وفي ختام عام 1769 كلفت النمسا سفيرها في الدولة العلية المسيو «توجوت» أن يعرض على وزراء جلالة السلطان رغبة النمسا للتداخل في عقد الصلح بين المتحاربين، ولم تكن رغبة النمسا الحقيقية من هذا التداخل عقد الصلح، بل كان غرضها الوصول إلى امتلاك مقاطعة من أملاك تركيا وتوسيع نطاق المملكة النمساوية.
وسيجد القارئ في خلال هذا الفصل الخطة التي جرت عليها النمسا مع الدولة العلية، وكيف أنها حالفتها ضد الروسيا، وعملت في الوقت نفسه على الاتفاق مع الروسيا ضد تركيا!
وأما البروسيا، فقد كان ملكها وقتئذ «فريدريك الكبير» المشهور بدهائه السياسي وقدرته الفائقة على الاستفادة من كل حادث أوروبي، وقد جعل سياسته في المسألة الشرقية الاستفادة من الحرب بين الدولة العلية والروسيا مع المحافظة على استقلال الدولة العلية، وكتب في مذكراته السياسية الشهيرة «إنه يوجد لنا طريقتان أمام تقدم الروسيا واتساع أملاكها: الأولى: إيقافها في تقدمها وفتوحاتها، والثانية - وهي أحكم طريقة: الاستفادة من تقدمها، واتساع أملاكها وفتوحاتها بمهارة.» وقد اتبع فريدريك الكبير الطريقة الثانية كما كتب في مذكراته فكان متحالفا مع الروسيا، وعلى تمام الصفاء مع تركيا، وبذلك كان يستفيد أكثر من غيره.
ولما قامت الحرب بين الدولة العلية والروسيا كان اشتغال فريدريك الكبير منحصرا في الوقوف على الخطة التي ستجري عليها النمسا، هل تبقى وفية لفرنسا حليفتها، أي مصافية لتركيا وبولونيا، أو تنخدع للروسيا فيفقد التحالف الروسي البروسي أهميته الأولى؟ وقد وجد عندئذ فريدريك بدهائه الغريب وذكائه العالي طريقة مثلى لفصل النمسا من فرنسا، ولمنعها من معاداة الروسيا في الشرق وفي بولونيا، ولبقاء التحالف الروسي البروسي بأهميته الأولى، فوضع لذلك مشروع تحالف ثلاثي بين الروسيا وبروسيا والنمسا يكون غرضه حل المسألة الشرقية، لا في تركيا نفسها، بل في بولونيا بأن تقسم هذه المملكة بين هاته الدول الثلاث.
وهذه الأمنية كانت أكبر أماني فريدريك الكبير أيام حكمه؛ لأنه كان يرى في تقسيم بولونيا ربحا كبيرا للبروسيا، واتساعا لنطاقها بضم بولونيا البروسية لها.
وأول مرة فاتح المسيو «سولمس» سفير بروسيا في سان بطرسبورغ المسيو «بابين» وزير الروسيا الأكبر في مسألة تقسيم بولونيا، كان جواب الوزير الروسي: إن تحالف الدول الثلاث يجب أن يرمي أيضا إلى تقسيم الدولة العلية. فلما سمع فريدريك هذا الجواب تخوف منه، وأهمل أمر التحالف الثلاثي في الظاهر.
وقد قلنا إن فريدريك الكبير كان يرى في بقاء الدولة العلية فائدة عظمة لبروسيا، وكان يستطلع بحدة ذهنه وقوة بصيرته من خلال الأيام الآتية أن مودة الروسيا للبروسيا لا تدوم أبد الدهر، وأن بقاء الدولة العلية قوية يكون كحاجز حصين أمام الروسيا، وكصخرة عالية واقفة أمامها، وبالجملة تكون للبروسيا قوة عظيمة يمكن الاعتماد عليها حسب مقتضى الحوادث.
وقد برهنت الأيام على أن فريدريك الكبير - وهو أول عامل على توسيع نطاق بروسيا، وأول واضع لمشروع الوحدة الألمانية الذي تم على يدي غليوم الأول وبسمارك - نظر نظرة بصير، فجاء من سلالته جلالة الإمبراطور غليوم الثاني مدركا أهمية التودد للدولة العلية وتوثيق الروابط بينه وبينها، فاستفاد العالم من هذه المودة المزدوجة، واستفادت ألمانيا منها كثيرا.
ولما علم فريدريك الكبير بجواب وزير الروسيا تخوف منه كما قدمنا، ولكنه لم يرجع عن عزمه الأول وهو العمل على تقسيم بولونيا، فرأى لنوال هذه البغية أن يتحبب إلى النمسا، ويتحد معها اتحادا سريا يوقع الروسيا في الارتباك والبلبال، فتضطر إلى قبول آرائه، وتدرك فائدة التحالف معه والعمل بنصائحه، وبالفعل تقابل في مدينة «نيس» مع «جوزيف الثاني» إمبراطور النمسا وابن «ماري تيريزيا» الشهيرة، وتوصل إلى عقد اتفاقية ودية معه في شهر أغسطس عام 1769.
فكانت نتيجة هذه الاتفاقية أن الروسيا صارت في بلبال زائد كما أراد فريدريك؛ فإنها كانت تجهل مضمونها، وكانت تظن أنها اتفاقية عقدت للعمل ضدها في المسألة الشرقية، فاضطرت إلى تجديد محالفتها مع البروسيا يوم 12 أكتوبر سنة 1769، واشترط جعل أجلها ممتدا إلى غاية عام 1780، فنالت بذلك البروسيا ما كانت تتمناه، وهو أن الروسيا عرفت مقدار تحالفها معها، وصار لآرائها عندها تقدير القبول والرضى، وباتفاقها مع النمسا اتفاقية ودية صارت حليفة الروسيا وصديقة النمسا، ووضعت بذلك الأساس لمشروعها العظيم؛ أي مشروع تقسيم بولونيا بين الدول الثلاث.
Unknown page