وفي 30 يناير عام 1876 قدمت الدول جميعها بما فيها فرنسا وإيطاليا مذكرة للباب العالي طلبت منه فيها منح أهالي البوسنة والهرسك تمام الحرية الدينية، وتقرير مساواة الأديان، وتخفيف الضرائب، وجعل الشرطة أهلية، وتشكيل لجنة من أهالي البوسنة والهرسك مكون نصفها من مسيحيين والنصف الآخر من مسلمين؛ لمراقبة تنفيذ ما جاء في الإرادة العلية التي أصدرها السلطان في 12 ديسمبر عام 1875.
وأول من وضع هذه المذكرة هو الكونت «أندراشي» وقد سميت باسمه - وهو مجري - أغضبت خطته نحو الدولة العلية في هذه الحوادث الأمة المجرية؛ لشدة تعلقها بالدولة العلية واعترافها بالجميل للعثمانيين.
ولم تتأخر الدولة العلية عن قبول مطالب الدول المذكورة في مذكرتها، وإجابتها عليها في 11 فبراير من السنة نفسها.
فلما رأت الروسيا أن الدولة العلية قمعت الثورة أولا، ولم ترفض مطالب الثوار ثانيا، ولم ترفض مطالب الدول ثالثا، وتحققت من أنه يستحيل عليها خلق سبب سياسي من المخابرات يقيم في وجه تركيا أوروبا والرأي العام الأوروبي، بذلت جهدها ووجهت كل عنايتها لجعل الثورة عامة في بلاد البلقان؛ حتى تضعف الدولة وترتبك أحوالها من جهة، وحتى يسهل عليها أن تشيع في أوروبا الإشاعات الكاذبة عن معاملة الأتراك للمسيحيين، وتهيج بذلك الرأي العام الأوروبي ضد الدولة العلية وضد المسلمين؛ فاجتمع ثوار البوسنة والهرسك في «كوسيروفو» في 28 فبراير أي بعد قبول الدولة لمطالب الدول، وقرروا بإيعاز الروسيا الاستمرار على الثورة والعصيان، وعدم الخضوع للدولة.
وقد توصلت الروسيا إلى تهييج بلاد الصرب ضد الدولة العلية، فهاج أهلها، وجاهروا بمعاداة الدولة وطلبوا من حكومتهم محاربتها؛ فخابرت حكومتها حكومة الجبل الأسود، واتفقت معها ضد الدولة، فصارت بذلك بلاد البلقان كلها قائمة على قدم وساق ضد الدولة، وبلغت الفوضى حدها في هذه البلاد ، فاعتدى المجرمون على الأبرياء، وصار كل واحد من الثوار يفاخر الآخرين بما نهب وسلب من المسلمين، وصار الذين لا سلاح بأيديهم من المسلمين يدافعون به عن أنفسهم فريسة للمجرمين من السافكين للدماء من ثوار المسيحيين.
رأى المسلمون في بلاد البلقان ما رأوا من الإهانة والسلب والنهب، وأسيلت دماء الأبرياء من الكثيرين منهم، وأنصار الباطل والضلال في أوروبا يشيعون في كل مكان أن الدولة العلية دولة بربرية تسفك دماء المسيحيين، وتهتك أعراض نسائهم، وتخرب بيوتهم وكنائسهم، وغير ذلك مما يكرره أعداء الدولة وأعداء الحقيقة في كل خلاف يقع بين المسيحيين والمسلمين في بلاد الدولة.
وقد عمل أعداء الدولة على تهييج الرأي العام الأوروبي ضدها بكل الوسائل، وحصل أن فتاة مسيحية اعتنقت الدين الإسلامي في ضواحي سالونيك، وذهبت لهذه المدينة لإثبات إسلامها بصفة شرعية، فعلم المسيحيون بالأمر، وتجمعوا في طريق الفتاة حتى اختطفوها عند مرورها، وأخفوها في بيت أحد المسيحيين، فهاج المسلمون لذلك وذهبوا إلى الحاكم طالبين تخليص الفتاة، ثم اجتمعوا في مسجد للمداولة في الأمر، وبينما هم مجتمعون؛ إذ دخل عليهم قنصلا ألمانيا وفرنسا، فاعتدى عليهما بعض الحاضرين لاعتبارهم دخول القنصلين في المسجد إهانة لهم، وضربوهما ضربا قضى عليهما في الحال. فانتشر خبر الحادثة في أوروبا، وما انتشر حتى نادى أعداء الدولة بالويل والثبور، وحملوا على الإسلام ودولته العزيزة حملات شديدة، وهاجوا الرأي العام ضد الحكومة العثمانية حتى اضطرت الدول كلها لإرسال سفن حربية إلى ميناء سالونيك، ولم يستطع الباب العالي أن يفهم أوروبا أن القنصلين أخطآ في الذهاب إلى المسجد، بل طلبت منه الدول معاقبة المعتدين، ولما لم يجد سبيلا لرفض طلب الدول عاقب من ثبت عليهم الاعتداء على القنصلين بالإعدام، وانتهت بذلك هذه الحادثة، وهي حادثة من حوادث عديدة خلقتها يد الدسائس والأغراض للإيقاع بالدولة والإضرار بها، وإني لست ممن يستبعدون أن إسلام هذه الفتاة المسيحية كان مصطنعا، وأن الحادثة مدبرة من أولها لآخرها؛ فكل من طالع شيئا من أعمال أرباب الدسائس في الدولة يعلم أنهم قادرون على إيجاد حادثة كهذه وأكبر منها.
وقد عرض في هذه الأثناء ثوار البوسنة والهرسك على دول أوروبا أنهم ينكفون عن الثورة، ويعيدون السكينة إلى بلادهم إذا أنفذت الشروط الآتية:
أولا:
أن تعطي الدولة العلية للمسيحيين ثلث الأراضي التي بيد المسلمين.
Unknown page