وخلاصة ما ذكرناه في هذا الباب أنه لم يكد يمضي أسبوعان على الاحتلال البريطاني لمصر، حتى قدم الكولونيل سير تشارلس ولسن بمحض رغبته واختياره - وبدون أن تطلب الحكومة المصرية منه ذلك - مذكرة في 29 سبتمبر سنة 1882 إلى سير إ. مالت قنصل بريطانيا العام في مصر، يلفت فيها نظره إلى خطورة الحال في السودان، ويقترح ضرورة إرسال ضابطين إنجليزيين إليه «لكتابة تقرير عنه وعن الوسائل اللازمة لاستتباب الأمن فيه».
وهذه المذكرة أرسلها سير إ. مالت بدوره إلى إرل جرانفيل وزير خارجية بريطانيا، وأصحبها برسالة يعزز فيها رأي سير تشارلس ولسن، فوافق إرل جرانفيل على ذلك، وبعث اللفتنانت كولونيل استوارت إلى السودان للقيام بهذه المهمة، فأتمها وأرسل تقريرا مطولا عنه، أرسله سير إ. مالت إلى إرل جرانفيل، فكتب هذا إلى مستر كرتريت القائم بأعمال سير إ. مالت وقتئذ، يخبره بأنه كلف إرل دوفرن أن «يطلع الحكومة المصرية على الإصلاحات التي أشار كولونيل استوارت بإدخالها في مديريات هذا القطر»، وقد قام بهذا الأمر سير إ. مالت، فأرسل إلى شريف باشا رئيس مجلس النظار في مصر كتابه الذي أعرب فيه عن رجائه في أن تنال هذه المقترحات عناية الحكومة المصرية (وقد اعتبر إرل جرانفيل هذا العمل بمثابة أمر كما سيتضح ذلك فيما بعد)، فرد عليه شريف باشا يخبره بوصول كتابه ويشكره هو وكولونيل استوارت.
ثم رجع هذا الكولونيل بطريق مصوع كي يتمم تقريره عن السودان الشرقي، فأتمه وأرسله إلى سير إ. مالت الذي لفت نظر شريف باشا إلى ما ورد في هذا التقرير عن مصوع فقط. ثم بعث به سير إ. مالت إلى إرل جرانفيل وأخبره بما فعل، فلم يكتف بذلك إرل جرانفيل وطلب من سير إ. مالت أن يبلغ شريف باشا فقرات أخرى وردت بالتقرير المذكور وأشار إليها بنفسه.
فصدع سير إ. مالت بالأمر، وكان ما كان من إرسال الكابتن منكريف قنصل بريطانيا في جدة إلى سواكن، التي لم يمر بها الكولونيل استوارت، لكتابة تقرير عن الجهات المجاورة لها، وذلك على ما نرى لاستكمال بحث أحوال السودان، ثم ورود هذا التقرير إلى سير إ. مالت وإرساله منه إلى إرل جرانفيل، ثم قتل الكابتن منكريف في معركة مع الدراويش، فكان مقتله سببا في توجيه سير إ. بارنج لشريف باشا عبارات شديدة اللهجة ضد اللواء محمود طاهر باشا قائد القوة المصرية في هذه المعركة. وانتهى الأمر باستدعاء هذا القائد ومحاكمته أمام مجلس عسكري بالقاهرة.
وبعد كل هذا وذاك ما زالت الحكومة البريطانية مصرة على زعمها من أنها لم تتدخل في مسالة السودان في ذلك الوقت، وأنها لم تهتم بأمره أقل اهتمام.
الدور الثاني
ثورة المهدي
لقد كان السودان قبل هذه الثورة جزءا متمما لمصر، ولم يكن قائما بذاته ولا منفصلا عنها. ولما شبت الثورة المذكورة، وكان ذلك قبل الاحتلال البريطاني لمصر، صادفت في أول أمرها بعض النجاح، ولكن لم تلبث هذه الحال بعد تعيين عبد القادر باشا حكمدارا عاما للسودان أن تغيرت، وقبض هذا الضابط القدير على ناصية الحال بالقوة المحلية التي كانت تحت إمرته، بدون أن يلتجئ إلى طلب إمدادات من مصر، التي كانت في ذلك الحين في شغل شاغل عنه لاضطراب البلاد بالثورة العرابية.
وقد تمكن عبد القادر باشا من قمع تلك الفتنة، وإخماد نار الثورة في الجزيرة كلها تقريبا. ولا ريب أنه كان في إمكانه إعادة الأمن إلى ربوع السودان، إذا كان قد أمد بالخمسة عشر ألف جندي التي فوض أمر قيادتها إلى هكس باشا.
فقد كانت الخطة التي وضعها خطة حكيمة؛ وهي تنحصر في أن يستمر مرابطا هو وجيوشه ومدفعيته وأسطول البواخر على طول مجرى النيل الأبيض. وفي هذا الوقت لم يكن بيد المهدي سوى كردفان، وهي عبارة عن بيداء قاحلة، لا تستطيع بحال من الأحوال أن تمير الجموع الملتفة حوله؛ فكان بذلك مضطرا للتخلص من هذا الموقف إلى سلوك أحد هذين الطريقين: فإما أن يخاطر بنفسه - وهذا أمر بعيد الاحتمال - ويهاجم جيوش عبد القادر باشا وهي متحصنة على النهر بمدافعها وبواخرها، فتضربه الضربة القاضية.
Unknown page