذا الهدف، على أن يكون مفهوما أن لا يتخذ أي شيء من شأنه أن يضر بالحقوق المدنية والدينية للجاليات غير اليهود الموجودين في فلسطين، وبالحقوق والمركز السياسي الذي يتمتع به يهود البلاد الأخرى.
وأكون شاكرا لو أخبرت الاتحاد الصهيوني بهذا التصريح.
المخلص آرثر جيمس بلفور
الفصل الثالث عشر
أثر التصريح في اليهود والعرب
اغتبط سواد اليهود - أو قل سواد الصهيونيين - بهذا التصريح، وإن كانت هناك أقلية كانت ترجو أن يصدر في صيغة أخرى، توضح رضاء بريطانيا عن إنشاء دولة يهودية ولو تحت الحماية أو الانتداب أو الإشراف البريطاني، على أنه بينما اتجه بعض الصهيونيين إلى إنشاء مملكة وإقامة عرش وملك، اتجه آخرون إلى إقامة جمهورية اشتراكية، ثم مضى اليهود - أو الصهيونيون - منذ صدور التصريح، يزيدون مهاجرتهم ويقوون نفوذهم، متوسعين في شراء الأراضي من السكان العرب الفقراء بأثمان مربحة جدا، فكانوا يؤدون عن الدار أو المزرعة ثلاثة أمثال ثمنها أو أكثر.
أما العرب، فقد ألفوا المظاهرات ونظموا الإضراب. وقاموا بالثورات احتجاجا على صدور التصريح وعلى زيادة عدد المهاجرين اليهود وإنشائهم الشركات والمستعمرات والمصانع، وشرائهم لكثير من الأراضي. وكان العرب في سائر البلاد العربية من المسيحيين والمسلمين ينصرون العرب الفلسطينيين.
وقد عقد منذ خمس عشرة سنة مؤتمر إسلامي في فلسطين دعا إليه ونظمه سماحة السيد أمين الحسيني - رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين - وحضره الكثيرون من المسلمين، وكان موضوعه الخلافة الإسلامية.
وفي شهر أكتوبر 1938م انعقد في القاهرة مؤتمر برلماني عالمي برياسة رئيس مجلس النواب المصري يومئذ بهي الدين بركات باشا، وقد ألقى محمد علي علوبة باشا خطاب الافتتاح الذي جاء فيه:
حضرات النواب المحترمين: دفعت محنة فلسطين القاسية كثيرين من ذوي العاطفة الشريفة إلى عقد مؤتمرات سابقة، اشترك فيها كثير من الوجهاء والنبلاء والمفكرين، وأصدروا قرارات، لكنا رأينا - وقد ازدادت المحنة وعم البلاء - أن يكون هناك مؤتمر مؤلف من نواب الأمم العربية والإسلامية، وممثلي الجماعات ذوات الشأن، حيث لا توجد مجالس نيابية، فكان هذا المؤتمر ممثلا تمثيلا صادقا للأمم العربية والإسلامية، وكان لحضراتكم أن تعتقدوا بحق أنكم في مداولاتكم وفي قراراتكم التي تتخذونها ستتحدثون عن أممكم، وتقومون بتنفيذ هذه القرارات بما أوتيتم من صفة النيابة في برلماناتكم، وجماعاتكم، وبما لكم من النفوذ العظيم في دياركم، وسيصغي العالم السياسي إلى كلمتكم في هذا المؤتمر، باعتبار هذه القرارات صادرة من أمم العرب والإسلام جميعا، فبقدر ما يكون لهذه القرارات من أهمية رسمية سيكون لها الأثر القوي في توجيه المساعي وتوحيدها نحو الغاية المنشودة التي تبتغيها، وسنصل بعون الله وتوفيقه إلى تحقيقها، ما دامت تظللنا هذه الراية الكريمة من الإخلاص، والوفاء، والتضامن. «تصفيق».
وإذا كان موضوع قضية فلسطين موجها إليكم كنواب، فوجب أن تعرض عليكم وقائع قضيتها عرضا صحيحا صادقا، لا لبس فيه ولا إبهام، ولكم بعد ذلك أن تصدروا قراراتكم غير متأثرين إلا بدافع الحق والعدل. واعتقادي أن فلسطين لا تطلب منكم أن تصدروا حكمكم، متأثرين بالعاطفة وحدها، عاطفة القرابة والدم - وهي قوية الأثر عند النفوس الأبية الكريمة - ولكنها تطلب أن تحكموا - وأنتم رجال مسئولية ومركز نيابي - الحق والعدل، والتاريخ الصادق. «تصفيق».
أيها السادة: إن بحث هذا الموضوع يتطلب أن أرجع بكم إلى تاريخ احتلال اليهود فلسطين بعبارة موجزة، ثم أعرض لكم التطورات التي قامت، وكيف وجد اليهود الآن في فلسطين؛ حتى تستبينوا الحق من الوقائع، وتقدروا مبلغ الكارثة التي وقعت على فلسطين.
كانت فلسطين وطنا لأمم من غير اليهود، وحوالي سنة 1100 قبل الميلاد احتل الإسرائيليون أغلب البقاع الجبلية فيها، ثم اتحدوا بعد شقاق وقع بينهم، تحت لواء الملك داود، وهزموا الفلسطينيين، ثم قام الملك سليمان وانتهى عهده حوالي سنة 930 قبل الميلاد، وبموت الملك سليمان، الذي بنى الهيكل، تطرق الضعف إلى هذه المملكة، وانقسمت قسمين: مملكة إسرائيل، ومملكة يهوذا.
اندمجت أولاهما في إمبراطورية آشور ، فيما بين سنة 721 وسنة 715 قبل الميلاد. وبقيت الثانية وهي مملكة يهوذا، تحت سيادة هذه الإمبراطورية. وفي سنة 588 قبل الميلاد قام بختنصر - ملك الإمبراطورية البابلية التي حلت محل الإمبراطورية الآشورية - وضم مملكة يهوذا إلى ملكه، ونهب مدينة القدس، ودمرها كما دمر الهيكل تدميرا تاما، ونفى اليهود إلى جهة الفرات في منطقة بابل. وفي سنة 536 قبل الميلاد بعد أن احتل قورش - مؤسس الإمبراطورية الفارسية - بابل، سمح لليهود بالرجوع إلى فلسطين، فرجع إليها بعضهم، وأخذوا في إعادة الهيكل بتصريح من هذا الإمبراطور، وبعد ذلك بقرنين أو أكثر خضع اليهود لحكم البطالسة، خلفاء إسكندر الأكبر. وفي سنة 63 قبل الميلاد اكتسح الرومان القدس، ولم تقم لدولة اليهود بعد ذلك قائمة إلى الآن.
ومن هذا البيان ظهر أن اليهود قد اغتصبوا فسطين من أهليها الأصليين، ولم تكن لهم دولة مستقلة ذات سيادة إلا في حكم الملك داود، وخلفه الملك سليمان من سنة 1100 قبل الميلاد إلى سنة 930 قبل الميلاد؛ أي 170 سنة كما أسلفنا. ثم استمروا خاضعين لدول أجنبية، يطردون ويرجعون إلى أن كانت سنة 63 قبل الميلاد، وهي التي انتهى فيها كل أثر لدولة اليهود، سواء كانت مستقلة استقلالا تاما، أو خاضعة لإمبراطوريات مختلفة، استمر الرومان يحكمون، وبقي هيكل اليهود الثاني تحت رحمة الدولة الرومانية إلى سنة 70 بعد الميلاد. وفيها دمر الإمبراطور «تيطوس» أورشليم، وأحرق الهيكل، بعد ثورة شبت من اليهود، وفي سنة 135 ميلادية جاء إمبراطور الرومان «أدريانوس» وأقام مكان الهيكل اليهودي هيكلا وثنيا، باسم آلهة المشتري «جوبيتير»، وبقي إلى أن قامت المسيحية في القدس. فدمر النصارى هذا الهيكل الوثني من أساسه، في عهد الإمبراطور قسطنطين، ووالدته هيلانة.
ظلت فلسطين خاضعة للرومان إلى أن فتحها العرب، ودخل عمر بن الخطاب مدينة القدس فاتحا، وسلمها إليه البطريرك في سنة 637 ميلادية. بعد أن أخذ عليه عهدا بعدم السماح لليهود بدخول فلسطين. واستمر العرب فيها إلى الآن، ونحن في سنة 1938 ميلادية، وعلى هذا لم تقم لليهود في فلسطين دولة، ولو صورية من سنة 63 قبل الميلاد إلى الآن؛ أي أكثر من ألفي سنة. ويكون العرب قد أقاموا فيها إلى الآن أكثر من 1300 سنة كافحوا فيها ما كافحوا ضد كل مغير، ومن يوم فتح فلسطين؛ أي من سنة 637 ميلادية، صارت أرضها موطنا لهم. عاش فيها آباؤهم وأجدادهم أكثر من ثلاثة عشر قرنا، ودفنوا في تربتها موتاهم، وأقاموا فيها مساجدهم، ومعابدهم. وصارت اللغة العربية لغة البلاد وحدها. ولم يبق للتاريخ اليهودي في فلسطين في تلك البقاع أي أثر.
قلنا: إن الرومان دمروا أورشليم سنة 135 ميلادية للمرة الأخيرة، فلما حلت هذه الكارثة خرج اليهود مهاجرين إلى العراق، ومصر، وسوريا، واليمن، مترسمين في هجرتهم آثار الفتح العربي في شواطئ أفريقيا الشمالية، إلى أن وصلوا إلى الأندلس تحت حماية العرب، وفي ظل الحرية التي أسداها إليهم العرب، واصطلحوا على استعمال اللغة العربية لغة لهم، واتخذوا لأنفسهم أسماء عربية، واتبعوا التقاليد والعوائد العربية.
ولما فتح مسلمو الترك مدينة القسطنطينية كانت دولة الأتراك مثابة لليهود وأمنا؛ فتوغلوا في هذه البلاد، وأقاموا بها على الرحب والسعة بعد أن هجروا إسبانيا وقد تركها المسلمون، واستقر قسم كبير من الإسبانيين اليهود في مقدونيا، وخاصة في سالونيك، تحت لواء الحرية التي أسداها إليهم المسلمون. وقد وصل بهم الأمر إلى أن تربعوا في أرفع المناصب، في بلاط السلاطين، وفي ميدان السياسة وقت أن كانت المذابح تتوالى عليهم من كل جانب في البلاد الأوروبية شرقيها وغربيها. وما زال صدى اضطهاد اليهود في روسيا وغيرها يرن في آذاننا إلى الآن. ولم يرجع اليهود إلى الهجرة في أوروبا الغربية إلا بعد أن ظهر فيها التسامح في العصور الأخيرة، وأعتقهم الأمريكيون والغربيون من القيود التي كانوا يرزحون تحتها. فلم يكونوا ليسمحوا لهم بامتلاك عقارات، أو اشتغال بالزراعة أو الصناعة. وكل هذه المعاملات الاستثنائية كانت عامة في إيطاليا، أو فرنسا، أو ألمانيا، أو إنجلترا، أو أمريكا، تلك حالهم في بلاد الغرب. أما في بلاد العرب والإسلام فقد كانوا في بحبوحة من العيش وحسن المعاملة، وإنه ليأخذكم العجب إذا عرفتم أن اليهود لم يعتقوا في فرنسا إلا في سنة 1790م ، وفي إيطاليا إلا سنة 1870م، وفي أمريكا إلا في 1887م. وكانت إنجلترا أبطأ الحكومات في إصدار تشريع بالمساواة بصورة رسمية، فاستمرت تسديهم بعض الحقوق إلى أن كان آخر مظهر من مظاهر الحرية في سنة 1890م.
يحدثنا التاريخ أن اليهود طالما جردوا من أملاكهم في إنجلترا، وفي فرنسا وفي غيرهما، وطالما طردوا، وسيموا العذاب، وطالما لقوا من إسبانيا أيام محاكم التفتيش ألوانا من الاضطهاد، والأذى، والتقتيل. إلى أن أصدرت أمرها في سنة 1492م بطرد الباقي منهم.
فما سبب هذه الكراهة المتأصلة في نفوس الغربيين؟
إن الذي يمكننا أن نستخلصه من أقوال المؤرخين هو أن الغربيين قد منعوا اليهود من امتلاك الأراضي، والاشتغال بالزراعة أو الصناعة لاعتبارهم فئة أقل منهم مرتبة لاختلافهم عنهم في العنصر، والدين، والعادات، والتقاليد؛ قد دفعوا هؤلاء الناس للاحتفاظ بوجودهم، فكان من الضروري أن يقوموا بأعمال تجارية صغيرة. ولما كانت الكنيسة تحرم الربا على النصارى، فقد أصبح اليهودي مرابيا بحكم الضرورة، وظهر بالتجربة أن مهمة إعطاء القرض بفوائد أخف المهن، وأكثرها در خير على صاحبها. وإن استعمال الفوائد قد دفع أصحابها إلى التمادي في سعر الفائدة. فأصبح كثير من اليهود أغنياء، بينما الفلاح والصانع والتاجر الغربي لا ينال قوته إلا بعد الكد والكدح والتعرض للمخاطر.
لهذا وجدت البغضاء بين الفريقين، ولهذا كان الملوك والأمراء، والحكام عندما يشعرون بحاجة للنقود، ويرون أمامها أجانب قد اكتظت خزائنهم بالذهب - كان هؤلاء يبررون مصادرة أموال أولئك الغرباء، ويعتقدون في ذلك الأجر والثواب والخير لأممهم. لم يكن شيء من هذا في بلاد العرب والمسلمين. وكان اليهود في بحبوحة من العيش، نعاملهم معاملة المواطن. لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. شيء آخر أثار بغض الغربيين لليهود؛ ذلك أن هؤلاء بعد أن صاروا أغنياء وصاروا بقوة الذهب من ذوي النفوذ، وهم محتفظون بكيانهم الأصلي، ورابطتهم اليهودية، ويعتبرهم الغربيون جسما غريبا عنهم؛ قد سولت لهم أنفسهم أن يتدخلوا في شئون البلاد التي تؤويهم، في توجيهها السياسي، وفق ما يرضون، كما تدخلوا في نظمها الاجتماعية. أحس الغربيون بهذا الخطر فقامت دول تنتقض عليهم، وتنتقم منهم وتطردهم. كما أحس باقي الأمم - ولو كانت ديموقراطية - بكثير من القلق لهذا التدخل الغريب، الذي يؤذي الممالك في كيانها السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، ولا بد أن الزمن سيساعد على إنماء هذا الشعور في العالم ضد اليهود. (1) معنى تصريح بلفور
ثم قال علوبة باشا: أيها السادة: الحق أني لم أفهم لهذا التصريح معنى محدودا، فهو مكتوب بطريق اللف والدوران، حتى صار مبهما، وأغلق علي الأمر في فهم حقيقته ومرماه، وتعرف ما يكنه في ثناياه. فلم أجد وسيلة سوى الرجوع إلى المراجع الإنجليزية نفسها. في التصريح شيء اسمه تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي، فما معنى هذا؟ وفيه شيء اسمه عدم إضرار بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية فما معنى هذا؟ وشيء اسمه حماية الأماكن المقدسة، والمواقع الدينية، فما معنى هذا؟ ذلك كله مع العلم بأن الانتداب بطبيعته مؤقت، وأن ميثاق عصبة الأمم احترم قاعدة تقرير المصير، وأن الحلفاء أعلنوا أن خير هذه الشعوب التي خرجت من حكم الأتراك وتقدمها أمانة مقدسة في عنق المدنية، فكيف يمكننا أن نفهم كل هذا، وأن نوفق بين النصوص الغامضة في تصريح بلفور، والصريحة فيما أعلنه الحلفاء جميعا؟ الحق أني تعبت، ولم أفهم معنى إنشاء الوطن القومي، وعلى أي نحو يكون؟ إذا صح أن له وجودا مشروعا! هذا؛ ولا يفوتنا أن الدعاية اليهودية قد نشطت بين العرب أيام صدور التصريح، مدعية أن الغرض من إنشاء وطن قومي لليهود لا يعدو أن يكون إنشاء وطن روحي لا سياسي. ورجعت إلى تقرير اللجنة الملكية لفلسطين «تقرير لورد بيل» لسنة 1938م، فإذا هو يفضح الأمر، ويثبت الحقيقة المرة.
فقد جاء في هذا التقرير أن المستر ونستن تشرشل - وزير المستعمرات سنة 1922م - أصدر بيانا في شهر يونية من السنة المذكورة بالسياسة البريطانية في فلسطين، يطمئن الناس على أن لا ضرر من تكوين طائفة لليهود في فلسطين، وأن تنمية الوطن القومي فيها لا تعني فرض الجنسية اليهودية على أراضي فلسطين إجمالا، بل زيادة نمو الطائفة اليهودية بمساعدة اليهود الموجودين في أنحاء العالم؛ حتى تصبح فلسطين مركزا يكون فيه الشعب اليهودي.
أيها السادة: كان من نتائج تلك الثورات المتوالية أن أرسلت إنجلترا لجانا في أثر كل ثورة. قدمت تقاريرها، تؤيد فيها ما للغرب من حقوق، وتتكهن بمآل استمرار الهجرة، وتؤكد ضيق أراضيها على أهليها، إلى أن قدمت اللجنة الملكية برياسة اللورد بيل تقريرها سنة 1937م بإثبات الوقائع التي ذكرناها عنها، وقررت فيما قررت أن الشعبين العربي واليهودي لا يمكنهما أن يعيشا معا بسلام وتعاون، على الوضع الحاضر، وأن بينهما عداء عنصريا، وشكا متبادلا، وظهر لنا استحالة التوفيق في التنفيذ بين التعهدات التي أعطيت للعرب باستقلالهم، وبين تصريح بلفور. وكنا نأمل من جانب اللجنة الملكية بعد أن ثبت لها ما رأته وقررته أن تنصح بالرجوع إلى قواعد العدل، وتقرير المصير، وتطلب إلغاء تصريح بلفور. لكنها لم تفعل، وأرادت تنفيذ العهدين المتناقضين، عهد قائم على الحق والعدل، وآخر قائم على الظلم ومنافاة القاعدة التي أقرها الحلفاء وأعلنوها، وهي أن رفاهية هذا الشعب، وتقدمه، وحقوقه أمانة في عنق المدنية.
نصحت هذه اللجنة بتقسيم فلسطين إلى دويلتين، مع إعطاء إنجلترا بصفة دائمة جزءا من فلسطين، واقترحت تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
أولا:
دولة لليهود، تلك التي تشمل أفضل الأراضي وأخصبها، مع السواحل والإقليم الزراعي الكبير في الشمال.
ثانيا:
دولة للعرب، وهي القسم الجبلي الذي لا خير فيه ولا ثمرة.
ثالثا:
قسم آخر يبقى تحت سيطرة بريطانيا مباشرة.
وخلقت اللجنة بهذا التقسيم صورة تذكرنا بإقليمي السار، وميمل، وممر دانزج.
أيها السادة: وكانت نتيجة هذا التقسيم أن لا بد من تبادل السكان بين الدويلتين، فهب العرب وثاروا؛ لأنهم رأوا أن دولة اليهود قد أخذت أخصب البلاد، وأن المنطقة المخصصة لهم بلغت مساحتها نحو ثمانية ملايين دونم، منها أربعة ملايين ونصف أرض زراعية، ملك اليهود منها نحو مليون وربع دونم، وإن ما يملكه العرب من بساتين البرتقال، في تلك المنطقة المحددة لليهود هو نحو سبعة أثمان جميع ما يملكه العرب، من أراضي البرتقال في فلسطين.
وإن فكرة تبادل السكان موجبة أيضا للدهشة، فإن في المنطقة التي يراد إعطاؤها لليهود نحو مائة ألف عربي آخرين، يسكنون مدن حيفا، وعكا،
1
وطبرية، وصفد.
ففكرة تبادل السكان إذن غريبة لعدم إمكان تصورها بين ألف ومائتين وخمسين يهوديا، مقابل ثلاثمائة وخمسة وعشرين ألف عربي. كما أن أملاك العرب في المنطقة المخصصة لليهود هي جل ثروتهم. واليهود لا يملكون شيئا يذكر في الجبال المخصصة للعرب، فكيف يمكن تنفيذ هذا الاقتراح؟!
وقد عد المستر تشرشل - وزير المستعمرات يومئذ - أن هذا هو تفسير حكومة جلالته لتصريح بلفور الصادر في سنة 1917م.
ثم جاء في التقرير ما يأتي نصه:
وقد عد هذا التفسير للوطن القومي في بعض الأحيان أنه يحول دون إنشاء دولة يهودية، غير أنه وإن كانت عباراته قد وضعت في قالب يرمي إلى تخفيف خصومة العرب للوطن القومي بقدر الاستطاعة، فليس فيه ما يمنع من إنشاء مملكة يهودية في النهاية. وقد قال لنا المستر تشرشل نفسه، عندما أدلى بشهادته أمامنا: إنه لم يكن القصد الحيلولة دون إقامة دولة كهذه. وقد اشتركت الجمعية الصهيونية في هذا الرأي. وصرحت لجنتها التنفيذية بعد درس بيان السياسة أن الجمعية الصهيونية ستسير في أعمالها على أساس السياسة المبسوطة فيه، والسبب الذي حال دون الإشارة إلى الدولة اليهودية في سنة 1922م «أي في بيان المستر تشرشل» هو عين السبب الذي حال دون الإشارة إليها في سنة 1917م «أي في تصريح بلفور» «فقد كان الوطن القومي مجرد تجربة».
الآن قد انفضح الأمر، وفهمنا معنى تصريح بلفور، وما يرمي إليه. ولقد أكد تقرير اللجنة الملكية ما فهمناه بعبارة أخرى قوية صريحة؛ إذ قال: «ويجدر بنا الآن أن نبحث في معنى تصريح بلفور. لقد سمح لنا أن نفحص الأوراق والوثائق المتعلقة بالموضوع. وظهر لنا عبارة «إنشاء وطن قومي في فلسطين» كانت نتيجة توفيق بين رأي بعض الوزراء، الذين كانوا يريدون إنشاء دولة يهودية في النهاية، ورأي البعض الآخر، الذين لم يكونوا يفكرون في ذلك، ومن الواضح على كل حال أنه لم يكن في استطاعة حكومة جلالته أن تتعهد بإنشاء دولة يهودية، بل كل ما كان في وسعها عمله هو أن تتعهد بتسهيل نمو «وطن». أما نمو هذا الوطن نموا كافيا، وتطوره إلى درجة يصبح معها دولة، فذلك أمر يتوقف في الدرجة الأولى على حماسة اليهود وعزيمتهم. وقد قال لنا المستر لويد جورج، الذي كان رئيسا للوزارة، في ذلك الحين، في معرض الشهادة: «لقد كانت الفكرة ألا يعمد في معاهدة الصلح إلى إقامة دولة يهودية فورا، دون الرجوع إلى رغبات أكثرية السكان. وهذا هو التفسير الذي فسر به للتصريح في ذلك الحين، ومن الجهة الأخرى كان في النية أنه متى حان الوقت لمنح فلسطين مؤسسات تمثيلية، ووجد أن اليهود قد اغتنموا الفرصة، التي تتيحها لهم فكرة الوطن القومي، وأصبحوا في غضون ذلك يؤلفون أكثرية السكان. فعندئذ تصبح فلسطين دولة يهودية!»
من هذا وضح الخفاء، وصار معنى إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين هو السعي في جعلها دولة يهودية، لا وطنا روحيا، كما كانوا يقولون. ولهذا كان العرب والمسلمون على حق فيما اعتقدوه من أن مساعدة الهجرة في فلسطين ليست إلا لتمكين اليهود من أن يكتسحوها ويمتلكوا أراضيها، حتى يصبحوا أكثرية فيكونوا الدولة اليهودية. كما أن العرب والمسلمين كانوا على حق فيما اعتقدوه من أن مخالفة ميثاق عصبة الأمم وعدم إعطاء فلسطين حكمها الذاتي إلى الآن إنما كان بقصد الانتظار حتى يتمكن اليهود من نوال الأكثرية في فلسطين.
ولقد أيد تقرير اللجنة الملكية في سنة 1937م هذه الحقيقة؛ فقد جاء فيه ما يأتي:
فرغبة الزعماء العرب الملحة في الحصول على الاستقلال القومي في سنة 1931م هي نفس الرغبة التي كانت تتملكهم سنة 1920م، والسبب الرئيسي في اتخاذهم الموقف العدائي من الوطن القومي في سنة 1931م كان كما في سنة 1921م اعتقادهم بأن هذا الوطن قد سد الطريق دون تحقيق تلك الرغبة. وقد يغيب عن البال أحيانا أن وفدا عربيا يترأسه رئيس اللجنة التنفيذية العربية قدم إلى لندن في مارس سنة 1930م: وهو الشهر الذي نشر فيه تقرير «شو». وإن العرب - حسب الخلاصة الرسمية للمحادثات التي جرت بين أعضاء الوفد ورجال الحكومة - شرحوا قضيتهم في أثناء هذه المحادثات، لا فيما يتعلق بشراء الأراضي والمهاجرة فحسب، ولكن في مسألة الحكم الذاتي أيضا، وإن جواب الحكومة لهم كان يدور حول النقطة الأخيرة، وهذا ما جاء في الخلاصة الرسمية بصدد ذلك:
لقد قيل للوفد: إن التغييرات الدستورية الشاملة التي طلبها لا يمكن قبولها بالكلية؛ لأنها تجعل القيام بالتزامات حكومة جلالته حسب صك الانتداب مستحيلا! وقد أوضح أنه لا يمكن البحث في اقتراحات لا تتوافق مع مقتضيات الانتداب. وبما أن تنفيذ رغبات الوفد العربي بخصوص الحكم الديموقراطي يجعل قيام حكومة جلالته بمسئولياتها كدولة منتدبة على فلسطين مستحيلا. وبما أنه بالرغم عن الشرح والتأكيدات المعطاة من قبل وزراء جلالته لم يتمكن الوفد أن يرى سبيلا لتعديل موقفه، فقد أصبح من الواضح أنه لا فائدة ترجى من مداومة البحث في هذه المسألة.
أيها السادة: وعلى هذا النوع من الانتداب والحكم، كان عدد اليهود في فلسطين سنة 1915م حوالي 46 ألفا، فوصل الآن إلى أكثر من أربعمائة ألف، بينما عدد العرب من مسيحيين ومسلمين 950 ألفا. وكان اليهود قبل الحرب لا يملكون أكثر من مائة ألف «دونم»، فإذا هم يملكون في سنة 1936م مليونا وأربعمائة واثنين وثلاثين ألف دونم.
وقد أثبت تقرير لجنة شو في سنة 1930م أن البلاد لا يمكنها أن تستوعب أكثر مما فيها إلا إذا وجدت طريقة جديدة لاستثمار الأراضي، وأنه حذر الحكومة من عاقبة الهجرة المفرطة.
وجاء في تقرير السير جون هوب سمبسون في السنة نفسها ما يؤيد هذه الحقيقة، مقررا أن ما يصيب العائلة العربية من الأراضي لمعيشتها أقل مما يجب أن يكون للقيام بأودها. ومما كان له أفظع الأثر في تنفيذ هذه السياسة الضارة بالعرب، والقاتلة لهم، ذلك التسامح الغريب في إرسال الموظفين اليهود من الإنجليز، ليقوموا بإدارة الحركة العامة في فلسطين، فتعين منهم السير صموئيل اليهودي حاكما عاما لفلسطين من سنة 1920 لسنة 1925م، كما عين المستر بنتويش اليهودي رئيسا للنيابات العمومية فيها، وغيرهما وغيرهما. حتى أصبحت فلسطين محكومة فعلا باليهود، يسعون في تنفيذ الرغبة في أن تنقلب فلسطين إلى دولة يهودية.
سادتي: سبق أن قلنا: إن بعض وزراء إنجلترا كانوا يقصدون من الوطن القومي اليهودي إنشاء دولة يهودية، وأن الزعماء اليهود قد صرحوا بأن هذا هو غرضهم، وعلى هذا مساعيهم. ولقد ظهرت هذه الرغبة الصريحة من اليهود في أعمالهم، وصحفهم، ومؤلفاتهم، بطريقة لا تدع مجالا للشك. ومما صرح به زعماؤهم ما قاله السير ألفريد «لورد ميلتشث» سنة 1922م من أن اليوم الذي سيعاد فيه بناء الهيكل أصبح قريبا جدا! وأنه سيكرس ما بقي من حياته لبناء هيكل سليمان مكان المسجد الأقصى! وما قاله المستر جابرتنسكي - زعيم الصهيونيين الإصلاحيين - أمام لجنة تحقيق سنة 1929م «لجنة شو» من أنه يريد صراحة أن تشجع الحكومة الاستعمار اليهودي تشجيعا فعليا؛ كي توجد في البلاد أكثرية يهودية. وما فاه به الزعيم اليهودي زينكويل؛ إذ قال: وما على العرب إلا أن يهدموا خيامهم ويرحلوا إلى الصحراء من حيث أتوا!
وما نشره المستر بنتويش اليهودي، وهو الذي كان رئيسا للنيابات العمومية في حكومة فلسطين في كتاب طبعه في لندن سنة 1919م أسماه «فلسطين اليهود»، مع ملحق له اسمه «إنقاذ بلاد يهوذا»، جاء فيه كلام كثير مثير للشعور منه ما يأتي:
ولكن لا هذا ولا ذاك «أي الصلوات» يجددان بناء الهيكل «أي محل البراق الشريف»، إنما أبناء الجيل الذين سيقومون بهذا، والذين يعتقدون أن العمل هو الصلاة الحقيقية ينزلون في القدس ويسكنونها، وهم ينتظرون قيام قورش جديد «وناحميا» جديد، يشقان الطريق لاستعادة المكان المقدس الطاهر لليهودية، وهو «المسجد الأقصى»!
وقد نشر اليهود من «الخرائط» والرسوم أنواعا كثيرة عليها صور للحرم الشريف، وقبة الصخرة المشرفة، ومكان البراق، وضعوا عليها شعارهم القومي الديني ، وكتبوا عليها كتابات بالعبرية تثير العواطف وتؤلم النفوس، رأيتها بنفسي وقدمتها بيدي إلى لجنة التحقيق، في قضية البراق الشريف. وهي تدل دلالة أكيدة على أن القوم يدبرون حدثا كبيرا لانتزاع فلسطين، من أهليها، واغتصاب المسجد الأقصى، وهو ثالث الحرمين الشريفين، واغتصاب محل البراق الشريف، وجعلهما هيكلا لهم!» انتهى خطاب علوبة باشا.
وألقى في المؤتمر فارس الخوري بك - رئيس مجلس النواب السوري يومئذ، ورئيس الوزارة السورية بعدئذ - خطابا جاء فيه:
زعموا أن لليهود حقا مغصوبا في الشطر الجنوبي من سوريا، وأنهم بإعطائهم منه وطنا قوميا يبعثون لهم حقا قديما، وهم لو أنصفوا في الحكم وعرفوا منشأ هذا الاغتصاب، الذي يسمونه حقا؛ لتبين لهم فساد الحجة، ووهن البرهان. حل سيدنا إبراهيم مع ابن أخيه لوط من موطنه الأصلي في العراق منذ أربعين قرنا مع عبيده، وإمائه، ونزل في وادي الأردن ثم هجر إلى مصر وأقام فيها برهة من الزمن وعاد إلى أغوار الأردن، حيث بقي ابنه إسحاق، وحفيده يعقوب، إلى أن لحق مع أنساله بابنه يوسف إلى مصر، ونالوا حظوة عند ملوكها في دولة الهكسوس الأعراب الذين كانوا مالكي مصر؛ فتناسلوا وتكاثروا في نحو خمسة قرون إلى أن دالت دولة غزاة الهكسوس الأعراب في مصر، وعاد الملك إلى أهله من المصريين، فضاق باليهود ذرع الفراعنة، وخشوا مؤامراتهم ودسائسهم مع أعداء مصر الأجانب؛ فعمدوا إلى التضييق عليهم، واستخدامهم بالأشغال الشاقة كأسرى الحروب لأجل خضد شوكتهم، واجتناب الغائلة من ناحيتهم، وعمدوا إلى قتل أبنائهم والبغاء على بناتهم، فنهض بهم موسى الكليم في أواخر القرن الرابع عشر قبل المسيح، وهربوا جميعا عابرين برزخ السويس إلى برية سينا، حيث تاهو أربعين عاما، دخلوا بعدها، غازين الإقليم الفلسطيني، من جهة جنوبه الشرقي، التي كانت مفتحة الأبواب لخلوها من المعاقل والحصون، مكتسحين البلاد، قرية قرية، ومدينة مدينة، وشعارهم الإبادة والتقتيل، ولا يعفون حتى عن الحيوانات السائمة، زعما منهم أن الرب يهوذا الذي كانوا يحملون تابوت عهده أقطعهم أرض الميعاد هذه وأمرهم بتطهيرها من كل حي يعيش فيها لتخلو لهم وحدهم يقطنونها مطمئنين، ويتلذذون بما تفيض عليهم من اللبن والعسل.
استمر هذا الفتح الوحشي نحو ثلاثة قرون، من عهد موسى الكليم سنة 1300 إلى عهد داود، وابنه سليمان الحكيم، في سنة 1015 قبل الميلاد، حين بلغت دولتهم أوسع حدودها. ولم يتمكنوا من تثبيت أقدامهم في الأرض إلا عندما استولى ملكهم الثاني داود النبي على حصون أورشليم، وجعلها عاصمة لملكه في سنة 1050 قبل الميلاد، واستمرت المعارك سجالا بينهم وبين الفلسطينيين والكنعانيين، الذين فروا أمامهم، وتجمعوا في ساحل البلاد الغربي أو في المناطق الشمالية طول مدة اغتصابهم، إلى أن دالت دولة اليهود وخلت منهم الديار.
امتدت الأرض التي استولوا عليها من دان شمالي بحيرة الحولة في الشمال، إلى بير السبع في الجنوب. وأما من الشرق فلم يمكنهم الأنباط العرب من المؤابيين والعموريين، من التوسع إلا على مساحة ضيقة على الضفة الشرقية، من وادي الأردن في اليرموك والزرقاء، فاقتسموا هذه الأرض التي أبادوا سكانها وأخرجوهم من ديارهم بين أسباطهم الاثني عشر، واستقروا عليها عهدا قصيرا، لا يتجاوز ثلاثة قرون، قضوها بالقتال الدائم مع سكان البلاد الأصليين الذين كانوا يغتنمون كل فرصة لاسترداد وطنهم من هؤلاء الغزاة المعتدين، وضعفت دولتهم بعد موت سليمان بانقسام الأسباط، وشطر المملكة إلى شطرين؛ أحدهما في أورشليم لسبطي يهوذا وبنيامين، والآخر في السامرة «نابلس» بالشمال للأسباط العشرة. وقد أغار عليهم مرارا فراعنة مصر وملوك آرام واكتسحوهم، وحاولوا إجلاءهم عن البلاد وإعادتها إلى أهلها، إلى أن تم ذلك لسرجون الآشوري - ملك نينوى - سنة 722 قبل الميلاد، فحطم مملكتهم الشمالية، وأجلى اليهود عنها، وردهم إلى مخرجهم الأصلي، في شرق الفرات، وأعاد الكنعانيين والفلسطينيين المشردين إلى ديارهم.
وفي سنة 586 قبل الميلاد، أغار نبوخذ نصر - ملك بابل - على أورشليم، وهدم أسوارها وهيكلها، وأجلى يهود المملكة الجنوبية وحملهم إلى الأهواز في شرقي الدجلة؛ فخلت أراضي فلسطين من اليهود خلوا تاما، وهكذا بقوا بعيدين عنها، إلى أن دالت دولة بابل بتغلب كورش الفارسي عليها، فأذن لهم ملوك الفرس بالعودة إلى أورشليم، في أوائل المائة الرابعة قبل الميلاد ، فأخذوا بالعودة تدريجيا، بحماية ملك مادي وفارس، وأعادوا بناء الهيكل والأسوار تحت حماية حراب جنوده، الذين صدوا عنهم غارات العرب والنبط وسائر عشائر كنعان وفلسطين بقيادة جشم العربي، ولم يلتفت ذلك الملك العظيم إلى عرائض الاحتجاج، التي تقدمت بها وفود البلاد والتمست العدول عن ذلك القرار، بل كان يجيبهم بأن شريعة مادي وفارس لا تنسخ، فعليهم أن يذعنوا ويطيعوا، وهكذا تمكن فلول اليهود من الاستقرار في أورشليم وبعض الكور حولها، بصفتهم رعية لملك الفرس، وتفصيل ذلك وارد في سفري عزرا ونحميا من التوراة.
من ذلك ترون أيها السادة أن اليهود لم يكونوا في فلسطين إلا غزاة غاصبين تمكنوا في إحدى غفلات الدهر من اجتياح شطر من هذا الإقليم والاستقرار فيه بعامل القهر والتغلب، ولم يعترف لهم سكان البلاد الأصليون في وقت ما بهذا الحق، بل كانوا دائما يناهضونهم ويقاتلونهم، ويحاولون استرداد الأرض التي انتزعوها منهم، فلم تمر سنة من مكوثهم في فلسطين إلا اصطلوا بنار حرب لهم أو عليهم، ولم تطل مدة ملكهم إلا أقل من ثلاثة قرون، قبل السبي الآشوري، ولم تقم لهم بعد السبي الآشوري والبابلي قائمة ملك، ولا كان لهم دولة، بل أصبحوا رعايا للآشوريين، فالبابليين، فالفرس، فاليونان البطالسة، فالرومان، أسوة بالشعوب الأخرى التي اندمجت في سيطرة هذه الإمبراطوريات. ولم يكن في هذه العهود لليهود وطن قومي خاص بهم، بل كانوا منتشرين في الأقاليم المختلفة، أقلية في كل مكان إلا في مدينة أورشليم، وبعض الكور في جوارها، من غير أن يكون لهم فيها حكم أو سلطان. ولما اشرأبت أعناقهم إلى الحكم، وإقامة وطن قومي لهم في عهد المكابيين أنكر عليهم ذلك قياصرة الرومان، وحمل عليهم القيصر تيطس الروماني في سنة 70 بعد الميلاد، وحاصرهم في أورشليم إلى أن فتحها قهرا، وقتل منهم نحو مليون نفس، وسبى الباقين، وفرقهم في أنحاء دولته العظيمة، وحرم على كل يهودي العودة إلى أورشليم أو إلى الإقليم الفلسطيني الذي بقي خاليا منهم أكثر من ستة قرون، إلى أن سمح لهم بعد الفتح الإسلامي بالسكنى، أينما أرادوا، فتسلل إليها عدد قليل منهم أقاموا في أنحائها، ولم يبلغ عددهم فيها عند الاحتلال الإنكليزي أكثر من 55 ألفا.
إن تاريخهم القديم، المسرود في التوراة مملوء بالفجائع والفظائع، واحتلالهم كما هو معترف به في ذلك التاريخ المفصل كان قائما على قرض السكان أصحاب البلاد الأصليين وإبادتهم، وقد مضى عليهم إلى اليوم 19 قرنا وهم متفرقون في أقطار الدنيا، لا يجمعهم كيان سياسي، وإنما ظل البعض منهم يمنون أنفسهم بآمال خائبة بإعادة سيرتهم الأولى، واغتصاب القطر الفلسطيني من سكانه، ليجعلوه وطنا قوميا، ويقيموا فيه معالم الدولة التي تمتعوا بقسم منه ثلاثة قرون، وعجزوا عن الاحتفاظ بها ستة وعشرين قرنا منذ السبي الآشوري، في القرن الثامن قبل الميلاد حتى اليوم. فهذا الاحتلال القديم الذي يستندون إليه لم يكن حقا مشروعا، بل دخلوا البلاد بالقوة القاهرة، وأخرجوا منها بالقوة القاهرة، ومن أخذ بالسيف وأخذ منه بالسيف تتهاتر عنده الحجة؛ قهر بقهر، والبادئ «أظلم». تقوم الحكومة البريطانية اليوم بإعادة الكرة للمرة الثالثة، وتعتمد على مدافعها وطياراتها وسائر آلاتها الحربية، لتحمي أنصارها اليهود، وتقيم لهم وطنا قوميا، في سوريا الجنوبية، وستفشل خطتهم هذه المرة كما فشلت الخطط العنيفة التي تقدمتها في التاريخ؛ لأنها بنيت على فساد، ولا يدوم على الفساد شيء. الوعد البلفوري الشهير محكوم عليه بالفشل المحتوم، ولا بد أن يثوب ساسة الإنجليز إلى الرشد، ويعرفوا أن أمرهم بالتصرف بملك الغير باطل، بحكم كل شرع معروف، ومصدر هذا الأمر غير ملزم بتنفيذ أمره، ما دام البلد الفلسطيني ليس ملكا للواهب. بل هو ملك للعرب المقيمين فيه، منذ القديم، وما دام العرب لم يجيزوا هذا العقد الفضولي، وهم في جميع أقطارهم عازمون بالإيمان الذي لا يتزلزل على الاستعانة في مقاومة هذا العمل الجائر، والاستمرار بالكفاح مهما يطل أمده، وتتفاقم ويلاته.
المشكلة اليهودية أصبحت مشكلة عالمية لا تتسع فلسطين إلى تحملها، فهي إقليم صغير لا يمكن أن يستوعب - على فرض خلوه لهم - عشرهم، فأين يذهبون بالأعشار التسعة الباقية؟ يوم بذلوا لهم وعد بلفور لم تكن قائمة معاضل طردهم من أكثر البلاد، فالحال اليوم قد تبدلت تبدلا يوجب إعادة بهذا الوعد الأهوج والتطلع إلى قطر آخر يتسع لبضعة عشر مليونا منهم.
فصلوا المقاطعة الفسطينية عن أمها سوريا، لكي يسهل عليهم ازدرادها، ومزقوا سوريا إلى دويلات، وأحدثوا في كل دويلة مشاكل داخلية، لكي يخضدوا من شوكتها، ويلهوها بنفسها، ويحولوا دون نجدتها لإخوانها، وهم اليوم يقيمون العراقيل في طريق سوريا ليؤجلوا موعد استقلالها ريثما ينجزون خطتهم المشئومة باقتطاع هذا الشطر الغالي عنها، وإفراغه في حالة تتعذر معها وسائل الاسترداد.
فلسطين - أيها السادة - لا تستطيع أن تعيش وحدها مفصولة عن أمها سوريا، والشعب السوري برمته ومنه جميع الفلسطينيين العرب معتمدا على قوة الحق التي لا تغالب، منكر لهذا الانفصال، وثائر على كل أسلوب يرمي إلى تحقيقه، ومقيم على المطالبة والمواثبة بكل وسيلة مستطاعة، لتأييد حقه بالوحدة التامة، وإعادة فلسطين المغصوبة إلى الحظيرة السورية العربية، ليجتمع الشعب الواحد في كيان سياسي موحد، يتمكن من استثمار مواهبه في خدمة السلام. «هتاف وتصفيق».
حاولت أوروبا بأسرها انتزاع فلسطين من أيدي العرب في حملاتها الصليبية فلم تفلح إلا أمدا قصيرا، عادت بعدها بالخيبة والندم، فكان على الصهيونية ومناصريها أن يعتبروا بسوابق التواريخ، ويستفيدوا من عبره البارزة، ولا يغامروا باقتحام مشروع محروم من مبادئ العدل ومن عناصر النجاح. «تصفيق». (2) قرارات المؤتمر البرلماني العالمي
في الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء 17 من شعبان سنة 1357ه، 11 أكتوبر سنة 1938م، وافق المؤتمر بالإجماع على القرارات التالية:
انعقد المؤتمر البرلماني العالمي للبلاد العربية والإسلامية في مدينة القاهرة «من اليوم الثالث عشر من شعبان سنة 1357ه، إلى اليوم السابع عشر، ومن 8 إلى 11 من أكتوبر سنة 1938م»، بحضور حضرات ممثلي الهند، والعراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، ومصر، واليمن، ويوغوسلافيا، والمغرب، والصين وبلاد المهجر بأمريكا، وبعد سماع بيانات حضرات خطباء هذه الوفود، والاطلاع على التقارير المقدمة منها، والمكاتبات المرسلة من الأفراد، والجماعات العربية، والإسلامية، في أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، والولايات المتحدة، والأرجنتين، وشيلي، وفنزويلا، قررت لجنة الاقتراحات بالإجماع ما يأتي، لعرضه على المؤتمر، وتوصي بقبوله:
عن تصريح بلفور
أرسل المرحوم الحسين شريف مكة، إبان الحرب العظمى، باسم العرب إلى السير هنري ماكمان هون - المندوب السامي في مصر - بصفته يمثل الدولة البريطانية، كتابا في 14 يولية سنة 1915م يوضح فيه مطالبه وشروطه، إذا أعلن الثورة على السلطة العثمانية، ودخل الحرب بجانب الحلفاء. وقد جاء في كتابه ما يأتي:
يجب أن تعترف إنجلترا باستقلال البلاد العربية، بكل معنى من معاني الاستقلال، وتكون حدودها شمالا مرسين، وأظنه حتى الدرجة «37» من خط العرض إلى حدود فارس، وشرقا حدود فارس، حتى خليج البصرة، وجنوبا المحيط الهندي - مع استثناء منطقة عدن - وغربا البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط حتى مرسين.
فأجابه السير ماكماهون بكتاب في 30 أغسطس سنة 1915م جاء فيه:
نتشرف بإسداء الشكر إلى سموكم، من أجل إفصاحكم عن شعوركم الخالص نحو إنجلترا، وإنه ليسرنا أن تكون المصالح العربية بريطانية، والبريطانية عربية في رأي سموكم، ورأي رجالكم. وفي هذا الصدد نثبت لكم ما جاء في رسالة اللورد كتشنر، التي وصلت إليكم، وهي الرسالة التي سطرت فيها رغبتنا في استقلال العرب، والبلدان العربية.
وأما مسألة الحدود فيلوح لنا أنها سابقة لأوانها، وإن وقتنا ليضيق عن البحث في مثل هذه التفاصيل ونحن في إبان الحرب ... إلخ.
فالشريف الحسين احتج على عدم البت في أمر الحدود، بكتاب أرسله إلى السير ماكماهون مؤرخ في 9 سبتمبر سنة 1915م، جاء فيه:
ولكنكم يا صاحب الفخامة تصفحون فتسمحون إذا قلت بصراحة: إن ما بدا من التواني والتردد في مسألة الحدود، باعتبار البحث فيها في الوقت الحاضر مضيعة للوقت، قد يتخذ دليلا على فتور أو شيء من هذا القبيل.
فأجابه السير ماكماهون في 24 أكتوبر سنة 1915م بكثير من الغبطة والسرور، وكان للعبارات الخالصة الود التي وردت فيه أكبر تأثير في نفسي:
وإني ليؤسفني أنكم لاحظتم في كتابي الأخير، وحديثي عن قضية الحدود شيئا من الفتور والتردد، مع أني لم أقصد ذلك، بل كنت أود أن أقول: إن الوقت لم يحن بعد للبحث فيها بحثا مثمرا.
وقد أدركت من كتابكم الأخير أنكم تعلقون أهمية كبرى على قضية الحدود ، وأنكم تعتبرونها من المسائل الحيوية، فأرسلت مضمون كتابكم إلى الحكومة البريطانية. وإني ليسرني أن أرسل إليكم البيانات التي أثق كل الثقة بأنها ستفوز برضاكم ، إن سنجق مرسين والإسكندرونة، وبعض الأقسام السورية في غرب سناجق دمشق، وحمص وحماة وحلب لا يمكن أن يقال عنها: إنها عربية محضة، ولذلك يجب أن تستثنى من الحدود المقترحة. ونحن نوافق على الحدود مع التعديلات المشار إليها أعلاه، على ألا تنقض شيئا من معاهداتنا الخالية مع الزعماء العرب. أما الأراضي التي تستطيع إنجلترا العمل فيها بملء الحرية ودون أن توقع ضررا بمصالح فرنسا، فقد خولت باسم حكومة بريطانيا العظمى أن أعطيكم التأكيدات بشأنها، وأن أجيب على كتابكم بما يأتي:
إن إنجلترا مستعدة - على أساس التعديلات المشار إليها أعلاه - أن تعترف باستقلال العرب ضمن البلاد الداخلة، في الحدود، والتخوم التي اقترحها شريف مكة، وأن تؤيد هذا الاستقلال، وتضمن بريطانيا العظمى حماية الأراضي المقدسة من كل اعتداء خارجي، وتعترف بأنها مصونة من كل تعد ...
وتقدم بريطانيا إرشادها للعرب عندما تسمح الحالة بذلك، وتساعدهم على تأليف شكل الحكومة التي يلوح أنها أفضل الأشكال، في مختلف البلاد العربية المذكورة ... إلخ.
ثم تبودلت كتب أخرى بين الطرفين، تؤيد هذا الخطاب الأخير، وتثبت أن الشريف الحسين نظرا لحالة الحرب وويلاتها ترك التمسك بما تشبثت به فرنسا مؤقتا، مع احتفاظه بالعودة إلى المناقشة فيه بعد الحرب.
ونظرا إلى أن جميع هذه المكاتبات، وأخصها كتاب السير ماكماهون المؤرخ في 24 أكتوبر سنة 1915م تثبت بأجلى وضوح اعتراف ممثل الحكومة البريطانية باستقلال الدولة العربية، في الحدود التي وضعها الشريف الحسين - ممثل العرب - ومنها فلسطين، ولم يخرج منها سوى البلاد المستثناة، وليس شيء منها في فلسطين، وترتب على هذا الاعتراف، والتعهد من جانب الحكومة الإنجليزية بالدفاع عن هذا الاستقلال أن أعلن العرب الثورة على حكومتهم، وعلى سلطانهم، وعلى خليفة المسلمين، ابتغاء نوال استقلالهم، ودخلوا في الحرب، ومنهم الفلسطينيون حلفاء للإنجليز وشركائهم، حتى أحرز الجميع النصر، وأصبح بذلك استقلال البلاد العربية نتيجة طبيعية للفوز في هذا الكفاح. لكن الحكومة الإنجليزية بلسان وزيرها المستر بلفور وجهت إلى اللورد روتشيلد تصريحا نشرته في 2 نوفمبر سنة 1917م بما يأتي:
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية. على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية، المقيمة الآن في فلسطين، ولا بالحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
ويرى المؤتمر أن هذا التصريح باطل من أساسه، للأسباب الآتية:
أولا:
أنه افتئات على حقوق العرب الذين نالوا استقلالهم، بحكم التحالف أو الفوز في الحروب، وصادر ممن لا يملك إعطاءه. وما كان العرب ليخوضوا غمار الحرب ضد سلطانهم وخليفتهم، وينضموا إلى خصومه، لو لم تتعهد لهم إنجلترا بتأييد هذا الاستقلال، وبعدم المساس به، ولم يكن من المعقول أن يضحي العرب بدمائهم في محاربة الدولة العثمانية، ليقعوا تحت سيادة اليهود.
ثانيا:
أن هذا التصريح قد تأيد بطلانه بعد إعلانه، بالمبادئ التي أعلنها الرئيس ويلسون في ديسمبر سنة 1917م وقبلها الحلفاء، ومنها المبدأ الآتي:
إن الأجزاء التركية من السلطنة العثمانية الحالية يجب أن تضمن لها سيادتها التامة. أما الشعوب الأخرى «غير التركية» الخاضعة الآن للحكم التركي فينبغي لها العيش بأمان واطمئنان، وأن تتاح لها فرصة الرقي في مدارج الحكم الذاتي، دون تدخل أو انزعاج.
ثالثا:
وقد تأيد بطلانه أيضا بالتصريح الذي أعلنته إنجلترا وفرنسا معا في 7 نوفمبر سنة 1918م، على جميع الأمم العربية، ونصه: «إن الهدف الذي سعت إلى تحقيقه بريطانيا وفرنسا عندما خاضتا في الشرق غمار الحرب، التي أثارتها مطامع الألمان هو تحرير شعوبه، الذين مضى عليهم ردح طويل من الزمن، وهم يذوقون الأمرين تحت حكم الأتراك، وإقامة حكومات وإدارات وطنية، تستمد سلطتها من السكان الوطنيين، وتسير وفق رغباتهم الحرة، وتحقيقا لهذه المقاصد ستقوم فرنسا وبريطانيا العظمى فورا بتشجيع ومساعدة إنشاء حكومات وإدارات وطنية في سوريا والعراق، اللتين تم تحريرهما بواسطة الحلفاء، وفي البلاد الأخرى التي تسعى هاتان الحكومتان لتحريرها، وأن تعترفا بها حين تأليفها، وهما لا تنويان قط أن تفرضا على سكان هذه الأصقاع أي شكل من المؤسسات الحكومية. بل إن جل غايتهما أن تضمنا بما تقدمانه من المعاضدة والمساعدة الوافية حسن سير الحكومات والإدارات، التي يختارها السكان أنفسهم.
رابعا:
وقد تأيد بطلانه بميثاق عصبة الأمم نفسه، الذي وقع عليه الحلفاء في 28 يونية سنة 1919م؛ إذ جاء في المادة 20 منه ما يأتي: (1)
يوافق أعضاء الجامعة عضوا عضوا على أن قبول هذا العهد إلغاء لكل ما بين الواحد منهم والآخر من التزام أو تفاهم، مما يتعارض مع أحكام هذا العهد، ويتعهدون بين يدي ذي الجلال أنهم لا يرتبطون فيما بعد أي ارتباط يتعارض مع أحكامه. (2)
وأي عضو في الجامعة يكون قبل صيرورته عضوا فيها قد تحمل أي التزام يتعارض مع أحكام هذا العهد، فمن الواجب عليه أن يبادر إلى التخلص منه، وجاء في المادة 22 منه ما يأتي:
إن المستعمرات والأقاليم التي قضت نتائج الحرب الأخيرة بخروجها من سيادة الدول التي كانت تحكمها فيما مضى، والتي تسكنها شعوب لا تستطيع حكم نفسها في الأحوال الشاقة، التي تسود العالم الحديث، ينبغي أن يطبق عليها المبدأ القائل: «إن خير الشعوب وتقدمها أمانة مقدسة في عنق المدنية.» وأن تدمج في هذا الميثاق الضمانات اللازمة لحسن الأمانة ... إلخ.
وجاء في الفقرة الرابعة من هذه المادة ما يفيد:
أن الأقاليم التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية، ووصلت إلى درجة من الرقي يعترف بقيامها كأمم مستقلة مع المشورة والمساعدة الإداريتين اللتين يسديهما إليها الانتداب إلى أن تستطيع حكم نفسها بنفسها، ويجب أن يكون لمشيئة هذه الأمم اعتبار أساسي في اختيار الدولة المنتدبة.
خامسا:
واعتمادا على ما سبق من الأدلة والتعهدات، وعلى الحق الطبعي لأمة العرب يكون الرجوع إلى وضع تصريح بلفور واعتماده بعد ذلك في صك الانتداب على فلسطين بتاريخ 24 يونية سنة 1922م عملا باطلا من أساسه لانعدام شرعيته.
عن هجرة اليهود
يرى المؤتمر أن من أكبر المصائب التي ابتليت بها فلسطين تلك الهجرة اليهودية المتدفقة؛ نتيجة لتصريح بلفور ، ومتى كان هذا التصريح باطلا، واعتداء صريحا على حق العرب فإن المنطق يقضي بإرجاع الحالة إلى أصلها، وعدم اعتبار هذه الهجرة من بدئها. لكن المؤتمر يرى مع ذلك رغبة منه في معاونة الحكومة الإنجليزية على حل هذه المسألة، واستبقاء لحسن العلاقات بينها وبين الأمم العربية والإسلامية - يرى المؤتمر أن يضحي الفلسطينيون، فيرضوا بالحالة الحاضرة، وهي بقاء اليهود الذين دخلوا فلسطين إلى الآن على حالتهم الحاضرة بشرط منع الهجرة الصهيونية من الآن منعا باتا، حتى لا يزداد البلاء، بسبب هذه الهجرة التي أضرت بالبلاد ضررا بليغا، وأدخلت فيها لغة أجنبية، لم تكن موجودة من قبل، وهي اللغة العبرية.
ومما يساعد الحكومة الإنجليزية على هذا الحل السخي لليهود أن تصريح بلفور نفسه - حتى بفرض بقائه صحيحا نافذا، وهو ما لا يقبله المؤتمر بحال - لا يفيد أن الحكومة الإنجليزية قد تعهدت بإنشاء دولة يهودية، وإنما التصريح بنصه، وبما ورد على لسان رجالهم الرسميين يدل فقط على أن إنجلترا «تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي.»
هذا إلى أن النص وهو «النظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين»، لم يقل: «جعل فلسطين مؤسسة يهودية»، وفرق ظاهر بين الحالتين.
ومتى كان الأمر كذلك، ولم تقل إنجلترا مطلقا: إنها تعهدت بإنشاء وطن لليهود ولا أن يكون هذا الوطن دولة، ولا أن تكون فلسطين هي الدولة، فلا حرج إذن على إنجلترا إذا قالت الآن: إنها قد نفذت ما وعدت به اليهود، بتسهيل هجرتهم إلى الآن، في فلسطين حتى بلغ مجموعهم نحو أربعمائة ألف يهودي، وهو أمر يحقق فكرة النظر بعين العطف إلى إنشاء الوطن القومي للشعب اليهودي في فلسطين، والقول بخلاف ذلك يقلب التصريح إلى تعهد بتهويد فلسطين، وهو ما لا تتحمله نصوصه. ويغضب المسيحيين والمسلمين، في جميع أقطار الأرض، ويحاربه العرب والمسلمون بكل ما أوتوا من قوة.
ولا يرى المؤتمر بعد ذلك محلا للتنبيه إلى الخطر المحدق بفلسطين من جراء تدفق الهجرة اليهودية، بالطريقة التي عليها الآن، فإن هذا الخطر ثابت من تقارير اللجان الملكية، وأخصها تقرير لجنة «شو».
عن مشروع تقسيم فلسطين
إن الخطر من تقسم فلسطين لا يقل عن خطر الهجرة، ولا يتفق مع ما أعلنته إنجلترا من «أن الهدف الذي سعت إلى تحقيقه عندما خاضت في الشرق غمار الحرب هو تحرير شعوبه، وإقامة حكومات وإدارات وطنية، تستمد سلطتها من السكان الوطنيين، وتسير وفق رغباتهم الحرة.»
كما لا يتفق مع ما أعلنته من «أن خير الشعوب وتقدمها أمانة مقدسة في عنق المدنية.»
ويخلق من فلسطين دولتين متجاورتين متعاديتين، فضلا عن عدم تصور إمكان المبادلة بين الممتلكات والسكان والأماكن المقدسة من مساجد ومعابد، ومقابر. يضاف إلى هذا أن التقسيم المفروض يحرم العرب من ممتلكاتهم، وهي جل ثروتهم في المنطقة التي يراد إعطاؤها لليهود، وتسد المنافذ على العرب من جهة البحر. يضاف إلى هذا أنه ليس لليهود شيء يذكر من الممتلكات أو السكان في المنطقة الجبلية الجرداء، التي يراد تركها للعرب.
وفوق ما تقدم فإن العرب لا يعترفون بشرعية تصريح بلفور. حتى ولو كان الغرض منه إنشاء وطن قومي روحي لليهود، فكيف يمكنهم الرضا بانتزاع أخصب بقاع وطنهم من أيديهم، ووضعهم في بقاع جبلية، لا خير فيها، فينتهي حالهم بالجوع، فالفناء.
لهذا قرر المؤتمر:
أولا:
اعتبار تصريح بفور باطلا من أساسه، ولا قيمة له في نظر العرب والمسلمين.
ثانيا:
ضرورة منع هجرة اليهود لفلسطين من الآن منعا باتا.
ثالثا:
رفض تقسيم فلسطين على أي نحو كان، والتمسك ببقائها بأكملها.
رابعا:
ضرورة إنشاء حكومة وطنية دستورية بمجلس نيابي منتخب بالتمثيل النسبي، من العرب واليهود، وعقد معاهدة تحالف ومودة بين إنجلترا وفلسطين ينتهي بها الانتداب.
خامسا:
العفو العام الشامل عن المتهمين، والمحكوم عليهم في حوادث الثورة الفلسطينية، وإطلاق سراح المعتقلين والمسجونين، وإعادة جميع المبعدين والمنفيين السياسيين.
سادسا:
إن تنفيذ الطلبات السابقة هو الحل الوحيد لقضية فلسطين، وبالتالي لإعادة الهدوء والسلام بها، ولإيجاد الصداقة والثقة بين إنجلترا وبين العرب والمسلمين، وإلا فالشعوب العربية والإسلامية في جميع أقطارهم، يعتبرون موقف الإنجليز واليهود منهم موقفا عدائيا، جديرا بأن يقابل بمثله، وأن يقرن بالنتائج الطبيعية له، حيال الصلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
سابعا:
حث ملوك وحكومات الأمم العربية والإسلامية وشعوبها، على العمل على تنفيذ هذه القرارات بكافة الوسائل الممكنة، وتبليغها إلى هذه الحكومات والحكومة الإنجليزية، وعصبة الأمم.
ثامنا:
انتخب المؤتمر لجنة دائمة، تنوب عنه في اتخاذ ما تراه من الوسائل المؤدية لتنفيذ هذه القرارات مكونة من حضرات: محمد علي علوبة باشا «رئيسا»، مولود مخلص باشا، فارس بك الخوري، جبران بك التويني، حمد الباسل باشا، توفيق دوس باشا، الدكتور عبد الحميد سعيد، السيد عبد الرحمن صديقي، جمال بك الحسيني، عوني بك عبد الهادي، ألفريد بك روك. يكون مقرها الرئيسي بمصر، ولها أن تضم إليها؛ وأن توكل عنها من تشاء.
الفصل الرابع عشر
الانتداب على فلسطين وفاتحة الوطن القومي
الانتداب هو شكل سياسي من أشكال الإدارة الحكومية من مبتدعات قواعد الصلح وجمعية الأمم على أثر انتهاء الحرب العالمية الماضية «1914-1918م» بمقتضاه تقرر جمعية الأمم انتداب إحدى دول الحلفاء لإدارة الحكم فيما كان يعد جزءا أو مستعمرة لألمانيا أو إحدى حليفاتها يومئذ النمسا، وبلغاريا، وتركيا، على أن يكون هدف الانتداب مساعدة الأمم التي لا يسعها أن تقف على قدميها وحدها على إدراك الحكم الذاتي بعد مدة الوصاية؛ أي إن الدولة المنتدبة تعمل كالقيم والوصي على القاصر، إلى أن يبلغ سن الرشد «السياسي» على أن تقدم الدولة المنتدبة عن إدارتها أو وصايتها هذه تقريرا إلى لجنة الانتدابات في العصبة، كذلك كان يذهب إلى جنيف في كل عام المندوب السامي البريطاني لفلسطين أو أحد كبار موظفي حكومتها البريطانيين، وممثل عن وزارة الخارجية البريطانية، كما أن اللجنة كانت تتلقى من «الوكالة اليهودية» في فلسطين بيانا عن النشاط اليهودي فيها، وكذلك من اللجنة العربية العليا وهيئات وأفراد آخرين عن ملاحظاتهم ومطالبهم من الإدارة الحكومية، وكانت لجنة الانتدابات توجه الأسئلة عن هذه الشئون إلى مندوبي الحكومتين الفلسطينية والبريطانية على أن تقدم اللجنة مقترحاتها، متى رأت هذا، مقترحاتها إلى مجلس العصبة لكي يقرر ما ينبغي اتخاذه من التدابير.
فاتحة الوطن القومي
قلنا: إن فلسطين قد وضعتها عصبة الأمم القديمة تحت الانتداب، ونقول هنا: إن الحكم التركي في فلسطين قد انتهى منذ سبتمبر 1918م، حين عقدت الهدنة بين الحلفاء وتركيا. ومنذ احتل الحلفاء فلسطين إلى أن وضعت تحت الانتداب، كانت تديرها حكومة بريطانية عسكرية، ثم حدث أن تم تسجيل تصريح لورد بلفور الذي تحدثنا عنه قبلا في معاهدة سيفر، وإن تمت الموافقة عليه من دول الحلفاء وعلى رأسها الرئيس ولسون - رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية - وإن قبلت الدولة البريطانية انتداب عصبة الأمم إياها على فلسطين. هذا؛ وقد دونت وثائق هذا الانتداب في الكتاب الأبيض البريطاني الذي صدر بتصريح بلفور، الذي بمقتضاه تم «الاعتراف بما هناك من الصلات التاريخية للشعب اليهودي مع فلسطين، والأسباب التي تدعو إلى إنشاء وطن قومي فيها»، ومما ذكره صك الانتداب في مادته الثانية أن الدولة المنتدبة تنهض بالتبعات التي من شأنها أن تخول القطر الفلسطيني إدارة سياسة اقتصادية تكفل له إنشاء وطن قومي لليهود أو الارتقاء في سبيل الحكم الذاتي. كذلك ذكرت المادة الرابعة أن الدولة المنتدبة تعترف بوكالة يهودية مختصة «وقد اعترف يومئذ بالجمعية الصهيونية مؤقتا»، كهيئة عامة لإرشاد الإدارة ومعاونتها فيما يتصل بإنشاء الوطن القومي اليهودي، وجاء في المادة 14 أنه ستعين لجنة خاصة مهمتها دراسة جميع المسائل والمطالب المتصلة بالجاليات الدينية المختلفة. وفي المادة 15 تعمل الدولة المنتدبة على أن تكفل للجميع الحرية التامة لمعتقداتهم. أما المادة 22 فقد اعترفت بأن اللغة العبرية مع اللغتين العربية والإنجليزية لغة رسمية.
أما حدود فلسطين، فقد تم تعيينها بين بريطانيا وفرنسا في 23 ديسمبر سنة 1920م في اتفاق خاص منشور في الكتاب الأبيض.
فلسطين الحالية
كانت مساحة فلسطين إلى عام 1937م، أي حين دنت الحرب العالمية الأولى 1914-1918م من نهايتها، إذ كانت تابعة للسلطة العثمانية - الدولة التركية - 219580 كيلومترا مربعا غير أنها قسمت قسمين: قسم أعطي لإمارة شرقي الأردن التي يحكمها الأمير عبد الله ابن الملك «الشريف» حسين - ملك الحجاز الأسبق - أما الآخر فإن مساحته قد أصبحت نحو 16000 كيلومتر مربع.
ولقد كان عدد سكان فلسطين 757182 في 1922م، منهم 590890 مسلما و83798 يهوديا، و73024 مسيحيا، و7028 درزيا. أما الباقون فذوو عقائد أخرى.
وقد اطرد نمو عدد السكان، خاصة بهجرة اليهود؛ فأصبح 1336518 في 1936؛ أي إنه قد كانت نسبة الزيادة 78٪، ومن هذا العدد 848342 مسلمون؛ أي بزيادة 44٪، و106474 مسيحيون؛ أي زيادة 49٪، و370483 يهود؛ أي بزيادة 342٪.
أما اللغات الرسمية في فلسطين فهي الإنجليزية، والعربية، والعبرية عدا لغات أخرى.
وكانت الإيرادات في ميزانية فلسطين في 1942-1943م مبلغ 8851877 جنيها. أما المصروف فمبلغ 1203877 جنيها.
ومما يذكر أنه في 1916م حدث أن تم بين فرنسا وبريطانيا اتفاق سري على تقسيم فلسطين إلى منطقتي نفوذ بينهما.
وقد عدل هذا الاتفاق، ففي 1920م حددت فلسطين بحيث بدأت من داب إلى بير شبيه، وشملت فلسطين جميع المستعمرات الزراعية اليهودية الحديثة على ينابيع قوة الماء اللازم لتقدمها الاقتصادي، وقرر الاتفاق أن يكون لفلسطين استعمال ماء الأردن الأعلى واليارموك وروافده بعد وفاء حاجة الأراضي التي يشملها الانتداب الفرنسي. وقد هوجم الانتداب من اليهود الذين قالوا: إنه غامض، مطالبين بأن يصرح بإنشاء دولة يهودية. أما العرب فإنهم لم يرضوا عن أي مشروع بإنشاء وطن قومي على أي صورة، وهوجم ثالثا من بعض ساسة إنجلترا وصحفها؛ لأن الانتداب يلقي على دافعي الضرائب الإنجليز عبئا لا مقابل له!
زيارة تشرشل لفلسطين ووثيقته البيضاء
وحين زار ونستون تشرشل - وزير المستعمرات البريطانية يومئذ - في أبريل 1921م فلسطين، أكد بأن السياسة الصهيونية للحكومة البريطانية لم تتغير، كما أكد أن هذه الحكومة تحترم حقوق العرب. وبيان ذلك أنه حدث عام 1921م أن زار مستر ونستون تشرشل، وكان وزيرا للمستعمرات في الوزارة البريطانية الائتلافية برياسة لويد جورج، فلسطين، يصحبه الكولونيل لورانس، ذلك الرجل اللغز البريطاني الملقب بملك العرب غير المتوج والمحرك للثورة العربية على الدولة التركية في خلال الحرب العالمية الماضية «1914-1918م»، وقد أتم تشرشل في زيارته هذه إنشاء إمارة شرقي الأردن وإسنادها إلى الأمير عبد الله ابن الملك حسين ملك الحجاز الأسبق، وقد تخلف فيها «لورانس» بضعة شهور لإرشاد الأمير في مهمته الجديدة.
أما الوثيقة أو الكتاب الأبيض الإنجليزي الذي أعلنه تشرشل باسم حكومته يومئذ، فقد ورد فيه ما يلي : «حين يتساءل ما هو المقصود من قيام الوطن القومي اليهودي في فلسطين، فإن الإجابة على هذا التساؤل هو أن المقصود ليس فرض جنسية يهودية على سكان فلسطين كمجموع. وإنما العمل على النهوض بالجالية اليهودية الحالية، بمساعدة سائر يهود البلاد الأخرى، لكي يتاح للأمة اليهودية كمجموع أن تتخذ من فلسطين مركزا يكون موضع عناية يهود العالم وفخرهم على أساس ديانتهم وشعبهم. ومن أجل أن يتاج لهذه الجالية الحرة، وللأمة اليهودية الفرصة لإظهار كفايتها، ينبغي أن تعلم أن هذا قد تقرر من قبل الحق لا من باب المنحة والتسامح نحوها. ومن أجل هذا كان لزاما ضمان وجود الوطن القومي اليهودي، وأن يعترف رسميا بأنه يقوم على الارتباط التاريخي القديم.»
ومما يذكر أنه بينما وافق اليهود على هذا التصريح إجمالا استنكره العرب.
هذا؛ وتنقسم الحالة في فلسطين بعد التصريحات الرسمية الخاصة بالوطن القومي اليهودي إلى ما يأتي: (1)
من يوليو 1920 إلى مارس 1923م: بداية إنشاء الإدارة الحكومية وتأسيس الوطن القومي؛ مما أدى إلى ثورة عرب فلسطين ومقاومتهم وإعلانهم عدم التعاون مع الحكومة. (2)
من 1923 إلى 1929م: كانت سني إنشاء وتعمير وهدوء نسبيا وفي الجملة. (3)
من 1929 إلى 1932م: قام العرب بثورات واضطرابات لأسباب منها مسألة حائط المعبد المقدس،
1
وقد تبع هذا تأليف اللجان والقيام بتحقيقات. (4)
من 1932 إلى 1936م: هدوء وتوسع في الإنشاء والإصلاح. (5)
من 1936م إلى يوم إعلان الحرب العالمية الثانية «سبتمبر 1938-1945م»، ثورات عربية متقطعة، وهدوء في خلال زيارة اللجنة الملكية البريطانية التي اقترحت القيام بتعديلات جوهرية في نظام الحكم في فلسطين. وقد تبع ذلك تأليف لجان وعقد مؤتمرات انتهت بمقترحات الحكومة البريطانية لإنهاء الانتداب. (6)
في أثناء الحرب نفسها؛ أي من 1939 إلى 1945م هاجر أكبر الزعماء «الوطنيين العرب» السياسيين فلسطين إلى العراق وتركيا ومصر والحجاز وأوروبا، وآثر السكان التريث لارتباط مصير فلسطين، بل العالم كله، بمصير الحرب كلها، مع الاستمساك بأن فلسطين للفلسطينيين. (7)
مؤامرات الإرهابيين في العصابات اليهودية في 1944م ضد حياة المندوب السامي البريطاني ماك مايكل وكبار الموظفين البريطانيين والدور الحكومية. (8)
قررت اللجنة التحضيرية لمؤتمر الوحدة العربية التي انعقدت في الإسكندرية برياسة مصطفى النحاس باشا - رئيس الوزارة المصرية - إلى يوم الأحد 8 أكتوبر 1944م، وعضوية حمدي الباباجي بك - رئيس الوزارة العراقية يومئذ - وسعد الله الجابري - رئيس الوزارة السورية يومئذ - ورياض الصلح بك - رئيس الوزارة اللبنانية يومئذ - وغيرهم أن يكون لفلسطين مندوب في جمعية الدول العربية. •••
قلنا: إن البريطانيين قد دخلوا فلسطين بعد أن مهدوا لدخولها بذلك التصريح، وإنه قد تم دخولهم القدس في 9 ديسمبر سنة 1917م، وفي السنة التالية؛ أي 1918م، وصلت اللجنة الصهيونية التي عهد إليها في أن تكون أداة استشارية للسلطات البريطانية في جميع المسائل المتصلة باليهود، كذلك نيط بها الفصل في مسائل خاصة بإسكان اليهود هناك. وفي يوليو 1918م وضع أساس الجامعة العبرية في جبل إسكويار.
الفصل الخامس عشر
كيف يستعمر اليهود فلسطين؟
يقول «إدوين صمويل» في كتابه «نظام المستعمرات اليهودية»: إن اليهودي يخرج من أوروبا، بعد أن جردته ألمانيا من ماله، هابطا أرض فلسطين وهو على حال من الفقر والتجرد من وسائل العيش.
فهل يتركونه ضالا يسير على غير هدى؟ كلا، إنه ليذهب في الحال إلى إحدى المستعمرات اليهودية التي أنشأها «الصندوق القومي اليهودي» الذي يموله أغنياء اليهود في جميع أنحاء العالم.
هذا؛ ويبلغ عدد المستعمرات اليهودية في فلسطين مائة يعيش فيها 25 ألفا من السكان على أدق المبادئ الاشتراكية التي لم تصل إليها بعض دويلات الاتحاد السوفييتي بعد، فهناك يخول الفلاح أن يقتني ثلاثة أفدنة وبقرة واحدة. أما في مستعمرات اليهود فليس لأحد فيها أملاك، بل الجميع من رجال ونساء، يزرعون الأرض ويوزعون حاصلاتها زرعا وتوزيعا بالمساواة، وكذلك ينشئون المطاعم والمدارس والمعابد والمستشفيات، ويصنعون الملابس، ويستمتعون استمتاعا اشتراكيا تاما.
أما ما يفيض بعد أن يتناول كل منهم حصته، فإنه يضم إلى «الصندوق القومي» لإنشاء مستعمرات أخرى على النسق ذاته.
كذلك أنشأ اليهود مستعمرات صناعية يقوم فيها العمل على النظام الاشتراكي التام. (1) رأي المؤلف
يبدو لنا أن الاشتراكية التامة في فلسطين لم تكن النظام المقصود لذاته، بل إنه جاء مترتبا على فكرة تشييد الوطن القومي؛ ذلك أنه لا يتحقق إلا بأن يساهم أغنياء اليهود في العالم كله في هذا، وإلا بأن يسع اليهود المهاجرين، وكثرتهم من الفقراء، أن يجدوا عيشا رغيدا منظما، ليس فيه ما يبعث على التنافس والخصومة، ومن هنا قامت المستعمرات اليهودية على الاشتراكية كما يقوم أي مشروع خيري بالمجان يعطي لكل الأفراد حصة مساوية لحصة الآخرين.
ولئن كان مما لا شك فيه أن بين المهاجرين اليهود في فلسطين قوما من المتشيعين للاشتراكية والشيوعية، إلا أن الممولين اليهود للمستعمرات الفلسطينية هم من الرأسماليين، وحسبنا أن نذكر هنا أنه قد جمعت رءوس أموال ضخمة، دون عقد مؤتمر لهذا الغرض، وأن أهم البيوت المالية التي أرصدت مالها من أجل المشروع الصهيوني بيت روتشيلد المعروف، وقد وظفت هذه الأموال في ثلاث شركات تتولى كل منها ناحية من النواحي، وهي: (1)
شركة كارين كايمت-إسرائيل: واختصاصها شراء الأراضي من العرب. وهي تؤجر ما تشتريه لليهود ولا تبيعه لهم خوفا من أن يتسرب عن طريق الأفراد للعرب مرة ثانية. وما تجبيه من إيراد تأجير أراضيها تشتري به أرضا جديدة. ويحتم قانون هذه الشركة على مستأجري أراضيها ألا يسمحوا لعربي بالعمل في هذه الأرض. بل تنص في عقود الإيجار على فسخ التعاقد إذا خالف المستأجر اليهودي هذا الشرط وسمح لعربي بأن يطأ الأرض المشتراة من العرب! (2)
شركة تحسين الأراضي: ولا يدخل اسم هذه الشركة في غاياتها وأغراضها، فهي لا تقوم بإصلاح الأراضي وتمهيدها كما يبدو من الاسم، وإنما تنحصر أغراضها في تهيئة الصفقات للشركات الأخرى. ويدخل في نطاق التهيئة المساومة والإغراء والدخول في المزايدات التي تطرح فيها أراض عربية، ولا يجوز للأفراد أن يزيدوا على الأسعار التي تعرضها هذه الشركة، ويرأس هذه الشركة «خانكين» - الزعيم اليهودي الكبير - وهو رجل مثالي وقف حياته على استخلاص الأرض من العرب بأي سبيل، في سن الثمانين، يعيش عيشة بسيطة، لا يأخذ مرتبا عن عمله إلا ما يكفيه لحياته البسيطة، ويعيش في شقة متواضعة في أحد شوارع تل أبيب. ومجال نشاط هذه الشركة غير محدود، ولها مطلق الحرية في الشراء لحساب الشركتين اللتين تقومان إلى جانبها. (3)
شركة البيكا
Association
أي الشركة اليهودية لاستعمار أراضي فلسطين: ومهمة هذه الشركة أن تتملك الأراضي ومن ثم تقدمها للمؤسسات اليهودية بأثمان بخسة قد تقل عن ثمن الشراء. وقد تأسست هذه الشركة بأموال البارون روتشيلد الذي كان أول من ساعد على إنشاء مستعمرات يهودية مستقلة بإقطاع الأراضي للجماعات دون الأفراد.
ولقد اقترن النشاط العظيم الذي يقوم على حشد أعظم ما يمكن حشده من المهاجرين بنشاط أعظم منه، وهو امتلاك كل ما يستطاع امتلاكه من الأراضي من أصحابها العرب، وانتزاعها منهم بشتى الطرق ومختلف الوسائل. وتقدر مساحة الأراضي التي يمتلكونها اليوم في فلسطين بأكثر من مليونين ونصف دونم؛ أي أكثر من «700 ألف فدان» تعد من أجود الأراضي، وتقع في المناطق الجميلة الواسعة الممتدة بين يافا وحيفا وبين يافا والقدس وحول القدس، وفي مناطق بيسان وطبريا وصفد؛ أي في شمال فلسطين ووسطها، وقد مدوا أيديهم الآن إلى غزة وبير السبع؛ أي إلى المنطقة الجنوبية الرملية، ويعادل مجموع ما امتلكوه أكثر من ثلث أراضي فلسطين الزراعية الجيدة، وما كان يزيد مجموع الأراضي التي كانت لهم قبل الحرب؛ أي في العهد التركي، على 50 ألف دونم «12 ألف فدان»، ويزيد مجموع اليهود الذين ينزلون فلسطين اليوم على 550 ألفا، وما كانوا يزيدون على 40 ألفا في العهد التركي؛ أي إنهم زادوا أكثر من 12 ضعفا في 25 سنة. (2) نشاط اليهود في العالم
قلنا: إن قضية اليهود مزدوجة ذات شقين: أولهما الحركة الصهيونية التي ترمي إلى اتخاذ فلسطين وطنا قوميا تمهيدا لإنشاء دولة يهودية على حساب العرب. وقد أفضى هذا إلى الحوادث التي بسطناها. أما ثانيهما فهو ذلك النشاط أو قل ذلك النفوذ الذي بلغه اليهود، مع كونهم الأقلية في كل مكان مما كان من أثره كراهتهم واضطهادهم.
ونسارع إلى القول هنا بأن أكبر نفوذ فاز به اليهود كان في أمريكا؛ إذ كانت حياتها تدور حول المال الذي ليس هناك من يباري اليهود في ميادينه. ومع أنهم حول ثلاثة ملايين، فإن لهم نفوذا يؤثر على 130 مليون أمريكي في انتخابات رياسة الجمهورية ومحافظة نيويورك وعضوية المحكمة العليا، ولهم في إنجلترا نفوذ كبير، فكبار ساستهم موزعون بين الأحزاب خاصة حزب العمال،
1
ويملك اليهود الكثير من الصحف والمجلات. أما في فرنسا فنفوذهم عظيم في حياتها السياسية والمالية وباب التأليف والفن وأساتذة الجامعات.
وأحسب أن حركة اضطهادهم في دول المحور جديرة بأن توقظ اليهود لكي ينتهجوا في علاقاتهم مع الأكثريات منهجا آخر، فقد دفعوا في سبيل نشاطهم المرموق ونفوذهم المحسود ثمنا عظيما من الكراهية والاضطهاد والعذاب. ففي ألمانيا المحورية أخرجوا من جميع مناصب الدولة والأستاذية والمسارح والبورصات والفنون. وحرم عليهم الزواج من غير اليهود. وقصر بيعهم وشراؤهم على بني جنسهم، ووضعت لهم كراسي في الحدائق العامة لا يجلسون على غيرها، وصودرت أموالهم. وقد ذهب مئات الألوف من اليهود ضحية الاضطهاد المنظم الفظيع، وأيقظت الدعاية المحورية في نفوس المسلمين والمسيحيين المتأصل عندهم من الكراهية القديمة والحقد الدفين للنشاط اليهودي العظيم.
من أجل هذا نرجو أن ينهج اليهود في علاقاتهم مع غيرهم نهجا يقضي على أسباب كراهيتهم واضطهادهم، ويجعلهم شعبا جديرا بالإعجاب بمجهوده العلمي والمالي، حقيقا بالعطف والمودة.
وعندنا أنه لو أدرك زعماء الصهيونية ورجال اليهودية هذا المعنى الجميل لقدموا هم الحل العادل لقضية عرب فلسطين، ونكئوا ذلك الجرح الدامي، وقضوا على الدعاية المسمومة ضدهم.
عظماء اليهود في العالم
في مصر عدد من اليهود بينهم عظماء الطائفة، غير أن أكثرهم من أصل أجنبي، ومن أمثلة ذلك سعادة العلامة الكبير السيد ناحوم الحاخام الأكبر في القاهرة. كان من أصل تركي ثم تمصر، وأسرة قطاوي أصلها من النمسا. وللمرحوم يوسف قطاوي باشا - الذي كان يعد رئيسا مدنيا للطائفة في مصر - مؤلفات فنية قيمة عن نظام الري والصرف والشئون المالية. وكان صديقا لجلالة الملك فؤاد الأول، ورنيه قطاوي بك - مدير شركة أراضي وادي كوم إمبو وعضو مجلس النواب المصري - وأسرة موصيري الكبيرة أصلها إيطالي. ومن أفرادها أصحاب البنوك والشركات والمتاجر، ورجال الطب والمحاماة، وأسرة سوارس من أصل إسباني ، وقامت بإنشاء بنوك وشركات أراضي الدلتا والمعادي، وسكك حديدية مع الخديو عباس حلمي وأسرة شيكوريل مشهورة بمخازنها في شارع فؤاد الأول في القاهرة، وأسرة فارحي أصلها من بلغاريا، وقد كان المعلم فارحي وزير مالية الوالي أحمد الجزار باشا، وإبراهيم فارحي أجا كان رئيس ديوان طرود الخديو إسماعيل، وإبراهيم فارحي كان مع نوبار باشا في مهمته إلى باريس، وإبراهيم فارحي الشاب صحفي يكتب في واجب الشبان غير المسلمين في الاندماج مع المسلمين وفي تطبيق الفكرة الاشتراكية في مصر على نسق ما هو جار في إسكندنياوه. والبارون منشي الذي يعد منشئ بلدية منشية الإسكندرية وسموحة من أصل بغدادي، صاحب أراضي تفتيش السيوف بالإسكندرية وبتشوتو. وحاييم درة صاحب مصانع درة المشهورة في الإسكندرية.
وفي أمريكا: من عظماء اليهود في أمريكا هنري مويستان وزير المالية، ولويس براندس عضو المحكمة العليا، وجولباس روزنوالد المليونير الكبير.
وفي إنجلترا: إيمانويل شياويل - ضد الصهيونية - نائب ومن رجال حزب العمال، واللورد هربرت صمويل - الوزير والمندوب السامي البريطاني الأسبق في فلسطين، وهوربليشا - وزير الحرب الأسبق، وحاييم وايزمان - زعيم حركة الصهيونية.
وفي فرنسا: ليون بلوم، وجورج مانديل، وبنسيتس - وزير حكومة دي جول، وبرجسون الفيلسوف المعروف، وجاك هاداميد الرياضي، وذور بن جوريون من رجال الاشتراكية الصهيونية، وسالامون بولتسير وليون كان وفاهل من أساتذة الجامعات ورؤساء الكليات، وأندريه موروا وبيير لازار رئيس تحرير الباري سوار.
وفي ألمانيا: أنشتين، وفرويد صاحب النظريات المشهورة في علم النفس والتربية.
وفي إيطاليا: ليفي سيفيتا الرياضي المشهور.
ومن رجال السينما: شارلي شابلن، وصمويل جولدوين، وشنك، وملفين دوجلاس، وبول موني، وإدوارد روبنسون، وميوون ليكوف. هذا؛ وقد حدث في 25 آذار سنة 1925م «1 رمضان سنة 1343ه» أن احتج مسلمو فلسطين ونصاراها على مجيء اللورد بلفور إلى القدس لافتتاح الجامعة العبرية وأضربوا عن الأعمال. وكذلك حين زار دمشق بعدئذ أضرب سكانها محتجين في مظاهرة من خمسة آلاف. وفي 28 آيار 1925م أنذرت بريطانيا الملك حسين بمغادرة العقبة، حين وصل إليها بعد سقوط الحجاز في أيدي السعوديين. وفي نيسان 1925م احتج الفلسطينيون لدى وزير المستعمرات البريطانية مستندين إلى عهد عصبة الأمم وعهود الحلفاء للملك حسين، وبلاغ اللنبي في جملة فلسطين، وصك الانتداب، والتصريحات الرسمية. وهم لا يغمطون لليهود حقا. بل لا يريدون أن يتمتعوا بحق الأكثرية العربية، ويريدون تأسيس حكومة وطنية مشتركة أمام مجلس نيابي منتخب تسن قانون الأساس «دستوره» جمعية وطنية تأسيسة. وقد ثار عرب فلسطين في 1921 و1929 و1934 و1936م. (3) اضطرابات في فلسطين
وقع في أول نوفمبر سنة 1938م اضطراب عام أعقبه حوادث كثيرة؛ مما أدى إلى إعادة بحث الحالة في إنجلترا.
وقد أذيع في يوم 9 نوفمبر سنة 1938م تقرير اللجنة الملكية «لجنة وودهود» الموفدة لبحث مشروع تقسيم فلسطين.
سياسة الحكومة البريطانية في فلسطين «بيان رسمي عنها»
أولا:
نشرت اللجنة الملكية برئاسة المرحوم اللورد بيل تقريرها في شهر يوليو سنة 1937م مقترحة - كحل للمسألة الفلسطينية - مشروع تقسيم هذه البلاد إلى دولتين مستقلتين؛ دولة عربية ودولة يهودية، مع إبقاء جزء من البلاد تحت سلطة الانتداب.
وعلى أثر نشر هذا التقرير أعلنت حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة سياستها في الموضوع، معلنة أنها توافق موافقة عامة على ما جاء بتقرير اللجنة الملكية من البراهين والنتائج، وأن الخطة العامة التي أوصت بها اللجنة للتقسيم لهي في رأيهم أفضل حل مرض للمعضلة.
ثانيا:
كان الحل الذي عرضته اللجنة مبنيا على ضوء المعلومات التي تمكنت اللجنة من الوصول إليها في ذلك الحين، وكان مفهوما أيضا يومئذ أنه من الضروري إجراء بحث آخر مدقق قبل الوصول إلى قرار نهائي في هل كان الحل المقترح يمكن تطبيقه عمليا. وقد صار بحث هذا المشروع في كل من البرلمان البريطاني ولجنة الانتدابات الدائمة ومجلس عصبة الأمم. وعهد بعدها لحكومة جلالة الملك بإجراء تمحيص دقيق للمشروع للتثبت من إمكان تطبيق مبدأ التقسيم.
وفي 23 ديسمبر سنة 1937م أرسل وزير المستعمرات خطابا إلى المندوب السامي في فلسطين ينبئه فيه بأن حكومة جلالة الملك قد قررت إجراء تحقيق آخر يمكنها من وضع تصميم أكثر إحكاما وتفصيلا مما تقدمه. وقد جاء في الخطاب المذكور أنه لا يمكن الوصول إلى قرار نهائي بصيغة عامة، بل يجب بحث المسألة بالتدقيق مرة أخرى لكي تتمكن الحكومة - عندما يعرض عليها أفضل مشروع للتقسيم يمكن الوصول إليه - من الحكم فيما إذا كان المشروع عادلا وممكنا تنفيذه عمليا.
ثالثا:
وقد وصل الآن إلى حكومة جلالة الملك تقرير لجنة فلسطين للتقسيم بعد أن قام أعضاؤها بمهمة التحقيق بكل دقة ومقدرة، وفيه يتضح أن هذه اللجنة قد جمعت معلومات قيمة وثمينة ستساعد أولي الأمر كثيرا عند النظر مرة أخرى في الموضوع.
ومما يذكر أن أربعة من أعضاء اللجنة أجمعوا على رفض مشروع التقسيم كما وضعته اللجنة الملكية، كذلك ورد بالتقرير أن اللجنة قد بحثت علاوة على مشروع اللجنة الملكية مشروعين معروفين بمشروع حرف «ب» ومشروع حرف «ج».
رابعا:
فبعد أن درست حكومة جلالة الملك تقرير لجنة التقسيم أدركت أن تحقيق اللجنة الأخير قد أوضح أن المشروع المنطوي على إقامة دولتين مستقلتين في فلسطين تعترضه صعوبات سياسية وإدارية ومالية عظيمة جدا تجعل حل المسألة أساسه بعيد الاحتمال.
خامسا:
بناء على ما تقدم قررت حكومة جلالة الملك استمرار حمل مسئولية حكومة فلسطين جمعاء، إنما تواجه الآن حكومة جلالة الملك المركز الصعب الذي وصفه تقرير اللجنة الملكية، وأصبح من المتحتم عليها أن تختار الوسائل لمعالجة الحالة مع مراعاة التزاماتها نحو العرب واليهود، وهي تعتقد أن الوصول إلى هذه الوسائل غير متعسر؛ فإنه بعد أن أعارت الحكومة هذه المشكلة غاية الانتباه على ضوء التقارير التي قدمتها كل من اللجنة الملكية ولجنة التقسيم أصبح من الواضح لديها أن أمتن أساس يمكن تشييده لأجل نشر السلام والنجاح في فلسطين هو أن يسود التفاهم بين العرب واليهود هناك، وأن حكومة جلالة الملك مستعدة أن تبذل غاية الجهد في بداية الأمر لتشجيع هذا التفاهم.
فلأجل الوصول إلى هذا الغرض قد ارتأت الحكومة البريطانية أن تدعو لمفاوضتها في لندن بأسرع ما يمكن مندوبين من عرب وفلسطين ومن الدول الأخرى المجاورة، كما أنها ستدعو معهم مندوبين عن الوكالة اليهودية وذلك لأجل المفاوضة في السياسة التي ستتبع في المستقبل في فلسطين وإقرار مسألة الهجرة إليها. أما فيما يختص بمندوبي عرب فلسطين فإن حكومة جلالة الملك يجب أن تحفظ لنفسها الحق في رفض أي زعيم من الزعماء الذين تعتقد بمسئوليتهم في حملة القتل والعنف.
سادسا:
تأمل حكومة جلالة الملك بأن هذه المفاوضات العتيدة في لندن ستساعد على الوصول إلى اتفاق فيما يتعلق بسياسة فلسطين في المستقبل. وعليه إذا لم تسفر المفاوضات في لندن عن الوصول إلى اتفاق في زمن معقول؛ فإن حكومة جلالة الملك ستتخذ لنفسها قرارا على ضوء التحقيق الذي تم إلى الآن في الموضوع، وعلى ضوء المباحثات بلندن، وتعلن حينئذ السياسة التي ستقرر اتباعها.
سابعا:
وستأخذ حكومة جلالة الملك بعين الاعتبار على الدوام عند بحث وتقرير السياسة التي ستتبع الصفة الدولية للانتداب الذي عهد به إليها والالتزامات الناتجة عنه. (4) الإرهاب اليهودي في عام 1944م
وفي سنة 1944م، نشطت الجمعيات الثورية اليهودية مرة أخرى في فلسطين، كان من عواقبها، أن أفضى في صدد ذلك وزير المستعمرات البريطانية يومئذ، مستر إليفر ستانلي، ببيان جاء فيه ما يلي:
في ليل 27 سبتمبر سنة 1944م، اعتدي على أربعة مراكز للبوليس. وكان المعتدون من أعضاء جمعية «إيرجون رقاي ليومي»، وهي هيئة عسكرية تابعة للجمعيات الصهيونية الجديدة. وقام بوضع خطط الاعتداء وتنفيذها قوة تقدر بنحو 150 رجلا على الأقل مسلحين بالقنابل والأسلحة الأوتوماتيكية. وقتل عدد من جنود البوليس الفلسطيني. ومن السكان المدنيين. وأصيبت بنايات البوليس بخسائر فادحة. وقتل عدد من الإرهابيين أيضا، وقبض على اثنين منهم، أصيب أحدهما بجرح، واستولت السلطات على كميات من الذخيرة، وعلى قنبلتين، ورايات لهذه الجمعية، وفي صباح يوم 29 سبتمبر اغتيل المستر ويلكن، وهو ضابط بوليس بريطاني كبير من رجال قسم المباحث الجنائية في أثناء ذهابه إلى مكتبه في القدس. ونجا القتلة، وفي ليل 5-6 أكتوبر أغار خمسون شخصا على مكاتب «مصلحة الصناعات الخفيفة»، ومخازنها في تل أبيب. وكان بعض المغيرين مسلحا، ونقلوا منسوجات تبلغ قيمتها 100000 جنيه. وقد أعلن هؤلاء المغيرون أنهم أعضاء جمعية «إيرجون زفاي ليومي».
وليس من شك في أن هذه الاعتداءات التي يراد بها الترويج لأغراض سياسية تعوق سير الجهود التي تبذلها الدول المتحالفة في سبيل الحرب بصورة خطيرة، وهي من صنع طائفة صغيرة نسبيا من المتطرفين. وقد استنكرها المسئولون من زعماء اليهود في فلسطين وفي جميع أنحاء العالم.
وإني لعلى ثقة بأن مجلس العموم كله سيشترك معي في استنكار هذه الاعتداءات، وفي إبداء العطف على ضحايا هؤلاء السفاحين المجرمين. «هتاف».
ولما سأل الكولونل أرثو إيفانس العضو عن حزب المحافظين عن الطريقة التي حصل بها هؤلاء الرجال على هذه الأسلحة الأوتوماتيكية والذخائر وعن التدابير التي اتخذت لإعادة النظام إلى نصابه، قال المستر ستانلي في رده: إنه في خلال السنوات الخمس الماضية كثرت حركة تنقلات الجنود في الشرق الأوسط، ولا شك في أن كمية معينة من الأسلحة قد سرقت أو بيعت لهم في بعض الحالات.
وتكلم بعده الأيرل ونترتون من المحافظين فقال: هل يعلم المستر ستانلي أن الذين لهم اتصال منا بالشعب هناك «أي في فلسطين» قد جزعوا للمعلومات التي وصلت إليهم، وهي معلومات تدل على أن الفريقين يتسلحان استعدادا لحرب أهلية بعد هذه الحرب؟ فهل للمستر ستانلي أن ينظر في أمر إصدار «كتاب أبيض» في هذا الموضوع؛ حتى يدرك أهل هذه البلاد «إنجلترا» خطورة الحالة، ويشعروا بما تعانيه الحكومة في فلسطين من ضغط لا يحتمل؟
فأجابه المستر ستانلي بقوله: إنه من أهم الأشياء أن يدرك الناس خطورة الحالة هناك، وسأنظر في الطريقة التي أستطيع بها إبلاغ الجمهور البريطاني في الأمر.
ثم رد على سؤال آخر بقوله: إن حمل الأسلحة من غير تصريح يعد جناية.
السكان اليهود ومعاونتهم للسلطات
وتساءل المستر جون ماك «من العمال» عما إذا كان المستر ستانلي سيبين بوضوح أن أعمال هذه الطائفة الصغيرة جدا في فلسطين لم تثر استنكار زعماء اليهود المسئولين وحدهم. ولكنها أثارت استنكار كل سكان فلسطين اليهود أيضا، وأنهم يعتزمون تقديم كل مساعدة ممكنة للسلطات في فلسطين حتى لا تتكرر أمثال هذه الأعمال.
فرد عليه المستر ستانلي بالإيجاب، ثم مضى فقال : إن الاستنكار اللفظي لا يكفي وحده بطبيعة الحال، والذي نريده نحن ونرجو أن يتحقق، هو أن نلقى تعاونا فعالا من جميع السكان اليهود في فلسطين . «هتاف».
بلاغ رسمي
وفي أكتوبر سنة 1944م، أصدر القائم بأعمال الحكومة في فلسطين، والقائد العام لقوات الشرق الأوسط: البلاغ الرسمي التالي:
يرغب القائم بأعمال الحكومة في فلسطين، والقائد العام لقوات الشرق الأوسط، بعد أن تبادلا الرأي في الحالة القائمة في هذا البلد، في أن يطبعا في نفوس الجمهور، وخاصة الجمهور اليهودي، التصريح التالي:
لقد تمتعت فلسطين، بفضل الجهود والتضحيات التي بذلتها القوات البريطانية وقوات الدول المتحالفة مدى خمس سنوات، بالحصانة الفعلية من ويلات الحرب التي أنزلت النكبات والآلام التي لا توصف بغيرها من البلاد.
على أن فلسطين كانت - منذ أوائل هذه السنة - مسرحا لسلسلة من الجرائم المروعة التي اقترفها رجال الإرهاب من اليهود عمدا أملا في الوصول، بطريق القوة إلى حالة تساعد على تحقيق أغراض سياسية. وقد قتل رجال الأمن العام من الضباط والجنود في غير ما حرج وهم يؤدون واجبهم في سبيل الدفاع عن الأرواح والممتلكات، وكذلك قتل الأبرياء من عابري السبيل، ودمرت المواد المتفجرة والنيران بنايات الحكومة بما تبلغ قيمته عشرات الألوف من الجنيهات. وحاول المجرمون أيضا اغتيال ممثل صاحب الجلالة البريطانية في كمين نصبوه له وقد نجا بعناية إلهية.
وتجري هذه الأعمال الإجرامية جنبا إلى جنب مع أقسى مراحل النضال العصيب بين الدول المتحدة وألمانيا النازية، وهو أفظع جلاد بغيض عرفته اليهودية في تاريخها. (5) مقتل اللورد موين
وقد حدث في نوفمبر سنة 1944 أن اعتدى يهوديان متنكران على اللورد موين وزير الدولة البريطانية في الشرق الأوسط حين خرج من داره في الزمالك، واستطاع الكونستابل النوبي المصري الأمين محمد علي القبض عليهما، وقد حكمت عليهما المحكمة العسكرية العليا المصرية بإعدامهما، ونفذ الحكم فيهما في عام 1945.
وقد صدر في 12 نوفمبر 1944 بيان رسمي بالقرار الذي أصدره المرحوم أحمد ماهر باشا - رئيس الوزارة ووزير الداخلية يومئذ - بترقية الكونستابل الأمين محمد عبد الله ترقية استثنائية إلى الملازم الثاني المحلية والعسكري محمد زعفران إلى رتبة أومباشي «مكافأة لهما على الخدمة الممتازة التي قاما بها لمصلحة الأمن العام في القبض على قاتلي اللورد موين.»
ثم جاء في البيان أن دولته رأى توزيع المكافآت الآتية عليهما وعلى الذين اشتركوا معهما في اعتقال القاتلين. وهذه المكافآت هي: ألف جنيه: الأمين محمد عبد الله أفندي و50 جنيها:كل من فهمي سليمان «طاهي اللورد موين»، والأومباشي محمد زعفران، و25 جنيها: كل من البوليس الملكي محمد بدر والعسكري علي راغب.
وهذا عدا مكافأة قدرها 50 جنيها منحتها إدارة الأمن العام لسائق سيارة راضي بك.
اليهود يستنكرون الحادث
وقد تلقى دولة رئيس الوزراء على أثر هذا من رئيس الوكالة اليهودية في فلسطين البرقية الآتية:
الهيئة اليهودية كلها بفلسطين والشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم شعروا بصدمة مروعة بسبب ما وقع بالقاهرة في وضح النهار من مقتل لورد موين الوزير البريطاني المقيم بالشرق الأوسط، وإننا لنعتبر القاتلين خائنين لقضية شعبهما، ونعطف كل العطف على مركز الحكومة المصرية التي قد تكون شعرت بالحرج من جراء هذه الجريمة، ونكون شاكرين إذا وافقتم على نشر هذا التلغراف في الصحف المصرية.
النشاط العربي السياسي والاقتصادي
نشط العرب الفلسطينيون لمناهضة الهجرة اليهودية والوطن القومي اليهودي، من ذلك أنه قامت في فلسطين أحزاب عربية، توحدت في 1936م باسم «اللجنة العربية العليا» التي كان يرأسها فضيلة السيد أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، ثم انفصل عن اللجنة حزب الدفاع، ويعد حزبا معتدلا قليل الأنصار.
أما من الناحية الاقتصادية، فقد تم إنشاء المؤسستين الكبيرتين اللتين نهضتا لحمل رسالة النشاط الاقتصادي، وهما البنك العربي، وصندوق الأمة العربية. قد اتجهتا إلى هاتين الناحيتين بالذات، فالبنك العربي، وهو أقدم مؤسسة عربية اقتصادية، تأسس منذ خمسة عشر عاما لينهض بالمشروعات الاقتصادية وتموين الصناعة والتجارة الفلسطينية على نطاق كان محدودا أول الأمر، واتسع في السنوات الأخيرة اتساعا ارتفع برأس ماله من 150000 من الجنيهات إلى 1000000 عام 1943م، ثم إلى 2000000 من الجنيهات في 1944-1945م، كما أعلن أخيرا، منها مليون لرأس المال ومليون للاحتياطي ، أما صندوق الأمة العربية فهو المؤسسة التي تقوم بمهمة استنقاذ الأراضي وإدراك ما يوشك أن يقع منها في أيدي الصهيونية. وهو بهذا يقوم بمهمة المقرض لمن يوشف أن يبيع أرضه.
وهذا هو الإعلان الذي نشره البنك في الصحف:
البنك العربي
شركة محدودة الأسهم مركزها القدس
فروعه القدس، يافا، حيفا، نابلس، عمان، أربد، دمشق، بيروت والقاهرة
بدئ الاكتتاب في الأسهم الجديدة
تنفيذا لقرار الجمعية العمومية في اجتماعها السنوي بتاريخ 9 فبراير سنة 1945م، قرر البنك العربي أن يصدر 112500 سهم عادي لاكتتاب الجمهور في فلسطين وسوريا ولبنان وشرق الأردن والعراق ومصر والمهجر وسائر البلاد العربية بسعر عشرة جنيهات فلسطينية للسهم الواحد بموجب شروط الاكتتاب الموجودة في مركز البنك وفروعه، وبواسطة بنك الرافدين في بغداد، على أن لا يقل كل اكتتاب عن خمسة وعشرين سهما، ويبتدئ الاكتتاب في أول شهر أبريل سنة 1945م.
وبهذه المناسبة ننشر أرقاما عن مركز البنك ونسبة الأرباح الموزعة على المساهمين في خلال السنوات الثلاث الماضية:
سنة 1942
سنة 1943
سنة 1944
جنيه ف
جنيه ف
جنيه ف
رأس المال المدفوع بكامله
105000
250508
550000
مجموع الاحتياطي المدفوع بكامله
53866
160243
471660
مجموع الأرباح الصافية
43832
104783
208298
حصص الأرباح الموزعة عن كل 100 جنيه ف
25652
64274
122254
12
32
24 (6) من الأحق بفلسطين العرب أم اليهود؟«مناقشة بين العالمين: حتى وآنشتين»
أولهما الدكتور فيليب حتى؛ لبناني عربي متجنس بالأمريكية، وثانيهما العلامة آنشتين؛ من أصل ألماني ومقيم في أمريكا الآن. وقد أدلى الدكتور فيليب حتى الأستاذ بجامعة برنسون ببيان إلى لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي يبسط فيه وجهات نظر العالم العربي والإسلامي في المسألة الصهيونية ردا على اقتراح عرض على اللجنة مفاده أن حكومة الولايات المتحدة يجب أن تتخذ التدابير اللازمة لفتح أبواب فلسطين في وجه اليهود. وقد نشر هذا البيان في جريدة أمريكية وهذه خلاصته:
وقد نشرت مجلة «المصور» في 14 يوليو سنة 1944م رأي الدكتور فيليب حتى قال: إن التفكير في إنشاء دولة يهودية في فلسطين حركة مفتعلة تستند إلى أموال دولية. بيد أنه لا رجاء في نجاحها أو تحقيقها. وهي تبدو كمغالطة تاريخية، لا في نظر الخمسين مليونا من العرب فحسب - وأكثرهم من سلالة الكنعانيين الذين نزحوا إلى البلاد قبل أن تطأ أقدام العبرانيين أرض فلسطين بزمان طويل - وإنما في نظر العالم الإسلامي بأسره.
والمجتمع الإسلامي مجتمع قوي عزيز الجانب يبلغ عدد أفراده زهاء 275 مليون نسمة، يقيمون في رقعة متسعة مترامية الأطراف من القارتين الأفريقية والآسيوية. فلو حدث أن تحقق البرنامج السياسي لأنصار الصهيونية ودعاتها بفضل معاونة بريطانيا وأمريكا، فكيف يتسنى لدولة يهودية أن تبقى وتعمر وسط العالم الإسلامي في جو مشبع - باعتبار ما سيكون - بالنفور والعداء؟ وليكن معلوما أنه لم يحدث قط أن اتحدت آراء العرب والمسلمين وأجمع الكل على سياسة واحدة إزاء مشكلة من المشكلات مثل هذا الاتحاد والإجماع. فقد توالت الاحتجاجات من جميع البلدان الإسلامية من مراكش حتى شبه جزيرة الملايو ضد الصهيونية، وقرر الجميع وجوب وقفها عند حدها. •••
لقد كانت القدس القبلة الأولى التي يمم المصلون المسلمون وجوههم شطرها قبل أن يولوا وجوههم صوب مكة، فالقدس في نظر المسلم «الحرم» الثالث الذي يلي مكة والمدينة في المنزلة، وهبها المولى عز وجل للمسلمين المجاهدين. لذلك كان تخليهم عن حقوقهم في فلسطين تهاونا في عقيدتهم، وإخلالا بأحكام دينهم. ثم إن بيت المقدس أكثر قدسية عند المسيحيين الذين يبلغ عدد المتوطنين منهم في فلسطين قرابة 130 ألف نسمة.
وهذه المقاومة العنيفة للحركة الصهيونية من جانب العرب لا تعني عداء لليهود، ولا تنطوي على بغض للجنس السامي أو تحامل عليه، فهم يعلمون أنهم ساميون مثلهم، وأن بين اليهودية والإسلام علاقة متينة تكاد تكون أقوى من علاقة كل منهما بالمسيحية. كما أن اليهود لم يحظوا في العصور الوسطى أو الحديثة بمعاملة أفضل مما لاقوه في البلاد العربية الإسلامية. •••
إن العرب والمسلمين عاجزون عن معرفة الأسباب التي من أجلها يتحتم أن تحل مشكلة اليهود على حسابهم! إن قلوبهم تخفق بالعطف على اليهود المضطهدين، ولكنهم لا يدركون لماذا لم يرفع المشرع الأمريكي - وقد وقف مناصرا ليهود أوروبا ومدافعا عنهم - الحواجز والقيود في سبيل قبول المهاجرين منهم الذين يتسنى للملايين منهم الإقامة في براري «الأريزونا» و«تكساس» الخالية من السكان والعمران.
إن كثيرين من علماء الأمريكان وأغنيائهم أدوا خدمات جليلة للشرق، ولهم فيه جولات موفقة في ميادين الخدمة العامة، وقد كان هدف الكثيرين ممن أقاموا في الأقطار العربية العطاء لا الأخذ، والخدمة والتضحية لا الإفادة والكسب، مجردين من المطامع والأهواء الاستعمارية؛ لذلك فازوا بثقة الشعوب الإسلامية والعربية، وأصبحت للأمريكان في نفوسهم مكانة رفيعة جليلة. ولكن هذه الثقة عرضة للتحلل والانهيار إذا أصرت أمريكا على موقفها من المسألة الصهيونية.
إن الشعب الأمريكي لا يقف اهتمامه عند حد كسب هذه الحرب، بل يتعداه إلى المساهمة في بناء عالم جديد يسوده الاستقرار والوئام، وتنعدم فيه أو تكاد أسباب الخلاف ودواعي التشاحن والشقاق. وليس هناك ما يدعو إلى القلق والاضطراب أكثر من إنشاء حكومة يهودية في فلسطين على حساب العرب والمسلمين.
وقد رد على الدكتور حتى، العالم المعروف آنشتين، وهو الآن أستاذ الجامعة نفسها، ومعه الأستاذ كحلر للدفاع عن الصهيونية وحقوق اليهود فقال: المعروف أن العرب واليهود تفرعوا من أصل واحد، فهم جميعا أحفاد سيدنا إبراهيم الذي هجر إلى فلسطين، لذلك ليس لأحدهم أن يزعم استقراره في البلاد قبل الآخر، وتدل الآراء الحديثة على أن فريقا من الإسرائيليين نزح إلى مصر كما ورد في قصة يوسف وأن الفريق الآخر بقي في فلسطين. لذلك فإن الكنعانيين الذين اصطدم بهم اليهود عند دخولهم أرض الموعد في أيام النبي يوشع كان بعضهم من الإسرائيليين، فليس للعرب إذن أفضلية السبق في التوطن بالبلاد.
وإذا كانت القدس للعرب مدينة مقدسة في المرتبة الثالثة، فإنها لليهود المدينة الوحيدة المكرمة، ففيها تمثلت حوادث تاريخهم القديم. وإذا كانت يوما قبلة المصلين المسلمين فقد تغيرت القبلة بعدئذ، ولا يجوز أن تتخذ طقوسا عفت ودرست أساسا لمزاعم العرب في فلسطين. إن اليهود في دفاعهم لا يلجئون إلى القوة ولا إلى الحقوق التاريخية، فالاستناد إليها لا يجدي بكثير أو بقليل؛ لأننا لو اتخذنا الحوادث التاريخية مقياسا للأحقية لاحتفظت شعوب قليلة بحقها في أوطانها، ولسقط حق الكثيرين فيها. يقول الدكتور حتى: إن العرب لا يفهمون لماذا لا تحل المشكلة إلا على حسابهم، وهي مشكلة ليست من صنعهم ولا دخل لهم فيها ولا جريرة. والحقيقة أنهم بانتصارهم في الحرب التي شنوها على فلسطين واستيلائهم عليها قد ساهموا بنصيب في إيجاد المشكلة، وإن كان نصيبهم أقل من غيرهم من الشعوب نسبيا.
ومن الغريب أن الموقف الذي يتخذه العرب حيال اليهود يعدل تماما موقف شعوب العالم أجمع نحونا، ولكن هناك فارقا بين العرب وبقية الشعوب، فكل شعب له وطن واحد لا علاقة له بالتقاليد اليهودية، أما العرب فإنهم يمتلكون أربع ممالك؛ المملكة العربية السعودية وبها جميع البلاد العربية المقدسة واليمن والعراق وشرق الأردن، هذا لو تركنا جانبا مصر وسوريا ومستعمرات شمال أفريقيا، وفلسطين هي المكان الوحيد في العالم الذي يتصل اتصالا وثيقا بتاريخ اليهود من صنوف العذاب والحرمان والاضطهاد منذ أن غادروا وطنهم وشتتوا على وجه البسيطة هنا وهناك! لذلك فإن الحركة الصهيونية أو بعبارة أوضح حركة البحث عن ميناء يهرع إليه اليهود ويتحصنون فيه ليست حركة مفتعلة كما يقول الدكتور حتى، ولكنها الحاجة الماسة والضيق الشديد الذي دفعنا إليها.
إن اليهود على استعداد للعمل والخدمة والتضحية، وقد تمكن الشباب اليهودي ولا يزال يأمل في تحويل الأراضي العقيمة القاحلة بفلسطين إلى حقول مزدهرة ناضرة، والأماكن الجرداء المقفرة بها إلى مدن حديثة عامرة، وبذا يتسنى رفع المستوى المعيشي للعرب واليهود على السواء. (7) فلسطين للعرب
ثم تناول الدكتور حتى هذا الدفع ودحضه، قائلا: عندما انتقل سيدنا إبراهيم إلى أرض كنعان «فلسطين» لم تكن خالية من السكان كما تدلنا على ذلك رواية العهد القديم، وما تسميهم الآن عرب فلسطين - وخاصة المسيحيين منهم - هم ذرية هذا الجنس الذي توطن في فلسطين قبل وصول سيدنا إبراهيم.
ثم انتقل إلى مسئولية العرب في إيجاد المشكلة عن طريق طرد اليهود من فلسطين، وأثبت أن استيلاء العرب على فلسطين كان في القرن السابع بعد الميلاد حينما كانت فلسطين إذ ذاك قد أفلتت من قبضة اليهود نهائيا، وأصبحت مسيحية لا يهودية.
ثم قال: وأما ضربكم على الوتر العاطفي بالتحدث عما عاناه اليهود من تقتيل وتشريد واضطهاد فإننا نرجو أن تستمع إليه أمريكا وأن تسمح بهجرة اليهود إليها، وأما حجة إصلاح أراضي فلسطين وتحسين المستوى المعيشي بها فهي حجة طالما سمعناها من الطليان بشأن طرابلس عام 1912م، وبخصوص الحبشة عام 1935م، وهي حجة يعلم رجال الاقتصاد المطلعون على بواطن الأمور بطلانها وسخفها.
يهود يحاربون الصهيونية
في 8 نوفمبر 1944م، عقدت الجمعية الأخوية اليهودية في لندن اجتماعها الأول برياسة السر بزويل كوهين، وهي ترمي إلى مناهضة الروح الصهيونية، وتذهب إلى أن اليهود طائفة دينية لا جماعة قومية سياسة، وإلى اشتراك اليهود مع العرب، وتعاونهما في فلسطين، وتقوية روابط الصداقة.
قال المربرجر الحاخام الأمريكي اليهودي، رئيس المجلس اليهودي الأمريكي في سان فرانسيسكو، الذي حضر للاتصال بالمجلس المحلي في سان فرانسيسكو، ناب عن الرئيس وعميد جامعة كاليفورنيا في حركة مقاومة الصهيونية:
إن الجمعية اليهودية التي يرأسها المربرجر تعارض في نظرية القومية اليهودية أو الوحدة الجنسية، وهي تراها ضد مصلحة اليهود. كما تعارض الجمعية في كل فلسفة أو منهج يرمي إلى جعل اليهود جنسا مستقلا بذاته أو جماعة؛ لأن هذا يعيد تحالف الكنيسة والدولة في العصور الوسطى. ويجب أن يكون اليهود في فلسطين فلسطينيين مشاركين سكانها في الامتيازات والالتزامات مع المسلمين والمسيحيين. ويجب أن يعود اليهود الأوروبيون إلى بلادهم التي فروا منها. وليس هناك أية هيئة يهودية لها سلطة تخولها إنشاء كتلة قومية يهودية.
هذا؛ وقد عقد في يوليو 1945م مؤتمر صهيوني في لندن، ونشطت مكاتب الدعاية العربية في الرد على حركته وتفنيد دعوته وحجته.
الفصل السادس عشر
مؤتمر فلسطين في لندن
كان آخر دراسة شبه دولية لقضية فلسطين، ذلك المؤتمر الذي عقد في لندن في أوائل عام 1939م، فقد اجتمعت وفود الحكومات العربية في القاهرة ثم غادرتها في 24 يناير 1939م، وكان وفد مصر مؤلفا من سمو الأمير محمد عبد المنعم وعلي ماهر باشا رئيس ديوان جلالة الملك فاروق الأول يومئذ، وحسن نشأت باشا سفير مصر في لندن يومئذ، وعبد الرحمن عزام بك وزير مصر المفوض في تركيا يومئذ.
وفي 5 يناير سنة 1939م أرسل الملك عبد العزيز آل سعود إلى الرئيس روزفلت كتاب احتجاج على ما أذيع عن موقف حكومة الولايات المتحدة في مناصرة اليهود في فلسطين. (1) الوفود العربية إلى مؤتمر فلسطين في لندن
1 (1)
الوفد السعودي:
وهو مؤلف من الأمير فيصل آل سعود رئيسا وشقيقه الأمير خالد وسعادة فؤاد حمزة بك وكيل الخارجية العربية، والسيد عبد الله السليمان السكرتير الخاص لسمو الأمير فيصل أعضاء. (2)
الوفد اليمني:
برياسة الأمير سيف الإسلام الحسين ولي عهد اليمن وبعضوية القاضي علي بن الحسين العامري، والسيد حسن الكبسي، والسيد علي بن محمد بن عقيل. (3)
وفد شرق الأردن:
مؤلف من سعادة فؤاد الخطيب باشا مستشار إمارة شرق الأردن، والسيد عبد الله النمر الحمود بك. (4)
الوفد العراقي:
برياسة نوري السعيد باشا رئيس الوزارة العراقية يومئذ.
وفي 17 يناير عقد رؤساء الوفود العربية وأعضاؤه اجتماعات هامة برياسة رفعة محمد محمود باشا استغرقت أسبوعا تمهيدا لمؤتمر لندن.
وفي 18 يناير أقام رفعة محمد محمود باشا مأدبة في فندق شبرد باسم الحكومة المصرية لرؤساء الوفود العربية وأعضائها. وقد ألقى في هذا الاجتماع كلمة قيمة حيى فيها الزعماء الفلسطينيين قائلا: إنني لعظيم الرجاء في أن تؤدي الحكمة وأن يؤدي روح العدل إلى ما نبتغيه جميعا من إقرار السلام في هذه الربوع التي تضم الأماكن المقدسة على نحو يزيل مخاوف إخواننا العرب من أهلها ويرد الطمأنينة إلى نفس كل المقيمين بها. ورد عليه كل من الأمير فيصل والأمير سيف الإسلام.
وفي 7 فبراير 1939م، افتتح مؤتمر فلسطين في لندن، وخطب المستر تشمبرلين رئيس الوزارة البريطانية في الوفود العربية، ورد عليه الأمير عبد المنعم والأمير اليمني سيف الإسلام. وفي 17 مارس ارفض مؤتمر فلسطين بعد مباحثات دامت ستة أسابيع دون الوصول إلى قرار بسبب رفض العرب واليهود المشروع البريطاني.
وبعد أن افتتح مؤتمر فلسطين في قصر سان جيمس في 7 فبراير سنة 1939م كما ذكرنا، اجتمع المستر شمبرلين بكل من الفريقين العرب واليهود على حدة، وألقى في هذه المناسبة خطبتين. وجاء في خطبته في الوفود العربية ما يأتي: إنني سعيد بأن أرى هنا ليس فقط زعماء عرب فلسطين السياسيين، بل أيضا الممثلين المختارين للدول المجاورة لها أيضا. وقد جاءوا يعاونوننا على إيجاد حل حكيم للصعوبات الحالية يحفظ حقوق العرب وفلسطين، ثم ختم خطابه مبديا الأسف على ما وقع من الحوادث في فلسطين. وقد رد عليه الأمير محمد عبد المنعم بخطاب استهله بالإعراب عن اغتباطه وامتنانه للترحيب العظيم الذي لقيه من الحكومة البريطانية، وقال: إن وجودنا بينكم لخير شاهد على ميلنا الودي نحو الأمة البريطانية، وفيه خير برهان على حسن نيتنا. ونحن واثقون من أن حسن النية المتبادل هذا، لن يعجز عن الظهور في مباحثاتنا القادمة. وأعقبه الأمير سيف الإسلام قائلا: إن العقل الراجح الذي مكنك من حل أعقد المسائل في الأمور الدولية الأخيرة هو الذي نعتمد عليه إلى درجة بعيدة، في حل مشكلة فلسطين. وبعد أن ألقى المستر تشمبرلين خطابه على الوفود العربية استقبل الوفد اليهودي في غرفة خاصة. وكان مؤلفا من الدكتور وايزمان وبرودتسكي ومنجور وسرنوك وناحوم جولدمان. وقد أثنى رئيس الوزراء في خطابه على النظام وضبط النفس الذي أبداه اليهود في أثناء عهد الصعوبات الخطيرة في فلسطين، وكرر لهم الأغراض والأهداف التي يتوخاها، كما جاء في خطابه السابق إلى العرب. ورد عليه الدكتور وايزمان مؤكدا رغبة اليهود في السلم، وقال: إننا نجتمع في مرحلة مظلمة من مراحل تاريخنا، ولا نغالي إذا قلنا: إن آمال ملايين اليهود المنتشرين في العالم وصلواتهم تتجه مع الثقة الوطيدة في حسن نية بريطانيا إلى هذه المباحثات.
ثم تكلم المسيو رين زبعي رئيس المجلس الوطني اليهودي في فلسطين فأكد معاونة يهود فلسطين للحكومة البريطانية، وخطب لورد ريدنج، باسم يهود إنجلترا، فنوه بضرورة إعادة السلم في أقرب وقت، وبرغبة الجميع في الوصول إلى تسوية. ثم تكلم أخيرا الحاخام وايز مندوب اليهود الأمريكيين فصرح بأن يهود الولايات المتحدة يتتبعون في اهتمام الجهود التي تبذل في الوقت الحاضر للتوفيق بين شعبين يمكن ويجب أن يعيشا في سلام تحت رعاية الإمبراطورية البريطانية.
وفي 8 فبراير عقدت الجلسة لتسوية الخلاف القائم بين حزبي عرب فلسطين، الأول وهو الأكثرية العظمى برئاسة سماحة السيد أمين الحسيني، والثاني أقلية برئاسة راغب النشاشيبي بك، وفي 9 فبراير بدأ المؤتمر عمله في قصر سان جيمس، وكان اللورد هاليفاكس والمستر ماكدونالد والمستر بتلر في الجانب البريطاني، وقرر مندوبو فلسطين في هذا اليوم ضم راغب النشاشيبي بك ويعقوب فراح أفندي مندوبين عن حزب الدفاع العربي. وقد ألقى جمال الحسيني بك بيانا هاما عن القضية الفلسطينية بسط فيه ما لعرب فلسطين من حقوق طبيعية وسياسية وعهود مقطوعة، وبطلان تصريح بلفور وصك الانتداب الذي قال عنه: إنه وثيقة غير مشروعة، ومخالف لعهد عصبة الأمم، وقال: إن العرب يعدون مسألتي الهجرة وبيع الأراضي باطلتين لاستنادهما إلى صك الانتداب الباطل. ثم أجمل البيان مطالب فلسطين النهائية كما يلي: الاعتراف باستقلال فلسطين، والعدل عن محاولة تأسيس الوطن اليهودي، وإلغاء الانتداب، واستبدال عوضا عنه معاهدة كمعاهدة العراق، ووقف الهجرة، ومنع بيع الأراضي بتاتا في الحال.
أما بيان الدكتور وايزمان في المؤتمر البريطاني اليهودي فقد استغرق ساعتين كاملتين، وطلب الدكتور وايزمان في بيانه تنفيذ وعد بلفور، وصك الانتداب، وإنشاء وطن قومي لليهود، وإلغاء القيود الوقتية الأخيرة على الهجرة اليهودية، ومنحهم الحرية للسير في سبيل ترقية الأراضي والحالة الاقتصادية، والتعهد بعدم وضع اليهود في مركز الأقلية، وأعرب عن استعداد اليهود للتعاون مع عرب فلسطين في إعادة السلام إلى البلاد، ثم تحدى دعوى العرب بأن فلسطين بلد عربي صميم قائلا: إن مركز اليهود المادي والروحي حفظ لفلسطين كيانها طول الأجيال. وفي 10 فبراير دارت مباحثات عامة شفوية، وفي 11 فبراير عقد المؤتمر العربي جلسة سرية. وقد رد المستر مكدونلد على البيان الفلسطيني فقال: إن ما أعربت عنه فلسطين من رغبتها في تأمين المصالح البريطانية له قيمة عظيمة، ثم قال: إنه يعتب على العرب لشكواهم من عدم وجود حكومة دستورية في فلسطين، ويرى أن هذه الشكوى في غير محلها؛ لأن إنجلترا أعربت غير مرة عن رغبتها في إنشاء حكومة دستورية في البلاد، ثم تكلم عن صداقة إنجلترا للعرب، ثم تكلم عن مسألة الهجرة فقال: إن العرب يخشون سيادة اليهود ونحن نصرح بأننا لا نقبل سيادة اليهود على العرب ولا سيادة العرب على اليهود. وعلق المستر مكدونلد على البيان اليهودي، فبسط الخطة البريطانية تجاه المأزق الذي تصطدم به مشكلة فلسطين، وبعد أن شرح لليهود نظرية العرب قال لهم: بالنظر إلى توتر الحالة الدولية تعلق الحكومة البريطانية أهمية كبرى على وجوب الوصول إلى حل سريع لمشكلة فلسطين. ثم أشار إليهم بأن تقسيم فلسطين يكون وقت الحرب خطرا على اليهود أنفسهم بقدر خطره على المصالح البريطانية.
وفي 12 فبراير قضت الوفود هذا اليوم في راحة وزيارات، فقضى الوفد المصري يومه في ضيافة المستر مكدونلد بمنزله الريفي، وذهب الوفد السعودي إلى ولاية «لكس»، وهي المقر الريفي لأرل أثلون والأميرة أليس قرينته، وتناولوا الغداء على مائدتهما، وقضى الوفد الفلسطيني يومه في زيارة بعض المعاهد العلمية. وفي 13 فبراير عقد المؤتمر العربي جلسة سرية في الصباح حضرها المستر مكدونلد والمستر بتلر ... وقد ألقى نوري السعيد باشا بيانا في 13 صفحة، تضمن وصفا مسهبا للعهود المقطوعة للعرب، وللمباحثات التي جرت على أساسها مع المغفور له الملك فيصل وغيره، واستطرد إلى مسألة فلسطين، وكيف كان اليهود راتعين في بحبوحة العيش في البلاد العربية، قبل تصريح بلفور، وكيف تبدلت الحالة منذ زيارة السر ألفرد موند للعراق. وقال: إن الهياج الذي أثارته الصهيونية تعدى العراق إلى جميع البلاد العربية والإسلامية، وهزها هزة عنيفة. ثم تناول الوثائق التي بسط فيها السر هنري ماكماهون للملك حسين القواعد الأساسية لتسوية الحالة في الشرق الأدنى بعد الحرب، ونصت على إجابة أماني العرب الوطنية.
هذا؛ وقد أصدرت الوكالة اليهودية في مؤتمر فلسطين بيانا كان مما جاء فيه:
ومن بواعث الأسف أن يباشر المؤتمر أعماله قبل إعادة النظام إلى فلسطين، وإن زعم العرب أن فلسطين بلد عربي هو حلم غير قابل للتحقيق. فاليهود الآن يبلغون ثلث سكانها، ويقومون بثلثي النشاط الاقتصادي والثقافي فيها، وهم لم يتخلوا يوما عن المطالبة بحقهم التاريخي فيها.
وفي 14 فبراير استأنف المؤتمر العربي اجتماعه بالمستر مكدونلد وزير المستعمرات والمستر بتلر وكيل وزارة الخارجية. وقد ألقى الأمير فيصل بيان الوفد السعودي عن موقف بلاده بإزاء المشكلة الفلسطينية، فبعد أن بسط سموه العهود المقطوعة للعرب، وأقام الأدلة على صحتها وقوتها، تكلم عن علاقات الصداقة الوثيقة بين بلاده وإنجلترا، وقال: إن هذه العلاقات التي يريدها العرب وطيدة يخشى أن تتصدع إذا لم يعامل عرب فلسطين بالعدل والإنصاف. وقد رد المستر بتلر عليه قائلا: إن إنجلترا نفذت عهودها للعرب، وإن فلسطين ليست داخلة في هذه العهود.
وفي مساء اليوم استأنف المستر مكدونلد والمستر بتلر اجتماعهما بالمندوبين اليهود. وكذلك اجتمع مستر تشمبرلين بعلي ماهر باشا ونوري السعيد باشا وفؤاد حمزة بك، وقد حضر الاجتماع المستر مكدونلد وبعض كبار موظفي وزارة الخارجية والمستعمرات: وفي 15 فبراير خصصت جلسة المؤتمر لبحث العهود التي قطعتها إنجلترا للعرب.
وتكلم الأمير سيف الإسلام مؤيدا وجهة النظر العربية ومطالبا بتحقيقها.
وتكلم أبو الهدى باشا ممثل شرق الأردن، فوصف الصعوبات التي تلقاها حكومته في حفظ الأمن بسبب تأثير حوادث فلسطين في البلاد، وقال: إنه يخشى كثيرا ألا تستطيع الحكومة ذلك في المستقبل، إذا لم تحل القضية حلا مرضيا يحقق أماني فلسطين والعهود المقطوعة للملك حسين.
وتكلم علي ماهر باشا فأيد باسم مصر مطالب الوفود العربية، وأوضح تأثير حوادث فلسطين فيها. وقال: إن البيانات التي سمعها لا تترك شكا في أن عهود السر هنري ماكماهون تتناول فلسطين.
وفي 16 فبراير دار البحث حول طلب العرب الخاص بإنشاء دولة عربية مستقلة، وقد افتتح وزير المستعمرات البحث بخطبة بسطت بعض آراء عامة للتحقق من المقترحات التي يمكن قبولها كبديل لاقتراح العرب الخاص بإنشاء دولة عربية مستقلة. وقد رد جمال الحسيني بك على هذه الآراء ذاكرا أن عدم وجود دولة عربية مستقلة لا يتعارض مع سلامة الأقلية اليهودية. وتكلم الوفد الفلسطيني في هذه الجلسة قائلا: إن الحالة لا يمكن الصبر عليها، وأن لا علاج لها إلا بإنالة البلاد استقلالها، وإن كل حل آخر يكون عقيما!
وقد أيد الوفد العراقي طلب فلسطين وقال: إنها لا تقل عن العراق استحقاقا للاستقلال، وإن في العراق أقلية يهودية حقوقها مكفولة كما ستكون حقوق الأقلية اليهودية في فلسطين. وتكلم الوفد البريطاني عن الضمانات التي يجب أن تنالها الأقليات اليهودية في فلسطين المستقلة، وأشار إلى بعض الضمانات القائمة في الهند. فأجيب بأن الحالة في فلسطين تختلف عنها في الهند، وأن فلسطين مستعدة لقبول الضمانات التي أقرتها عصبة الأمم.
وقال علي ماهر باشا: إذا وافقت إنجلترا على استقلال فسطين سهل البحث في مسألة الضمانات، فهل هي موافقة على ذلك؟
فأجاب الوفد البريطاني بأنه سيجيب عن هذا السؤال في الجلسة المقبلة. وفي 17 فبراير لم يجتمع المؤتمر العربي، ولكن المباحثات الخاصة ظلت متوالية وهي تدور حول استقلال فلسطين والضمانات المطلوبة للأقليات. أما المؤتمر اليهودي الإنجليزي فقد اجتمع وتبادل الفريقان الآراء. وقد أكد اليهود في هذا الاجتماع أنهم لا يستطيعون بأي حال من الأحوال أن يقبلوا أي اقتراح يجعل من اليهود أقلية في فلسطين. وفي 18 فبراير عقدت جلسة المؤتمر العربي، وقد افتتحها المستر مكدونلد برد شديد على التهم التي وجهها الوفد الفلسطيني إلى إنجلترا في الجلسة السابقة. وقال: إنه لا ينكر أخطاء السياسة البريطانية، ولكنه يعتقد أنها لا تبرر بعض حوادث الثورة. ورد عليه السيد الحسيني ذاكرا حوادث من هذا النوع قام بها الإنجليز واليهود، واقترح علي ماهر باشا أن تضع الوفود العربية بيانا مشتركا، تضمنه رأيها في استقلال فلسطين والضمانات التي يمكن تقديمها للأقليات اليهودية.
وفي 20 فبراير اجتمع الوفد البريطاني مع الوفود المصرية والعراقية والسعودية والأردنية في قصر سان جيمس. وقد بدأ المؤتمر بحث مسألة الهجرة، وقد افتتح ماهر باشا الجلسة بخطبة مهمة باسم الوفود العربية، بسط فيها الحد الأدني الذي تستطيع البلدان العربية أن تعده حلا مرضيا للمشكلة الفلسطينية، ومما قاله: إن السياسة الرشيدة البعيدة النظر، لا يمكن أن تغفل أقل من إنشاء دولة عربية مستقلة في فلسطين يتمتع في ظلها جميع السكان ، وأفاض علي ماهر باشا في الكلام عن أهمية السلام في فلسطين من وجهة نظر الدول الديموقراطية الكبرى، خاصة بريطانيا العظمى، التي تعد مركزا لأكبر إمبراطورية إسلامية في العالم. وذكر رفعته سامعيه بأن فلسطين كانت في سنة 1919 بلادا عربية للمسلمين والمسيحيين فيها لغة واحدة ، وعادات واحدة، على حين كانت الأقلية اليهودية الصغيرة فيها تتكلم العربية أيضا، وتعيش مع العرب والمسيحيين في مودة وإخاء كشعب واحد.
وفي 21 فبراير لم يجتمع المؤتمر العربي ولا المؤتمر اليهودي. بل كان يوم اجتماعات خاصة بين معرب والمستر مكدونلد واليهود. وقد علقت الصحف الإنجليزية قائلة: إن فشل المؤتمر أصبح أمرا واقعا. وفي 22 فبراير اجتمع أعضاء المؤتمر العربي الإنجليزي، واستأنفوا مباحثاتهم في مسألة الهجرة. وفي 23 فبراير اجتمع زعماء اليهود ببعض مندوبي الحكومات العربية بدعوة من المستر مكدونلد. وقد افتتح المستر مكدونلد الجلسة ببيان ذكر فيه رغبة إنجلترا في حل عادل يعيد الطمأنينة إلى فلسطين، ثم تكلم علي ماهر باشا فقال: إن الحق والمنطق والمصلحة تقر مطالب فلسطين التي لا يمكن إيجاد حل عادل إلا على أساسها، وإن تصريح بلفور ليس حجة، فهو باطل لصدوره قبل احتلال فلسطين.
وفي 24 فبراير فرغ المؤتمران العربي الإنجليزي واليهودي الإنجليزي من المحادثات التمهيدية. وقد أبلغ المستر مكدونلد الوفود العربية أن الحكومة قررت قبول وجهة نظر الحكومات العربية الصديقة، والعمل على حل مشكلة فلسطين، على أساس جديد هو تأليف دولة مستقلة فيها، وإبدال الانتداب بمعاهدة. وفي يوم 24 فبراير، قدم الأمير فيصل رسالة والده إلى المستر تشمبرلين، وعلى أثر ذلك اجتمعت اللجنة الوزارية برياسة المستر مكدونلد، وأبلغت أعضاء الوفود العربية أن الحكومة قررت قبول وجهة نظر الحكومات العربية والعمل على إيجاد حل لمشكلة فلسطين على أساس جديد هو تأليف دولة مستقلة فيها وإبدال الانتداب بمعاهدة. وفي 25 فبراير اجتمعت الوفود العربية لدرس مقترحات الحكومة الإنجليزية. وفي 28 فبراير رفض الوفد اليهودي المقترحات البريطانية. وفي 2 مارس، بحثت المسألة الفلسطينية في مجلس الوزراء البريطاني. وفي 3 مارس، صدر في لندن الكتاب الأبيض حاويا المراسلات التي دارت بين الشريف حسين والسير هنري ماكماهون سنة 1915م. وفي 3 مارس سافر أمين عثمان باشا - وكيل وزارة المالية - لمقابلة مفتي فلسطين في لبنان. وفي 8 مارس اجتمع مندوبو العرب بالوفد البريطاني وقد تم الاتفاق على أن تضع إنجلترا بمساعدة مندوبي الحكومات العربية مشروعا للحل النهائي يعرض على المؤتمر. وفي 10 مارس عقد اجتماع بين الوفد البريطاني وبين علي ماهر باشا وفؤاد حمزة بك وتوفيق السويدي بك بالنيابة عن الدول الثلاث. وقد بسطت إنجلترا فيه مشروعها الجديد، وهو ينص على إنشاء حكومة مؤقتة لعشر سنين، وتحديد عدد المهاجرين بثمانين ألفا.
وفي 12 مارس، كتب المهاتماغاندي إلى جريدة صنداي تيمس رسالة قال فيها: تلقيت بضع رسائل يطلب أصحابها فيها إلي أن أعلن آرائي في مسألة العرب واليهود في فلسطين وفي اضطهاد اليهود في ألمانيا، فأقول: إنني أعطف العطف كله على اليهود، والخطة الشريفة تقضي بأن يعامل اليهود أينما ولدوا معاملة منصفة عادلة. ثم ختم رسالته قائلا: ليبرهن اليهود الذين يدعون أنهم شعب الله المختار على أنهم يستحقون هذا اللقب فيختاروا طريقا بعيدا عن وسائل العنف لتثبيت مركزهم في العالم، وكل بلد هو وطن، ومنه فلسطين. ولكن لن يكون لهم ذلك بالعنف والاعتداء بل بالمحبة. وفي 16 مارس رفض العرب واليهود المشروع البريطاني. وفي 17 مارس فض مؤتمر فلسطين بعد مباحثات دامت ستة أسابيع. وقد صرح عبد الرحمن عزام بك عضو وفد مصر قبل سفره لمدير مكتب «الأهرام» في لندن قائلا: «أعتقد أن هذه الأسابيع الستة قد غرست بذور الوحدة بين العرب، كما أنها ستغرس بذور الصداقة والتعاون في النهاية بين العرب والإنجليز.» (2) الكتاب الأبيض عن القضية الفلسطينية
في يوم الأربعاء 17 مايو سنة 1939م أذيع في وقت واحد في لندن والقاهرة والقدس ملخص الكتاب الأبيض عن فلسطين، وها هو نص الملخص:
أولا: الدستور (1)
إن الهدف الذي ترمي إليه حكومة جلالة الملك هو أن تنشأ في غضون عشر سنوات دولة فلسطينية مستقلة تربطها ببريطانيا العظمى معاهدة تنظم بموجبها العلاقات التجارية والحربية للمستقبل بطريقة مرضية، وفقا لاحتياجات البلدين، ومشروع إنشاء هذه الدولة المستقلة يقتضي استشارة مجلس عصبة الأمم فيما يختص بإنهاء الانتداب. (2)
يشترك كل من العرب واليهود في حكومة هذه الدولة المستقلة بطريقة تضمن مصالحهما الجوهرية. (3)
يسبق إنشاء هذه الدولة المستقلة فترة انتقال تستمر فيها حكومة جلالة الملك على تحمل مسئولية الحكم في البلاد. وفي خلال فترة الانتقال هذه يعطى لأهل فلسطين نصيب في حكومة البلاد يزاد تدريجيا، وتتاح الفرصة للفريقين بالاشتراك في إدارة الأداة الحكومية، وسينفذ هذا المشروع بقطع النظر عن استعداد الفريقين للانتفاع به. (4)
حالما يعود الأمن والنظام إلى فلسطين تتخذ الإجراءات لتنفيذ هذه السياسة، وذلك بمنح أهل فلسطين نصيبا أوفر في حكم البلاد. والغرض من ذلك هو أن تسلم جميع مصالح الحكومة لموظفين فلسطينيين يعاونهم فيها مستشارون بريطانيون تحت إدارة المندوب السامي. ولهذا الغرض ستكون حكومة جلالة الملك مستعدة لأن تنتدب حالا لرياسة بعض هذه المصالح موظفين فلسطينيين يساعدهم مستشارون بريطانيون، وسيشترك رؤساء المصالح الفلسطينيون في المجلس التنفيذي الذي يقوم بتقديم المشورة إلى المندوب السامي، ويحدد عدد رؤساء المصالح من عرب ويهود على وجه التقريب طبقا لنسبتهم في عدد السكان. وسيزداد عددهم كلما سمحت الظروف إلى أن يصبح جميع رؤساء المصالح من الفلسطينيين الذين سيتولون جميع الأعمال الإدارية والاستشارية التي يقوم بها الآن موظفون بريطانيون. وعند بلوغ هذه المرحلة ينظر في أمر تحويل المجلس التنفيذي إلى مجلس وزراء يعقبه تغيير هام في مركز واختصاصات رؤساء المصالح الفلسطينيين. (5)
لا تقدم حكومة جلالة الملك في هذه المرحلة على اتخاذ أية إجراءات لإنشاء مجلس تشريعي بطريق الانتخاب، ولكنها تنظر إلى هذا التطور الدستوري كخطوة مناسبة، وتساعد على تنفيذها إذا ظهر فيما بعد أن الرأي العام في فلسطين يحبذ هذا التطور بشرط أن تسمح الظروف المحلية بإيجاد الإدارة اللازمة لذلك. (6)
بعد مضي خمس سنوات من إعادة الأمن والنظام، تعين هيئة وافية ممثلة لأهالي فلسطين ولحكومة جلالة الملك، وذلك للبحث في الإجراءات الدستورية التي تمت في غضون فترة الانتقال وللنظر وللتوصية في أمر الاستقلال الدستوري لدولة فلسطين. (7)
فيما يختص بالمعاهدة المشار إليها في الفقرة رقم (1) أو في الدستور المشار إليه في الفقرة رقم (6) ترغب حكومة جلالة الملك أن تحتاط احتياطا كافيا لما يأتي: (أ)
تأمين الأماكن المقدسة وحرية الوصول إليها، كذلك حماية مصالح وممتلكات الهيئات الدينية المختلفة. (ب)
حماية الهيئات والجماعات المختلفة في فلسطين بموجب التزامات حكومة جلالة الملك لكل من العرب واليهود وللمركز الخاص للوطن القومي اليهودي في فلسطين. (ج)
الوثوق في الاحتياطات الحربية اللازمة كما تراه حكومة جلالة الملك ضروريا على ضوء الظروف السائدة وقتئذ؛ لذلك تطلب حكومة جلالة الملك أن تقتنع بأن مصالح بعض البلاد الأجنبية، والتي هي مسئولة عنها الآن قد كفلت الكفالة التامة. (8)
ستبذل حكومة جلالة الملك كل ما في وسعها لإيجاد الظروف التي تمكن من قيام دولة فلسطينية مستقلة بعد عشر سنوات. أما إذا وجدت حكومة جلالة الملك خلافا لما تأمل بعد مضي هذه العشر سنوات فإنها مضطرة لتأجيل إنشاء هذه الدولة المستقلة، فستستشير مندوبي أهالي فلسطين ومجلس عصبة الأمم والدول العربية المجاورة قبل إقرار التأجيل. فإذا اتضح لحكومة جلالة الملك أنه لا بد من التأجيل تطلب معاونة الهيئات السالف ذكرها لوضع تصميم للمستقبل يكون الغرض منه الوصول إلى الهدف المقصود في أول فرصة ممكنة.
وستتخذ الإجراءات أثناء فترة الانتقال لزيادة سلطة المجالس البلدية والمجالس المحلية.
ثانيا: الهجرة (1)
تباح هجرة اليهود خلال الخمس سنوات الآتية بمعدل يمكن توصيل عددهم إلى ما يقرب من ثلث سكان البلاد كلها، بشرط أن تسمح بذلك مقدرة البلاد الاقتصادية لاستيعابهم. فبعد مراعاة الزيادة الطبيعية المنتظرة بين السكان العرب واليهود، وكذلك عدد المهاجرين اليهود الذين دخلوا البلاد بطريقة غير مشروعة، يمكن السماح بدخول 75900 مهاجر يهودي ابتداء من شهر أبريل سنة 1939م أثناء السنوات الخمس المقبلة، وسيسمح بدخول هؤلاء المهاجرين بعد مراعاة شروط الاستيعاب على النمط الآتي: (أ)
سيسمح بدخول 10000 مهاجر يهودي سنويا خلال هذا الخمس سنوات، مع ملاحظة أنه يمكن سد النقص في العدد الذي يدخل في أي عام بزيادة العدد في عام آخر من الأعوام الخمسة، بشرط أن تسمح بذلك مقدرة الاستيعاب الاقتصادية. (ب)
علاوة على العدد المشار إليه، وبمثابة المساهمة في حل مشكلة المهاجرين اليهود يسمح بدخول 25000 مهاجر منهم متى اقتنع المندوب السامي بأنه قد اتخذت الإجراءات اللازمة لإعالتهم، وتعطى الأفضلية للمهاجرين الأولاد الذين ليس لهم من يعولهم. (2)
سيحتفظ بالإدارة الحالية للتحقق من مقدرة الاستيعاب الاقتصادية، وسيكون للمندوب السامي السلطة النهائية لتقدير حدود هذه المقدرة. ويستشار مندوبو اليهود والعرب قبل كل تصديق دوري. (3)
متى انتهت مدة الخمس سنوات لا يسمح بهجرة اليهود إلا بموافقة عرب فلسطين. (4)
تنوي حكومة جلالة الملك أن تمنع الهجرة الغير شرعية، وقد شرع في اتخاذ التدابير اللازمة لذلك، فإذا تسرب إلى البلاد مهاجرون بطريقة غير مشروعة رغما عن هذه الاحتياطات ولم يمكن إخراجهم، يخصم عددهم من النصاب السنوي.
ثالثا: الأراضي
يمنح المندوب السامي سلطة عامة لمنع وتنظيم نقل ملكية الأراضي. وتبتدئ هذه السلطة من تاريخ نشر هذا البيان عن سياسة الحكومة، وتستمر في خلال كل فترة الانتقال.
وستتجه سياسة الحكومة إلى تعمير الأراضي وتحسين طرق الزراعة فيها عندما يكون ذلك ممكنا. وفي هذه الحالة يكون للمندوب السامي السلطة في إعادة النظر وتعديل أية أوامر صدرت بمنع أو تحديد نقل ملكية الأراضي إذا وجد أن حقوق السكان العرب ومركزهم تظل محفوظة.
الفصل السابع عشر
جامعة الأمم العربية وميثاقها
خرج من أحداث الظلم والظلام، منذ تفرقت كلمة العرب، وضعفت دولهم، وطمع المستعمرون الأوروبيون فيهم، واتخذوا بعضهم لبعض عدوا - مولود جديد هو جامعة الأمم العربية. ففي يوم الاثنين 25 سبتمبر سنة 1944م حضرت وفود الدول العربية، واجتمعت في قصر أنطونياديس في الإسكندرية في هيئة لجنة تحضيرية لعقد مؤتمر عربي. وفي 8 ربيع الثاني 1364ه/22 مارس 1945م دون ميثاق جامعة الدول العربية، وهي: سوريا، وشرقي الأردن، والعراق، والمملكة العربية السعودية، ولبنان، ومصر، واليمن. وقد نصت المادة الثانية من هذا الميثاق على أن الغرض من الجامعة هو توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها تحقيقا للتعاون بينها، وصيانة لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شئون البلاد العربية.
وقد اختبرت الحوادث، صلابة هذا الميثاق في ثلاث مسائل في خلال عام 1945م: الأول في مؤتمر سان فرانسيسكو ومؤتمر محكمة العدل الدولية الذي عقد في واشنطون؛ فقد ظهرت وفود الدول العربية في هذين المؤتمرين متحدة الكلمة. أما المسألة الثانية فهي حوادث سوريا ولبنان؛ ذلك أن فرنسا في مايو سنة 1945م قد زادت قواتها هناك، ورفضت تسليم جيشي سوريا ولبنان إلى الدولتين ، وزاد الطين بلة، أنها حرضت على بذر الشقاق بين المسلمين والمسيحيين وبين الطوائف، معتدية على الآمنين، مدمرة المساجد والمدن. وعند هذا وجه رئيس الوزارة المصرية يومئذ محمود فهمي النقراشي باشا - رئيس وفد مصر في مجلس جامعة الدول العربية - الدعوة إلى الدول العربية، فعقد المجلس الدورة الأولى في أوائل يونية 1945م، وأصدر قرارات في 7 يونية، عد فيها الحكومة الفرنسية معتدية على سوريا ولبنان، وطلب جلاء قواتها منهما، وأن يتخذ المجلس تدابير طبقا للمادة السادسة من الميثاق.
وكان من أثر هذا، أن سلمت فرنسا الجيش الوطني العامل إلى سوريا ولبنان، وباتت مقاليد الحكم في أيدي الوطنيين.
قضية فلسطين
المسألة الثالثة: وكانت قضية فلسطين هي المسألة الثالثة، فقد اكتسبت بإنشاء هذه الجامعة، عضوا قويا جديدا، ولعل صيحة الإنسانية والسلام تدعو اليهود، وهم أبناء عمومة العرب الذين من ولد إسماعيل، إلى مصافاتهم كما كان حالهم في البلاد العربية والإسلامية كما أوضحنا قبلا.
ولعل هذا المجهود الصغير في هذا الكتاب يعين هذين الفريقين على الحل الذي يتفق مع العدل والحق والسلام. فقد دعي مجلس جامعة الدول العربية إلى عقد اجتماع في مصر، لتقرير الرأي الإجماعي للعرب دولا وشعوبا لتأييد قضية عرب فلسطين، وتفنيد قرارات المؤتمر الصهيوني العالمي في لندن سنة 1945م.
الفصل الثامن عشر
الصهيونية بين الحربين العالميتين وبعدهما
بدأت الصهيونية بذلك الخطاب الذي نشره يهودي مجهول في سنة 1798م - أي قبل سنة من نزول نابليون بونابرت بأرض مصر - ووجهه إلى يهود فرنسا مقترحا إنشاء مجلس يهودي يبحث مع الحكومة الفرنسية في إعادة فلسطين إلى «شعبها التقليدي».
1
جاء في هذا الخطاب أن «البلد الذي نقترح تملكه يشتمل على مصر السفلى مضافة إلى منطقة من الأرض يحدها خط يمتد من عكا إلى البحر الميت، ومن الضفة الجنوبية لهذا البحر إلى البحر الأحمر، على أن يكون هذا متفقا مع وجهة نظر فرنسا.»
ثم ختم الكاتب خطابه بشرح المزايا الاقتصادية لهذا المشروع، ولئن لم يجد هذا النداء صدى ظاهرا سواء في الصحف الفرنسية أو في الدوائر الحكومية. غير أنه في 22 مايو 1799م نشرت جريدة «المونيتور» لسان حال الحكومة الفرنسية يومئذ رسالة من الآستانة جاء فيها: «أن بونابرت أصدر منشورا ينادي فيه يهود آسيا وأفريقيا بالانضواء تحت أعلامه لإعادة بناء بيت المقدس القديمة. ولقد سلح بالفعل عددا كبيرا منهم، وتهدد الآن كتائبهم مدينة حلب.»
على أن هذا ليس دليلا على أنه كانت لنابليون يد فعلية في أي مشروع يقضي بإحلال اليهود في فلسطين، وخاصة أن الجريدة نفسها عادت بعد أسابيع من نشر الرسالة الأولى تقول: «لم يفتح بونابرت سوريا لإعادة بيت المقدس إلى اليهود فحسب. بل إن مطامعه أوسع من ذلك بكثير، فهو يأمل في الزحف من هناك إلى الآستانة وإلقاء الرعب في قلوب أهالي فينا وسان بطرسبورج «موسكو»، كذلك ليس في سجلات الحملة الفرنسية في مصر أي أثر لمثل المنشور الذي جاء ذكره في رسالة «المونيتور» الأولى أو أي أثر يؤيد أو ينفي صدور هذا المنشور. كما أن الكتائب اليهودية لم تهدد حلب، ونابليون نفسه لم يفعل ذلك، ولم يقترب من المدينة السورية.
هذا، ويقول مستر لينارد شتاين: «قد يعيش اليهود قرونا طويلة في بولونيا أو روسيا، وفي إيطاليا أو إسبانيا أو أرض الريف، ولكن فلسطين ستظل بالنسبة لهم أرض إسرائيل. وفي الأيام الطيبة أو الأيام العصيبة على السواء تظل فلسطين الرغبة التي تتوق إليها قلوبهم، يضمنونها أغانيهم، ويصلون من أجلها، ويبكون ملكها المندثر، وينتظرون في صبر ساعة العودة إليها.» ويمضي مستر شتاين فيقول: «وفلسطين التي يحلمون بها لم تعد بالنسبة لمعظمهم في عالم الحقيقة الملموسة، فهم لا يعلمون إلا قليلا عن موقعها الجغرافي أو طبيعة شكلها، ولا تربطهم بها روابط من العاطفة الشخصية أو تطوف بخيالهم ذكريات عن مناظرها وخيالاتها. على أنها ليست حلما بعيد الاحتمال، فإن عودة المنفيين ستكون ولا شك عودة بمعنى الكلمة، ولكنها لن تتحقق نتيجة لأي مجهود بشري، بل ستأتي في اللحظة الطيبة التي يختارها الله عند ظهور المسيح المخلص (بفتح الخاء وتشديد اللام وكسرها).
فالصهيونية الدينية هي الاعتقاد الأولي بأن الله هو الذي سيعمل عندما يحين الحين على عودة آل إسرائيل إلى أرضهم وملكهم كما كانوا قبل نفيهم. على أن ما نشر في الجرائد الفرنسية في سنتي 1798 و1799م ليست له أهمية في الواقع؛ لأنه لم يؤد إلى حركة جدية من جانب اليهود أو غيرهم.
بعدئذ وقف مستر فيليب جيد الله في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو سنة 1925م ليلقي محاضرة على أعضاء الجمعية اليهودية التاريخية من طلبة «اليونيفرسيتي كوليدج» في لندن ليقص عليهم هذه الحادثة، ويخرج منها بأن نابليون بونابرت كان «صهيونيا وقتيا»؛ أي إنه أيد حركتها لفترة من الزمن. وكان بين المستمعين للمحاضر المرحوم مستر لويد جورج الذي كان واقفا واقترح شكر المحاضر، ثم ألقى كلمة قصيرة شرح بها السبب الذي من أجله اتبعت حكومته سياسة الاعتراف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين على حساب العرب.
ثم إنه في سنة 1827م زار سير موسى مونيتيفور - أول يهودي يعين عمدة لمدينة لندن - فلسطين، وشعر كما يقول بضرورة إسكان «ألوف من إخواننا في أرض إسرائيل»، مسارعا إلى تأليف شركة تعمل على تنفيذ الفكرة، ولكنه أخفق في تحقيقها. وتبع هذه المحاولة محاولات أخرى عديدة من كتاب بعضهم من اليهود والبعض الآخر من غير اليهود، ولكنها لم تؤد إلى نتيجة عملية حتى سنة 1881م حين اغتيل القيصر إسكندر الثاني، وطغت على روسيا موجة من الإرهاب والبطش تعرض فيها اليهود لكثير من ضروب الاضطهاد، حتى اضطر عدد كبير منهم إلى الفرار من البلاد، وتوجه معظمهم إلى الولايات المتحدة، وجعلوا من نيويورك أكبر مركز لليهود في العالم. أما الباقون فاتجهوا إلى فلسطين.
ويقول لينارد شتاين في كتاب «الصهيونية»: إن «ثلاثة آلاف يهودي هبطوا يافا» خلال اثني عشر شهرا من البدء في تطبيق قوانين «شهر مايو سنة 1881م» الروسية بعد هذه الحادثة، وحدث في 1891م أن أرسلت جريدة «نوي فراي برس»، التي تصدر في فيينا عاصمة النمسا صحفيا يهوديا شابا يدعى تيودور هرزل ليراسلها من باريس، فلم تمض ثلاث سنوات حتى كان اليهودي الشاب يشهد محاكمة الكابتن دريفوس اليهودي ونفيه إلى غيانا الفرنسية. وشهد كذلك بعينيه وسمع بأذنيه كل ما جرى أمامه من شعور المقت والكراهية لليهود أيا كانت جنسيتهم؛ فأدرك منذ يومئذ أنه ليس رعية نمساوية مجرية ولكنه يهودي أولا وآخرا. وكما هاجر إخوانه من روسيا بأشخاصهم هاجر هو بعقله وتفكيره من النمسا. وقد خلص من تفكيره بأن الحل الوحيد لمشكلة اليهود هو أن تكون لهم «دولة» خاصة بهم، ولكنه لم يقصد بذلك دولة يهاجر إليها كل اليهود في العالم، بل قصد أن تنشأ دولة يهودية تؤوي كل من يصبح مقامهم في دولة أخرى غير محتمل كهؤلاء الذين هاجروا من الروسيا فتفرق معظمهم إلى أمريكا وأقلهم إلى فلسطين.
وفي 1896م أخرج نظريته هذه في كتاب دعاه «الدولة اليهودية»، وترجم من الألمانية إلى لغات عديدة.
ولم يكن هرزل من القائلين بوجوب إنشاء هذه الدولة اليهودية في فلسطين، ولكنه طالب بدولة أينما تكون ما دامت تؤوي من لا يجدون لهم مأوى من بني إسرائيل. والواقع أنه أوشك أن يقبل عرض الحكومة البريطانية في سنة 1903م بإقامة دولة اليهود في رقعة من الأرض تبلغ مساحتها ستة آلاف ميل مربع في شرق أفريقيا لولا أن الكثيرين من شخصيات اليهود البارزة المنضمة إلى الحركة الصهيونية رفضوا العرض البريطاني «بكل أدب وامتنان»، مفضلين عليه «فلسطين»، وكان أن وافقهم هرزل رغم إدراكه الصعوبات التي تكتنف مثل هذا الطلب.
ولقد مات هرزل، قبل أن تتقدم به السن، في سنة 1904م، ولكن كتاباته ونداءاته وحدت صفوف اليهود؛ فاجتمع مندوبون عنهم في بال سويسرا سنة 1897م، وعقدوا أول مؤتمر يهودي عام خطب فيه هرزل خطبة الافتتاح قائلا:
إن هدف الصهيونية أن ينشأ في فلسطين وطن قومي يعترف به لليهود تحت ضمانات قانونية.
وكان في قوله هذا يعتمد على مفاوضات كانت تدور بين الصهيونيين والسلطان عبد الحميد في صدد إعطاء اليهود امتيازات خارجية في فلسطين تمكنهم من إنشاء «شركة قانونية احتكارية» مثل شركة الهند الشرقية تستعمر فلسطين وتمكن اليهود من أرضها.
على أن هذا المشروع لم ينجح فيما بعد، ويقال: إن السلطان طلب في مقابل موافقته عليه عشرة ملايين جنيه نقدا، وهو مبلغ استحال على الهيئة الصهيونية أن تدفعه له، كما أن السلطان ما لبث أن أدرك، حين نشر نبأ المشروع في أنحاء الإمبراطورية التركية أن الشعور الإسلامي ضده كان أقوى مما قدره من قبل، وهكذا ضعفت رغبته في الاستجابة لليهود. بل زاد على ذلك أن وعد أهل فلسطين بأن يحد من هجرة اليهود إليها ولو أنه لم يفعل في هذا الشأن إلا قليلا. ولما سقط عبد الحميد عن عرشه وضع الصهيونيون آمالهم في جماعة «تركيا الفتاة»، ولكنهم ما لبثوا أن تخلوا عن هذا الأمل عندما أفهمهم الأتراك المنضمون تحت لواء «تركيا الفتاة» أن حركتهم تتعارض والحركة الصهيونية ككل نقيضين مختلفين.
وفي خطبة افتتاح مؤتمر 1897م الذي كان فاتحة أحد عشر مؤتمرا من نوعه عقد في خلال ست عشرة سنة قبل الحرب العالمية الأولى ختمت بالمؤتمر الصهيوني الحادي عشر في السنة السابقة على بدء هذه الحرب. قال هرزل: «إن هدف الصهيونية هو أن ينشأ في فلسطين وطن قومي معترف به لليهود تحت ضمانات قانونية.» وهناك صهيوني آخر سبق هرزل هو الدكتور بتستر كتب في 1881م يقول: «يجب أن يدمج اليهود كأمة بين الأمم، وذلك بحصولهم على وطن خاص بهم.» وهذه الألفاظ تدل على أن لفظتي «الوطن القومي» اللتين تضمنهما تصريح بلفور فيما بعد كانتا من وضع زعماء الصهيونية قبل وضع التصريح بحول أربعين عاما كما أوضحنا قبلا. •••
ولقد تتابعت الأحداث وتعاقبت الحوادث منذ يومئذ على النحو الذي شرحناه في الفصول السابقة إلى أن عقد في شهري يولية وأغسطس سنة 1945م، المؤتمر الصهيوني العالمي في العاصمة البريطانية، مصدرا قراراته التالية: (1) مطالب المؤتمر الصهيوني العالمي
في 13 أغسطس سنة 1945م صدر بيان سياسي عن المؤتمر الصهيوني العالمي اشتمل على رفض الكتاب الأبيض البريطاني الذي وضع عن فلسطين في 1939م، وطلب إجابة مطلب الوكالة اليهودية المقدم إلى الحكومة البريطانية في شهر مايو من هذا العام. وهو ينص على تخويل الوكالة سلطة إحضار العدد اللازم من اليهود للاستقرار في فلسطين والنهوض بالبلاد. وقد صدر هذا البيان بعد موافقة الأعضاء الموفدين إلى هذا المؤتمر. وهو يقول: «إن الكتاب الأبيض «يتضمن النكوث بالعهد الذي قطعته الدول حيال الشعب اليهودي، كما أنه اغتصب الحق الطبيعي التاريخي لليهود الذي اعترف به في قرار الانتداب على فلسطين؛ إذ نص على عودة اليهود إلى وطنهم الأصلي. وقد حد الكتاب الأبيض من حرية الهجرة إلى فلسطين بأن جعل الهجرة في حدود رقعة صغيرة من البلاد. وقضى الكتاب على اليهود بأن يكونوا دائما أقلية، وأنكر عليهم الحق الذي تتمتع به كل أمة، وهو أن تكون حرة مستقلة في بلادها.» ثم نعت البيان الكتاب الأبيض بأنه «امتياز أعطي للإرهابيين العرب»، ولكنه أخفق في الوصول إلى الغرض الذي قصد منه. وقال البيان: إنه لولا وجود هذا الكتاب لأمكن إنقاذ المئات والألوف من اليهود الذين هلكوا في أوروبا بالسماح لهم بدخول فلسطين.
المطالبة بجعل فلسطين دولة يهودية
وأيد البيان مطالب الوكالة اليهودية بشأن اتخاذ قرار عاجل لجعل فلسطين دولة يهودية وإعطائها قرضا دوليا ومساعدات أخرى لنقل المليون الأول من اليهود، وللنهوض بالبلاد من الناحية الاقتصادية، وتقرير تعويضات عينية تدفعها ألمانيا إلى اليهود لإنفاقها في إعادة إنشاء فلسطين.
الأحزاب العربية الفلسطينية
في فلسطين اليوم حول ستة أحزاب سياسية عربية أقلها ذو شأن وأكثرها ضئيل النفوذ والمقام. وقد بدأت الحزبية العربية في فلسطين جزءا من الحركة العربية الاستقلالية الشاملة البلاد العربية في الشرق الأوسط حين كانت جزءا من السلطنة العثمانية. فكان رجال فلسطين ضمن المجاهدين العرب قبل أن تقسم السياسة الاستعمارية الإنجليزية الفرنسية بلادهم أقساما أو دولا وإمارات وواقعات تحت الانتداب . ولعل الجمعية الإسلامية المسيحية لمقاومة الصهيونية كانت الهيئة السياسية الأولى التي تصدت لمناهضة هذه الحركة اليهودية الخطرة. ثم تألفت مؤتمرات متتابعة لا يقل عددها عن سبعة. وكان لكل مؤتمر «لجنة تنفيذية»، ثم إن فلسطينيي حزب الاستقلال «العربي الشامل» نهضوا للتنديد بموقف الإنجليز «إذ إنهم هم الذين أيدوا قضية الصهيونية» إلى جانب مكافحة وباء الصهيونية. وكان المجاهدون الأحرار في مصر وسائر البلاد العربية يؤازرون المجاهدين الفلسطينيين، خاصة حين مضى غلاة الصهيونية يروجون لمشروع واسع خطير وبرنامج طويل كبير، وهو أن الدولة التي يدعون لتأليفها ينبغي أن تشمل جميع البلاد التي بين الفرات شمالا إلى دلتا النيل جنوبا، استنادا إلى أن اليهود قد أقاموا في بابل وفلسطين وسينا ومصر؛ أي إن الصهيونيين يحلمون ببناء إمبراطورية يهودية حين يفوزون بإقامة دولة صغيرة في فلسطين الصغيرة.
ولما كان ثمة اختلاف عائلي قديم بين أسرة النشاشيبي خاصة حين كان فخري النشاشيبي بك حيا وبين أسرة الحسيني التي يتزعمها سماحة السيد أمين الحسيني وجمال الحسيني بك، فقد استقل حزب الدفاع الوطني الذي يرأسه راغب النشاشيبي بك رئيس بلدية القدس عن حزب الاستقلال الذي كان بين أعضائه من يذهب إلى وجوب استقالة السيد أمين الحسيني من منصب مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى فيها. غير أن آخرين آثروا بقاءه في منصبه؛ ليبقى له الإشراف على الأوقاف والمساجد والأندية وريع حول 80 ألف جنيه. أما سكرتير حزب الاستقلال فكان عوني عبد الهادي بك أحد المجاهدين والمحامين العرب وسكرتير الملك فيصل الأول سابقا، وكان مندوب مملكة الحجاز في عهد الملك حسين في توقيع معاهدة فرساي. وكان الحزب العربي يرأسه جمال الحسيني بك رئيس وفود فلسطين إلى لندن في 1939م. ولما اعتقل ونفي أركان هذا الحزب آثر الفلسطينيون انتداب «موسى العلمي» - بفتح العين واللام - لتمثيل فلسطين العربية كلها شعبا وأحزابا. وقد حضر في 1944م إلى مصر مشتركا في مباحثات اللجنة التحضيرية لمجلس جامعة الدول العربية. ولما كان المجلس يمثل الحكومات وليس لفلسطين حكومة مستقلة، بل هي لا تزال تحت الانتداب البريطاني بحاكم عام إنجليزي، فقد تعهد ممثلو الدول العربية أن تتولى جامعة الدول العربية تعيين مندوب فلسطين، وكان من أثر كلمتها في مؤتمري مشروع محكمة العدل الدولية وسان فرانسيسكو في 1945م أن أخفق الصهيونيون في أن يشتركوا في مؤتمر سان فرانسيسكو، وفي أن يحملوا حكومة العمال الجديدة - التي طالما أبدى حزبها العطف والتأييد حيال الصهيونية - على اتخاذ تدبير ضد مطالب الفلسطينيين العرب، كما أخفق المؤتمر الصهيوني في لندن في يوليو وأغسطس 1945م. (2) حركة العمال العرب
في 1925م أسس العمال العرب من جميع المهن في فلسطين «جمعية العمال العربية» ومركزها حيفا، ولها 14 فرعا في غيرها، وعدد أعضائها حول 12 ألفا يؤدي كل منهم عشرة قروش شهريا، وسكرتيرها سامي طه، والجمعية بمثابة اتحاد عام للعمال؛ إذ ينطوي فيها نقابات مستقلة تؤدي لها جزءا من إيرادها. وتعاون الجمعية العمال على الاستخدام وتحسين أجورهم، ولها حول 10 جمعيات تعاونية ومستشارها حنا عصفور. أما أقوى النقابات فهي نقابة عمال سكك حديد فلسطين التي يشترك فيها حول 1300 يدفع كل منهم لها خمسة قروش شهريا، وفي حيفا اتحاد نقابات وجمعيات العمال العرب، وهي تضم: نقابات عمال الزيوت ونقابة عمال الورش البحرية. ولها صحيفة اسمها «الاتحاد» يرأس تحريرها الأديب «أميل توما» وسكرتيرها «يونس قدح»، ومن الجمعيات العمالية المستقلة عن الاتحادات جمعية العمال العرب في نابلس، وعددها حول 1200 مشترك، وسكرتيرها «أنور عرفات»، وثمة نقابة في شمال فلسطين للعاملات العربيات في المعسكر الحربي، وليس للعمال العرب في فلسطين حزب سياسي.
كذلك في فلسطين صحف عربية وإنجليزية ويهودية. (3) الاتحاد العربي
منذ بضع سنين اتجه تفكير «فؤاد أباظه باشا» - المدير العام للجمعية الزراعية الملكية، وعميد البعثة المصرية إلى السودان، والمؤسس للكثير من الأندية والجمعيات والمشرف عليها - إلى تأليف «الاتحاد العربي» في القاهرة، على أن تكون مهمته تقوية الروابط المتنوعة بين البلاد الناطقة باللغة العربية. وكان في مقدمة المؤسسين للاتحاد والمشتركين مع سعادته في النهوض به حضرات: السيد أحمد مراد البكري، وعبد المجيد إبراهيم صالح باشا، وحقي العظم بك، وأحمد نجيب براده بك السكرتير العام للاتحاد ، ومحمد توفيق خليل بك، وخليل ثابت بك، وعبد الستار الباسل بك، والدكتور محمد أسعد سلهب، والسيد إدريس السنوسي، والمحامي موريس أرقش، والصحفي حبيب جاماتي، والرافعي، والمحامي عبد الله حسين، وغيرهم.
وللاتحاد قانون ومجلس إدارة، وفروع في الكثير من البلاد العربية واجتماعات دورية وسنوية. وقد أقام العشرات من المآدب والحفلات تكريما لأصحاب السمو أمراء الدول العربية ورؤساء حكوماتها وزعمائها ووفودها. كما أرسل التقارير والبرقيات العديدة تأييدا للقضايا العربية لفلسطين وسوريا ولبنان والجزائر ومراكش وتونس، وناهض الاستعمار .
كذلك زار مندوبو الاتحاد بعض بلاد الشرق الأوسط تعميما لفروع الاتحاد وتقوية للروابط العديدة. وكان أهم قراراته دعوته لعقد مؤتمر عربي شامل في القاهرة تأييدا لقضية فلسطين، وتفنيد المزاعم الصهيونية. (4) جمعية الوحدة العربية
تألفت في 1944م من بعض المجاهدين العرب أمثال سكرتيرها العام، أسعد داغر بك، وعبد الرحمن عزام بك، وعبد الستار الباسل بك. أما مبادئها فهي تقوم على: (1) أن البلاد العربية تشمل البلاد التي بين المحيطين الأطلسي والهندي، ويتكلم سكانها بالعربية، ويتأدبون بالآداب العربية، ويعتزون بعزتها. و(2) أن البلاد العربية وطن واحد، وكل تقسيم طرأ عليها بالقوة لا تقره الجمعية. و(3) أن الأمة العربية ترفض الاستعمار في جميع صوره وأشكاله وجهاته وأسبابه، وتناصر الحرية. و(4) أن الوحدة العربية حاجة طبيعية. (5) أمنية نرجو تحقيقها
ولقد كنا نود أن يتحقق، مع نصر الحلفاء، حل مسألة فلسطين، وأن نختتم كتابنا بهذه البشرى، غير أن الأحداث تجري الآن في طريق إثارة عواطف الإرهاب والشقاق،
2
وكما أن المؤتمر الصهيوني العالمي قد جهر بالمطالب التي أشرنا إليها، اتجه مجلس جامعة الدول العربية إلى تأييد وجهة نظر العرب. وعلى هذا تتأزم هذه القضية مرة أخرى. ومهما يكن من شيء فإننا نقول: «اشتدي أزمة تنفرجي.» (6) اليهود ليسوا شعبا
في ص18 من كتاب «نماذج بشرية» تأليف ر. و. فيرث، بعد أن فرق بين «الأمة» و«الشعب» الذي هو أصل جنس ما لم يختلط بالأجناس الأخرى ويؤلف منها أمة، قال المؤلف: وأي شيء يكون اليهود؟ عند كثيرين أنهم جماعة شعب، وأن الإنسان يستطيع أن يتبين اليهودي من النظر إلى هيئته الطبيعية. غير أن البحث قد أثبت أن هذا ليس صحيحا على إطلاقه، فقد ثبت أن يهود بلد ما يختلفون اختلافا كبيرا عن يهود البلاد الأخرى.
وبعد أن دلل المؤلف على ما يتميز به بعض اليهود عن بعضهم الآخر تبعا لاختلاف الأماكن من حيث لون البشرة والقوام والسحنة والعيون، تساءل إذا لم يكن اليهود شعبا، فأي شيء هم إذن؟ وأجاب على هذا بأنهم جماعة، اتحدت آداب أفرادها وتقاليدهم وديانتهم، مشتركون إلى حد ما في الأماني وأسلوب الحياة، ثم إن ظروف حياتهم الاقتصادية إلى هذا قد أرغمتهم على أن يحتفظوا بوحدتهم، وذلك بإقامتهم في أحياء خاصة، وبإيثارهم الزواج من نسائهم، وبتحديد المهن التي يمارسونها، خاصة التجارة. (7) تصريح الرئيس ترومان بتأييد الصهيونية
في 17 أغسطس سنة 1945م أذاع المستر ترومان - رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية - تصريحا، جاء فيه: إن بلاده تريد دخول أكبر عدد من اليهود إلى فلسطين، وإقامة دولة يهودية ... إلخ. وقد قابل اليهود هذا التصريح في اغتباط وابتهاج وثناء، وفي 18 أغسطس أذاعت وكالة الأنباء اليهودية بيانا قالت فيه: «إننا نقدر اعتراف الحكومة الأمريكية بالرغبة العادلة في جلب أكبر عدد من اليهود إلى فلسطين، وفي إنشاء دولة وطنية لهم فيها، ثم تشير الوكالة اليهودية إلى أن مسألة فلسطين تعني أولا وقبل كل شيء الشعب اليهودي، وعرب فلسطين والدول الكبرى، وليس للبلاد المجاورة لفلسطين علاقة بفلسطين أكثر مما لغيرها من بلاد الدول المتحدة؛ وذلك لأن مشكلة فلسطين واحدة من مشكلات دولية كثيرة يجب أن تراعى في حلها العدالة والمساواة، وأن ينفذ هذا الحل بكل حزم. وترى وكالة الأنباء اليهودية أنه ليس لما يقال عن ضرورة وجود قوات عسكرية كبيرة، في فلسطين خاصة، أية علاقة بحقيقة الحالة فيها، فإذا صح ما يقال الآن من أن الدول الكبرى تنظر في مسألة مستقبل فلسطين فإن الوكالة اليهودية التي تمثل الشعب اليهودي في جميع الشئون الفلسطينية تطالب بأن تكون طرفا في جميع المباحثات والمفاوضات على قدم المساواة مع أية حكومة وطنية.»
وفي يوم الأحد 19 أغسطس سنة 1945م أفضى عبد الرحمن عزام بك الأمين العام لجامعة الدول العربية للصحف بما يأتي:
أبلغني الآن وزير أمريكا المفوض بمصر نصا لتصريح الرئيس ترومان، وهو كما يأتي:
إن هذه البلاد تريد أن يدخل إلى فلسطين أكبر عدد ممكن من اليهود، وذلك يكون بترتيب وتفاهم سياسي مع البريطانيين والعرب ليكفل لهم النجاح، ولا بد من أن تكون المساعي المبذولة لذلك على أسس سليمة؛ لأنه لا يقبل إرسال نصف مليون من الجنود الأمريكان للمحافظة على السلام في فلسطين.
ثم قال عزام بك: ولم يذكر سعادة الوزير المفوض في هذا النص شيئا يختص بإقامة الدولة اليهودية، قائلا: «إن هذا النص هو كل ما عندي الآن.» ثم قال:
ولا شك أن هذا النص أخف وطأة على العرب من النصوص التي أذاعتها بعض الصحف لبيان الرئيس ترومان، وأثارت قلقهم وانزعاجهم، وإنه لمما يؤسف له أن تأتي مثل هذه التصريحات في الوقت الذي تتطلع فيه البشرية بعد سني الحرب القاسية، إلى سلم واستقرار وطمأنينة إلى النفوس.
ولقد كنا نظن أن سقوط الدكتاتوريات في أوروبا وآسيا يسمح للدول الديموقراطية الكبرى بمعالجة المشكلة الناشئة عن اضطهاد اليهود علاجا عادلا. بعد أن تيسرت لها الوسائل ودانت لها الدنيا.
لذلك لا أدري ما هي الأسباب الملحة التي دعت رئيس الولايات المتحدة إلى بذل مسعاه في بوتسدام ولندن أو إلى تصريحه الذي نقل إلينا، فإن كان من بين هذه الأسباب وعد الحزب الديموقراطي في شأن اليهود، فإن من الحق علينا أن نسارع بتذكيره بآخر عهد قطع للعرب في ذلك من الرئيس الكبير المرحوم روزفلت، فإنه قبل وفاته بأسابيع قليلة، وضع يده في يد جلالة الملك عبد العزيز بن السعود، وعاهده على ألا ينصر قضية اليهود على قضية العرب في فلسطين. وقد أكد الرئيس ترومان نفسه بعد ذلك سياسة الولايات المتحدة التقليدية في السنين الأخيرة، حين وعد الدول العربية باستشارتها في كل ما يمس حقوق العرب في فلسطين. (8) رأي الدوائر البريطانية
في 18 أغسطس 1945م، تلقت جريدة «الديار» برقية من صاحبها الذي كان يزور لندن يقول فيها: إن المستر بيفن - وزير الخارجية البريطانية - استقبل الأستاذ كميل شمعون، وأبلغه أن سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط لن تتغير، فإن سياسة المستر تشرشل كانت مؤيدة من أعضاء حزب العمال الذين اشتركوا في الوزارة الائتلافية.
وقال أيضا: إن بريطانيا تعتمد على مساعدة سوريا ولبنان في حل مسألتهما.
فرد عليه الأستاذ شمعون قائلا: إن استقلال البلدين ضروري ليتمكنا من القيام بدورهما مع البلدان العربية في تأمين السلام وفقا لخطط الحلفاء.
وبسط الأستاذ شمعون وجهة نظر العرب فيما يتصل بقضية فلسطين فقال المستر بيفن: إنه يدرس هذه القضية باهتمام كبير. (9) مقالة مجلة إيكونومست
في 18 أغسطس 1945م، نشرت مجلة «الإيكونومست» اللندنية، وهي مجلة سياسة واقتصادية أسبوعية مقالا افتتاحيا ألحت فيه على الحكومة العمالية الجديدة في ألا تندفع في اتخاذ قرارات غير ناضجة فيما يتعلق بمسألة فلسطين. وقد ناقشت الجريدة المسألة الصهيونية وأعربت عن أن لحظة من التأمل لا بد أن تظهر أن هذه الرغبة اليهودية المتطرفة لجعل فلسطين دولة يهودية، ليست رغبة عادلة ولا عملية.
وفي مناقشات مجلس العموم في أغسطس سنة 1945م رفض رئيس الوزراء أن يتحدث عن فلسطين إلا بعد بحث مسألتها، واقترح «موسى العلمي» اكتتاب العرب بخمسة ملايين جنيه لشراء أراضي فلسطين.
واستقال وزراء في شرقي الأردن لتسجيل الحكومة شركة يهودية استعمارية هناك، وفي 5 أغسطس سنة 1945م أيدت «التيمس» العرب.
هذا؛ ويبدو أن نشاط الصهيونيين العنيف الآن، مرجعه أن الكثير من اليهود المهاجرين إلى فلسطين بسبب الاضطهاد، قد اعتزموا العودة إلى وسط أوروبا فيخفق بذلك مشروع الصهيونيين المحترفين الذين يستغلون عواطف الساسة المحبين للتوراة وفلسطين، وأغنياء اليهود في أوروبا وأمريكا، والذين يعنون باستمرار المصانع والشركات التي أنشئوها في خلال الحرب منتفعين بغلاء الأسعار وبقانون الإعارة والتأجير الأمريكي، الذي وقف العمل به في أواخر أغسطس سنة 1945م.
مراجع الكتاب
رجع المؤلف إلى وثائق ومؤلفات عديدة في وضع الكتاب من ذلك:
القرآن.
التوراة.
الإنجيل.
التفاسير.
معجم الأدباء: ياقوت، يعقوب بن إسحاق الكندي.
الآريون: جورج بواسون .
الإبانة عن أصول الديانة: الأشعري.
كتب السياسية والنواميس والأخلاق: أرسطو.
الإدارة الإسلامية في عز العرب: محمد كرد علي.
الأسفار الخمسة: صدر الدين الشيرازي.
تاريخ فلسفة القرون الوسطى: موسى دي وولف.
تاريخ اللغات السامية: أرنست رينان.
تخطيط التاريخ المقارن لفلسفة العصور الوسطى: بيكافيه.
دائرة المعارف البريطانية.
دائرة المعارف الإسلامية.
دائرة معارف فريد بك وجدي.
دائرة معارف البستاني.
دائرة معارف لاروس.
المسألة اليهودية: لويس جولدينج.
تاريخ ابن الوردي.
القراءون والربانون: مراد فرج.
معجم لسان العرب.
اللغة العبرية: محمد بدر بك.
تاريخ مكاريوس بك.
معجم الفيروزآبادي.
صبح الأعشى: القلقشندي.
تاريخ اليهود: بول جودهان.
الصهيونية: ليونارد شتاين.
اليهود تحيا ثابية: نورمان بينتويش.
أقوال بعثة إلى اليهود في سنة 1899: ويليام هوايت، أدنبره، إينوتين: أ. و. كينجلبك.
الهلال والصليب: إيليوت ورابورتون.
سينا وفلسطين: أ. ب. ستانلي.
حيفا أو الحياة في فلسطين الحديثة: لورانس إليفانت.
شرقيات. فلسطين وسوريا: هينمان.
الجغرافية التاريخية للأرض المقدسة: سير جورج آدم سميث.
الصحراء والمزارع: جير ترد بيل.
أمس واليوم في سينا س: جارفيس.
جائل في أرض الميعاد: نورمان. بينتويش.
في خطوات موسى الظافر: لويس جولدنج.
القنصلية البريطانية في القدس وعلاقاتها باليهود: أ. م. هيامسون.
الصهيونية والمستقبل اليهودي: هاري سافر.
الملل والنحل.
الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية.
تفسير القرآن: محمد عبده.
إظهار الحق: رحمة الله الهندي.
قصة الأدب في العالم: أحمد أمين وزكي نجيب.
أودونيس وأنيس وإزيريس: ج. ج. فريز.
ابن خلدون: مقدمته وتاريخه.
أصل الخط العربي: يحيى نامي.
فقه اللغة وسنن العرب: ابن فارس.
بلاد العرب الصحراوية: موزيل.
الفهرست: ابن النديم.
فتوح البلدان: البلاذري.
تاريخ شعب بني إسرائيل: رينان.
بحث في ما وراء الطبيعة لأرسطو: رافيسون.
دراسات في القومية اليهودية: ليون سيمون.
فلسطين المستيقظة: سيمون ول. شتاين.
الصهيونية: ليونارد شتاين.
حول الصهيونية - خطب ورسائل: ألبير آنشتين.
يقظة العرب: جورج أنطونيوس.
الجار: لورد ميلشيت.
بريطانيا العظمى وفلسطين: سيد بوتام.
العقيدة اليهودية والمستقبل: روبان.
النضال اليهودي: ج. بن يعقوب.
العدالة القومية: أرنست فرانكنشتاين.
كتاب الأساس: علي العناني، وليون محرز، ومحمد عطية الأبراشي .
تاريخ اللغات السامية: إسرائيل ولفنسون.
ترجمة العهد القديم: فان ديك.
مختصر تاريخ العالم: جورج وبللير بوتسفورد وجاي باريت بوتسفورد.
تاريخ العالم القديم: ج. و. بوتسفورد.
الحضارة في القرون الوسطى: ج. ب. آدمز.
حضارة بابل وآشور: ليبينكوت.
تاريخ الأمة العبرية: سكريبنار.
الحياة الاجتماعية للآشوريين والبابليين: ر. أ. ه. سايكر.
خلاصة تاريخ العالم: ه. جويلز.
تاريخ العالم: و. ن. ويش.
صوت من القدس: ل. زانجوبل.
خطط الشام: محمد كرد علي.
تاريخ فلسطين منذ عهد القضاة إلى الوقت الحاضر: جون كيتور.
التاريخ الأوروبي: أ. ه. مادوجال.
شريعة حامورابي، رسائل حامورابي: كينج.
أقدم قوانين العالم: شلبيريك دواردسي.
تاريخ بابل: الدكتور ل. وكينج.
مدونات منوعة عن مجموعة بيل البابلية لجامعة بنسلفانيا، لناشرها ه. ف. هيلبريخت.
البابليون والآشوريون: هايدلبرج.
ماذا حدث في التاريخ؟: ج. وردون شيلد.
وصية إسرائيل: سير جورج آدم سميث.
قوانين الزواج العبرية: أ. نويفيلد.
مصر وإسرائيل: فلاندرز بتري.
يقظة العالم اليهودي.
Unknown page