وبذلك يرى القارئ أن الدول الثلاث كانت تعمل في آن واحد ضد الدولة العلية، وكانت الدولة بلا نصير ينصرها ولا صديق يساعدها، وكانت النمسا تعضدها بالقول في الباطن، وتعلن في الظاهر صداقتها للروسيا شأنها في سياستها على الدوام، فضلا عن أن الجيش العثماني كان حديث التشكيل؛ لأن المرحوم السلطان «محمود» قد ألغى طائفة الإنكشارية.
ومع ذلك فقد أظهرت الجنود العثمانية في الحرب مع الروسيا من الشهامة والثبات ما حير رجال الحرب في أوروبا وأدهش الروسيين، فإن الجيش الروسي مع عظيم استعداده وكثرة عدده لم يستول على «وارنا» إلا بعد صعوبات جمة، ولم يستطع أخذ مدينة شوملا، واضطر للرجوع إلى الوراء في شهري أكتوبر ونوفمبر بعد أن خسر الخسائر الجمة، وقد قارن وقتئذ «مترنيخ» وزير النمسا الأول تقهقر الروسيين في هذه الحرب بتقهقر نابليون في عام 1812.
وقد استمرت الحرب في عام 1829، ولكن الجنود العثمانية التي كانت مشكلة حديثا كما قدمنا لم تستطع مقاومة الجيش الروسي تمام المقاومة، فاستولى هذا الجيش على مدينة «إسكي إستانبول» واجتاز جبال البلقان، وبلغ في 20 أغسطس سنة 1829 مدينة «أدرنة»، وبالرغم من هذه الانتصارات فإن القيصر نيقولا الأول كان يخاف الهزيمة لما رأى عند الجيش العثماني من الدراية والكفاءة في سنة 1828؛ ولذلك سأل ملك بروسيا أن يتوسط في أمر الصلح بينه وبين الدولة العلية، فقبل ملك بروسيا ذلك وتوسط بالفعل في أمر الصلح. وفي 4 سبتمبر من السنة نفسها أمضت الروسيا والدولة العلية على معاهدة «أدرنة»، وهي تتضمن استيلاء الروس على جملة مواقع أسيوية، وضمانة حقوق الأفلاق والبغدان وصربيا، وحرية مرور السفن الروسية من بوغازي الدردنيل والبوسفور، وحرية التجارة للرعايا الروسيين، وتتضمن أيضا أن الدولة العلية تدفع للروسيا غرامة حربية تبلغ الخمسة ملايين ونصفا من الجنيهات، وأن الدولة العلية تقبل ما اتفقت عليه الدول بشأن اليونان.
وهذا الاتفاق بين الدول بشأن المسألة اليونانية لم يكن مشتملا إلا على جعل بلاد اليونان مستقلة تمام الاستقلال! وقد أمضت الدول في لوندرة بتاريخ 3 فبراير سنة 1830 على معاهدة بهذا المعنى.
وبذلك انتهت هذه الأزمة الشديدة، وتم استقلال اليونان، وإن القارئ يجد من خلال هذه السطور، ومن مطالعة هذه الحوادث الحكم الصحيح على خطة الدول نحو الدولة العلية، ويرى كيف أنها أخرجت من تحت حكم الدولة بلاد اليونان بحجة المسيحية والمدنية مع أن الروسيا جزأت من قبل مع البروسيا والنمسا بلاد بولونيا ولم ترع للمسيحية حرمة ولا للمدنية مقاما!
وهكذا الغرض في كل الأمور يعمي الدول كما يعمي الأفراد. (2) الأزمة الثانية: مسألة الشام بين مصر والدولة العلية
إن هذه الأزمة هي الأزمة التي إذا تذكرها العثمانيون والمسلمون امتلأوا حسرة وأسفا أكثر من كل أزمة سواها؛ لأنها أعظم شقاق وقع بين التابع والمتبوع، وبين مصر والدولة العلية، أي بين قلب الخلافة الإسلامية وهذه الخلافة نفسها، وبين روح المملكة العثمانية وهذه المملكة.
وسيجد القارئ في هذا الفصل تفاصيل هذه الأزمة المشئومة وما جرت على الدولة ومصر والإسلام من الأضرار والمصائب مما يبقى أبد الدهر درسا للعثمانيين والمسلمين، ونذيرا بأن الشقاق بين أعضاء مجموع واحد يعود على المجموع كله وعلى أعضائه عضوا عضوا بالمصائب العظام والبلايا الجسام.
ابتدأت هذه الأزمة بخلاف وقع بين عزيز مصر ووالي «عكا» بسبب مهاجرة بعض المصريين إلى الشام، حيث لم يرض والي «عكا» بأن يعيدهم إلى مصر طبقا لرغائب المرحوم «محمد علي باشا»، فأمر عزيز مصر ابنه المرحوم «إبراهيم باشا» بالسفر إلى بلاد الشام على رأس جيش جرار للانتقام من هذا الوالي، فسافر واستولى في 27 مايو سنة 1832 على «عكا» وبعد الاستيلاء عليها دخل هو وجيشه دمشق وحمص، وعبر جبال طوروس بعد معارك مختلفة بين الجيش المصري والجيش التركي.
وقد انتهت سنة 1832 بوصول المرحوم «إبراهيم باشا» إلى قلب آسيا الصغرى حيث وقعت بين عساكر مصر وعساكر الدولة واقعة «قونيه» الشهيرة التي انتهت بسقوط هذه المدينة في أيدي المرحوم «إبراهيم باشا»، وكان ذلك في 21 ديسمبر سنة 1832، وقد وقع في هذه الواقعة أسيرا في أيدي المصريين المرحوم «رشيد باشا» الذي كان يقود الجيش التركي أمام «إبراهيم باشا» والذي كان من قبل في بلاد اليونان مكلفا بقمع الثورة اليونانية.
Unknown page