وقد جئت الشرق وأنا من أكبر أنصار هذه الأمة «اليونانية» ولم يتغير اعتقادي فيها وإحساسي نحوها إلا بالتجربة؛ فهي مجردة عن الوطنية والشجاعة والاتحاد، وهم كل رئيس من رؤسائها أن يكون غنيا، وقد بلغت الفوضى حدها في بلاد اليونان، وأغلب أعضاء حكومتها - وكلهم محتقرون أشد الاحتقار - معروفون من الجميع بأنهم المسلحون للصوص البحار، ولولا تداخل الدول لخضع اليونانيين جميعا هذا العام، واعترافا بالجميل نحو أمم أوروبا لا يزال اللصوص اليونانيون يعتدون على تجارة هذه الأمم نفسها!
وكتب الأمير «ريني» أميرال الأساطيل الفرنساوية بالبحر الأبيض المتوسط من أزمير بتاريخ 23 مارس سنة 1826 ما تعريبه:
لقد تغش أوروبا بشأن كل ما يختص بثورة اليونانيين ضد تركيا؛ فقد تنقص المستندات الرسمية، وليس من عادة الأتراك أن ينشروها، والتقارير اليونانية ليست إلا مراسلات خصوصية تجسم فيها الأمور وتمر على «زانت» و«كورفو» والنمسا قبل أن تلونها الجرائد في لوندرة وباريس بالألوان الساطعة البهية، ولكنها في أغلب الأحيان ألوان كذابة، ولا شك أن هذا هو اللازم للتأثير على أفكار العالم، ولكن هذا لا يكفي لإنارة أفكار الذين يقودون زمام الأمور.
وقد انتهز اليونانيون فرصة قيام «علي باشا» والي يانيه ضد الدولة العلية؛ لإحداث الاضطرابات والهيجان في كل أنحاء بلاد اليونان، فقد طغى هذا الباشا، وعصى الدولة العلية، وأراد الاستقلال والخروج من تحت السلطة الشرعية؛ فصار يعمل لاستمالة اليونانيين إليه ضد الدولة العثمانية، ولكن أطماعه الشديدة وأخلاقه الشرسة أكثرت من أعدائه بالرغم من تملقه لليونانيين ونفاقه.
وسبب عصيانه على الدولة: أن إسماعيل باشا أكبر أصدقائه وأول المقربين إليه وقع بينه وبينه خلاف شديد أدى إلى هروب إسماعيل باشا إلى الآستانة حيث تعين فيها بالحرس السلطاني، وأبلغ رجال الدولة أعمال هذا الرجل وسوء نواياه، فقررت الدولة عزل ابنه الذي كان حاكما لتساليا؛ فاغتاظ علي باشا من ذلك وأرسل أحد أتباعه من الألبانيين إلى الآستانة لقتل إسماعيل باشا، وبالفعل قتله هذا الألباني عند ذهابه للصلاة.
وقد علمت الدولة وقتئذ بأن الإنكليز يشجعون علي باشا على رفع لواء العصيان ضد الدولة العلية، ووقفت على كل مراسلاته مع اليونانيين، فامتلأت غيظا منه، واعتبر خائنا للدولة والملة، وأصدر شيخ الإسلام منشورا للمسلمين باعتباره خارجا على الدولة كافرا بنعمتها.
وقد أمرته الدولة بالحضور إلى الآستانة في ظرف أربعين يوما، فخالف أمرها، وصمم على معاداتها، والقيام في وجهها، وصار يجتهد في استمالة المسلمين إليه، فلما لم يفلح لأنهم جميعا اعتبروه خائنا وخارجا من دين الإسلام مال إلى اليونانيين، وصار يتقرب منهم ويستنصر بهم ضد الدولة، ويوزع الأموال عليهم، ولما أراد الانتفاع بهذا الود سألهم بتاريخ 24 مايو سنة 1820 تكوين جيش ينصره ضد الدولة، ولكن اليونانيين الذين كانوا يعرفون أخذ الأموال وسماع المدائح وبدائع الأقوال من هذا الطاغية كانوا يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن تقديم الأسلحة والرجال، فلم يجيبوا للعاصي طلبا، ولم يلبوا له نداء؛ بل بقي يناديهم وهم صامتون حتى اقترب منه الجيش العثماني، فلم يجد له مخرجا من ورطته إلا حرق مدينة «يانينا» والالتجاء إلى جزيرة كان بنى فيها قلعة حصينة جمع فيها كل ذخائره وأمواله.
وقد كان يقود الجيش العثماني ضده خورشيد باشا حاكم المورة، فوصل بمهارته وحكمته إلى دخول القلعة التي كان ملتجئا إليها هذا المتمرد، ولما لم يجد علي باشا لنفسه سبيلا غير التسليم، سلم نفسه لخورشيد باشا الذين أنفذ أمر الدولة بقتله عقابا على تمرده وعصيانه، وفي أوائل فبراير سنة 1822 أرسل برأسه إلى الآستانة؛ لتعلق في مكان عام إنذارا لكل عدو للدولة ولكل خائن. •••
وقد انتهز اليونانيون فرصة عصيان علي باشا والي يانينا، وأخذوا يسلبون وينهبون في كل أنحاء اليونان، وجعلوا المورة منبع الثورات والاضطرابات؛ لخلوها من العدد الكافي من الجنود العثمانية، وفي 5 مارس 1821 دخل من يدعى «كارافيا»، وهو يوناني تعلم الجندية في الروسيا في ميناء «جالاتز» - وهو ميناء من رومانيا على الدانوب - وهجم على قلعتها برجاله العديدين حيث نهبوا وسلبوا وقتلوا من في المدينة كلها، وأسالوا الدماء وخربوا المنازل، وقد أشاع اليونانيون عندئذ في كل أصقاع العالم أن ما أتوه في هذا الميناء الصغير الذي لا يكاد يوجد به جنود يعد انتصارا كبيرا على الدولة العثمانية وعملا عظيما، وهاج كذلك أعضاء الهيتري بمدينة «ياسي» واحتالوا على حرسها، وكان مكونا من خمسين رجلا، فأفهموهم أن الأهالي عازمون على الثورة وقطع دابر الأتراك، ولكنهم إن تجردوا من أسلحتهم وبنادقهم توطد الأمن في المدينة، وعادت الأمور إلى السكينة والسلام، فاغتر رئيس الحرس، وظن أن أعضاء الهيتري صادقون في أقوالهم، فأجاب طلبهم وأمر الجنود بالتجرد من السلاح والذخائر الحربية، فقابل اليونانيون هذا العمل بأن نشروا لواء النهب والسلب في المدينة، ورفعوا راية الفتك بالمسلمين، فقتلوا الكثير منهم بلا تمييز بين الرجال والنساء والأطفال، ولما جاء «إيبسيلانتي» زعيم جمعية الهيتري استحسن هذه الفظائع والمنكرات، ووافق عليها باسم الانتقام من الإسلام والمطالبة بالحرية.
وقد كانت جمعية الهيتري تهدد الأغنياء من اليونانيين بالقتل إن لما يساعدوها بالمال - وقد اتبعت هذه الخطة نفسها جمعية ثوار الأرمن مع أغنياء الطائفة الأرمنية - وحصل أن «إيبسيلانتي» المذكور لما جاء مدينة «ياسي» علم بوجود يوناني عظيم الثروة اسمه «بول أندرياس» فألقى القبض عليه بدعوى أنه اختلس أموالا كثيرة من أموال الهيتري، فأدرك الرجل أن هذه التهمة ألقيت عليه ليقدم لإيبسيلانتي شيئا من المال، ففعل ذلك وكان في فعله نجاته.
Unknown page