أشياء عن الحبشة
1 - تاريخ المسألة الهندية
2 - الهند القديمة
3 - الآريون في الهند
4 - الآرية والبوذية
5 - الآرية والبرهمية بعد غزو الهند
6 - الفيدا كتاب الهندوس المقدس
7 - الكتب الهندية المقدسة كمصدر للتاريخ
8 - أصل نظام الطوائف الهندية
9 - الحياة الاجتماعية القديمة
10 - الهند الأولية الهندوسية
11 - حملة الإسكندر على الهند
12 - الإمبراطورية المورية
13 - الغزو الإسلامي في الهند
14 - في القرن السادس عشر
15 - البرتغاليون في الهند
16 - غزوات تيمور
17 - الهند المغولية
18 - عصر الشركات التجارية الأجنبية
19 - الهند الحالية
أشياء عن الحبشة
1 - تاريخ المسألة الهندية
2 - الهند القديمة
3 - الآريون في الهند
4 - الآرية والبوذية
5 - الآرية والبرهمية بعد غزو الهند
6 - الفيدا كتاب الهندوس المقدس
7 - الكتب الهندية المقدسة كمصدر للتاريخ
8 - أصل نظام الطوائف الهندية
9 - الحياة الاجتماعية القديمة
10 - الهند الأولية الهندوسية
11 - حملة الإسكندر على الهند
12 - الإمبراطورية المورية
13 - الغزو الإسلامي في الهند
14 - في القرن السادس عشر
15 - البرتغاليون في الهند
16 - غزوات تيمور
17 - الهند المغولية
18 - عصر الشركات التجارية الأجنبية
19 - الهند الحالية
المسألة الهندية
المسألة الهندية
تأليف
عبد الله حسين
مقدمة
بقلم عبد الله حسين
في 1935 أصدرت كتاب «المسألة الحبشية» متحدثا عن تاريخ أتيوبيا وصلاتها بجيرانها إلى أن غزتها إيطاليا في ذلك العام وجعلت منها إمبراطورية إيطالية، أو قل إمبراطورية رومانية جديدة. وبعد قيام الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 بعامين، هزمت إيطاليا في إريتريا والصومال والحبشة، وعاد الإمبراطور الأتيوبي هيلاسلاسي إلى أديس أبابا. ومن الوجهة الدولية نستطيع أن نقول: إن مسألة الحبشة قد حلت، وذلك باسترداد الحبشة استقلالها وزوال الإمبراطورية الإيطالية منها.
هذا ونؤثر أن نتحدث عن المسألة الهندية عارضين لتاريخ الهند القديم وكتبها المقدسة ومنبوذيها وللحكم الإسلامي وعهد الشركات الأجنبية وإقامة الإمبراطورية البريطانية في الهند، والمقترحات البريطانية للحكم الذاتي هناك.
أما غايتنا من بسط هذا الموضوع، فهي أن يقف أبناء العربية على شئون البلاد الشرقية في أفريقيا وآسيا.
وينبغي أن نذكر هنا ما ذكرناه في مقدمات الكتب التي أصدرناها في عامي 1944 و1945، وهو أن عدم حصولنا على الورق الجيد وندرة الورق غير الجيد وغلاء الأسعار، شفيعنا لدى القراء في أن نقدم كتابنا في هذه المساحة على هذه الصورة.
أشياء عن الحبشة
كان للحبشة صلة قديمة جدا ومتجددة مع الهند وآسيا من الوجهة التجارية. أما أشهر اللغات الحبشية فهي ثلاث: (1)
اللغة الأتيوبية القديمة:
وهي لا تستعمل الآن إلا في الكتابة الأدبية. (2)
اللغة التجرانية:
وهي لغة الإريتريا وشمال الحبشة، وهي المستعملة الآن. (3)
اللغة الأمهرية:
وهي اللغة الرسمية، نسبة إلى أمهرا.
هذا وحروف الهجاء الحبشية مأخوذة من لهجات العرب القديمة، مثل الصابئية والحميرية.
ومن عادات الأحباش أن يجرى ختان الطفل الذكر في يومه السابع أيام الأربعاء والجمعة، والأنثى يجرى ختانها بعد ذلك. وإذا كانت الأم مريضة ينبغي أن يكون طفلها من دون ختان حتى شفائها، وينصر الطفل الذكر في اليوم الأربعين وتنصر الطفلة في اليوم الثمانين، ولا تدفن المرأة في أماكن الرجال، ولا يجوز للرجل أن يشرب البيرة قبل زوجته إذا كانت حاملا؛ لأنها تتألم باشتياقها للشراب. وعندما يغيب أحد الآباء عن بلده يختار صديقا له لحراسة بيته والإشراف على أولاده، ويوسط الخطيب أصدقاءه لدى والد الفتاة ليقبل الزواج، ومعظم الآباء يقاسمون بناتهم نصف مهورهن، وتقام أعراس بها مزامير وتنحر الذبائح.
أما المرأة فمشهورة بالجمال وخاصة جمال العينين وبالجاذبية، ولها أنف دقيق وشفتان غليظتان مستديرتان وقامة هيفاء، وطالما كانت بيوت كبار المصريين والحجازيين والأتراك والأعيان مزدانة بالجواري الحبشيات، وطالما تزوجوا منهن. والمرأة الحبشية مثال الشجاعة والإقدام والتضحية، وهي تشترك في الحرب مع الرجال، وهي وافرة الذكاء بسيطة الهندام والأناقة. وفي أديس أبابا جمعية اسمها جمعية نساء أتيوبيا الوطنية، وقد قامت بمظاهرة وحملت لوحة جاء فيها باللغة الأمهرية: «أيها الشبان، انهضوا ولا تخافوا، ودافعوا عن وطنكم، دافعوا إننا سنموت معكم». هذا ولا تتزوج المرأة الحبشية إلا بإذن أبيها، وإلا كانت ملعونة، وهي تشجع بجاذبيتها الشبان على خطوبتها، وأحيانا تهرب مع عشيقها، وهي تشرب البيرة، وقد يتخذ الرجل الحبشي عشيقة له لمدة سنة - وهي زوجية مؤقتة، وعلى المرأة الحبشية أن تطيع زوجها.
هذا والبغاء في الحبشة منتشر والطلاق كثير، وأكثر بغايا السودان من الحبشيات المهاجرات، وتكثر بينهن الأمراض التناسلية في صورة مخيفة محزنة.
والحبشة متقسمة ولايات وممالك صغيرة وقبائل متنازعة، وقلما تهدأ الحالة الداخلية في الحبشة؛ فهناك حروب بين ملوك الحبشة أو بين بعضهم وبين إمبراطورها.
وقد نادى «ساهالاسيلاسي» - ملك شواه وإيفات والجالا في سنة 1813 - بنفسه ملكا على ملوك الحبشة، وجعل الملك بطريق التوارث في أسرته.
و«ساهالاسيلاسي» الذي ولد في سنة 1795، وعين ملكا سنة 1813، ومات سنة 1847؛ ولد له ستة أولاد، كان منهم «هيلاملاكوت» الذي ولد سنة 1825 ومات سنة 1885، وخلفه ابنه منليك الثاني الذي ولد سنة 1844 وصار ملكا لشوا سنة 1866، وإمبراطورا سنة 1889، ومات سنة 1913، وتزوج الإمبراطورة تاتو سنة 1883 ولم يرزق منها ذكورا. وقد كان من بناته ثواراجا التي تزوجت الرأس ميكائيل، ورزقت بولد اسمه ليج ياسو سنة 1896، وعين إمبراطورا سنة 1913 خلفا للإمبراطور منليك إلى سنة 1916، ثم قامت ضده فتنة لأن الأحباش المسيحيين اتهموه بأنه يمالئ مسلمي الحبشة ويقربهم ويؤثرهم، وبأنه اعترف بخلافة سلطان تركيا وحالفه وحالف الألمان وأغضب الحلفاء. وقد أعلن مطران الحبشة حرمانه، وهرب ياسو ولكنه لم يذعن لقرار المطران، وجمع جيشا وآزره الرأس ميكاييل حاكم ولاية جايا. وقد خلفته الإمبراطورة زوديتو ابنة منليك الثاني التي ولدت سنة 1876 وتوجت سنة 1916، وقد قامت بينها وبين أتباع ياسو والرأس ميكاييل مذبحة عنيفة في ساجال في أكتوبر سنة 1919 وأسرت الرأس ميكاييل وهرب ياسو ثم مات وتوجت زوديتو رسميا سنة 1917.
أما إمبراطور الحبشة الحالي فهو هيلاسلاسي، كان أصله الرأس تفري ولد سنة 1881 وهو ابن الرأس ماكونن بن وزيروتانا أحد أبناء الملك ساهالاسيلاسي. وقد عين الرأس تفري وصيا للعرش مع الإمبراطورة زوديتو التي ماتت سنة 1930، ثم توج الرأس تفري إمبراطورا سنة 1930 باسم الإمبراطور هيلاسلاسي، وقد تزوج سنة 1912 من الأميرة وازيرومنن، وولدت له سنة 1912 ماميتى التي ماتت طفلة، ثم أصفاواصين سنة 1916، وهو ولي العهد الرسمي، ولكن أباه الإمبراطور غاضب عليه، وورك ولدت سنة 1918، ويشي أمابت ولدت سنة 1920، وماكونن ولد سنة 1923، وهو محبوب من أبيه، وقد سماه والده «دوق هرر». ومن الإشاعات التي لم نقف على صحتها أن «زوديتو» ماتت مسمومة ليخلو الجو للإمبراطور هيلاسلاسي.
أما الأمة الحبشية فهي أمة جندية جميع أفرادها على استعداد للقتال وهو حرفتهم وسجيتهم. وقد أنشأ الإمبراطور هيلاسلاسي جيشا باسم الحرس الإمبراطوري، قام بتدريبه ضباط سويسريون وبلجيكيون وسويديون، وبه وحدات من البيادة والسواري والطبجية، وله بنادق عصرية ومجهز بمدافع كبيرة وصائدات للطائرات، وتدربه الآن بعثة عسكرية بريطانية.
هذا ولكل رأس من رءوس الحبشة «حكامها» حرس أو جيش لا يقل مجموع أعداده عن ربع مليون، وجيش غير نظامي لا يقل عدده عن نصف مليون، ولدى إمبراطور الحبشة طائرات وذخائر.
ثم إنه لم يكن للإمبراطورية الحبشية نظام مخصوص للجندية كنظام القرعة العسكرية المصرية أو كنظام التطوع لدى الدول الغربية، بل تطلب الجنود من الولايات بحسب سعة الولاية وضيقها. أما الجيش العامل في حفظ الأمن في وقت السلم فهو 200 ألف جندي. أما في وقت الحرب فتصبح الجندية فرض عين على كل رجل يستطيع حمل السلاح، والأحباش أكثر الناس شغفا بالحروب وأسرعهم قبولا لويلاتها، هكذا كانت الحبشة في غارتها على مملكة سنار وفي حربها الحملة المصرية التي كان يقودها السردار محمد راتب باشا بأمر إسماعيل، وكذا في واقعة القلابات وواقعة عدوة في سنة 1895م، وفي حرب الحبشة في عامي 1935 و1936، وفي استرداد بلادها بين 1942 و1943. أما القيادة العامة فللإمبراطور نفسه. والذي يراجع تاريخ الحبشة قل أن يرى إمبراطورا مات حتف أنفه كما حدث للإمبراطور ياهنس الرابع أي «يوحنا» الذي قتله أنصار المهدية وخلافه من أسلافه.
أما ولايات الحبشة فهي ثلاث عشرة ولاية، لكل منها ملك يلقب بالرأس، وهو حاكم الولايات القائم بشئونها الإدارية والسياسية تحت إشراف الإمبراطور أو النجاشي، وهناك ألقاب أخرى وهي دجاح ودجاز جماج وفيتواري وقيفا زماج وغير ذلك من الألقاب. وتتألف من تلك الممالك الصغيرة إمبراطورية ذات شأن عظيم، ويلقب الإمبراطور هناك بالنجاشي وهو لقب كلقب بطليموس عند دولة البطالسة، وقيصر عند الروس، وشاه عند العجم، وباي تونس عند التونسيين، وخديوي عند ولاة مصر سابقا. وللحبشة لقب ثان وهو منليك إلا أنه يقصر على الملوك من سلالة نبي الله سليمان - عليه السلام - لأنه تزوج بلقيس ملكة سبأ، ولما رزق منها بولد قال لها: «مني إليك» فمزجت الجملتان فصارت «منليك»، وجاء في رحلة الدكتور محمد نيازي الذي كان طبيبا لأحد الآلايات المصرية في سنة 1282ه بالسودان أنه قال: سمعت أحد الأطباء الإفرنج يقول إنه قرأ في بعض المؤلفات القديمة أن ذلك المولود الذي هو منليك الأول بن سليمان كانت بلقيس تخاف عليه من قومها، فبعثته إلى مدينة سوبا ليربى بها، وسميت المدينة سبأ ثم حرف الاسم إلى سوبا لتقادم الزمان، وقد تبوأ عرش الحبشة كثير من الملوك، فلا حاجة إلى بيان أسمائهم وزمن كل ولاية منهم؛ تجنبا للتطويل.
أما القضاء فسائر على طريقة كافلة للحقوق المدنية والاجتماعية نوعا ما، وما كان للحبشة نواميس شرعية ولا قوانين وضعية فيما يختص بالمعاملات القضائية، بل كان القضاء يسير مع العرف إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، وهناك أقام أحد رجال الدين المسيحي «أسعد عسال القبطي» ووضع للحبشة قانونا نسقه تنسيقا بديعا، قسمه قسمين: الأول منهما يختص بالكنيسة، والثاني في المعاملات، وكان مرجعه فيه كتاب التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي في فقه السادة الشافعية، وقد أطلق على هذا القانون اسم «فتانفوس»، وقد صدق جلالة الإمبراطور على المعاملة به في جميع أنحاء الأقاليم الحبشية. أما المسئولون عن تنفيذه في القرى فهم أكبر سكانها سنا وأكثرهم حنكة، وفي العواصم الرءوس، ماعدا «أديس أبابا» التي يباشر القضاء فيها جلالة الإمبراطور بنفسه وهو يجلس في ساحة مكشوفة، ثم ترفع على رأسه مظلة كبرى «شمسية» كملوك الفور وواداي، ويجلس على يمين الإمبراطور 12 رجلا، وعن شماله 12 رجلا من أعيان المملكة الذين يشترط أن يكون فيهم رئيس الكهنة بردائه الكهنوتي، ويحمل القانون المسمى «فتانفوس» كاهن آخر، ثم يأتي بالمتقاضين فيقفون صفا أمام الإمبراطور على بعد 30 مترا منه، ثم يؤذن لهم في عرض ظلامتهم على هيئة القضاء، فينادي المظلوم بأعلى صوته قائلا: «جاتهوه جاتهوه»؛ أي يا حضرة الإمبراطور، يكررها سبع مرات، وذلك بين دائرة من جنود الحرس المدججين بالسلاح، والناس في سكون شامل لهيبته.
ومن المألوف في الحبشة نظام التحكيم، وكثيرا ما يلجأ المتخاصمان إلى رجل محترم في الطريق ، يحتكمان إليه وينزلان عند حكمه.
ومما يذكر أن إيطاليا كانت تطمع في غزو الحبشة منذ زمن بعيد.
بدأت إيطاليا استعمالها الأفريقي بإنشاء شركة إيطالية اشترت ثغرا صغيرا يدعى «عصب» سنة 1869 من شيخها، وكانت من أملاك الباب العالي التركي، فاحتج على هذا البيع وعده باطلا؛ لصدوره من غير مالك، ولكن الشركة الإيطالية «شركة روباتينو» نزلت عن «عصب» إلى الحكومة الإيطالية التي أرسلت بعض التجار الإيطاليين للإقامة بها، على رأسهم «الكونت أنتونيلي» الذي عقد مع إمبراطور الحبشة منليك الثاني معاهدة صداقة، واحتلت إيطاليا ثغر مصوع وجزرا غيرها، وألفت مستعمرة إريتريا، منتهزة فرصة الثورة المهدية في السودان، وضعف مصر، وسعي كل من إنجلترا وفرنسا لتقسيم أفريقية الوسطى والشرقية، وواصلت إيطاليا احتلال بلاد في الحبشة، وطلب الإمبراطور منليك إلى الجنرال (جيته) إخلاء البلاد وضم منليك (هرر) إلى أملاكه. ووقعت حرب بين الرأس ألولا وهزم الجيش الإيطالي في يناير سنة 1887 على مقربة من روجالي، فأرسلت الحكومة الإيطالية في أواخر سنة 1887 جيشا عدده (25) ألفا، نصفه من الإيطاليين ونصفه من الأهلين، واحتل الجيش «صاتى».
وقد حدث في أثناء ذلك أن الملك يوحنا انتقض على الإمبراطور منليك وحارب جنود المهدي عند (القلابات) وقتل في مارس سنة 1888، وانهزمت جنوده بعد انتصارها في حياته.
وقد عقدت إيطاليا مع (منليك) معاهدة أوتشيالي، وبناء عليها قبل الإمبراطور أن تكون حكومة إيطاليا وسيطا بين الحبشة والدول الأجنبية في جميع المسائل.
وقد كتبت هذه المعاهدة من نسختين: نسخة باللغة الحبشية، ونسخة باللغة الإيطالية، والنسخة الحبشية تقول:
يجوز للإمبراطور أن يتخذ وساطة حكومة جلالة ملك إيطاليا سبيلا إلى تسوية جميع المسائل المتعلقة بالدول الأجنبية.
وبينما تقول النسخة الحبشية: «يجوز»، كانت النسخة الإيطالية تقول: «يوافق إمبراطور الحبشة إلخ»، وقد وقع منليك النسخة الحبشية ولم يوقع على النسخة الإيطالية، وفي 12 فبراير سنة 1893 أبلغ منليك الثاني الدول بأنه غير مرتبط بالمعاهدة الإيطالية التي نشرتها إيطاليا وفسرتها على أنها جعلت الحبشة تحت حمايتها. غضبت إيطاليا من الحبشة، وزحفت جنودها بقيادة الجنرال باراتيري، فاحتلت كسلا من بلاد السودان سنة 1894، ثم تقدمت إلى الحدود الحبشية، فانتصرت الجنود الإيطالية على جيش الرأس مانجاشا في سنة 1895، واحتلت أديجران وميكالي وأمبا ألاجي، ولكن منليك تقدم بجيشه ومعه الرأس ماكونن، فهزم الجيش الإيطالي شر هزيمة، وقتل منه الألوف وغنم ذخائره، وانتحر القائد الإيطالي الماجور توسلي، وانسحب الإيطاليون.
وطلب منليك أن تدفع إيطاليا له فورا 25 مليون ريال حبشي حتى يقبل وقف الحرب وعقد الصلح الذي عرضه القائد العام للجيوش الإيطالية في أفريقية وهو الجنرال باراتيري؛ ولكن إيطاليا رفضت الصلح على هذه الشروط فاستعد الجيش الإيطالي للحرب، وقسم نفسه أربعة أقسام، أحدقت بها الجيوش الحبشية وهزمتها، وأعاد باراتيري تنظيم الجيش الإيطالي، وهجم على (عدوة) التي وقعت فيها الموقعة المشهورة وقتل الجنرال أريمندي والجنرال دامبراميدا، وأسر الجنرال البريتوني، وأصيب الجنرال أنلينا بجرح خطير، وغنمت الحبشة 72 مدفعا وذخائر وأعلاما إيطالية و7000 أسير، وقتل وجرح 1000 إيطالي.
وهرب باراتيري وواصل منليك زحفه ودخل إريتريا واستولى على حصن كبير «أدي أوجري»، وحاصر الجنرال برسنتاري وحمله على التسليم في مايو سنة 1896.
وعينت الحكومة الإيطالية الجنرال بالديسيرا، وأراد أن يتقدم بجيش عدده 30000 ألف جندي، ولكنه وجد الهزيمة محققة، وأشار على حكومته بالصلح، فذهب وفد إيطاليا في 26 أكتوبر سنة 1896 إلى أديس أبابا وهناك عقدت معاهدة بين إيطاليا والحبشة اعترفت فيها إيطاليا باستقلال الحبشة استقلالا تاما.
هذا وقد تسلم منليك غرامة قدرها 700000 جنيه إنجليزي، وأطلق سراح الأسرى الإيطاليين، وكان عقد المعاهدة في أديس أبابا في 26 أكتوبر سنة 1896، وعقدت بعدها معاهدات واتفاقات أخرى في صدد تحديد التخوم بين الحبشة وإريتريا.
هذا وفي الحبشة جاليات أجنبية من جميع الجنسيات، ومنها جاليات عربية ولبنانية وسورية ويونانية وأرمنية، وأكثر أفرادها تجار، ومنهم من جمع ثروة كبيرة.
وفي الحبشة بعثات تبشيرية لمختلف الأديان، ولا سيما البروتستانتية الأمريكية. وبعثات تجارية لمختلف الدول. وقد عقدت البعثة الإنجليزية - التي كان يرأسها السير رنل رود - معاهدة صداقة مع الحبشة في 15 مايو سنة 1897. وللبعثات مدارس ومستشفيات وملاجئ.
ورأس الدجاز «تاساما» بعثة أوربية في عضويتها مسيو فايفز ومسيو بوتو السويسري ومسيو أوتوموتوف الروسي، واجتازت الحبشة إلى نهر النيل عند مصب نهر السوباط في يونيه سنة 1898، وبعد أيام وصل إليه الماجور مارشان الذي صار جنرالا فرنسيا وهو صاحب مسألة فاشودة.
وقد عينت الدول ممثلين لها في العاصمة الحبشية، فكان السير هارنجتن قنصلا جنرالا لإنجلترا فوزيرا مفوضا، وعين الآن آخر في محله.
وعقدت بعثة أمريكية سنة 1903 معاهدة تجارية بين الولايات المتحدة والحبشة، وعقدت بعثة ألمانية سنة 1905 معاهدة تجارية مع الحبشة، وعين وزير مفوض ألماني لدى إمبراطور الحبشة منذ عشرين سنة.
وقد وضعت إنجلترا وفرنسا وإيطاليا اتفاقا في ديسمبر سنة 1906 جاء فيه: «إن مصالح هذه الدول الثلاث تقضي بالمحافظة على سلامة أملاك أتيوبيا». وقضت المادة الأولى من الاتفاق على التعاون بينهم في المحافظة على كيان أتيوبيا من الجهة السياسة وسلامة أراضيها، ونصت على أنه إذا وقعت طوارئ تخل بالكيان السياسي للحبشة فإن هذه الدول تتفق على صيانة مصالحها الخاصة، وقد تم الاتفاق في شهر يوليه سنة 1906، وأبلغ في الحال إلى النجاشي، وقد رد الإمبراطور منليك على تبليغ الدول بأنه يشكر لها نياتها الطيبة ويشترط أنه لا يكون من شأن هذه الاتفاقية الحد من حقوق سيادته، ثم عين في شهر يونيه سنة 1908 حفيده لوج ياسو وليا لعهده. وقد تقرر في الاتفاقية المذكورة أن تكون السكك الحديدية في الحبشة دولية، وليس في الحبشة سوى سكة حديدية واحدة بين أديس أبابا وميناء جيبوتي الواقع في الصومال الفرنسي ولا تسير القطارات إلا نهارا، وتقف عند إحدى المحطات ليلا، ويستغرق مسيرها بين جيبوتي وأديس أبابا ستة أيام.
الفصل الأول
تاريخ المسألة الهندية
تاريخ الهند الأقدم أو ما يجوز أن نطلق عليه اسم «تاريخ ما قبل التاريخ» وهو ما جعلناه عنوانا لكتاب أصدرناه بهذا الاسم، مجهول الحقائق، غامض الأصول، مشتت الحوادث.
لم يعرف العالم القديم، وهو المنحصر بين الفراتين والنيل، حين عرفت أقدم الحضارات - شيئا عن الهند إلا من غزوات جيرانها وحملة الإسكندر عليها. على أن جملة ما وقف الناس عليه يومئذ هو أن الهند بلاد واسعة غنية التربة والإنتاج والمعادن منقسمة عشرات أو قل مئات الممالك والإمارات والزعامات، وأنها هدف للغازين وميدان للتسابق والتقاتل بين المسيطرين.
ولعل ظهور الإسلام كان بداية تغلغل الأجانب في الهند، والوقوف على الكثير من تاريخها وجغرافيتها وشئونها. فقد غزت جيوش المسلمين الهند منذ القرن الحادي عشر الميلادي، بادئة باختراق الحدود الشمالية والغربية، ومقيمة ممالك وإمبراطوريات وإماراتس إسلامية متتابعة، ناشرة مع أعلامها الدين الإسلامي. وهنا ظهر عامل جديد في المسألة الهندية، وهو قيام النزاع المستمر بين الهندوس وبين المسلمين منذ يومئذ إلى الآن، مع ما تخلل هذا من فترات السكينة والصلح والسلام.
وثمة عامل جديد دلف إلى المسألة الهندية، ذلك هو رحلات الكاشفين الأوربيين، خاصة البرتغاليين، ثم تسابق التجار الفرنسيين والإنجليز إلى اتخاذ الكثير من ثغور الهند وبلادها أسواقا للمبادلات التجارية، فتنقل سفنهم من أوربا المصنوعات الأوربية، ثم تعود حاملة المواد الخام من الحاصلات الزراعية والشاي والكاكاو والجلود وأنياب الفيلة والنيلة والتوابل، وكان من أثر هذا أن تألفت شركتان تجاريتان كبيرتان، إحداهما فرنسية وثانيتهما إنجليزية عدا شركات برتغالية وهولندية - وأن نشاطهما لم يقتصر على الناحية التجارية وحسب، بل إنه قد امتد إلى الناحية السياسية، فكان لكل من الشركتين جيش بإمرة ضباط مجربين وجنود أوربيين وهنود، وكان كلاهما يتدخل في الشئون الداخلية الهندية، خاصة في المنازعات القائمة بين أمراء المقاطعات الهندية العديدين.
وبعد أن انتهى النزاع بين الشركتين إلى سيطرة الحكومة البريطانية على الموقف، والحلول محل الشركة الإنجليزية، واقتصار الحكومة الفرنسية - بعد إلغاء الشركة الفرنسية - على ضم بعض البلاد الهندية، بعد هذا كله بدا في المسألة الهندية عامل مهم لا يزال قائما، ذلك بأن النزاع قد اتخذ صورة أخرى كانت ضئيلة جدا في بداية الأمر، غير أنها وضحت وضوحا تاما في القرن الحالي، فأصبح كثرة زعماء الهندوس وغير قليل من زعماء المسلمين يطلبون للهند استقلالا صحيحا تاما، وجلاء تاما للاحتلال البريطاني غير محجمين في الوقت ذاته عن قبول عقد معاهدة تحالف مع الدولة البريطانية.
وبعد تردد طويل وعرض حلول ربعية ونصفية، أخذت الحكومة البريطانية تواجه مطالب وطنيي الهند إلى أن اعترفت بحق الهند في الاستقلال في شيء من الشروط والتحفظات، على أن يكون تحقيق هذا لا في إبان الحرب كما نادى غاندي والمؤتمر الوطني الهندي، بل بعد أن تضع أوزارها في الشرق الأقصى وتسلم اليابان في غيرما قيد ولا شرط، كما سلمت ألمانيا في أوربا في صباح يوم الاثنين 7 مايو 1945.
فالمسألة الهندية، التي نعرض لها هنا، من المسائل الهامة، التي يتوقف على علاجها استقرار شئون آسيا الوسطى، واشتراكها في الحضارة الجديدة. هذا وترجع المسألة الهندية إلى اتساع أرجاء الهند، وكثرة أديان سكانها وطوائفها، وخيراتها التي اجتذبت إليها الأجانب، وتدخلهم في شئونها بل تحكمهم فيها. فالهند لا غنى لها عن نبذ أسباب انشقاقها، وتوحيد كلمتها، واحترام الأجانب لاستقلالها لكي تعود أمة عزيزة الجانب كما نرجوه لها.
الفصل الثاني
الهند القديمة
اسم «الهند» مشتق من اسم نهر هندوس، وقد كان في الأصل يطلق على بلاد السند وجزء من البنجاب وحسب. وفي وادي هندوس وضحت أمارات الحضارة الهندية القديمة، وحسبنا أن نذكر كتابات الملك داريوس (321-485ق.م) و«سندهو» باللغة السنسكريتية. أما «هندو» بالفارسية فهو اسم لنهر، أما هندوستان فمعناها «بلاد النهر».
أما جملة ما خلفه عصر ما قبل التاريخ، خاصة على الساحل الشرقي، فهو بقايا الصخور الصوانية الشفافة المتبلورة وأدوات حجرية من عصر الحجر القديم، وكذلك الفخار من عصر الحجر الجديد. وقد وجدت في «ماسكي» سهام ذهبية من الجزء الأخير من عصر الحجر الجديد، وكذلك مقابر ما قبل التاريخ في ولاية تينفلي، إذ يحتمل أن يكون في أوعيتها رماد جثث موتى التجار الأجانب. والأوعية محلاة بالدرر واللآلئ والأصداف والودع. أما في فجر تاريخ الهند، فقد وجدت الأسوار الهائلة في جيريباجيا في بيهار.
هذا وقد أبانت الحفائر في موهينجو دارو وهارانا عن أنه قد قامت في غرب الهند حضارة عظيمة بلغت القمة حول عامي 3250 و2750ق.م؛ أي حين كانت المدن المهمة توسع ثقافتها منذ أول عصر الحجر القديم على شواطئ النيل والفراتين «الدجلة والفرات» وقارون وهيلموند.
وبينما كانت الأموال في مصر وأرض الفراتين تنفق في سخاء في إقامة المعابد وتشييد القصور والقبور على حين أن عامة الشعب كانت تسكن أكواخا من الطين - كان الأمر على نقيض هذا في «موهينجودارو» التي تبدو في آثارها الآن كما تبدو أطلال إحدى مدن العمال اللانكشيرية المبنى العام الوحيد، وهو الحمام العام العظيم البديع، ويتلو هذا في المرتبة الدور ذات الطابقين للسكان العاديين. ولم يكشف شيء من المعابد والقصور على هذا الطراز. وللمساكن أنابيب للمجاري من غرف الحمام والمراحيض إلى مجار في الشوارع، وفي الجدران مستودعات للزبالة «الكناسة أو العفاشة» تتصل بصوامع الكناسة خارج الدار. وكان سكان الدور من التجار والزراع. ويبدو أن التجار كانوا يعملون في الحقول؛ فقد وجدت في عيلام وميزوپوتاميا «أرض الجزيرة، ما بين الفراتين» خمسة أختام ذات طابع هندي قديم؛ أحدها في «أور» وآخر من «كيش». وتاريخها أقدم من العصر السارجوني. أما الزراع فكانوا ينتجون القمح والشعير، ويربون الماشية والدجاج، كما كانوا يتناولون في طعامهم السمك وأصدافه، وكانت الثيران تجر مركباتهم ذات العجلتين، وكانوا يستخدمون الفيلة والإبل دون الجياد، وكانوا يمارسون القمار. ومن المحتمل أن يكون ما وجد من القضبان النحاسية المستطيلة بمثابة عملة نقدية يرجع تاريخها إلى ما قبل ليديا في القرن السابع ق.م، فإن هذه أقدم ما عرف في تاريخ العملة. وكان صياغهم مهرة في أشغال الذهب والفضة والعاج. أما الأختام المحفورة والألواح النحاسية، فإنها تدل على أن كتاباتهم كانت مؤلفة من الصور، ولما كان لم يوجد إلى جانبها لغة أخرى معروفة، لم يهتد العلماء إلى إيضاح هذه الكتابة المصورة. أما النساء فكن يغزلن القطن والصوف. أما الأطفال فكانوا يلعبون «البلي» لاهين بعربات من اللعب المصنوعة من الفخار أو النحاس. أما المحاربون فكانوا مسلحين بالأقواس والرماح والحراب دون السيوف والدروع الواقية.
ولئن كان رواد التاريخ لم يعرفوا أكثر من أن الهند من الأمم ذات الحضارات التي ترجع أصولها إلى السلالة الآرية التي هاجرت إلى ربوع الهند لأسباب كثيرة بين فترات مختلفة من جهات عديدة، إلا أن منشأ تلك الحضارة العريقة أقدم جدا من ظهور الجنس الآري الذي نزح إلى الأودية الهندية بين القرنين الخامس عشر والثاني عشر قبل ميلاد المسيح. هذا وترجع حضارة الهند القديمة إلى 3700 و4300 كما تدل على هذا التقارير الرسمية الخاصة بالكشف الأثري في موهونجودارو وهاريا في وادي السند 1922-1933 وفي غيرها منذ 1934 إلى 1945، كما أشار إلى شيء من هذا الأستاذ أبو الحسنات محيي الدين.
لقد كان يسكن الهند قوم من الجنس السامي الذي ساهم في بناء صرح شامخ لحضارة إنسانية كاملة وشاملة منذ أقدم العصور التاريخية، بيد أننا لا نعرف حتى الآن متى ولماذا نزل هؤلاء القوم إلى الهند، وليس لدينا ما يرشدنا إلى آثار أقدامهم لدى الهجرة، وقد رأيناهم للمرة الأولى في التاريخ على شاكلة الدرافيديين السمر الذين وقفوا في وجه السيل الآري ثم غلبوا على أمرهم. وقد كشفت الدراسة التاريخية حولهم أن الشعب الدرافيدي السامي كان على مدنية راقية رقي المدنية الفرعونية تجعل معها الآريين الفاتحين همجيين، وقد أكد فريق من الباحثين أنهم كانوا يمتون إلى السلالة السامية بصلة.
لقد عاشت الأمة السامية في ربوع الهند منذ أقدم عصور التاريخ، واستطاعت أن تتوجه لبناء حضارة جمعت العناصر الصالحة للمدنية الإنسانية، بينما كانت الأمم السامية الأخرى في نزاع أدى أخيرا إلى مذابح البابليين والآشوريين والكلدانيين في مواطنها المعروفة، فكانت الدماء تسيل جري الماء في أودية الرافدين وما حولها من البلدان العامرة، ولا شك أن هذه الحروب المستمرة قد قضت على كثير من معالم الجنس السامي، كما قضت على أرواح كثيرين من رسل الحضارة البشرية. وفي منأى عن هذا التطاحن كانت الأمة السامية الهندية تعيش في منعزل عن العالم السامي وتنتج حضارة إنسانية كاملة لا تقل قيمتها التاريخية عن حضارة المصريين الأقدمين. وكلما درسنا معالم حضارة الهنود القدماء ومعالم حضارة المصريين الأقدمين رأينا وجوه التشابه كثيرة، بيد أن الستائر الكثيفة التي أسدلها عليها الآريون قد شوهت كثيرا من وجوه ذلك التشابه بين الأمتين القديمتين.
وقد كشف العلامة الدكتور «پزجي» الهندي في السنين الأخيرة (1922-1933) كثيرا من آثار تلك الأمة السامية الخالدة في الأودية الهندية وضفاف أمواهها، وقد اشترك معه كثير من الخبراء وكبار الباحثين من المستشرقين أمثال أوريل اشتاين (النمساوي) وجون مارشال وأرثر كيت العالم الأنتروپولوجي. وقد حددوا بذلك الكشف القيم مركز الآريين من الحضارة الهندية التي تعرفت بهذا الاسم من قبل.
لقد اقتبس الآريون كثيرا من نظريات الجنس السامي في الحياة، واهتدوا بها إلى الطرق العقلية، فحولوها من السامية إلى الآرية، ونقلوا اصطلاحاتها العلمية إلى اللغة السنسكريتية التي لم تكن معروفة في الهند قبل الهجرة الآرية، ودونوا بها كتبهم المقدسة واتخذوها لغة العبادة المقدسة والديوان الرسمي، وفرضوها على الشعوب المغلوبة على أمرها، وهكذا احتلت اللغة الجديدة «السنسكريتية» مركزا خطيرا في الدولة، وأخذت تسيطر على جميع مرافق الحياة العامة، وبدأت اللغات الدرافية تختفي وتندثر شيئا فشيئا، ومثال ذلك لغة الماهراتا، فإن الماهراتا من الشعوب السامية السمراء، غير أن لغتها من أسرة اللغة السنسكريتية الآرية، وذلك أثر للسلطان السياسي الذي فرضه الآريون الفاتحون على غيرهم.
لقد أخذ الآريون نظرية الألوهية من الجنس السامي «الدرافيدي» الذي عاش في الهند قبل هجرة الآريين بقرون بعيدة محاكين إياه في الطقوس الدينية القدسية، كما اتبعوا النظم الاجتماعية السائدة لدى الدرافيديين، فانتقلت بذلك الحضارة السامية إلى أيدي الآريين، ولم يكتف الآريون بهذا القدر، بل أزالوا جميع مآثر الحضارة السامية دون هوادة ولا شفقة، وقد حرفوا كتبها المقدسة غالبا ودمروا هياكلها ودفنوا بعضها تحت طبقات عميقة من التراب، كما أخفوا لوحاتها التذكارية غير القابلة للكسر فيها. وأخيرا أماطت تحريات پزجي اللثام عن وجوه تلك الحقائق الناصعة في منطقتي موهونجودارو على الضفة الغربية من نهر السند، وهاريا في أعلى الصعيد من وادي السند.
بيد أنه من المسلم به أن العقلية الآرية الممتازة وذكاء الآريين الخارق بالإضافة إلى ظروفهم النادرة وثرائهم الواسع وما إليهما من العوامل قد ساعدتهم كثيرا في تنميق تلك الحضارة وتنسيقها وإبرازها بين العالمين، وقد تفرد الآريون حقبة طويلة في الأمور العقلية فذابت فيهم وذابوا فيها، ونشأت فيهم على مر الزمن مدارس فكرية كثيرة ومنها المدرسة الفيدية والمدرسة البرهمية على اختلاف أنواعها، والمدرسة اليوجية والمدرسة الجينية والمدرسة البوذية على اختلاف أنواعها.
أما ديانة الهنود الأقدمين فلم يعرف عنها على التحقيق شيء أو قل إنه قد عرف عنها القليل جدا. وحسبنا أن نذكر أنهم كانوا يعبدون الثور وأن الأم الإلهية كانت تستأثر بقصر عظيم، كما يبدو من التماثيل والصور الخاصة. وعند السير جون مارشال أنها وثيقة الصلة بما وجد من نظائرها في إيران والبلقان وما بينهما. أما عبادة سيفا الهند فهي مركبة، ذلك أن جزءا منها يحتمل أن يكون مشتقا من سكان وادي الهندوس أو من شعب آخر نقلها إلى الآريين، على أنه لم يوجد هناك موضع النار الذي كان محفورا في كل دار من دور الآريين. أما الموتى فكانت جثتهم تحرق، على أنه قد وجد في «هاريا» مقابر قليلة تخلف في بعضها آثار الطعام وأشياء شخصية أخرى مما كان الإنسان البدائي يقدمه إلى موتاه ليستخدموها في عالم الأموات. هذا ويبدو أن الفيضانات قد اكتسحت آثار الحضارة الهندوسية القديمة والمدى الذي بلغته. وقد وجدت في «موهينجو دارو» ثلاث من ذوات الطوابق، وكذلك في ولاية كايوت في الطريق القديم إلى الهندوس قد وجدت آثار حضارة أقل رقيا كشفت في 1935. راجع: «موهينجو دارو وحضارة الهندوس» «تأليف سير جون مارشال».
كذلك نستطيع أن نقف على شيء كثير أو قليل من تاريخ الهند القديم، إذا استقرأنا أشعار الآريين المقدسة، وهؤلاء الآريون - كما قدمنا - يرجعون هم والإيرانيون «الفرس» إلى أصل واحد، ويتكلمون لغة قريبة النسب بالفارسية واليونانية واللاتينية، والتيوتونية والسلافية، ذلك أن أدبهم القديم يكشف النور عن حياة الأمة الآرية وإن كان دخول الآريين الهند أو غزوها لم تتحقق الروايات التاريخية وسيلته. ومهما يكن من شيء فإنه كان من أثر دخول هؤلاء الهند أن الأفكار الدينية والآراء الفلسفية قد سيطرت على حياة سكانها من الهندوس إلى مصب نهر الجنج وجنوبا إلى تلال الفينديا. وقد جاءت دراسة أدب القوم وفلسفتهم متأخرة، ذلك أن «شركة شرقي الهند الإنجليزية» قد ترجمت الأدب السنسكريتي القديم للمرة الأولى من الفارسية إلى الإنجليزية في 1776. وبعد هذا بعشر سنوات جاء سير ويليام جونز عضو المحكمة العليا في كلاكاتا، فاستند إلى دراسته العميقة للغة السنسكريتية، في وضع أسس علم اللغات المقارنة الحديث، وكان من أثر أمثال هذه الدراسات أن انكشف شيء من الغطاء عن تاريخ الهند قبل الحكم الإسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي، ولعل من أسباب هذا أن الهند كانت محوطة بأسوار من الجبال التي حجبت ما يتلوها، فأتيح للهندوآريين أن يشيدوا حضارة، وأن يؤسسوا ثقافة خاصة بهم، ولعل في مقدمة هذا الديانة البرهمية الوطنية والعقيدة البوذية الشاملة. هذا ولم يكن لغزوات الأجانب من فرس ويونان ومسلمين في سير الحضارة والثقافة الهنديتين وتقاليدهما أثر محسوس أو عميق؛ إذ لا يزال الفلاح الهندي يزرع الأرض ويشعل النار بعصوين، تاليا قراءات دينية معينة، محافظا على تقاليد حياته وعلى أدب الحضارة الآرية على مثال سلفه منذ آلاف السنين إلى الاحتلال البريطاني الذي أدخل معه كثيرا من النظم البريطانية والأوربية في الحضارة والثقافة وما إليهما.
أصل الشعب الهندي
حين غزا الآريون الهند، كان يسكن أكثر بقاعها قوم يطلق عليهم اسم «الدرافيديين» نسبة إلى «الدرافيدا» وهو الاسم القديم لمملكة «التاميل» في جنوبي الهند، غير أن الغزاة أطلقوا على «الدرافيديين» اسم «داس» أو «داسياس» ومعناها «الوطني». وقد وصفتهم «الفيدا» بأنهم شعب ذو بشرة سوداء وأنف عريض، وكانوا في شمال الهند يسكنون قرى محصنة ويملكون قطعانا من الماشية، وقد يكونون قد أدخلوا نظام ري حقول الأرز في وادي الكنج. أما ديانتهم فقد كانت «فالية». وعند «ب.س. فوستار» في كتابه «رحلات الإنسان البدائي وإقامته، ص43 وما بعدها؛ طبعة 1929»: أن أفراد هذا الشعب قد استعمروا غنيا الجديدة حول نهاية الألف الرابعة ق.م، مؤلفين سكان الهند الأقصى وجنوب الصين. أما انتقالاتهم الأولى فهي غير معروفة. هذا ويبدو من اللغات التي لا تزال مستعملة في الهند، أنه يمكن أن يجد الإنسان النيوليتكي، وهو كما أوضحناه في كتابنا «تاريخ ما قبل التاريخ»، إنسان عصر الحجر الجديد، في نسل القبائل الهندية البدائية التي كانت تسكن الغابات كقبائل البهيل والميناس. وعلى هذا قد يكون الذين يتكلمون البراهوية في الوقت الحاضر قد تخلفوا عن الدرافيديين في بلوخستان، حين جازوها في طريق غزوتهم الأولى للهند.
لم يقف الدرافيديون أمام الغزو الآري طويلا وفي كل مكان، بل إنهم تراجعوا أمام الآريين أو أذعنوا لهم؛ لأنه بينما كانت آلات الدرافيديين من الحجر، كان سلاح الغزاة وأدواتهم من المعادن، ومن ثم كانت لهم الغلبة على الوطنيين الذين فقدوا أرضهم وحريتهم وأصبحوا عبيدا للغزاة بل قطعانا، غير أن سكان الجنوب قد وقفوا الغزو الآري قرونا أمام تلال الفيندايا والغابات التي تكاد لا يمكن اقتحامها.
هذا ومنذ التاريخ القديم جدا كان يسكن السهول الواسعة أناس من الرعاة يطلق بعضهم على البعض الآخر اسم «آرياس»؛ أي الإخوان، دب بينهم دبيب الخصومة والانقسام فهاجرت منهم جماعات في فترات غير متلاحقة جنوبا، متخذين من الصخور فئوسا عاونتهم في تحطيم الأشجار مع اتخاذ أخشابها في فلاحة الأرض والدفء وبناء الأكواخ، ووسعهم أن يستخدموا أبناء الأقوام التي غلبوها على أمرها في الزراعة قانعين بالسيادة وبالحرب والغزو، الذي امتد إلى السهول الخصبة الفسيحة في الشمال الغربي من بلاد الهند، متغلبين على المقاومة العنيفة التي أبداها الداسيون، السكان الأصليون لهذه المنطقة، فدانوا للقوة الغاشمة الغازية، وأطلق عليهم الناس بعدئذ اسم «شودارس» الذين تألفت من بعضهم طبقة المنبوذين، بعد أن فر الباقون إلى مستنقعات الدكن وغاباته ولبثوا هناك إلى اليوم.
الفصل الثالث
الآريون في الهند
عند «ماكس ميلار» في كتابه «بيوغرافية الكلمات ووطن الآريين» أن الآرية مجموعة لغات تسمى الأنيدو بوروميان، وأن الآريين هم الذين يتكلمون إحدى اللغات الآرية مهما يكن لون بشرتهم وموقع بلادهم. وعند «إ. و. هو بكينز» في كتابه «الهند القديمة والجديدة» أن جماعة الريجافيدا كانت في منطقة أومبالا، وأن أفرادها كانوا يفخرون بأنهم آريون.
هذا والآريون كانوا في الأصل يسكنون هضبة إيران، وكانوا قبائل عديدة، منها ما ذهب غربا إلى آسيا الصغرى وأوربا، ومنها ما ذهب شرقا إلى الهند، كانوا أهل بداوة ورحالة ومراعي وحرب وهمجية ولصوصية وغزو . ويقال: إن كلمة آري سنسكريتية الأصل ومعناها النبيل، وأن اللغة الآرية واسمها «الهندوأوربية» لغة رئيسية تجيء في المنزلة العالمية القديمة بعد اللغة السامية. والآرية قسمان: (1)
الأوربية:
وتشمل التيوتونية واليونانية والكلتية والإيطالية. (2)
الأسوية:
وتشمل الألبانية والأرمنية والهندوإيرانية، والإيرانية القديمة، والباليتوسلوفية، والسنسكريتية.
شعوب آسيا
قد تكون كلمة «آسيا» مشتقة من أصل آشوري أو عبري، فتكون دالة على «شروق الشمس». كذلك قد تكون كلمة أوربا مشتقة الاشتقاق نفسه، فتكون دالة على «غروب الشمس». ومهما يكن من الأمر، فإن المسألة غامضة. هذا ويبدو أن الروس شعب شرقي، من ناحية أرومته، وأنهم يشبهون الترك والهنود والصينيين؛ كما يبدو أن الصينيين جاءوا إلى بلادهم من ناحية حدودها الغربية، وأن الهنود والإيرانيين جاءوا من ناحية الشمال الغربي، وجاء سكان بورما وسيام من الشمال. أما الترك والمغول فقد جاءوا من وسط آسيا.
استقرار الآريين وحضارتهم في الهند
عند الهندوسيين أن تاريخ الهند يبدأ منذ أكثر من 3000 سنة ق.م؛ أي بالحوادث المفصلة في الملحمة العظيمة «ماهابهاراتا»، وأن أبعد نظرة تاريخية تبين لنا أنه كان هناك شعبان يناضلان في الأرض: (1) الدارفيديون، السكان الأصليون، وهم سود البشرة و(2) الآريون ذوو البشرة الجميلة النقية، وهم الذين جاءوا من ممرات الشمال الغربي لحدود الهند، وساقوا الدارفيديين إلى الجنوب، واحتل الآريون سهول الهندستان. كذلك يؤخذ من الريجافيدا، هذا التذكار الأدبي العظيم، أن الآريين قد نزلوا في البنجاب في عصر تحديده مجهول، أو قل منذ أكثر من 3000 سنة كما قدمنا.
أما عند الأوربيين فإن هذا التاريخ هو 1400ق.م على أن الديانة الفيدية كانت في القرن السادس ق.م. هذا والشعر القديم يصور الآريين على حدود الشمال الغربي يبدءون رحلتهم الطويلة على شاطئ نهر الهندوس في قبائل كانت تبدو متقاتلة، بعضها يحارب بعضها الآخر، أو متحدة ضد سود البشرة وهم السكان الأصليون. وكان أب الأسرة أو الجماعة قسيسها في الوقت ذاته، غير أنه قد يندب أحد متعلميها ليقوم بشئون العبادة والتضحية المقدسة باسم الشعب ، الذي قد ينتخب رئيسه. وقد كان للمرأة مكانة: فكان منها الشاعرة ، وكان الزواج مقدسا، ولمنزل الزوجية حرمة، ولم تكن عادة إحراق الزوجة عند دفن زوجها معروفة يومئذ. وكان الآريون يعرفون المعادن، وكان منهم الجوهري والصائغ والنجار والنحاس والحلاق والصناع الآخرون، كذلك عرفوا بناء السفن والجواد واستخدموه في الحرب، غير أنهم لم يكونوا قد استخدموا الفيل بعد وكانت الماشية أهم ثروتهم، وكانوا يأكلون لحم البقر الذي لم يكن الهندوسيون يأكلونه، وكانوا يقدمون اللحوم والشراب إلى آلهتهم، وكان لهم شراب مخمر من نبات السوما، وكانوا يسيرون شرقا طاردين السكان السود.
وفي القرن السادس قبل الميلاد، كان هناك 16 دولة وإمبراطورية وجمهورية قبيلة، كإمبراطوريات كوزالا، ومجادة، والفاماس؛ والأفانتي ومملكة أودة، التي يبدو أنها أقدم دولة في الهند في 6000ق.م. هذا والمظنون أن الدارفيديين قد وصلوا في القرن السابع قبل الميلاد إلى بابل، وعرفوا الحروف الهجائية السامية، وعادوا بها إلى بلادهم، فتطورت عنها الحروف الهجائية في الهند وسيام وسيلان وغيرها. هذا ويبدو أن الديانات القديمة في الهند ترجع إلى أصول قديمة جدا قبل أن يصوغها منشئوها ويزعمون تقريرها، فقد كان فلاسفة ما قبل التاريخ يعرفون «الجينزية» وهي عقيدة دينية لطائفة في الهند دون غيرها، تعدادها الآن أكثر من مليون. وقد أنشأ هذه الديانة في القرن السادس قبل الميلاد فارداهمانا ماهافيرا، وهي تنادي بتقديس الحياة كلها وبعدم فناء المادة، وأن الروح في تجسدها المتتابع تحتفظ بذاتيتها. كذلك عرف هؤلاء الفلاسفة البوذية، التي أنشأها في 520ق.م. جوتاما بوذا بن راجا مملكة كابيلا «568-488ق.م» وكان أصل اسمه سيد هارتا. أما اسم بوذا الذي أطلق عليه بعدئذ، فمعناه «الرجل المستنير» وفي التاسعة والعشرين هجر داره وزوجه وولده، ممضيا ستة أعوام في التجوال والحرمان ثم آثر أن يقضي ما بقي له في الصوم تحت شجرة المعرفة في بوذا جويا، وهناك تلقى الاستنارة والحكمة؛ ومضى منذ يومئذ يعلم الناس العقيدة الجديدة التي أنشأها؛ أي البوذية التي كانت في أصلها تقوم على طريقة في الحياة ترمي إلى إنقاذ النفس الإنسانية، ثم تطورت إلى ديانة لها طريقتها الفلسفية الخاصة، وغايتها بلوغ درجة النيرفانا حين يتجرد الإنسان من شخصيته كلها وينسحب من ملذات الدنيا، كذلك تتضمن ما ينبغي على الإنسان أن يقوم به لتقوم حياته على الحق والتفكير العقلي الصحيح والتحرر من القيود الإنسانية، فهي تشجع على العزوبة، وسنوضح هذا كله بعد. وحسبنا أن نذكر هنا أن البوذية، فيما عدا الهند، قد انتشرت في التبت وبورما والصين واليابان. فهي إحدى الديانات الثلاث في الصين، وهي الديانة الرئيسية في سيلان.
أما في التبت فقد تطورت إلى اللامية، ويبلغ عدد البوذيين في العالم 160 مليونا الآن.
وقد وجدت البوذية من الممالك اليونانية في البنجاب باعثا جديدا على النهضة «وقد تحول ملك ماجده أو بيهار «264-227ق.م» إلى البوذية، وكان يعول 64 ألف قسيس بوذي، ودورا للعبادة، ومملكة تدعى موناسيترم. وكان هذا العصر فاصلا كما كان عصر الإمبراطور قسطنطين في المسيحية. ولقد غزا اليونان الهند في 327ق.م. وقد ترجع التجارة بين الهند والشرق الأدنى إلى أبعد من هذا.
الفصل الرابع
الآرية والبوذية
منذ نحو سنة 2000ق.م. عرف التاريخ أن أناسا ينطقون بالآرية نزلوا إلى الهند من شمالها الشرقي، وليس يعرف هل جاءوا في غزوة واحدة أم في غزوات متلاحقة، وكيفما كان الأمر، فإنهم نشروا لغتهم السنسكريتية وهي إحدى اللهجات الآرية، وكان سكانها الأصليون قمحيي اللون أو أقرب إلى سواد البشرة. ولئن كانت حضارتهم أرقى من حضارة الشعب الآري إلا أنهم كانوا غير مستمسكين بامتلاك وديان الهندوس والجنج. كما أن الغزاة الآريين آثروا أن يكونوا بمعزل عن غيرهم غير حافلين بالاندماج في السكان الأصليين، على أن من العسير أن يرد المؤرخ سكان الهند إلى عنصر واحد؛ إذ إنهم منقسمون أقساما.
أما البوذية التي أشرنا إليها فهي التي كان منشئها أو صائغها بوذا الذي أصله اسمه - كما قدمنا - سيدهاتا جوتاها وليد أسرة أرستقراطية كانت تحكم أحد الأقسام الصغيرة في منحدرات جبال الهيمالايا، فإنه في التاسعة عشرة قد اقترن بابنة عمه وكانت فتاة جميلة، وكان يهوى الصيد والتجوال في الحديقة تحت أشعة الشمس المشرقة والأحراش وري حقول الأرز، وكان من أثر هذه الحياة الخلية أن أصبح برما بها متطلعا إلى حياة أخرى؛ حياة الجد والتفكير عوضا عن حياة اللهو والخمول ذاهبا إلى أن عهدها قد طال، وأنها أبعد عن أن تكون مفيدة. وطفق «جوتاما» يفكر فيما ينزل بالإنسانية من الكوارث والأمراض وأسباب القلق وفقدان السعادة إلى أن اتفق له أن قابل أحد نساك الهند، الذين كانوا منتشرين في أرضها وكانوا يمضون الوقت في التأمل والجدل الديني منقبين عن حقيقة هذه الحياة الدنيوية. وهنا آثر «جوتاما» أن يقفو قفوهم، ويبدو أنه قد تغشاه شعور روحي جعله يعود إلى داره، وعامدا إلى مغادرته ليلا حين كانت زوجه مع طفله المولود حديثا، ممتطيا جواده في ضوء القمر إلى أن خرج من حدود قريته تاركا جواهره وسيغه محمولا على جواده، الذي عاد إلى الدار، ثم ارتدى ثوبا مرقعا أخذه من أحد المارة بعد أن أعطاه الثوب الأنيق، وأصبح «جوتاما» عاريا عن كل المظاهر الدنيوية إلى أن بلغ مكانا في جبال الونديا، هناك لقي جماعة من النساك القابعين في الكهوف، لا يغادرونها إلا لحاجة في القرية المجاورة.
لم يقنع «جوتاما» بمذهب هؤلاء في علم ما وراء المادة، مؤثرا أن يأوي مع خمسة من صحبه النساك إلى الغابة، آخذا نفسه بالصيام والكفارة المرهقة عن ذنوبه، على نهج ما عرف عن الهنود من صرامة التنسك والزهد الذي يقوم على الصوم واليقظة ليلا وتعذيب النفس، فقد رأى «جوتاما» أن هذه الفلسفة هي الطريق إلى القوة والعلم، وقد ذهبت لجوتاما بهذا شهرة لا ضريب لها في الهند؛ وقد لبث على هذا الضرب القاسي من التنسك إلى أن أغمي عليه وأصابته رهقة، حتى إذا أفاق من غشيته، فاجأ صحبه بفلسفة جديدة ترمي إلى ترك التقشف، والإقبال على الطعام مناديا بأن الحقيقة التي يبحث عنها الإنسان لا يصل إليها إلا إذا شبع وكان صحيح البدن. وهنا هجره صحبه عائدين إلى بنارس، أما هو فقد مضى وحده متنقلا بين البلاد إلى أن جلس يأكل تحت شجيرة عند نهر، ولبث مطرقا مفكرا عامة الليل والنهار إلى أن استوى له من الترميق فلسفته في الحياة، فعاد إلى بنارس مستعيدا صحبه؛ متخذا معهم أكواخا في حديقة الملك دير في بنارس، وهناك أنشئوا ما يشبه المدرسة، التي أصبحت ملتقى الكثيرين من الباحثين عن الحكمة، وكان تعليم جواتيما يدور حول هذا السؤال: لماذا أنا غير مستكمل أسباب السعادة؟
أما ما يعنيه السؤال فهو أن النفس مصدر كل شيء، فإن الآلام مرجعها إلى شهوات الفرد، فإذا لم يقهرها كانت حياته شقاء ومصيره حزنا، وعند «جوتاما» أن شقاء الإنسان يرجع إلى ثلاثة: أولها حب الشهوات المختلفة والشراهة، وثانيها حب البقاء والأنانية، وثالثها حب النجاح الشخصي والدنيا والبخل. فمتى تم قهر النفس؛ أي تم القضاء على هذه النزغات، صفت الروح وحصل الإنسان على أسمى الخير.
ولا مراء في أن هذه الفلسفة تناقض الفلسفة اليونانية التي تتطلب من الإنسان أن ينظر وأن يتعرف الصواب في غير وجل، كما تناقض الفلسفة العبرية التي تأمر الإنسان بأن يخشى ربه وأن يفعل ما هو حق.
ولما كان عند اليهود يومئذ أن الحكمة تجيء إلى الأرض مجسمة في شخص يدعى «بوذا» وذلك عند كل فترة من الزمن، فقد زعم أصحاب «جوتاما» أنه بوذا وأنه آخر البوذة - جمع بوذا - مع أنه ليس ما يثبت أن «جوتاما» قد قبل هذا اللقب. وكذلك انتظر أناس من المسلمين ظهور المهدي ولا يزالون منتظرين.
الفصل الخامس
الآرية والبرهمية بعد غزو الهند
كان الآريون الغزاة كلما تقدموا في أرض البنجاب، فقدوا طابعهم البدائي، وتطورت حالتهم من السذاجة والبساطة، ومن حالة الأقوام المبعثرة، إلى التجمع والاتحاد في ممالك وما يشبه الجمهوريات لمواجهة خصومهم الوطنيين الأصليين، وأصبح صغار الزعماء الآريين قوادا للمحاربين، على حين أن الكشاتريين وهم العريقون في الجندية قد ازدادوا شوكة وسؤددا، وسادوا العامة «الفيزيا». ومن العامة من كانوا جنودا ومن وسعهم أن يبلغوا رتبة الكشتارية، كما يبدو من مطالعة الجزء الأول من فهرس الفيدا ص207 والفصل السابع ص104 من الريجفيدا، ثم إن الكشتاريين أصبحوا على مدى الأيام كثيري العدد يؤلفون طبقة الضباط والقواد للجيش ومنهم «الراجبوت ».
هذا وقد عمد البراهمة إلى جعل منزلتهم ثابتة لا تقتحم منذ انفسح أمامهم ميدان السلطة باشتغال القواد في الحروب المستمرة.
والبراهمة هم جماعة الطبقة العليا الهندوسية الذين لهم وحدهم أن يفسروا الفيدا، وهو الكتاب المقدس للهندوس، والبراهمي هو هذا الذي يستطيع أن يشغل منصب الكاهن أو القسيس الهندوسي، أما البرهمية فهي الديانة التي ينادي بها البراهمة، كهنة الهندوس من الطبقة العليا فيهم.
غير أنه قد كان من أثر قيام الكهنة أو القسس بالطقوس الدينية أن العناصر الحية في الحياة الوطنية قد أصابها العطب والارتباك؛ وكان من عاقبة هذا أن اتحد الكشاتريون مع مفكري البراهمة لتنظيم أداة الحكم وتسيير دفة الحكومة، على حين أن سلطة الملك قد لبثت قائمة على تأييد الشعب له في جمعية القبيلة «السابحا» - راجع الفصل الثالث من الآثار فافيدا. كما أنه قد ثبتت سلطة القسيس على أثر تثبيت مركز القس الملكي «اليوروهيتا» الذي كان يصحب الجند في المعارك لكي يصلي في سبيل ظفر الجند تاليا ما يدعو إلى هزيمة الأعداء. ثم إن عامة الشعب «الفيزيا» أخذوا يقفون جهدهم على الزراعة والتجارة، وثمة طبقة راقية تدعى «سودار»، وهو الاسم الذي كان الآريون يطلقونه على طبقة (الداس) التي أسروها واتخذوها عبيدا، وقد أمكن اندماج بعضهم وأصبح منهم أحرار يحترفون مهنا حقيرة. وطبقا لقانون مانو «الفصل الخامس من دهراما ساسترا»، يصبح آريا الولد الذي يجيء ثمرة اقتران الآري بامرأة غير آرية. هذا وقد كان الآريون طوال القامة وحسني الهيئة. أما الدرافيديون فقد كانت بشرتهم - كما قدمنا - سوداء، وبينما كان الكشاتريون والبراهمة يؤلفان الطبقتين التاليتين في المجتمع، والاختلاف بينهما غير قليل - كان البون بين «الفيزيا» وبين السودار الدرافيدية كبيرا جدا، إذ كانت الفارنا «اللون السنسكريتي» الفاصل بين الشعبين.
ومهما يكن من شيء فإن الآريين قد اندمجوا على مدى الأيام؛ في الوطنيين الأصليين، فليس ثم آري أصيل في الهند إلا في ولاية «راجبوتانا » وبعض الأراضي المنعزلة.
وعند «شامستري» في ص44 من كتاب «تطور الطوائف» أنه تبعا لألوان ملابس الطبقات الهندية: للبراهمة اللون الأبيض ، وللكشاتريين الأحمر، وللفيزيين الأصفر، وللسودريين الأسود. ولعل حضارة الهند أقدم الحضارات الأسيوية عدا الحضارة الصينية.
وقد ذهب «داروين» من دراسة الأحياء إلى أن الكائنات الحية ليست مستقلة، بل أنها قد تسلسلت من أصول قديمة، ومن ثم فإن بينها قرابة، على نقيض ما كان يذهب إليه العلماء. أما الأثريان «اليوت سميث وبيري» فيذهبان إلى أن دراسة الآثار قد برهنت على أن الحضارات القديمة في الهند والصين وإيران وبولينيزيا واليونان وغيرها ترجع إلى أصل واحد هو الحضارة المصرية القديمة.
هذا والبرهمية تقوم على جعل الأسرة وحدة دينية، والطائفة مؤسسة على الأسرة ومعها قسيسها البرهمي. وعند «ب لرازان» في ص338 من كتابه «نظرية الحكومة في الهند القديمة» أن الفكرة الأساسية في «الطائفة» تقوم على أن الفرد لا يعيش لنفسه، وأن السلطة والمكانة والامتيازات وخيرات الدنيا ينبغي أن تكون موزعة طبقا للأعمال.
بين البوذية والبرهمية
قامت في الهند حركة عقلية كان من أثرها الدعوة إلى إصلاح الدين وذلك بنبذ الفيدا وملحقاتها الآنفة الذكر، ووضع «البوذية». وقد لبث الخلاف بين الرجعيين والمصلحين قرنين، وقد أتيح بعدهما «للبوذية» الغلبة على البرهمية خاصة في عام 327ق.م. حين غزا الإسكندر سهول البنجاب. غير أن البرهمية عادت إلى غلبتها في الهند، في حين أن البوذية تغلبت على غيرها من العقائد في الصين واليابان كما أوضحنا في «الفصل الرابع».
الفصل السادس
الفيدا كتاب الهندوس المقدس
الفيدا هو الكتاب الذي جمع الأساطير والأغاني والصلوات والترانيم والأشعار التي راجت خلال الغارات والغزوات القديمة. و«الفيدا» على هذا - هي الكتاب المقدس عند الهندوس الذين يعتقدون أنه وحي من الله موجه إلى قادة الماضي وأنبيائه وعنهم تلقاه «البراهمة»؛ أي طبقة الكهنة أو القسس.
الأدب الهندوسي واللغة السنسكريتية
والفيدا، إلى أنه كتاب تاريخ وعقيدة وحكمة، يعد أقدم الأدب الآري، فهو يتألف من كتب الفيدا الأربعة باللغة الفيدية وهي، إلى أنها أقدم أشكال اللغة السنسكريتية ، فإنها لغة المنشدين من الكهنة؛ أي لغة الخاصة، هذا والفيدا معناها «القصة المقدسة»، إذ إنها عند الهندوس موحى بها، في حين أنهم يعدون ما جاء بها من صنوف السامهيتا (المجموعات) كتعاليم متوارثة. وكان الهندوس يحفظون كتب الفيدا عن ظهر قلب حتى بعد أن عرفوا الكتابة وإلى نحو نهاية عصر الفيدية كانوا يتناقلون الكتب مشافهة في دقة لا خطأ فيها.
أما اللغة السنسكريتية، ومعناها الحرفي (الموضوعة معا) فهي ما تطورت إليه اللغة الفيدية، وكانت لغة البراهمة وأرستقراطيي الآريين أو لغة أرض الآريين. أما العامة فكانوا يتكلمون بالباركريتية كما كانت اللغتان الفرنسية النورماندية والساكسونية منتشرتين في إنجلترا بعد الفتح. هذا وقد لبثت اللغة السنسكريتية لا تتغير أكثر من ألفي سنة، غير أن لغة الكلام في الهند قد تفرعت من السنسكريتية إلى 222 لغة أو لهجة، ترجع إلى خمس لغات أصلية: (1)
أقدمها الأوسترية:
يتكلمها جماعة الموندا في كوتا ناجيور والمراكز الشمالية في مدراس ولغة القبائل البدائية مثل الجوند، وهي أكثر لغات العالم انتشارا؛ إذ يتكلمها أناس من لغة إيستار في جنوب أمريكا إلى مدغشقر ومن نيوزيلند إلى البنجاب «راجع 524 من تقرير الإحصاء الهندي في 1911». (2)
الدارفينية:
يتكلمها الهنود الذين ليسوا من أصل آري، ومنها التاميلية والتيلوجية وخمس لغات أخرى تنقسم إليها ويتكلمها 86 مليونا في الهند الوسطى والجنوبية. (3)
الهندوآرية:
وتنقسم إلى الهندية وهي لغة ثلث سكان الهند، والبنغالية والماراثية والجوجيراثية والبنجابية. (4)
السامية:
التي أدخلها في الهند فاتحوها المسلمون. (5)
التبيتو صينية.
كيف تألفت كتب الهندوس المقدسة؟
تألفت الفيدا تبعا للتواريخ الآتية بعد، وهي أقرب إلى الفرض منها إلى الدقة، فالشعر الموجه إلى أوشاس الفجر قد وضع حول 1200ق.م. «راجع ص112 و113 الجزء الأول من تاريخ الهند».
وعند ب. ج. تيلاك في كتابه «الوطن القطبي في الفيدا» أن أقدم كتب الفيدا يرجع إلى 4500ق.م. وأن أقدم عهد للحضارة الآرية يبدأ بين 6000 و4000ق.م. «راجع أريون وأبحاث في الأثر القديم للفيدا-پونا طبعة 1916».
هذا وتشتمل الفيدا الجديدة والقديمة على: (1)
الريجفيدا:
1028 نشيدا شاملة ما ورد في الكتاب الثامن ، مصاحبة للضحايا إلى الآلهة. (2)
الساما فيدا:
وهي مجموعة أغان من «الريجفيدا». (3)
الياجورفيدا: (أ) السوداء، وتشتمل على صلوات قربانية شعرا ونثرا، والنثر الفيدي الأقدم مختلط بالتعليقات. و(ب ) البيضاء، وفيها فصلت تعليقات النثر من الأوراد المكررة. (4)
الأثارفافيدا:
التي تصف عقائد الجمهور في الأرواح الشريرة والسحر والرقية منذ ثلاثة آلاف سنة. وهذا الكتاب قد لبث وقتا لا يعترف به ككتاب سماوي مقدس، بل لا يزال براهمة الهند الجنوبية لا يعترفون به.
هذا وقد كانت ديانة الهنود في عهد كتابهم «الريجفيدا» غير معقدة وإن كانت آلهتهم التي كانوا يقدمون إليها القرابين، متعددة؛ إذ كانت ديانتهم تقوم على عبادة الطبيعة مشخصة في أشكال متنوعة.
كتب أخرى
وثمة كتب أخرى، حسبنا أن نذكر منها:
كتاب الماها بهاراتا وهو من وضع مؤلفين كثيرين، وهو مؤلف من 200 ألف سطر، وثمرة قرون، وهو يشتمل على فلسفة ودين وقصص وبحوث قانونية، ويرجح أنه يرجع إلى أقدم عهد منذ القرن الرابع ق.م. إلى القرن الرابع ب.م. ومنه نقف على شيء من الفكرة السياسية الهندوسية.
وعلى امتداد الزمان ومطويات الأيام عسرت لغة «الفيدا»، وغمضت معانيها على المتأخرين، وزادها تعقيدا ما ألحق بها من المتون والشروح مما كان من أثره أن عمد البراهمة - أي الكهان - إلى التوفيق بين الشروح المتباينة، فظهر هذا في كتاب جديد اسمه «براهمانا»، تلاه ذيل له اسمه «اليوپانشاد» في 500ق.م. وفيه الترميق اللاهوتي والنزعات الصوفية الداعية إلى طهارة القلب وصفاء النفس وأن المعرفة أساس التحرر، وفيه أشياء أخرى تعد إلغاء لبعض شعائر البراهمانا.
هذا والفيدا والبراهمانا واليوپانشاد هي كتب الوحي الهندوكية، تقرأ فيها تعدد الآلهة والإلهات وتنوع اختصاصاتها ونزعات التوحيد ووحدة الوجود والحلول. وهذه الكتب الثلاثة أدنى إلى أن تكون نظاما اجتماعيا يرخص بالعقائد المختلفة من أن تكون دعوة إلى عقيدة معينة.
على أن هذه الآلهة المتعددة قد ترقت على الأيام إلى وحدة منها انبثق الخلق وإليها يعود، خاصة في «اليوپانشاد» وما أعقبه من الفيدانتا ومعناها الحرفي خاتمة الفيدا. أما أساس «الفيدانتا» فهو أن الله والنفس الإنسانية شيء واحد، وإن كان إدراك الإنسان يصور له أنهما متباينان.
هذا وقد تألفت، على الأيام، من طائفة من الأساطير والقصص والأشعار كتاب «بيورانا» في القرن السادس الميلادي، وهو الكتاب الذي يقدسه الهندوس المحدثون إذ يقرءون فيه بيانا مفصلا عن حياة الآلهة والقديسين وعن الخلق، وتراتيل دينية، وحقائق مركبات الأرض وشيئا عن التشريح، وقواعد الموسيقى والقلب وقواعد اللغة. أما الآلهة في هذا الكتاب فثلاثة: (1)
براهما، الإله الخالق. (2)
فشنو، الإله الحافظ على صورة رجل ذي لحية وأربعة رءوس وأربع أيد في يد منها: الصولجان رمز القوة. وفي اليد الثانية أوراق الشجر رمز الكتب المقدسة، وفي الثالثة زجاجة ماء اللبخ، وفي الرابعة يحمل عقدا وهو رمز للصلاة. (3)
شيفا أو سيفا، الإله المهلك.
الفصل السابع
الكتب الهندية المقدسة كمصدر للتاريخ
إن كتب الفيدا وما أعقبها من الأشعار القصصية ومجموعات القوانين والمرويات، هي المصدر الوحيد لما عرفه التاريخ عن الآريين في خلال مئات السنين، وليس مستطاعا جمع الحقائق إلا من طريق الاستنتاج.
أما تطوراتهم الدينية والاجتماعية، فمن الميسور تتبعها، ذلك أن كهنتهم لم يحفلوا بالتاريخ السياسي، بل كان همهم تتبع الدين والفلسفة والقانون والنظم الاجتماعية والعلم. ولم يبدأ تدوين تاريخ الهند الشمالية الغربية إلا منذ غزاها الفرس واليونان، فمنذ يومئذ عرف شيء عن تاريخ الهند وعن تحديد حوادثها وسكانها وبعض تفصيلات الحياة فيها. غير أنه لا يزال تاريخ ميلاد جوتاما بوذا وتاريخ وفاته غير معروفين على وجه الدقة. وقد كتب عن الهند بعض اليونانيين في سياق تاريخ ملك الفرس «أرثا كسيريكس منيمون». أما التاريخ الصحيح فإنه يبدأ منذ حملة الإسكندر الأكبر، ووصول ميجاستينز سفير سيلويكاس نيكاتور إلى بلاط أول إمبراطور للهند.
هذا وعند كامب «ص66-67 الجزء الأول من تاريخ الهند» أن هناك أسبابا جغرافية وإثنولوجية «وصفية للسلائل والأجناس البشرية وعاداتها» تدعو إلى القول بأن الشعب الهندوآري جاء من السهول الخصبة في النمسا والمجر وأعالي بوهيميا. وكان سكانها يطلق عليهم اسم «الويروس» حول 2500ق.م. ويقال إن بعض قبائلهم هجرت أوربا إلى آسيا فوصلوا إلى باكتريا «بلخ» في زمن بين 2000 و1500ق.م. وبعد أن اخترقوا آسيا الوسطى، ذهبوا جنوبا مجتازين ممرات الهندو كوش إلى أفغانستان، ومنها إلى السهول، وكان الآريون هناك فريقا من الغزاة من أبواب كابول الكورام وأنهار الجومال.
الفصل الثامن
أصل نظام الطوائف الهندية
الطائفة في الهند مجموع أسر تقوم رابطة بعضها بالبعض الآخر على أساس القيام بالطقوس المقررة خاصة الزواج والطعام، إذ إن قوانين الزواج من أشد ما عرف من أمثالها، والطائفة نظام وراثي يفرض على الرجل أن لا يتزوج من نساء أسرته، على حين لا يجوز له أن يتزوج من خارج طائفته. وثمة أناس يعهد إليهم بمهمة الحكام يسمون «البانشايات». تعينهم كل طائفة للفصل فيما يتصل بمخالفة القوانين، كالاعتداء على الآداب العامة ونقض الزواج، والديون.
وعند الهندوسي المؤمن بعقيدة أن للطائفة أصلا سماويا، غير أنه ليس ثمة ما يثبت أن الآريين عرفوا الطوائف حين كانوا في البنجاب، هذا وقد جاز النظام الطائفي مراحل مختلفة، خاصة كلما اندمج أهل إحدى الطبقات بغيرها عن طريق الزواج المختلط، أو حين تصبح إحدى القبائل الوطنية الأصلية أو بطنا أو فخذا منها هندوسيا، سواء أبقي الاسم لأن اسمه الأصلي أم غيره، أو حين تنتقل جماعة من حرفتها الأصلية إلى غيرها، أو حين تعمد فئة من الناس إلى تأليف طائفة جديدة أو حين تتغير الطقوس.
وليس بعجيب - والأمر كما بينا - أن يكون من أثر هذا أن يقترن تاريخ الهند بالفتن والحروب الداخلية وبقيام الدول والدويلات المتخاصمة، وأن لا تشهد الهند، طوال عهدها الطويل، غير فترات قليلة من السكينة والسلام، وذلك حين كان يتاح للحكومة المركزية القوة لفرض إرادتها على البلاد. ومن هنا طالما قامت هناك الإمبراطوريات، وسقطت من غير أن يؤثر هذا في حياة الهندوس؛ إذ إنهم كانوا خاضعين لنظامهم الطائفي بما يقوم عليه من الواجبات الاجتماعية والدينية والتبعات الاقتصادية والمدنية. وحسبنا أن نذكر هنا ما كان قائما بين ظهرانيهم من نظام حماية الأرامل واليتامى والطاعنين في السن والعجزة. قال «مونير ويليامز»: لقد جنت الهند من وراء النظام الطائفي - إلى إذكاء روح التضحية بالذات - كفالة خضوع الفرد لهيئة نظامية، وقمع الرذيلة، ومنع التسول».
المنبوذون
هذا ويمثل المنبوذون «الأنجاس» في الهند أحقر طوائفها، أما عددهم فيبلغ في الهند البريطانية وحدها نحو عشرين في المائة من السكان. ومما يرجى أن يعين على علاج مشكلتهم، ازدياد عدد المتعلمين الهنود عامة ونمو المبادئ الديموقراطية والإنسانية وتشابك العائلات وكثرة المواصلات؛ مما يجعل السكان يتقابلون في القطرات والأسواق.
ولقد امتاز القرن السادس قبل الميلاد بخصائص لم يشهدها تاريخ ما قبل التاريخ: ذلك أنه كان هناك ثلاثة من عظماء المفكرين المعاصرين خالدي الذكر والأثر، لا يعرف أحدهم عن الآخرين شيئا (أشعيا) الذي كان يعلم ويتنبأ بين اليهود في بابل، و«هراقليتيس» الذي كان في إفيسوس معنيا بتحقيقاته النظرية التي تدور حول طبيعة الأشياء. أما ثالثهم فكان «جوتاما بوذا» الذي كان يعلم تلاميذه وحوارييه في بنارس من مدن الهند.
كذلك شهد القرن السادس قبل الميلاد تبدلا في الأفكار وجديدا في الترميق، فقد شرعت العقول، في البلاد التي ظهر فيها هؤلاء الثلاثة، وفي الصين وغيرها - تبدي من أمارات التحرر من رق المعتقدات السخيفة ومن ضروب الشجاعة في الجهر بالآراء المنددة بهذه المعتقدات والتقاليد فيما يتصل بتأليه الملوك وتقديس الكهنة وتقديم الضحايا البشرية قرابين للآلهة وأشباههم، ما كأنما العالم قد جاوز بعد عشرين ألف سنة سن الطفولة ليستقبل عهد الرجولة.
الفصل التاسع
الحياة الاجتماعية القديمة
مهما يكن من شيء فإن حركة الآريين في الهند كان من أثرها تكوين أمة من خمسة أقوام تقسم إلى عدد من القبائل، كل قبيلة أساسها رب أسرة وأسرة لها استقلالها عن غيرها.
كانت حياة الآريين قبل غزوهم الجنوب الشرقي لامبالا في الهند الشمالية، بدائية وبسيطة، ذلك أنهم غزوا البلاد مقتحمين أبوابها مجتازين غاباتها مؤلفين المستعمرات القروية. ويبدو أن القرية كانت حول موقع محصن، وكانت يومئذ تتألف من مجموعات من المساكن والزرائب المبنية من الخشب والغاب الهندي والخيزران، وبها النار المنزلية المقدسة تشتعل من كل مكان موقد.
وكانت الأسر تستخدم في حرث الأرض ستة أو ثمانية أو اثني عشر ثورا لإنتاج ما يشبه الشعير في الحقول المسمدة والمروية، وكانت الماشية ترعى في الغابة المجاورة للحقل، وكانوا يحلبون الأبقار، ويصنعون الكعك من الدقيق والزبدة ، وكان طعامهم كما هو الآن؛ الخضر والفاكهة، وكانت الزبدة تستعمل كما هي الآن. وكانوا يذبحون الثيران والأغنام والماعز ويأكلون لحومها أو يقدمونها قربانا وتضحيات للآلهة. ويبدو أن لحم الجواد لم يكن يؤكل في غير موسم الضحايا المخصصة له من أجل تأكيد السلطة الملكية، كما كان يؤكل من أجل اكتساب قوة الحيوان وسرعته. وكانت «السورا» هي البيرة الشعبية مشتقة من الحبوب وشديدة الإسكار.
وكان الهنود الفيديون يرتدون ثوبين أو ثلاثة أثواب من الصوف وأحيانا من الجلود، وكانوا يمشطون ويزينون شعورهم، وكان النساء يجدلنه، أما الرجال فيطوونه ويكورونه؛ أي يلفونه لفات كالكرة أحيانا، وكان الآريون الأقدمون يعرفون الذهب ويستخرجونه من أعماق الأنهار ويستخدمونه حليا للرقبة والصدر، ومن أجل هذا سمي نهر الهندوس «النهر الذهبي»، كذلك كان الآريون صيادين للوحوش كما يبدو من «الريجفيدا» أحد كتب «الفيدا» المقدسة، غير أنهم لم يكونوا صيادي سمك.
وكان ينهض بعبء الأعمال الاعتيادية رجال القرية الأحرار، وكان للرجل الذي يحترف النجارة وصنع العجلات مكان الشرف، يتلوه الطارق في المعادن لصنع أدوات نحاسية. أما النساء فيخطن الثياب، وينسجن القماش، ويجدلن الحصير من الحشائش.
عقيدة تناسخ الأرواح
عند الهندوس منذ «البراهمانا» إلى البوذية أن الأرواح تتناسخ؛ أي أن الأرواح لا تموت ولا تفنى؛ أي أنها تنتقل من بدن إلى بدن كما أنها تنمو صعدا نحو الإنسان منذ الطفولة إلى الشيخوخة، ذلك أن النفس تتطلب الكمال في حين أن الفرد قصير العمر.
صنوف اللهو عند الهنود
ومما نذكره هنا أن الرقص في الهواء الطلق كان يمارسه الرجال والنساء معا، إذ كان من أسباب اللهو، ومثله الغناء والموسيقى التي كانت أدواتها مؤلفة من العود والناي أو (المزمار) والطبلة. وكان عندهم سباق العربات يتبعه المقامرة التي كانوا يؤدونها باستعمال مقدار من البندق البني اللون.
الزواج
في الكتب الأولى للفيدا لم يكن محرما على الرجل أن يقترن بأية امرأة من ذوي قرباه عدا الأخت، كذلك كان على الأطفال أن يتزوجوا، وكان على الأرملة أن تقترن بعد وفاة زوجها بأخيه أو أحد أقاربه متى لم تكن عقبت بمولود، كذلك يبدو أنه كان لها أن تقترن بآخر متى غاب زوجها غيابا منقطعا.
ولئن كان زواج امرأة بأكثر من رجل غير معروف، غير أنه كان للرجل العادي يومئذ أن يقترن بأكثر من واحدة. أما الرجل المفكر فكان عنده أن الزواج بواحدة المثل الأعلى للأخلاق الفاضلة. «راجع كتاب الريجفيدا المقدس، الفصلين السادس والعاشر».
وكانت الأبقار تذبح عند منزل الزوجة لكي تكون طعاما للمدعوين وحفلة الزفاف، التي كان يبدو فيها الزوج ممسكا بيد زوجته وماضيا بها حول موقد نار أسرتها قبل أن تغادرها إلى منزل الزوجية. هذا ويؤخذ من مطالعة الفصل العاشر من «الريجفيدا» أنه كان للزواج من الحرمة وجلال المنزلة، ما يدل على أنه كان اتحادا غير قابل للانفصال، كذلك كان للزوجة في دار زوجها مكانة محترمة، وكانت تشاركه في تأدية الواجبات الدينية.
أما عادة «الساتي»؛ أي إحراق الزوجة على إثر وفاة زوجها، فقد كانت قديمة جدا غير أنها وقفت بعدئذ كما يبدو من مطالعة «الآثار فافيدا - الفصل الثامن عشر».
إحراق جثث الموتى
وكانوا يدفنون جثث موتاهم ورمادها المتخلف عن إحراقها. هذا ويبدو من «الريجفيدا» أن القوم كانوا لا يعرفون يومئذ غير معاني غامضة عن الحياة الثانية، وحسبنا أن نذكر أن عندهم أن لأرواح الآدميين مساكن مع الآلهة في عالم «الباما»، أو أن الروح كانت ترحل إلى الماء أو الزرع، أما فكرة العقاب بعد الموت فلا يبدو لها ظل في «الريجفيدا».
الحرب
كان الملك يقود الجيش، وكان الكشاتريون؛ أي النبلاء، يلبسون الخوذات والزرد والدروع اللينة ويقاتلون وهم في مركباتهم. أما العامة فكانوا يقاتلون وهم على أقدامهم، وكان القوس سلاحهم الأساسي، ولا يبدو أنهم عرفوا شيئا عن فن الحركات والحيل الحربية «التاكتيك» وكان الجيش يتقدم في غير نظام تصحبه أعلامه وتناديه صيحته العسكرية الصاخبة والضرب على الطبل .
الحكومة
كان لكل قبيلة من قبائل الهند وآريين ملك، كما أنها كانت مؤلفة - كما قدمنا - من طبقات ثلاث: (1) البراهما. و(2) الكشاتريا. و(3) الفيز «فيزيا» هذا ولئن كان الملك في الأصل وراثيا ، غير أنه كان أحيانا ينتخب من طبقة الكشتاريين.
وكان الملك غير آمن على سلطته؛ وكان رجاله يعقدون اجتماعات، ولئن كان القسيس الهندي على عهد شاندراجوبتا لم يعد يتدخل في شئون الدولة التي أصبحت واسعة يقوم بأمرها موظفون عديدون - إلا أن آزوكا أشاع في حكومته روح البوذية، فقد ألغى الصيد الملكي، وأبدل من المواكب الملكية المرحة مواكب دينية، وفي العام الرابع عشر من حكمه أمر الموظفين الإداريين بأن يقوموا، إلى جانب أعمالهم الاعتيادية، بتعليم الناس الدين والأخلاق، وبعد عام آخر، عين من كبار الموظفين أناسا مهمتهم مقصورة على تعليم قواعد الدين والتقوى للرعايا من الجنسين مهما تكن معتقداتهم سواء أكانوا من العاملين في القصر الملكي أم غيرهم، وعلى هؤلاء الموظفين أيضا أن يعاقبوا على الذنوب وأن ينظموا الهبات الخيرية.
كانت البوذية منذ ثلاثمائة سنة إلى يومئذ تسير سيرا عاديا في هدوء حتى إذا نهض بها آزوكا لبست ثوبا رسميا وأصبحت أوامر الإمبراطور تختصها بالعناية والإدارة، وتذهب إلى إيفاد البعثات التبشيرية إلى الخارج، خاصة منذ عقد المجلس البوذي الثالث في باتاليبوترا حول 523ق.م. مدة تسعة أشهر، ويقال إن آزوكا قد أوفد ابنه الراهب ماهندرا وابنته الراهبة سانجها ميترا، إلى سيلان فأصبحت البوذية دين سكانها. وقد كانت أمنية آزوكا وشعاره أن ينعم الناس بالأمان والسلام العقلي والسعادة وضبط النفس، وقد دونت مبادئ تفانيه الديني على الصخور الجرانيتية والأعمدة الحجرية من مملكة يوسافزاي في الشمال قبل إقرار أعماله؛ وكان بمثابة الحامي لشعبه، وكان يصدر العدالة والقضاء، وكان له على رعاياه حق الطاعة وواجب تمويل ملكه مقابل ما يؤديه لهم من الخدمة، ولم يكن المالك المطلق للأرض، وكان ما يؤدونه له من المال، في بداية الأمر، على سبيل التبرع والتطوع. وكان الملك يعمد إلى استشارة قسيسه «يوروهيتا» في إدارة شئون المملكة. ولم تكن معدودة يومئذ وحدة قانونية، وليس معروفا هل كان منصب رئيس القرية وراثيا وإن كان له الإشراف على شئون سكانها الحربية والمدنية. وكان العقاب على الجريمة كالسرقة من حق المجني عليه، وليس هناك ذكر لعقوبة الإعدام في الريفيدا.
المهن
كانت الزراعة المهنة الأصلية للمتوطنين وكانت أملاكا صغيرة، وحول 800-600ق.م. أخذت الصناعة مكانها، فكانت الدور تصنع من الخشب، وكان هناك صائغو الحلي والجواهر والنساجون. كذلك عرفت مهنة الحلاق والمنجمين والدجالين والبهلوانيين وباعة السمك المجفف، وعرفت الفضة واستعمالها. ولما كانت النقود غير معروفة يومئذ، كانت المبادلة تجرى بين السلع وبين الماشية التي أخذ العقد الذهبي والذهب الموزون يحل محلها في التعامل. وكان الهندوسي يتناول اللحم في طعامه قبل أن تتسع دائرة العمل بمبدأ الأهيزما «تحريم المساس بالحيوان»، ذلك التحريم المشار إليه في الفصل السادس من كتاب الآثارفافيدا الذي جعل هذا مع الشراب المسكر في عداد الرذائل.
أما الطب فقد اقترن التقدم فيه بتقدم علم الفلك، وإن كان قد صاحبهما السحر.
الفلسفة وتطور فكرة الدين
هذا ومن أبرز ظواهر التقدم، تطور فكرة الدين والفلسفة، فقد لبث رئيس الأسرة ينهض بالطقوس المنزلية. أما تقديم القرابين الحيوانية والجسدية علانية فقد تطور إلى احتفال يشمل 16 أو 17 قسيسا ممتدا في بعض الحالات إلى عام أو أكثر متطورا إلى عقيدة تناسخ الأرواح، وذلك أن الإنسان يموت المرة بعد المرة في العالم الآخر.
الديانات الهندية وأثرها في الحكم
عاشت الديانات الثلاث: البرهمية، والجنيزية، والبوذية جنبا إلى جنب، غير أنه بينما كانت البرهمية تمثل النظام الموطد، وكان الإلهان سيفا وفيشنو في شكل كريشتا، كانت البوذية تطارد البرهمية ذات الطقوس المعقدة الدقيقة، فلم يعد القسيس البرهمي يؤدي خدمة دينية لها صبغة رسمية، وإن كان قسيس الملك معدودا من موظفي الدولة، وأصبحت مهمة القسيس التعليم، وبات يسكن صومعته في الغابة. على أن شخصه كان معفى من الضرائب والمصادرة والتعذيب - «راجع ص270 الفصل الثامن من الكتاب الخامس أرثا سسترا»، وهو الكتاب الوحيد أو الأدب الوحيد الذي عرف أمره عن عهد الملك شاندراجويتا وابنه بيندوسارا، ويقال إن شاندراجويتا قد نزل عن الملك بعد أن استولى على البلاد الهندية كلها شمالي ناربادا، وصارجينا، وخلفه ابنه بيندوسارا الذي أرسل ابنه آزوكا لقمع الثورة في تاكسيلا. وقد مات بيندوسارا حول 274ق.م . فانتقل الملك إلى أحد أولاده المائة، واسمه آزوكا، ومما حدث في عهده استيلاؤه على المملكة الدرافيدية في كالينجاس. ولما كان قد قتل 150 ألفا، وكان أضعافهم قد ذبحوا، فإن الرعب قد ملأ قلبه وبدل نظرته إلى الحياة، فانتقل من البرهمة إلى البوذية بعيد 262ق.م. سنة الحرب، وأعد نفسه كتلميذ في الرهبنة ودخل السنجا وأقام وهو في زيه الديني، برجا جريئا كما وصفه هو. وإن ما صنعه آزوكا أقرب شبها إلى ما فعله بعدئذ في القرن الثالث عشر الميلادي سانت لويس ملك فرنسا وسانت فرديناند ملك قشتالة وكاستيل محرر أسبانيا من سرقطة. ويقول الدكتور إن براسادا ص 8 و9 في كتابه «نظرية الحكومة في الهند القديمة»: إن في الحياة الاجتماعية في الهند تندمج السلطتان الروحية والزمنية؛ أي أن الكنيسة والدولة شيء واحد. سيداپورا جنوبا، ومن كاثيوارا غربا إلى كوثاك على ساحل أوريسا.
أما الآن فقد كان من ثمار غرس آزوكا لبذرة البوذية أن عمت سيلان وبورما وسيام وكامبوديا والصين وكوريا واليابان ومونغوليا والتيبت. على أن آزوكا، إلى تفانيه البوذي، كان متسامحا حيال الأديان الأخرى.
كان النظام الملكي في الهند هو أساس الحكم فيها على الرغم مما قيد به من ضرورة رضاء الجمعية الشعبية عنه كما ورد في الفيدا، وكانت أولى واجبات الملك أن يحمي رعاياه وأن يقيم العدل بينهم. ومنذ أصبح آزوكا بوذيا وفي العام السادس والعشرين من حكمه، أمسى الطعام نباتيا، مصدرا سلسلة من الأوامر المقيدة لذبح الحيوان والطيور وتشويهها، محرما صيد السمك مدة 56 يوما في السنة. وكان هذا مقدمة لتقديس الحيوان عند الهندوس، وكان عطوفا على المسنين والفقراء، مبدلا لأحكام الإعدام وغيرها من العقوبات، مقررا ثلاثة أيام للمحكوم عليهم بالموت لاستئناف الحكم أو لإعداد أنفسهم لهذه العقوبة.
وكان آزوكا يحكم بلاده الواسعة حكما مباشرا مركزه العاصمة باتاليبوترا. وكان له ولاة يتولون الحكم في تاكسيلا وأوجاينيا وكالينجا، وكان آزوكا بمثابة الرئيس الأعلى لمجموع من الدول والأقاليم يرجع إليه قبل غيره أمر إدارتها. وكان يسالم أفراد القبائل البدائية ويؤثر في نفوسهم عن طريق ذكر آلهتهم البرهمية. أما فيما يتصل بالحدود، فقد كانت قبائلها في الجنوب والشمال الغربي للإمبراطورية المورية، وكان يظفر بثقتها بإبدائه الرفق بها، وكانت سياسته ترمي إلى عدم التدخل في شئونها، هذه السياسة التي وردت فيما أعلنته حكومة الهند البريطانية بعد يومئذ بألفي سنة ومائتين في الغازيتة الهندية قائلة: «إن سياسة حكومة الهند لا تسمح بإدخال أية قيود من شأنها تعديل ما جرت عليه عادة هذه القبائل في حياتها، وإنما الهدف هو اكتساب ثقتها بإبداء العطف عليها». راجع «آزوكا» تأليف بانداركار ص361-366.
هذا ويبدو أن عهد آزوكا كان عهد سلام عميق عدا ما تخلله من حرب كالينجا، ومما يذكر عن هذا العهد أن آزوكا قد أقام مزارات بوذية خاصة ذلك العمود في حديقة لومبيني، حين قصد هو وأحد زوجاته الملكات الحج في المكان المشهور الذي ولد فيه بوذا، ولقد مات آزوكا حول 237ق.م. كما يؤخذ مما ورد في ص503 الجزء الأول من تاريخ الهند - كامب. أما دكتور ف. و. توماس، وفنسنت سميث فيجعلان وفاته في 231ق.م.
قدم الكتابة والأدب في الهند
ولقد كتب أوبا جويتا «موجليبوتا» الكتاب الأخير عن البيتاكاس الثلاثة الكاثافاثو، وكان المجلس البوذي الكبير يعقد في پاتا ليبوترا، وكان الإمبراطور آزوكا نفسه هو الذي دون ترجمة حياته على الصخور الجرانيتية والصوانية البيضاء والأحجار الرملية في الإمبراطورية والمناطق البعيدة، وقد كتبت باللغات غير التصويرية الثلاث القديمة جدا البراكربتية وأخصها المجادهية ولم تكن بالسانسكريتية. وبعد وفاة آزوكا بقرون لبثت المراسيم الرسمية والوثائق تصدر بلهجة الهند الوسطى وإن كانت السانسكريتية لبثت لغة الثقافة.
هذا ويبدو أن الكتابة في الهند ترجع إلى أصل قديم، وإن كان غير محقق العهد والتاريخ مع أنه لم يذكر شيء عن الكتابة أبعد من القرن الرابع ق.م. ولا بد أنها كانت معروفة في عهد آزوكا في الأعمال الرسمية على الأقل كالمحاكم ودفاتر الموظفين وسجلات المصالح. كذلك لا بد أن قد مضى وقت طويل منذ وضعت الألف باء الدرهمية التامة المؤلفة من 46 حرفا المأخوذة عن 22 رمزا ساميا «راجع ص16 و17 في كتاب الأدب السانسكريتي تأليف ماكدونيل» وكانت الكتابة القديمة على صورتين: الخاروشية والبرهمية. ويبدو أن الرموز السامية التي أخذت عنها هاتان الصورتان كما اشتقت منها الألف باء الأوربية قد أدخلها تجار ما بين بابل ومواني غربي الهند إلى الهند منذ 800-700ق.م. وأن الخاروشية كانت تكتب من اليمين إلى اليسار، ولم توجد الكتابة الخاروشية في الهند بعد القرن الخامس ب.م. وكانت البرهمية تكتب من اليمين إلى اليسار ثم من اليسار إلى اليمين، وكان يكتب على ورقة النخيل وعلى قشر شجر البتولا، وبالحبر وقلم الغاب أو قلم معدني.
الفن القديم
أما الفن الموري فيدل على مهارة مستقلة عن الفن الصيني والفارسي خاصة في الحلي وفي الحجر الصخري الكريستالي الموجود في بيبراهو ستوپا بالعاج المكتوب عليه منذ 200 أو 150ق.م. هذا وما خلفه آزوكا قليل جدا في باب الآثار كالقلاع ذات الأعمدة.
وقد بدأ في عهد آزوكا استعمال الحجر في البناء، كما بدأ الحفر والزخرفة، ومن المحتمل أن يكون الفن الهندي قد تأثر منذ يومئذ بالفن الفارسي.
سقوط الإمبراطورية المورية
وفي الأدب البرهمي والبوذي ما يدل على أن الملوك الذين تعاقبوا على حكم الهند بعد آزوكا، كانت عهودهم مليئة بالانقسامات منذ الجيل الثالث بعده، فانقسمت مملكتين؛ مملكة شرقية وأخرى غربية. ولم تقو الهند على غزوات الفاتحين.
فاهين وشاندراجويتا الثاني
زار الراهب البوذي فاهين الهند بين 399 و414م، قادما من وطنه الصين عن طريق آسيا عابرا الهندوس على قنطرة معلقة إلى أن وصل إلى هوجلي، وكان يرمي من وراء رحلته هذه إلى الحصول في «باتاليبوترا» على القواعد النظامية للرهبان، وهو الجزء الثاني من تيبتيكا، وقد اتفق أن جاءت زيارته في الوقت الذي كسدت فيه سوق البوذية في الهند. (راجع ليجي في بيان فاهين عن الممالك البوذية).
وقد وصف هذا الراهب المؤرخ «المملكة الوسطى» ويعني بها وادي الجنج وسكانه الذين قال عنهم: إنهم سعداء وكثيرو العدة، لا يدونون ما عندهم ولا يذهبون إلى القضاة. وليس مفروضا على أحد تأدية جزء من أرباحهم سوى الذين يزرعون الأرض الملكية، ولهم أن يذهبوا حيث يشاءون، وأن يلبسوا ما يشاءون، وليس بملكهم حاجة إلى فرض عقاب الموت أو غيره، بل إنه يقتنع بالغرامة، ويتناول وحاشيته المرتبات. وليس عندهم قتلة أو شاربو الخمر، وكذلك ليس عندهم خنازير ولا دجاج، ولا يبيعون الماشية، ولا يوجد حوانيت للقصابين «الشاند راس» في الأسواق، وإن كان هؤلاء هم أفجر الناس ويعيشون بمعزل عنهم. وقال عن مملكة ماجاده «إن رؤساء الأسر فيها لهم دور لتوزيع المبرات والدواء على الفقراء والمدقعين والعجزة والأرامل واليتامى، هناك يجدون الأطباء والعناية والطعام، وليس هناك من خطر إلا من الوحوش الكاسرة كالسباع والنمور والذئاب.
غزو الهون
وقد جاء بعد شاندراجويتا بين 411 و414م. ابنه كوماراجويتا الأول الذي خلفه ابنه شانداجويتا في 454م. وقد واجه هذا الملك غزوا من آسيا الصغرى من الهون الذين هددوا أوربا حين ساروا غربا في الإمبراطورية الرومانية الشرقية عابرين الربن إلى الجول. أما الهون البيض فقد ساروا جنوبا إلى الهند عن طريق الشمال الغربي، وفي 154 وقف الرومان والفيزيوحويثون زحف الهون، كذلك وسع شانداجويتا بعدئذ وقف زحفهم، وقد نعمت مملكته بالسلام في خلال خمسة عشر عاما، وفي 465 زحف الهون ثانية طاردين الكوشيين من كابول محتلين جندارا، وبعد خمس سنوات غزوا الهند وقوضوا إمبراطوريتها. وكان من أثر هذا انقسام أملاك الجويتا ممالك صغيرة وكان آخر من جلسوا على عرش ماجاده في أوائل القرن الثامن الميلادي «طوراما» زعيم الهون في الهند، وقد وطد دعائم ملكه في الشمال والغرب. «راجع كتاب تاريخ الهند الأول» ومات حول 510م، فخلفه ابنه ميهيراجولا الطاغية متخذا ساكالا (شاهكوت) عاصمة لملكه. ولما هزمه أمراء الهندوس المتحدون بقيادة «بالاديتياردر ناراسيمهاجويتا» ملك ماجاده وياسيدرهار مان أحد راجات الهند الوسطى، انتهى ملك الهون في 528 عدا جزءا في الشمال . كذلك زال ملك الهون البيض من آسيا الوسطى منذ قضى عليهم كسرى أنو شروان ملك الفرس تعاونه القبائل التركية ما بين 570 و650م.
نظام الحكم الداخلي
أما الباقي من القرن السادس فلم يعرف التاريخ عنه شيء إلى أن جاء عام 606 حين أصبح هارشافاردانا حاكما على دولة ثانيزار وزادت أسلحته إلى أن صارت 6000 فيل و100 ألف فارس عدا المشاة، وقد استطاع بها أن يجعل سافاراسترا «البنجاب»، وكالياكوبجا؛ وجاندا «البنجال» وميثيليا «درابانجا» وأوريسا تدين له بالولاء، وقد وسعه أن يستولي على السهول الشمالية من سوتييج إلى هوجلي وعلى الهند الوسطى إلى ضفاف نهري الشامبال والناربادا، أما مع الصين فقد كانت علاقاته بها ودية وقائمة على تبادل السفراء، وقد استطاع بعد غزواته الظافرة أن يحكم مملكته في سلام مدة ثلاثين عاما، غير أنه قد هزم حين حارب مملكة الساكا والدكن في الجنوب إذ كان عليهما الملك بوليكيسيين الثاني أعظم ملوك شالوكيا على ضفاف نهر ناربادا.
هذا وقد كانت أسرة هارشا تدين بالعبادة للإلهين سيفا والشمس، كذلك أصبح بوذيا كسنة الأباطرة الموريين، مؤمنا من البوذية بمذهب ماهايانا، وكان هارشا، إلى هذا، يقسم وقته ثلاث مدد؛ اثنين للواجبات الدينية وواحدة لشئون المملكة، وقد حرم لحم الحيوان وأكله وقتل النفس وأقام دورا لراحة المسافرين وطعامهم وشرابهم، وعين الأطباء لمعالجة مرضى الفقراء، وأقام الأديرة البوذية، وكانت له حاشية من النساء مماثلا في هذا شاندراجويتا. وقد كتب هارشا شاريتا شاعر قصر الملك تاريخا عن ملكه روى فيه أن جلالته كان يبدو كحبل من الحلي حين يتحلى بالقلادة المرصعة باللآلئ والمجوهرات المدلاة على الجانبين. وكان له وزراء وكانت إيرادات الدولة تقوم على سدس محصول أراضي التاج. هذا إلى موارد أخرى كعوائد طفيفة للدخولية ورسوم المعديات ونسبة مئوية عن البضائع المبيعة.
وكانت الضرائب طفيفة، وكانت مرتبات الموظفين تؤدى إليهم أرضا لا نقودا، وكانت الأجور تدفع إلى العمال المقترعين، وكانت خيانة الوطن معاقبا عليها بالسجن المؤبد التي كانت أحيانا تفسر بأنها الموت جوعا. أما الجرائم الأقل جسامة فكان معاقبا عليها ببتر بعض أعضاء الجسم أو النفي، أما الغرامة فكانت عقابا للجرائم الطفيفة الصغيرة.
دور العلم والأدب والتمثيل
وكانت الجامعة الكبرى البوذية ذات الأديرة في طبقاتها الست تستقبل إلى الألوف من ضيوفها، طلبة العلم الذين يتلقون العلم والطعام والفراش والدواء على نفقة الدولة ومن غير مقابل، غير أن البرهمية كانت ديانة الأكثرية، وكان العلماء يدرسون الفيدانتا في ملاجئ نساك الغابات، وكان أشهر الآلهة يومئذ: فيشنو وسيفا والشمس، وكان لهذه الآلهة الثلاث معابد لعبادتهم جميعا في كانيا كوبجا، التي كانت يومئذ مركزا للبوذية والبرهمية. أما بنارس فقد كانت كما هي الآن مركزا لعبادة سيفا. ومنذ القرن الرابع نشرت الجاليات الهندية الحضارة الهندية والعقيدة البوذية في كامبوديا والملقا وجاوا. وفي عهد هارشا كانت سفن المحيط الكبيرة تستطيع أن تنقل مائتي شخص من تامرا ليبتي وسيلان وجاوا. كذلك ظهر الفن الهندوسي هناك. وقد ساد حكم الحوبناس والهارشا فأردانا البلاد من القرن الرابع إلى السابع.
وقد ظهر يومئذ قانون مانو وملحمة المهابهارات المتصلة بها. وفي آخر هذه المدة اتخذت الواجبات الدينية، بما اشتملت عليه من أعمال الآلهة والأبطال وسلسلة نسب ملوك الشمس والقمر، الشكل الحاضر.
هذا وقد تألق الأدب بما فيه من الدرامة والشعر في تلك الحقبة، ومضى من فكرة أدوار «الغناء والرقص» إلى الروايات الدينية التي تمثل تاريخ كريشنا وفيشنو. وفي عهد الجويتا كان المسرح ملهاة الأمراء والنبلاء في القصور وكان يحضر هذه الروايات رجال الأرستقراطية. ويجيد تمثيل الرواية فرق لا تستخدم مناظر خاصة ويفتتح تمثيل الرواية بعزف الموسيقى المشتملة أدواتها على المزمار وأدوات الأوركسترا، ثم يقوم مدير الفرقة وسيدتها الأولى بشيء يشبه العرض كمقدمة، ثم تمضي الرواية بما يجري فيها من الأحاديث الممتزجة بالأغاني والتمثيل الصامت، وقد كتبت أعظم الروايات الهندية بين بدء القرن الخامس ونهاية القرن الثامن الميلادي، وقد حفظ التاريخ من هذه الروايات فبكرامورقاسي والمالافيكا جنيمترا. ويعد من وضعوها من أعظم كتاب الدرامة وهناك روايات أخرى مهمة.
وثمة كتب عن الفلك في القرن الرابع وقد نظمها تنظيما علميا أريهاتا في باتاليبوترا في 476م . وقد ذهب إلى أن الأرض تدور حول محورها وفسر أسباب كسوف الشمس وخسوف القمر. وفي كتاب اللغة السنسكريتية أن علماء الفلك الهنود يفوقون زملاءهم اليونانيين.
أما الحفر فكان كبيرا بدائيا. من ذلك المعابد الهندوسية، في بعضها تمثال بوذا وزخارف اللوتس مع نقش داخلها «تاريخ الفن الهندي الأندونسياتي تأليف أ. ك. كومارا، سوامر ص71 و72».
وكانت مباني أديرة جامعة نالندا في جنوبي بيهار في 470 تتألف من ست طبقات وارتفاع المعبد أكثر من 300 قدم مع الأبراج والمنارات المزخرفة. ولم يكن أرجونا وزير هارشا ومغتصب عرشه كفؤا؛ فقد قتل حرس السفارة الصينية؛ مما كان من أثره أن السفير الصيني وانج هيوين تسي قد هرب ثم عاد ومعه قوة من نيباليزي والتبتيين يعاونهم ملك أسام «كومارا» صديق الإمبراطور هارشا وملتزمه، وقد أخذ أرجونا أسيرا إلى الصين، وأصبحت إمبراطورية هارشا منقسمة وفوضى، يتتابع عليها الملوك والمماليك، وبقيت الديانات البرهمية والبوذية والجينية والمعابد، واحتفظ ملوك الدكن بالحفر والفن والأدب، وعرف الشطرنج في الهند منذ 700م.
ملوك الدكن
وقد تعددت ملوك الدكن منذ 550 إلى 750م فقد جلس على عرشها الشاليكاليون، الذين يبدو أنهم كانوا الهون الذين كانوا يقيمون في جوجيرات وأصبحوا راجبوتيين أهمهم بوليكيسين الثاني الذي وسع مملكة فاتابي على حساب جاره وكان أقوى حاكم في جنوب ناربادا، ووسعه أن يهزم جيوش هارشا وأن يجلي باللافا ملك كانشي من المملكة التي بين نهري الكبستنا والجودافاري. على أن بوليكيسين الثاني قد هزم أخيرا ومات في 642 فانتهى حكم الشاكيليين مؤقتا حول منتصف القرن الثامن، حين جاء الراشترا كيون من مملكة المهاراشترا وخلعوا عرش كيرتيفارمانا الثاني ومن ثم تولى الراشترا كوتيون زعامة الدكن أكثر من قرنين. على أن الشالوكاسيين عادوا إلى الملك ثانية في 973. فقد خلع تايلابا الثاني مؤسس الأسرة الشالوكية الثانية، الراشتراكوتيين ولبث خلفاؤه يحكمون كالياني أكثر من مائتي سنة. وفي أثناء هذا الانقلاب ظهرت مملكة الشولاس في جنوبي كيستنا سائدة في جنوبي الدكن وغربه، وقد بدأ الملك شولاي الراجبوت الأعظم حروب الحدود مع جيرانه وغزا مملكة شالوكا حول 1000م. وضم جزءا من ولاية ميسور، كذلك انتصر في الجنوب ووصل ملكه إلى سيلان وكالنجا. على أن الملك فيكرا ماديتيا شالوكا استرد ميسور من الشولاس.
وقد استطاع الهويسلاس في دفاراقا بتسيورا والبادافاس في دالجير قبل منتصف القرن الثاني عشر سحق الشالوكيين.
أما المملكة التي كانت تقوم بين نهري الناربادا والجومنا، فقد حكمها ملوك الشاندل في جيجوتي حول ثلاثة قرون. وبين 950 و1050 أقاموا المعابد الهندوسية والجينية في عاصمة جاجوراهو، وبعد الغزو الإسلامي أصبح ملوك الشاندل ملتزمي أراضي الغزاة المسلمين، وفي شمالي كالوج حكم الراجبوات ميهيراپاريجا خمسين سنة ومات في 890 وخلفه ملوك من أبنائه إلى الغزو الإسلامي، وبعد أن عمت الفوضى المملكة التي كانت فيما يعرف اليوم باسم البنغال، انتخب السكان حول 750م ملكا اتخذ لنفسه اسما بوذيا وهو «جويالا» وقد خلفه ابنه دهارمابالا وسعه أن يحكم كثيرا من شمالي الهند وكان كفؤا وجنديا قديرا. وقد لبثت هذه المملكة تواجه صنوفا من المصائر إلى أن جاء الغزو الإسلامي إلى الهند قبل منتصف القرن الثالث عشر.
ومن أجل هذا كان من آثار الغزو الأجنبي المتتابع من مختلف الشعوب، أن صار السكان شمالي الهند خليطا من الأصول على حين أن سكان الجنوب قد احتفظوا بالسلالات القديمة.
هذا وتمثل أفخاذ الراجبوت طبقة الكاشتريا في المجتمع الهندوآري الذي تبادل مع البراهمة أواصر المصاهرة، ولهذا جرت التقاليد على أن يزعم الراجبوتيون أنهم أبناء الشمس والنار المقدسة، وهم ذوو عصبية وفخار سريعو الغضب والقتال بعضهم مع بعض مما جعل من المستحيل عليهم إقامة إمبراطورية، وهم يبدون نحو زوجاتهم احتراما ليس مألوفا في آسيا، كذلك يبدون نحو أعدائهم شهامة لا نظير لها في التاريخ. على أن بعض الراجبوتيين لا يرجعون إلى الأصل الآري بل إن منهم من ينتمي إلى الطبقة العالية في أسر الغزاة المتأخرين كالجوجاراس والهون البيض الذين كانوا طوال القامة وأعلى طبقة من زملائهم الهون الذين حاولوا غزو أوربا. وكان الأجانب سرعان ما يندمجون في السكان الأصليين فصار الأجانب من الكشتاريين كما في راجبوتانا وكوجيرات، إذ إن من پاريهار الجوجاريين تسلسل الملوك الذين استولوا على كانوج حول 840، ناقلين عاصمتهم من بهيلمال إلى هارشا المدينة الإمبراطورية، في حين أن أبناء الراجبوت جلسوا على عرش مالوا وبونديلخاند.
الفصل العاشر
الهند الأولية الهندوسية
كان حكم آزوكا يقوم على عنصرين: أولهما تقوية الحكومة المركزية ودعم الإمبراطورية وهو ما ورثه آزوكا نفسه عن سلفه. أما ثانيهما فهو التبشير بالدعوة البوذية التي كان مؤمنا بها، والتي واجهت رد الفعل بعد وفاته؛ إذ تغلبت عليها البرهمية، حين أسس پوشباميترا أسرة السونجا فقد كان يضطهد البوذية في غير هوادة، ومنذ عجزت پاتا ليبوترا عاصمة الإمبراطورية ومحور الحكومة المركزية عن النهوض بمهام الحكم في أجزاء الإمبراطورية واجهت الهند عهدا من الفوضى. صحيح أن پاتا ليبوترا قد لبثت حول ثلاثة قرون محتفظة بصبغتها كعاصمة، غير أنها كانت عاصمة منطقة غير كبيرة بل مساحة تنبسط أو تنقبض تبعا للظروف، وكان يحكمها في بداية الأمر أبناء الأسرة المورية ثم خلفهم السونجا، وقد انقسمت في خلال هذه المدة دويلات وإمارات ينازع بعضها بعضا على السيادة، ومن هذا أن الدرافيدية جهرت بأنها مستقلة والأندراس أنشأت مملكة امتدت من خليج البنغال إلى غربي جاتس وشمالي نهر الناربادا. «راجع الجزء الأول من تاريخ الهند - طبعة كامبردج».
كذلك أصبحت الهند هدفا للغزاة من النواحي التي يسهل الدخول منها كالناحية الشمالية الغربية. أما من ناحية الهميلايا وما وراءها - أي التبت والمحيط - فقد كانتا سدا أمام الغزاة إلى أن نشطت الملاحة الأوربية ونهض المغامرون والرحالة من حول رأس الرجاء الصالح.
الدرافيديا
كان للدرافيديا حضارة ولغة وثقافة لبثت إلى اليوم في جنوبي الهند، وكان لها أثر في الثقافة الآرية ذاتها، وقد ظهرت الملكية في أثناء قيام الإمبراطورية المورية، وكان يعاون الملك الدرافيدي خمسة جمعيات عظيمة أو مجالس هي: (1) الوزراء، و(2) القسيس، و(3) القواد، و(4) الأمناء «الوكلاء»، و(5) الجواسيس أو «الشرطة السرية». وكان أعلى الطبقات الاجتماعية في شعب التاميل هم الحكماء ثم الملاك، يتلوهم الرعاة وصيادو الحيوان والصناع والجنود. أما صيادو السمك والكناسون فكانوا آخر الطبقات.
وكان بعض ولايات دارفيدا منذ أمد بعيد من عهد آثروكا يتجر مع مصر واليونان في الزنجبيل والفلفل والقرفة والأحجار النفيسة والبهار وقشرة السلحفاء. كذلك زادت العلاقات بين أوربا والهند حين كانت الدولة الرومانية في أوج مجدها فتدفقت على الهند معادن الذهب والفضة والنقود النحاسية (راجع: الهند القديمة، تأليف رابوسون ص9 و29 و66، وتاريخ الهند، طبعة كامبردج، الجزء الأول، الفصل 24).
وقد أدى قيام العلاقات التجارية بين الدولة الرومانية وبين الهند إلى ظهور النقود الرومانية في الهند، منها قطعة ذهبية وجدت في جنوب الهند سكها الإمبراطور قلاديوس 41-54 ميلادية؛ تخليدا لغزو الرومان للبلاد البريطانية.
هذا ويقول «تاريخ بلني» في الفصل السادس: إن الأندراسيين أو التلوجوس الذين اكتسبوا استقلالهم بعد وفاة آزوكا قد بلغ عدد مدنهم المحصنة 14، وفرسانهم 2000، وفيلتهم 1000، ومشاتهم مائة ألف، وأن أرضهم قد امتدت في القرن الثاني ق.م إلى أوجايانا «أوجين» التي كانت ولا تزال إلى اليوم أحد الأماكن الهندوسية السبعة، ثم امتدت بعد زوال الأسرة السونجية إلى فيديسا.
كذلك بعد أن استقلت كالينجا زادت قوة، وأصبح للملك خارافيلا في عاصمة ملكه 350 ألف نسمة حول 150ق.م. وقد غزا شمال الهند المرة بعد المرة إلى أن هزم الملك الجالس في باتاليبوترا ذاتها.
وقد انتهى حكم السونجيين حول 72ق.م. ومما يذكر أنهم قبل أن يصبحوا ملوكا كانوا الملتزمين لإقطاعيات الأباطرة الموريين وأن السونجيين كانوا أداة في أيدي البرهميين.
تغلبت على الهند الحكومات، وقامت بين أمرائها وملوكها الحروب، وتدخل الأجانب المجاورون في الشمال الغربي أو في الشمال من ناحية الصين، وقد برز الكوشيون في تاكسيلا حول 79ب.م. وقد حل محل ملكها كوشانا وهو القائد الظافر فيماكارفيزيس الملك العظيم، ملك الملوك وابن الآلهة - ملك آخر يدعى كانيشكا ثالث ملوكهم، ويبدو أن سيادة الكوشيين قد امتدت إلى مملكة الهندوس السفلى في 89 ميلادية، وقد ظهر اسم «ساكا» في عهد كانيشا في 78 ميلادية، وقد حكم الساكيون والباهلفاس ممالكهما جنوبي الهندوس تحت السيادة الكوشانية، وسرعان ما أصبح الساكيون هندوسيين واتخذوا لأنفسهم أسماء هندية.
أما اتصال القوة الكوشانية بالصين في 90م فلم يؤثر في سائر الهند. على حين أنه حين أيد الملك كانيشا البوذية، صارت الإمبراطورية حلقة الاتصال بين الهند وبين الصين؛ مما كان من أثره انتشار البوذية في الصين والشرق الأقصى، وظهور ألف باء والثقافة الهنديتين ولغات الهند في التركستان الصينية، وكذلك ظهر مذهب جندارة في الفن في عهد الساكيين في الشمال؛ مما أدى إلى اتساع ألوان الحفر في الفن البوذي في الشرق، هذا وقد أقام «كانيشا» ديرا في عاصمة «بوراشابورا» «بيشاوارا» التي بقيت إلى القرنين التاسع والعاشر مركزا للتعاليم البوذية، وبعد أن جلس كانيشا على العرش بين 25 أو 30 سنة خلفه هوفيسكا الذي أبقى صلة بلاده بالإمبراطورية الكوشانية في الهند وبالممالك الصينية في كاشجا ويارقند وكوتان، كما أنه كان بوذيا أنشأ ديرا في ماثورا، ثم خلفه فازوديفا الذي يبدو أنه كان ينزع إلى ديانة الأمة التي غلبت بلاده وقد كان عهده طويلا.
على أن الإمبراطورية قد تقوضت دعائمها في نهاية حكم فازوديفا في 226. ثم إن الملوك الكوشانيين لبثوا يحكمون في كابل إلى أن جاء غزو الهون في القرن الخامس، فمنذ يومئذ انقسم الشمال الغربي ممالك مستقلة. هذا وهناك اختلاف بين المؤرخين في تحديد تواريخ قيام الإمبراطوريات وعهود الملوك، كما يبدو من مراجعة كتابي تاريخ الهند الأول وتاريخ الهند طبعة أكسفورد الذي راجعه س. م. إدواردس، وقد ساد الظلام الحالك تاريخ الهند بعدئذ، إلى أن بدأ القرن الرابع الميلادي بتأسيس الإمبراطورية الهندية العظيمة في باتاليبوترا، على إثر جلوس «شاندرا جويتا موريا» على عرش ماجاده حين قتل سيده وقضى على أسرته. ذلك أن شاندرا جويتا قد أسس في 318 أو 320 أسرة جويتا بمعونة قرينته، فقد سك النقود باسمه واسم الملكة واسم عشيرتها ليكشهافي التي استولت على باتاليبوترا بعد السونجيين. وقد وسع شاندراجويتا ملكه في وادي الجنج إلى التقائه نهر جومنا؛ أي تيرهوت وبيهار وأوده، وقد خلفه بعد ست سنوات ابنه سامودرا جويتا الذي زاد مساحة ملكه، فشمل المملكة التي بين جومنا وأنهار شامبال في الغرب والهوجلي في الشرق وسفح هيمالايا وخط نهر ناربادا إلى الشمال والجنوب، وقد أكره على الاعتراف بسيادته أحد عشر ملكا في الجنوب وتسعة في الشمال ورؤساء قبائل الغابات وحكام ممالك الحدود ورؤساء جمهورياتها. ويبدو مما كتبه ف. ا. سميث في تاريخ الهند الأول ص248 و250 أن سامودرا جويتا قد تولى الحكم في 326م، وأتم غزواته الكبرى في 340. على أنه لم يحاول أن يضم ما غزاه من ممالك الجنوب إلى إمبراطوريته، إذ عاد من طريق غربي الدكن ولم يصل حكمه إلى البنجاب، وقد استمرت الإمبراطورية التي أنشأها خمسة قرون، وقد دونت معاركه الحربية في أحد أعمدة آزوكا الباقية الآن في قلعة الله آباد.
وبعد الحروب التي خاضها أخذ يرعى الأدب والفن فقد كان هو شاعرا. ويبدو أن سيطرة جويتا وعهد هارشا، كانا العصر الذهبي للأدب الهندوسي. ولئن كان ف. أ. سميث في كتابه «تاريخ الهند الأول ص254» يقول: إن هذا الإمبراطور قد مات حول 254، إلا أن هذا غير محقق. وقد خلفه ابنه الذي اتخذ اسم شاندرا جويتا الثاني وأضاف إليه «فيكرامايتيا»؛ أي ابن القوة، وقد وسع الإمبراطورية في كل مكان عدا الجنوب، وقد دونت معاركه على العمود الحديدي في دلهي وهو يدل على إجادة صهر الحديد وعدم صدئه ووضوح كتابته.
الفصل الحادي عشر
حملة الإسكندر على الهند
في شتاء 327ق.م. اتخذ الإسكندر طريق بلاد أفغانستان طريقا لمواصلاته، كما أوضح هذا روبنسون في كتابه «أفيميريدس»، وماك كريندل في الفصل الخاص بالهند القديمة في كتابه «الأدب الكلاسيكي». وكان عدد جنود الإسكندر 30 ألفا مؤلفة من أبناء شعوب مختلفة من تراقيا إلى الهندوكوش، وكان عمود الجيش الفقري الكتائب المقدونية وفرسان اليونان، وكان الإسكندر، حين غزا الهند، قد قوض الإمبراطورية الآرية في إيران، وفي ربيع 326ق.م. بدأ حملته على بلاد الهند العديدة الممالك والإمارات التي نهضت للدفاع عن نفسها أمام الغزو المقدوني، وحين عبر الإسكندر نهر الهندوس، بادر أمبهي ملك تاكسيلا ورئيس التعاليم البرهمية إلى إهدائه عددا من الفيلة والفضة وقطعان الغنم والثيران، كما دعاه إلى زيارة المملكة التي كان الداعي سيدا أعلى لها. ثم إن الإسكندر سار من تاكسالا إلى قوم البيروس الذين نهضوا للدفاع عن خط نهر مايداسبس بقيادة ملكهم المسمى بوروس. وقد انتصر الإسكندر في موقعة جلال بور على ضفاف نهر جهيلوم. وكان جيش پوروس في الموقعة التالية مؤلفا من 200 فيل في الوسط، و300 مركبة في الجناحين وإلى جانبها 4000 فارس وقد هزم جيش پوروس. على أن حكمة الإسكندر قد قضت بأن يعيد هذا الملك إلى مملكته تحت سيادة الإسكندر، ثم سار الإسكندر إلى هايفاسيس.
ولأسباب تباينت الروايات فيها كما يبدو مما كتبه ف. ا. سميث ص71-78 من كتابه «التاريخ الأولي للهند» ومما ذكره ماك كريندل في كتابه «غزو الهند على يد الإسكندر الأكبر»، أن الإسكندر قد وقف زحفه بعد وصوله هايفازيز «البيز»، وعلى هذا قد تكون أوبة الإسكندر من هناك ترجع إلى قوة مملكة الماجاده الهندية في السهل العظيم، وهو بؤرة الهند التي كان يتقرر مصيرها عنده، أو أن قواته المقدونية قد أبت المضي في زحفها بعد الذي واجهته من الأهوال. وقد وصل الإسكندر إلى المدينة التي أنشأها وأطلق عليها اسم جواده الذي دفن فيها، واسمه «بوسيفالا» التي يرجح أن يكون في موقعها مدينة جالاپور. ثم أخذ الإسكندر يتفق مع فيشيا في سبيل إنشاء مستعمرات يونانية على حافة الإمبراطورية إلى أن بلغ ساحل خليج العجم في 325ق.م.
هذا وقد وصف حملة الإسكندر على الهند نيركاس قائد أسطوله كما يبدو مما يشير إليه أريان. كذلك دون عشرون مؤرخا يونانيا تاريخ هذه الحملة. ومما يدعو إلى الأسف أن هذه المدونات قد ضاعت، ولم يبق منها إلا مقتطفات أوردها الكتاب العصريون أمثال ماك كريندل في كتابه سالف الذكر. وقد مات الإسكندر بعدئذ في بابل، وتفرقت إمبراطوريته، وقد بقي من آثار حملته ما تم من الاتصال بين الممالك اليونانية في غرب آسيا وبين الهند، التي لبثت بمعزل عن تدخل الأوربيين إلى أن جاء فاسكودي جاما الكاشف الكبير عابرا بحر العرب غرب الهند ومقيما عمودا من الرخام في كاليكات في 1498م.
الفصل الثاني عشر
الإمبراطورية المورية
قبل أن تسود بريطانيا بلاد الهند، كانت هناك إمبراطوريتان: الموريا والمغول، كادت سيادتهما تسودان الهند، أما الموريون فقد نشئوا من الهند ذاتها، وكانت مملكتهم القديمة هي التي كانت الكوش الهندية عند حدودها الشمالية الغربية.
أما الحكم المغولي في القرنين السادس عشر والسابع عشر فقد كان أجنبيا وإسلاميا، وكان من أثر تسامح السلطان «أكبر» وخلفه أن أتيح للهند أن تهدأ من منازعاتها الدينية التي غمرت البلاد طوال خمسة قرون.
ولئن كانت إدارة الإمبراطوريتين قائمة على عناصر كثيرة من الحكام والمرءوسين، غير أن الملك أو الإمبراطور كان على صلة برعاياه.
وبعد قليل من انسحاب الإسكندر من الهند وسع شاندراجويتا، يؤازره مستشاره القدير كوتاليا «شنكايا البرهمي»، أن يجلس على عرش ماجاده، مؤسسا الأسرة المورية الحاكمة في پاتا ليبوترا. ولئن كان يمت بالقرابة إلى الأسرة المالكة السابقة، أسرة فاندا، غير أنه قد آثر أن يقتل الملك دهانا فاندا وجميع أفراد أسرته، مادا سيادته على المناطق التي تقع شمالي ناربادا، مخضعا دولة في إثر أخرى إلى أن أضحت بلاده ذاتها هدفا للغزو، ذلك أن سيليكاس نيكاتور، ملك سوريا وقاهر باكتريا عبر نهر الهندوس ف 305ق.م. من أجل إخضاع هندوستان فتأهب شاندراجويتا للدفاع بجيش قوامه 9000 فيل مدرب على القتال وقوة كبيرة من المركبات، و30 ألف فارس و600 ألف من المشاة. ولئن كان التاريخ لم يدون كيف اتجهت المعارك إلا أنه قد عقد بينهما صلح نزل فيه سيليكاس نيكاتور عن أرض، جعلت الحدود الهندية ممتدة إلى الهندوكوش شمالا وإلى المرتفعات التي عند هيرات غربا. أما في الهند ذاتها فإن الأقاليم الغربية في السند والكاثيواز وجوجيرات وملوا قد خضعت لسيادة مملكة تاليبوترا، وعلى هذا تأسست الإمبراطورية الهندية الأولى مقترنة بتأسيس أسرة موريا في ماجاده. ويبدو أن هذه الأقاليم قد اندمجت في عهد شاندراجويتا في المملكة الرئيسية، وأنها كانت في حوزة حفيده آزوكا. أما سيليكتاس فقد عد شاندراجويتا ندا له موفدا إلى بلاطه سفيرا يونانيا اسمه «ميجاشيتز» الذي دون كتابا عن «الهند القديمة» منذ 2200 كما يوضحه آريان أحد الموظفين اليونانيين في الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني الميلادي.
أما مدينة پاتاليبوترا هذه، فهي مبنية من الخشب على لسان من الأرض عند اتصال نهر الصون بنهر الجنج، وكانت محصنة بخمسمائة وسبعين برجا يتخللها 64 بوابة مترسة، وحول الأسوار خندق عميق يملاه ماء الصون. أما قصر الملك فهو عظيم به حديقة وبرك للأسماك وللطاووس والدراج «الديك البري». وكانت على مائدته صحاف ذهبية. وإذا خرج من قصره استقل محفة من الذهب أو فيلا.
هذا وللملك - إلى مزارعه وأراضيه الخاصة يفلحها عبيده - موارد أكبر من تحصيل الضرائب الزراعية، وهي لا تزال أساس الإيراد في ميزانية الهند، ذلك أن الزراعة هي المهنة الرئيسية والأرض كلها تعد ملكا للملك على أن يقوم بزرعها أشخاص يؤدون للملك، إلى الضريبة العقارية، ربع المحصول عينا أو عملا، وكانت حكومة پاناليبوترا هذه مؤلفة من جيش من الموظفين والقضاة والحكام المحليين والمستشارين الملكيين، وكان لملوك أسرة فاندا جيش من الجنود الأقوياء يحفظون الأرض في الداخل والخارج. وكانت القرية يومئذ هي الوحدة الإدارية الصغيرة يقوم عليها رئيس «جراماتي» من موظفي الحكومة مهمته تحصيل الضرائب والإشراف على الزراعة يعاونه مجلس استشاري من كبار السن في القرية «يانشايات».
وكانت فلاحة الأرض والإنتاج فيها يقوم على تقسيم أرض القرية مساحات صغيرة متساوية. وثمة موظفون تعينهم الحكومة لمراقبة الأنهار، ومسح الأرض كما هو الحادث في مصر والإشراف على العيون التي ينصرف منها الماء الوارد من الترع الرئيسية إلى فروعها لكي يأخذ كل زارع مقدارا مساويا لنصيب الآخر، كما أوضحه ماك كريندل في ص86-89 واسترابو الذي أشار إلى ميجاسثينز، أما ما تأخذه الحكومة مقابل هذا الري فهو بين خمس المحصول وثلثه. «راجع الكتاب الثاني، الفصل الرابع والعشرين، لأرثاساسترا أوف كوتاليا، الذي ترجمه شاماساستري ص140».
وهناك حاكم يسمى جوپا يحكم مجموعا يتألف من أقل من 12 قرية، يرأسه موظفون أكبر منه. وفي عهد آزوكا كان هناك الراجوكا وهو حاكم على مئات الألوف. أما موظفو المراكز فكانوا يشرفون على الري والمساحة والصيد والزراعة والغابات ومصاهر المعادن والمناجم والطرق، وهؤلاء هم الصنف الأول من الموظفين.
هذا وقد عمد شاندراجويتا إلى تأليف ستة مجالس كل منها يتألف من خمسة أشخاص، وهم موظفو المدينة؛ أي الصنف الثاني من موظفي الحكومة ومهمتهم الإشراف على المعامل والعناية بأمر الأجانب والمرضى ودفن الموتى ومراقبة الفنادق، والمواليد والوفيات لأجل الضرائب والإحصاء، والتجارة والمعاملات، وملاحظة الموازين والمقاييس، وعلى وجه الإجمال مراقبة الأسواق، والتفتيش على المصنوعات، والتمييز بين السلع القديمة والمستعملة وتحصيل 10٪ على المبيعات.
هذا وتجتمع المجالس الستة في مجلس عام لمراقبة المعابد والأعمال العامة والمواني والأسعار. وثمة موظفون في المدن والريف مهمتهم تدوين المال والسكان في التسجيلات، كذلك يصدر القائم بأمر جوازات السفر هذه الجوازات مقابل دفع شيء عند دخول البلاد أو مغادرتها كما ورد في ترجمة شامستري سالفة الذكر. ومن رأي المؤلف ذاته أن الرشوة وألوان التلاعب كانت متفشية في هؤلاء الموظفين.
أما الصنف الثالث من الموظفين فهم إدارة أو وزارة الحرب، فقد كانت مؤلفة من ستة مجالس كل منها من خمسة أشخاص مع سكرتيرية من الموظفين العديدين وهي مجالس الأميرالية، والمشاة، والمركبات، ورجال التعيينات والفرسان، والفيلة، وكانت قوات الإمبراطورية تتألف من جيوش وراثية تمثل التقسيم الاجتماعي القديم للكشاتريا، كالإقطاعيين والمقترعين وقبائل الغابات التي يبدو أن أفرادها كانوا يخصصون للحملات الصغيرة. «راجع ص489 الجزء الأول من كتاب تاريخ الهند، تأليف كامب»، وكان لدى الجيش الأدوات الحربية الثابتة والمتحركة والحرس الاحتياطي، وقد عرف الجيش نوعا من النظام منذ حملة الإسكندر، بعد أن كان الجيش خليطا همجيا من الأفراد المسلحين، وكان من نظم الحرب عدم المساس بالأسرى الجرحى، وتوضح كتب الأرشاساسترا المبادئ التي تقوم عليها إدارة الحرب.
ولقد كان تحصين العاصمة يقوم على الأساليب العلمية، فكان هناك النواتئ والطرق المغطاة والشارع الواسع حول الجانب الداخلي لسور المدينة، وكانت الحدود محصنة بالقلاع والاستحكامات.
أما وزراء المملكة الأساسيون فيشملون وزير المالية، ووزير الأشغال ومهمته المحافظة على المباني العامة وقياس الماء، ورئيس القضاة ووزير المكاتبات ومهمته إصدار المراسم الملكية، وكبير أمناء البلاط الملكي، وقائد الحرس الملكي. وعلى رأس الحكومة وفوق مناصبها المجلس الداخلي للملك وهو مؤلف من أربعة أشخاص؛ الديوان «رئيس الوزارة»، والبوروهيتا «المستشار الديني»، والسيناباتي «القائد العام»، واليوفاراجا «ولي العهد» - راجع صفحة 124 من كتاب نظرية الحكومة في الهند القديمة، تأليف ب. براساد.
وقد انتهى منذ يومئذ عهد تنصيب الملوك عن طريق الانتخاب على أن للملك أن يختار أحد أولاده وليا للعهد دون التقيد بالابن البكر، وكان يفرض على وريث الملك تربية عقلية وخلقية دقيقة.
وهناك عدد من المناصب الرئيسية كان التعيين فيها بالوراثة وكانوا يختارون من الطوائف العالية عدا البوروهيتا «البرهمي»، وعلى مدى الأيام أخذ أباطرة الأسرة الفاندية يتصلون بالشعب، الأمر الذي لازم الحكم الإسلامي خاصة والشرقي عامة، وحسبنا أن نذكر هنا أن أعظم الموريين كان يستمع إلى قضايا رعاياه في خلال تدليكه اليومي. ولقد كان الإمبراطور أو السلطان «أكبر» يستيقظ قبل الفجر ويطل على رعاياه المترقبين ظهوره لكي يفصل في شئونهم ويقضي في مصائرهم. أما الحكام المسلمون من المغول فقد كانوا، حتى أشدهم طغيانا وعسفا، يجلس بين رعاياه الذين يرفعون إليه قضاياهم، فيفصل فيها بأمر ينفذ في الحال، وكان يشترط في الحكم توافر الكفاية إلى جانب عراقة الأصل، وكانت الكفاية مفضلة أحيانا على الوراثة. وقلما كان الملوك والأباطرة ابتداء من الإسكندر قصيري الأجل وكانوا يعزلون الحكام الذين خضعوا لهم، فكان الحكم غير مركزي، وكانت الإمبراطورية أقرب إلى الاتحاد أو التعاهد على أنه قد حل محل النظام الإقطاعي، حكم الخاصة «الأعيان» في بعض الدويلات المتنافسة وبيروقراطية منظمة تنظيما راقيا يعززها جيش من الجنود العاملين والجواسيس والمخبرين من الرجال والنساء.
الملك
أما الملك فقد كان على رأس هذا كله وفي سبيل مصلحة المملكة لا يقف أمامه أي قانون، وكان يسوغ له أن يتخذ أية وسيلة لتحقيق مصلحته، أما العلاقات مع البلاد الأجنبية فكانت تقوم على المبادئ الحربية الأربعة التالية: (1) الحرب و(2) التفاهم و(3) الرشوة و(4) الخصومة. وكان يتذرع إلى هذا باستعمال الخيانة والدعاية والمناورات الدبلوماسية.
أما الزمن اليومي فمقسم فترات: أربع ساعات ونصفا للنوم، وثلاثا للحمام والطعام والدراسة الخاصة، وساعة ونصف الساعة لتأدية الواجبات الدينية، وساعة ونصف الساعة للرياضة، و13 ساعة ونصفا لشئون الدولة تبدأ منذ تحية اليوروهبيتا قبل الفجر والاطلاع على تقارير الجواسيس عند مغيب الشمس إلى آخر جلسة للنساء والأطباء في غرفة النار المقدسة، وكانت التدابير تتخذ للمحافظة على حياة الملك حين يحضر إلى القصر الأكبر، حول ممراته السرية ودرج السلم والأعمدة المجوفة وحيث تقيم زوجات الملك وخليلاته، وكان يغير غرفات نومه خشية اغتيال حياته، وكان ينام على نغمات الموسيقى.
وكان الملك يجلس للنظر في قضايا الأفراد حين يجرى تدليك جسمه كما قدمنا.
وكان الاعتدال والنزاهة في الفصل في الخصومات هي المبدأ المعترف به نظريا. أما في العمل فقد كانت محاباة الطوائف تؤثر في سير العدالة، فقد حكم ببتر ساق أحد أفراد السودرا لأنه اعتدى بها على البرهمة، فإذا حدث الاعتداء من الأخير لم يعاقب بالعقوبة ذاتها.
وإذا شتم أحد المحاربين قسيسا غرم الأول 50 إپانا، أما إذا كان الجاني هو القسيس فكانت الغرامة 50 پانا وحسب، فإذا كان المجني عليه عبدا نزلت الغرامة إلى 12 وحسب.
وكانت القوانين تقوم على آراء دينية «دهارما»، والاتفاق وعادات القرى والطوائف والأسر والأوامر الملكية. أما القانون المدني فقد نظم شئون الزواج والمهر والتركات والمساكن والاعتداء على الجار والدين والعبيد والعمل والعقود والبيوع. أما الطلاق فإنه يتم بإرادة الزوجين، وللزوجة أن تقترن بآخر.
أما قانون العقوبات فكان شديدا ومثمرا، فقد روى سترابو في «العهد القديم» نقلا عن الماجاسشينز، أنه كانت تحدث في اليوم الواحد في معسكر يتألف من 400 ألف جندي، سرقات لا تزيد قيمتها على 200 دراخمه. وإلى جانب هذه الجرائم المعروفة، كان هناك عقاب على الزنا والقذف وتزييف العملة ومخالفة قواعد الطائفة والمقاطفة والأعمال التي كان يقترفها المستخدمون والتآمر على المساس بالأسعار والغش في الموازين والمقاييس والجرائم السياسية وسوء سلوك الموظفين.
وكان للجمعيات المحلية أن تنظر في القضايا ويفصل فيها القضاة في المدن، وعند الحاجة ترفع إلى الملك نفسه، إذا ما استؤنف الحكم فيها عن طريق المحاكم العليا. وكان يجلس إلى جانب القضاة الثلاثة، ثلاثة براهمة لتوضيح القانون المقدس. وكان الشهود يؤدون اليمين أمام البراهمة وإناء الماء أو النار، ويواجه بعض الشهود ببعضهم الآخر. وكانوا يمنحون أجورا للسفر يؤديها من خسر الدعوى المدنية، وكانوا يغرمون إذا ما حرفوا أقوالهم، ويجوز تعذيب المتهم إذا لم يكن من البراهمة إلى أن يعترف بجريمته، وكان يراعى في تقدير العقوبة - عدا عقوبة الجناية العظمى - حالة الجاني والمجني عليه، ومن أجل هذا كانت جسامة العقوبة تختلف في الجريمة الواحدة من الغرامة إلى الموت، أما البرهمي فكان يحكم عليه بالإرسال إلى المناجم أبديا بدلا من الموت. على أن القانون كان يحمي الضعيف على نوع ما، كما كانت المرأة تراعى من ناحية الأمومة.
وبعد أن كانت العقوبة تنفذ بالتعذيب في النار أو الماء تلونت في تسع صور تبعا لنوع التهمة، وثمة طريقة تدعى إلى الآن «أدهارنا» لرد الدين، وخلاصتها أن يقوم المضرور وهو جالس على عتبة باب الخصم إلى الموت أو يذعن المعتدي.
وكانت مدينة پاتاليبوترا العاصمة، مقسمة أربعة مراكز لكل منها حرس وتنظمها لوائح في صدد ما يتخذ من التدابير في حالة الحريق أو فقد المتاع وما إلى هذا.
وقد نهضت المهن خاصة ما كان يتصل منها بالمعادن النفيسة والمنسوجات. ففي الجماعات التجارية أنشئت الأندية والنقابات وجعل على رأسها أغنياء التجار واعترف بها رسميا، وكان المشرف على التجارة يراقب حركة توزيع البضائع التي تعد قائمة بها ويراقب تحديد أسعارها.
وكانت الواردات تشجع بالرسوم المشجعة، أما البضائع الأخرى كجلود آسيا الوسطى وموسولين الصين فتؤدى عنها رسوم عند الحدود ورسوم داخلية أخرى عند أبواب المدينة، وكانت الرسوم الجمركية تختلف بين خمسة وعشرين وبين خمس قيمة البضاعة. أما الأدوات الخاصة بشئون العبادة فكانت معفاة، وكانت الرسوم الداخلية تحصل عن المنتجات المحلية حين ترسل إلى السوق، وكان شراؤها من المزارع محرما؛ خشية التملص من دفع الرسوم عنها، وكان يعاقب على التهريب كما تعاقب عليه الأمم المتمدينة في الوقت الحاضر.
وكانت «الأرثارزاسترا» تحذر الملك نفسه حين يشتغل بالتجارة من الاستغلال، فقد كانت مخازنه المنتشرة في المملكة ملأى بما تخرجه مصانعه ومعامله وسجونه وبحاصلات مزارعه وغاباته ومناجمه الخاصة، وكان للطبقات العالية في المملكة صفة رسمية معترف بها، ذلك أنه كان لهم أن يتبادلوا إيراد عقار أو مدينة تخصص الإنفاق عليهم.
وكان للملك، إلى ما تقدم، حين يحتاج إلى المال، أن يحصل من رعاياه جميعا عدا البراهمة، على إعانات تنفق في مصلحة البلاد، كالتعمير والاستعمار وإنشاء الطرق، وكان من وسائل الحصول على المال ما يقوم به الأفراد من تقديم المال إلى الملك مقابل منحهم منصبا في البلاط أو لقبا فخريا؛ أي أن الرتب والألقاب والمناصب كانت تشترى بالمال.
وكانت الضرائب عديدة وباهظة لمواجهة نفقات الجيش والإدارة، وكان سك العملة احتكارا للدولة التي كانت لها دار لضرب العملة تخرج سبائك النحاس والفضة الصغيرة المقوسة التي تمثل أقدم أنواع النقود الهندية، على أنه كان في الشمال الغربي للهند حاكم يدعى سوبهوتي كان صديقا للإسكندر، وكان يصدر عملة فضية مع أسطورة يونانية. هذا وأن ما وجد في الهند من النقود الأخرى إلى يومئذ، يدل على أنها قد جاءت من آسيا الوسطى، أما النقود الذهبية فلم تضرب في الهند إلا منذ القرن الأول ق.م.
الحياة الاجتماعية
اقترنت الإمبراطورة المورية بالترف خاصة في الثياب، وأخذت الأحجار والطوب تحل محل الخشب في المباني.
أما من ناحية العلاقات النسائية فقد كان فصم عراها الشرعية وغير الشرعية يتم باتفاق الرجل والمرأة أو كنتيجة لهجرة دار الزوجية مدة طويلة، وكانت الزوجة تملك مهرها وحليها، وكانت عادة موت الزوجة بعد وفاة زوجها (الساتي) معترفا بها، وقد بقيت إلى عهد أخير ولكنها انحصرت في الأسر المالكة وحسب، وكان معاقبا على سوء المعاملة من أحد الزوجين، وكان معاقبا على الجرائم التي تقع على المرأة بالعقاب الصارم، وكانت الحياة الاجتماعية في الهند تقوم على مراقبة متتابعة من الطوائف والطبقات، وعند ميجاسثينز عددها سبع، أما عند كوتاليا فهي أربع أصلية. وهناك طوائف ثانوية متفرعة من الأصلية التي منها طائفة الجند على حساب الملك. (راجع: الهند القديمة، ميجاسثينز وأريان ص39 ) وكان للجيش أسلحة أربعة.
القرية
أما القرية حياة فكان يسودها الهدوء ويبدو عليها الارتياح عدا ناحية اغتصاب محصلي الضرائب، وكان للدولة خمسة في المائة من أرباح المحال العامة المنتشرة والفنادق والمطاعم ودور اللهو المرخص بها، وكانت هناك فرق جوالة من الممثلين والمطربين والراقصين تقيم حفلاتها في قاعة القرية، وكان الأرز هو الطعام الرئيسي للقرويين ثم عرفت الخضر. والبراهمة فيقال إنهم كانوا يتناولون لحم الحيوان غير المقرون. (راجع أكسفورد - تاريخ الهند ص70 تأليف ف. أ. سميث).
أما الشراب الشعبي فكان بيرة الأرز، ولم يكن هناك إدمان أو رغبة في الشرب سوى في أيام الأعياد إذ كانوا يتناولون كثيرا من الخمر.
وكان الإمبراطور يحرم ذبح الحيوان للقرابين «راجع الأوامر الصخرية التي أصدرها آزوكا ص297 عن (آزركا) تأليف الدكتور د. ر. بهانداركار».
وكان الملك يمتطي فيلا وتحيط به النساء بعضهن يحمل المظلة والمروحة والجرة الملكية (إبريق) وبعضهن مسلح للصيد. أما الرجال فكانوا يتقدمون الموكب الملكي ومعهم طبولهم ونواقيسهم وأمامهم حملة الرماح. أما الطريق فكان خاليا مقفلا بالحبال وكان الموت جزاء من يحاول أن يعبره.
وثمة حفلة ملكية أخرى تعرض فيها المصارعة بالسيوف وقتال الحيوان، وهو ما يزال باقيا في بعض الإمارات الهندية إلى اليوم.
الفصل الثالث عشر
الغزو الإسلامي في الهند
يقول السير وولسيلي هيج «في ص1 من الجزء الثالث من تاريخ الهند - طبعة كامبردج»: «إن ظهور الإسلام هو إحدى عجائب التاريخ، ففي 622 ميلادية ظهر نبي، لم يكن في بداية أمره مستطيعا أن يجمع اثني عشر رجلا لمناصرته، فعمد إلى مغادرة مكة مسقط رأسه إلى المدينة، ومع هذا وسع خلفاءه وأتباعه أن يصلوا فيما يزيد قليلا على القرن، إلى حكم إمبراطورية امتدت من الأطلسي إلى أفغانستان ومن بحر قزوين إلى شلالات النيل».
في مستهل القرن الثامن الميلادي وسع العرب أن ينقلوا لواء الإسلام إلى حد روسيا «الآن بلوخستان»، وفي 711 نهض الشاب العربي محمد قاسم بغزو السند حين كان يحكمها «داهر» الملك البرهمي، الذي قتل في المعركة في 712 وتشتت جيشه. وقد نظم محمد قاسم حكومته السند الأسفل ووكل إدارتها المحلية إلى الوطنيين أنفسهم. وفي 713 استولى على مولتان فأصبح للعرب السند والبنجاب السفلي وكانوا في كل بلد يدخلونها يخيرون سكانها بين أحد أمور ثلاثة: الإسلام، أو الجزية، أو الحرب، وجرى الفاتحون المسلمون على سياسة التسامح تاركين للهندوس معابدهم ومخولين إياهم ممارسة طقوسهم.
ولما ضعفت الدولة العباسية في بغداد، وسع بعض الحكام العرب في البلاد المفتتحة أن يستقلوا بها عن حكومة بغداد، ومن هذا نشأت منذ 871 ميلادية دولتان إسلاميتان مستقلتان؛ إحداهما في مولتان وثانيتهما في منصورة، وكانت الضرائب المفروضة على الوطنيين عادلة وقليلة ، وكان هؤلاء ينهضون بأكثر أعباء الإدارة، حين احتفظ العرب بالجندية وأخذوا يصاهرون الهندوسيين، ولم يحفلوا بأن يمدوا ملكهم الجديد في السند والبنجاب الأسفل إلى ما بعدهما.
هذا وقد كان من أثر اعتماد خلفاء الدولة العباسية في بغداد على المماليك الأسرى والأتراك في حماية العرش وقيادة الجيش، أن أصبحوا قوة مخشية الجانب، امتد سلطانها إلى مناصب الدولة وحكم الولايات خاصة أن الأسرى كانوا يدينون بالإسلام فيكون لهم ما للمسلمين العرب من الحقوق. وفي آخر القرن العاشر الميلادي كانت الوحدة الإسلامية الممثلة في إمبراطورية كبيرة واحدة وحكومة واحدة قد انفصمت عراها منقسمة ممالك وإمارات ودويلات متنافسة متخاصمة، ولم يبق للخليفة العباسي في بغداد سوى النفوذ الروحي.
الإسلامية من هذه البلاد التي استقلت «غزنى» فجلس على عرشها أحد المماليك أو الأسرى الأتراك المسمى سابوكيتجين في 977 وقد وسع هذا أن يمد ملكه إلى أوكساس في الشمال على حدود إيران، واستولى على منطقة تشمل كابول وأصبح حاكما لخراسان. وبعد أن مات في 997 خلفه ابنه الأصغر «إسماعيل» الذي خلعه أخوه الأكبر محمود غزني، وأصبح ملكا حين بلغ السابعة والعشرين وضم إلى مملكته سبستان واعترف لملكه الخليفة القادر بالله مانحا إياه لقب «يمين الدولة» فعرف خلفاؤه باسم الأسرة اليمينية.
لم يواجه محمود غزني في شمال الهند مملكة هندوسية متحدة بل ممالك وإمارات متنابذة وقد هزمها جميعا في معارك بلغت حول السبع عشرة، ولم يجد مقاومة تذكر سوى في مملكة أوند البرهمية على نهر الهندوس ثم مملكة البنجاب، التي توالى عليها من الملوك جيبال الأول، ثم أناندبال ثم جيبال الثاني وبهيميال الشجاع الذي أتم محمود غزني هزيمته ... وفر مع فلوله إلى أجميز، ثم تقدم غزني إلى بشاوار وأسر الملك جيبال ملك البنجاب التي عاصمتها بهاتيندا الذي افتدى حياته بمبلغ من المال نازلا عن ملكه إلى ابنه أنانديال ثم أحمد غزني فتنة على الأكسوس، وكان هناك هنود أصليون في الجيش الإسلامي الغازي الذي كان على شفا الهزيمة حين استطاع أنانديال ملك البنجاب أن يغري إلى محالفته حكام أوجان 42 من الأصل وجواليور، وكاللينجار، وكانوج، ودلهي وأجمير مما كان من أثره أن لبث غزني 40 يوما متخذا الدفاع وحسب، وفي آخر يوم في 1008 حدثت المعجزة التي جعلت الموقف يتحول إلى هزيمة تامة للمتحالفين، ذلك أن فيل الملك أنانديال ارتاع ارتياعا حمله على الفرار الذي فسره الجنود الهندوسيون بأنه نذير الهزيمة فشاعت الفوضى فيهم، ثم استولى «محمود» على كانجا وهي موطن كنوز الهند الشمالية الغربية عائدا بالأسلاب إلى غزنى. وكان محمود ينتقل من نصر إلى نصر، مستوليا على ثينيزر المدينة المقدسة في موترا وكانوج المركز الهندوسي في الهند، وبعد معركة 1018-1019 التي أخذ فيها 53 ألف أسير و380 فيلا وكنوزا طائلة؛ أقام محمود في غزنى المسجد العظيم من الرخام والجرانيت الذي أسمي عروس السماء وألحقت به مدرسة.
وبعد أن تمت هزيمة بهيمبال، وقوي حكم محمود على الأوكساس وفي المولتان وغنم في شمال الهند الغنائم العديدة وهدم المعابد الهندوسية؛ نهض في 1024 بأكبر الحملات العسكرية مخترقا الصحراء العظيمة للهند ومعه 30 ألف جمل لنقل الماء للجيش الإسلامي مستوليا على سومناث، وعلى الرغم مما أبداه الهندوس من الدفاع خاصة في دفع الغزاة عن الطرق المؤدية إلى المعبد العظيم الذي كان فيه ألف برهمي يؤدون واجباتهم الدينية ويحرسون كنوزه - فإن الجيش الإسلامي استولى عليه بعد أن أفنى خمسين ألف هندوسي في سومناث، وعاد «محمود» إلى غزنى حاملا الكنوز والأسلاب في 1026. وفي خريف العام ذاته، قام بآخر حملاته الموفقة على نهر الهندوس ضد الجاتيين الذين يسكنون السند ساجاردوب وهزمهم بجنوده البحريين المسلحين بالقوس والسهام والقنابل اليدوية، ثم مات في 1030، غير أن هذا الظفر كله لم يؤد إلى أن يصبح محمود ملكا للهند، وإن كان قد أسس أسرة مالكة حكمت البنجاب مدة قرن ونصف قرن. وعند «الماهارا جادهيراجا للباروان في ص13 من كتابه: الأفق الهندي» أن تدنيس «محمود» للمعابد الهندوسية وهدمها قد أدى إلى بذر العداوة بين المسلمين والهندوس، خاصة أنه كان شديد الحرص على نشر الدين الإسلامي وحماية رجاله.
وقد عرف «محمود»، إلى التدين والمقدرة العسكرية والإدارية بأنه محب للفن، فقد أقام في غزنى المباني الكبيرة، وكانت داره مثوى العلماء والشعراء وعلى رأسهم الفردوسي مؤلف الشاه نامه، وأبو الريحان محمد البيروني. هذا وقد أنشأ محمود جامعة ومكتبة. ولما كان الحكم يقوم على شخصه لا على نظم ثابتة فقد استهدفت مملكته للضعف والانقسام على أثر وفاته، وقد خلفه ابنه محمد الأصغر الذي ثار عليه «مسعود» أخوه الأكبر وخلعه ونفاه إلى بلخ. ثم إن الملك الجديد «مسعود» قضى بالموت على أرياروق الحاكم التركي في البنجاب، إذ نزع إلى الاستقلال والقسوة، وقد خلفه في البنجاب أحمد نيالتيجين، وأمر الملك بأن يمتنع الموظفون الأتراك عن الشراب ولعب البولو والاختلاط بالضباط الهندوسيين في لاهور، وعن الإسراف في المظاهر الدينية. هذا ولم يستمع مسعود إلى نصيحة أبي الحسن الذي نصح بإقصاء «أحمد» عن الشئون العسكرية فاقتحم هذا بنارس وعاد منها إلى لاهور بالأسلاب، ثم أخذ يعد حملة للاستقلال عن مسعود، حين كان السلجوقيون يهددون بلخ وكان الخليفة العباسي في بغداد «القادر بالله» في حالة الاحتضار. وهنا ظهر تيلاك الهندوسي الذي كان ابن أحد الحلاقين، وقد عينه السلطان محمود قائدا للقوات الهندوسية برتبة «شريف»، استولى تيلاك على لاهور، وقتل الحاكم أحمد وابنه وهادن الجانتيين الذين كانوا منضمين إلى «أحمد» وعين السلطان ابنه مجدود حاكما للبنجاب، ودخل السلطان الهند ليقضي على ما بقي من عصيان تيلاق. وفي الوقت ذاته استطاع السلجوقيون أن يقتحموا إيران وأن يغزوا خراسان هازمين السلطان مسعود في تاليكان على مقربة من مرو في 104، فتراجع إلى غزنى، ثم فر مع حريمه وأمواله إلى الهند. غير أن رجال الحرس السلطاني قد خلعوه، وولى في مكانه أخاه محمدا، ولما مات مسعود مقتولا بعد بضعة أشهر، سار ابنه (مودود) من غزنى إلى حيث هزم السلطان محمدا وقتله بعد تعذيبه، وأصبح مودود سيدا على البنجاب في منتصف 1042، وفي 1044 استولى ماهيبال راجا على دلهي التي بناها سلفه تومارا منذ خمسين عاما قبل هذا، وعلى هانسي وثانيزاروكنجرا محاصرا «لاهور» على غير جدوى.
ويقول «سير جورج دونبار في ص95 في الجزء الأول من كتابه تاريخ الهند »: «إن غزوات العرب للسند لم تؤثر كثيرا في سائر بلاد الهند؛ ذلك أن مرمى هذه الغزوات كان للحصول على الغنائم والعودة بها مع ما تخلل هذا من التدمير والمذابح وذلك على الرغم من أنهم ضموا إقليم البنجاب».
ولما نهضت دولة جهور «أو جهار» التي على مبعدة مائتي ميل شمال غزنى، حين آذنت شمس الدولة الغزنية بالمغيب - وسع الجهوريون أن يهزموا الغزنيين وأن يحرقوا عاصمتهم انتقاما من قتل شقيق أمير جهور، فقد لبثت النار مشتعلة فيها أسبوعا في 1151، مما كان من آثاره أن أطلق على أمير جهور (علاء الدين حسين) اسم «جهنسوز»؛ أي «محرق العالم» على أن السلطان سنجر السلجوقي قد هزمه، ثم إن بهرام ملك الغزنيين قد استعاد العاصمة التي ما لبث خلفه السلطان خسرو شاه أن فقدها في 1160 على أيدي إحدى قبائل التركمان «غزي» ولم يبق للغزنيين في الهند سوى البنجاب. ثم إن غياث الدين محمد ابن أخي جهنسوز أمير جهور قد نهض بدولته ثانية فاستولت على غزنى في 1173 وعين أخاه الأصغر معز الدين محمدا شهاب الدين حاكما على إقليم غزنى وبلاد الدولة الغزنية، مادا سلطانه إلى أقصى حدود الهندستان.
توسيع إمبراطورية السلطان محمد غوري
كان محمد غوري يرمي إلى الاستيلاء على المستعمرات الإسلامية في الهند، ففي 1175 جاء من غزنى واستولى على مولتان عاصمة المستعمرة العربية التي كانت في أيدي الإسماعيليين، إلى أن استطاع أن يخضع السند كلها لحكمه ؛ وأن يصبح بعد أربع سنوات سيدا للبنجاب إلى سوتليج، وأن يأسر خسرو مالك، وأن يجعل الأسرة الغزنية أثرا بعد عين.
ثم إنه لما أراد السلطان محمد غوري أن يغزو مملكة دلهي في 1190-1191، استطاع شوبان «راجا پريثفي» أن يهزم السلطان في تاراوري مستعيدا منه بهاتيندا، كذلك هزم بهيم الفاجهيلا «راجا انهلفارا» في جوجيرات.
وعاد السلطان مرة أخرى في 1192 لغزو الهند وهزم راجا پريثفي في تاراوري ولما قتله فرت فلوله، فأصبح محمد غوري سيدا على الهند الشمالية إلى أبواب دلهي التي سقطت في 1193، وكذلك استولى على أجمير وأخذ منها أموالا وأسرى، وعين أحد أبناء راجا پريثفي مكان أبيه في ولايته، على أن يدفع الجزية للسلطان، وعين قطب الدين أيبك أحد المماليك التركستانيين وقد دخل خدمة السلطان، مبديا من حسن التربية وكرم الأخلاق والفروسية وصدق الرماية ما أبلغه أكبر المراتب وجعله الثقة عند جلالته، وولاه ولاية دلهي في 1192، ووسع أيبك أن يهزم جيش الراثور راجبوت ملك كانوج في شندوار «فيروزاباد» فقتل جيشاند وقبض على جيشه، وكان للمسلمين المناصب العسكرية والإدارية تاركين للهندوسيين المناصب الصغيرة. وكان هناك أمراء وحكام هندوسيون يحكمون بلادهم مقابل دفع جزية أو إتاوة للدولة الإسلامية، وقد لبث هذا إلى منتصف القرن السادس عشر.
وهناك قائد آخر كان لمجهوده وبطولته الأثر في توسيع المملكة وهو اختيار الدين محمد بن بختيار من القبيلة التركية في جلج بين سبستان وغزنى، ومنها نبتت أسرة مالكة بعد قرن منذ يومئذ. وكان قبيح الصورة وكانت ذراعه طويلة جدا، وكان مغامرا وحازما اتجه بجيشه شرقا غازيا في 1193 بيهار مستوليا على أموال عاصمتها أو دايتابوري ومقوضا ديرها ومنزلا بالبوذية ضربة أعجزتها عن النهوض ثانية فزالت من شمالي الهند نهائيا وفر الرهبان إلى نيبال والتبت في الجنوب، وبلغ من عزيمة «اختيار الدين» أنه غامر ومعه 18 شخصا فقط باقتحام ناديا حين كان بها الملك البرهمي العجوز لاكششمان يتناول طعامه ففر مع زوجه في أحد القوارب واحتل «اختيار الدين» المدينة ودخلها جيشه ناقلا أموالها وموزعا أسلابها ثم عاد إلى لجنواتي «جور » التي جعل نفسه فيها حاكما على البنغال مؤسسا المساجد والمدارس.
ولما مات غياث الدين في بداية 1203 أصبح أخوه الأصغر معز الدين محمد بن سام سيدا على شمالي الهند والحاكم الوحيد لأملاك الغوري، الذي أصبحت مملكته الهندية تمتد من السند إلى البنغال الشرقية، وكاد إجماع الهند الشمالية ينعقد على الإقرار بسيادته. على أنه لما كان يطمح إلى إنشاء إمبراطوريته في وسط آسيا فقد حاول في 1203 غزو خفاراسم «خيوا الحديثة» غير أنه أخفق إخفاقا هز إمبراطوريته هزا عنيفا؛ كان من أثره أن شقت مولتان عصا الطاعة وأن ثارت القبائل الشمالية في الحاجر الملحي «الصولت رينج» وأن نهب الثائرون لاهور. ومع أن محمد الغوري قد استطاع بمعونة أيبك أن يخمد الثورة في 1206 فإنه حين كان عائدا إلى غزنى، قتله شخص يرجح أن يكون من متعصبي شاهات المذهب الإسماعيلي.
أما اختيار الدين فقد لقي حتفه في السنة نفسها حين كان عائدا من حملته المخفقة على منطقة الهيملايا.
أما أيبك فقد أصبح، بعد وفاة محمد الغوري مستقلا بحكم الهند الشمالية إلى أن وافاه القدر المحتوم في 1210 على إثر حادثة لعبة البولو، وقد أسس أسرة أطلق عليها اسم الملوك المماليك «أو العبيد». وفي 1211 اختار كبار المسلمين شمس الدين الطتمس «أو اللمش» زوج ابنة أيبك سلطانا ومن المماليك الذين ينتمون إلى قبيلة الباري التركمانية سلطانا خلفا لأيبك، وقد أمضى السلطان الجديد سبع عشرة سنة قبل أن يستطيع أن يخمد ثورات الهندستان والمولتان والسند على إثر وفاة أيبك. وقد حدث في عهد شمس الدين الطمش، أن غزا سلطان المغول جنكيزخان وسط آسيا والبنجاب الغربية في 1221، ولكنه غادرها إلى أفغانستان، وقد امتد ملكه من الهندوس إلى مصبات الكنج، وفي الوقت ذاته قوي نفوذ جماعة «الأربعين» من المماليك الأتراك وأصبحوا الآلة المحركة للحكومة وأضحى خلفاء السلطان أداة في أيديهم.
هذا وقد اقترن حكم دولة المماليك في الهند بعنايتهم بالفنون خاصة إنشاء المساجد والمدارس؛ من ذلك المسجد الجامع والقطب المنار في قلعة دلهي في عهدي أيبك والطتمش، وقد بدأ بناء الجامع في 1191 وتم في 1232، وقد عهد إلى البنائين الهندوسيين في بنائه من أنقاض المعابد الجينية الهندوسية.
ومما يدعو إلى الدهش أنه حين كان الطتمش يحتضر في 1236 أوصى بالعرش إلى ابنته «رضية» فتولت الحكم بعد اضطرابات وثورات، وكانت سافرة ترتدي ثياب الرجال والفروسية وتمتطي ظهر الفيل يتبعها جيشها في تنقلاتها. وقد سخطت عليها «جماعة الأربعين» وذلك حين اختارت الحبشي «ياقوت» وزيرا وكبيرا لمستشاريها، فقد أهاج هذا التعيين جماعة الجيش السلطاني وأسرة الملكة فأجلست في مكانها بهرام في 1420، ثم إنها اقترنت بآسرها (الطونيا) وحاولت أن تستعيد عرشها زاحفة بجيش كبير على دلهي، غير أن الأقدار قد عاكستها فقتلها أحد قطاع الطريق حين كانت تنام في خيمتها في الغابة ومعها ثيابها الغالية، أما بهرام فقد قتله (جماعة الأربعين) بعد عامين من توليتهم إياه لخلاف قام بينه وبينهم، ومما يذكر عن حوادث ذلك العهد ما كان من غزوة منغولية في 1241 ضاعت بسببها لاهور ونهبت أموالها.
ثم إن علاء الدين مسعود الرعديد حفيد الطتمش حين جلس بعدئذ على العرش في 1242، واجه ثورات السند والمولتان والبنجاب الأعلى والبنغال وبيهار فخلعته (الجماعة) وأجلست على العرش في 1246 عمه ناصر الدين محمدا وكان في السابعة عشرة عاملا نابها ومتدينا، اختار بالبان أحد أعضاء جماعة الأربعين وزيرا له فأبدى من الكفاية وحسن القيادة ما جعله السيد الفعلي للملكة، مخمدا ثورة القبائل الهندوسية في البنجاب وفي إحدى الغابات المنغولية، محققا سلطة الحكومة المركزية بين قبائل الدول الهندوسية الثائرة، وقد زوج ابنته إلى ناصر الدين ولما تآمرت عليه (الجماعة) نفي إلى ناجور ثم أعيد إلى منصبه في دلهي إلى أن جلس على العرش في 1266 باسم غياث الدين بالبان على إثر وفاة ناصر الدين الذي كان آخر أسرة الطتمش، ولم يقلق باله شيء من ناحية الهندوس، وإنما كان مصدر القلق هو غزوات المنغوليين.
هذا وقد كان الحكم الإسلامي في شمال الهند يقوم على قوة الجيش الإسلامي وحامياته المنتشرة في الولايات حافظة الأمن، وكان الهندوسيون يعيشون في سلام لا يعنيهم شيء من أمر الحكم ما دام أن لهم زرع أراضيهم في غير إرهاق، وكان لهم أيضا تحصيل الضرائب كموظفين صغار، وكان المسلمون يتركون الحكام الهندوس الوطنيين يحكمون ولاياتهم خاضعين للحكومة الإسلامية المركزية، وكان بعض هؤلاء ينزع في بعض الأحيان إلى الانقضاض عليها ثم يبوء بالخيبة. وقد مات في سن الثانية والثمانين بعد أن حكم المملكة حكما مقرونا بالحزم واستخدام العنف مع العصاة والمجرمين والحكام الملوثين والقواد الخاسرين، وكان له جيش من الجواسيس، وقد قضى على نفوذ جماعة الأربعين ونظم الدفاع عن الحدود ضد غارات المغول، وعين ابن عمه شيرخان قائدا للجيش، وفي 1280 أخمد ثورة في البنغال.
وفي 1270 أعاد بالبان تنظيم الحكومة الإقليمية في لاهور. وفي 1280 بعد أن أخمد ثورة في البنغال قتل الحاكم تيجريل وأسرته وأنصاره، وعين أحد أبناء السلطان باجراخان حاكما للبنغال.
وفي إحدى غارات المغول التي لم يكتب لأكثرها التوفيق قتل في 1285 ولي العهد محمد خان دفاعا عن مولتان، وقد مات بالبان في 1287 حزينا على وفاة هذا الابن البار العظيم. كان بالبان إداريا قديرا حازما وعادلا شديد الوطأة على الثائرين والمجرمين، لا يتناول الخمر ولا يلعب الميسر. وقد خلفه ابنه قايق باد وكان صغيرا ضعيف الإرادة لاهيا فاسقا، وبعد ثلاث سنوات لقي حتفه بطعنة على رأسه.
وخلفه جلال الدين فيروز، وكان في السبعين، وهو ينتمي إلى قبيلة خلجي، التي كان منها اختيار الدين حاكم البنغال. وكان السلطان فيروز مكروها، لا يجرؤ على أن يبدو في دلهي فأنشأ بلدا آخر في كيلخوري على مبعدة بضعة أميال من دلهي، ولما كان ضعيف الإرادة فقد قويت شوكة المجرمين واللصوص والسفاحين وقد أطمع هذا المغوليين الغزاة في مملكة فيروز، وبعد عامين منذ جلوسه على العرش، استطاع فيروز أن يردهم عن الحدود كنتيجة لانتصاره في الحرب أو بالمفاوضات، على أنه قد بقي البعض من المائة ألف مغولي الغزاة حول دلهي بعد إسلامهم، لكنهم بعد نحو الخمس سنوات ثاروا على السلطان علاء الدين، الذي أدبهم تأديبا قاسيا بذبح عدد يتراوح بين الخمسة عشر ألفا والثلاثين ألفا.
هذا وقد غزا علاء الدين ابن أخي السلطان وحاكم كار، الدكن هازما أماخندار ملك ديجيري والدكن الغربية وعاد بعد الصلح مع المهزومين إلى كار فائزا بالأسلاب وبتعويض قدره 20 ألف رطل من الذهب و200 رطل من اللآلئ، وكمية كبيرة من الفضة. على أن علاء الدين حين عاد من المعركة فائزا بهذه الأسلاب عمد إلى قتل «فيروز» الذي كان قد ذهب إلى كارا لاستقبال ابن أخيه القائد الظافر «علاء الدين»! وقد حمل علاء الدين رأس فيروز على حربة وزحف على دلهي في جيش، اقتحمها وجلس على عرشها في أكتوبر 1296 فاقئا أعين ولدي السلطان فيروز. ولما أن صفا لعلاء الدين الجو بعد أن هزم قائده ظفر خان المنغوليين قريبا من جولندار، أمعن في اضطهاد النبلاء والأشراف سجنا وتعذيبا وقتلا ونهبا؛ وليس فيمن اتهم وحسب بل في أسرهم، خاصة حين قام الخلاف على توزيع الأسلاب بعد ضم جوجيرات إلى السلطنة في 1297، فقد انتفخت أوداج علاء الدين وطمع في النبوة وتأسيس ديانة جديدة وفي فتوح تفوق ما فتحه الإسكندر. غير أن صاحبه «علاء الملك» قاضي قضاة دلهي، قد أقنعه بالعدول عن هذه المطامع، وبترك ما كان عليه من ظلم الرعية والإدمان على الشراب، وقد استطاع القائد «ظفر خان» أن يهزم المنغوليين المرة بعد المرة، خاصة حين وصل 200 ألف إلى أبواب دلهي، وقد نفس علاء الدين على قائده ظفره المتتابع.
كان علاء الدين يجري في سياسته على إضعاف كبار الرعية بإذلالهم وإفقارهم واضطادهم إلى السجن والقتل والاستعانة بالمخبرين والجواسيس على الوقوف على أخبارهم ومنعهم من عقد الاجتماعات ومن الزواج من غير إذنه ومصادرة الثروات الخاصة والمرصودة للمؤسسات الدينية والخيرية والذهب، وبتحريم شرب الخمر والمخدرات، وقد بدأ بنفسه فحرم هذه عليها، وقد عامل الهندوس بالشدة، فلم يكن يرخص لأحدهم بامتطاء صهوة جواد أو بحمل سلاح مع تقييد المبالغ التي ينفقونها، وبعد أن كانت الرسوم الجمركية تحصل بنسبة سدس قيمة البضاعة، أصبحت بنصف قيمتها. كما فرضت الضرائب على الغنم والماعز والماشية. أما الموظفون؛ وكبار من المسلمين وصغارهم كالمحصلين والمثمنين من الهندوس فكان يعاملهم في قسوة وإرهاق. هذا ويقول كتاب تاريخ الهند طبعة كامبردج في الجزء الثالث ص107: إنه عدا الضريبة على كل رأس لم يكن هناك قوانين خاصة مسنونة ضد الهندوس في التشريع الإسلامي، هذا ويبدو مما ورد في ص111 و112 من الجزء الثالث من الكتاب المشار إليه ومن كتاب تاريخ الهند ص232 طبعة أكسفورد أنه لم يكن ثمة ما يقلق بال علاء الدين في مملكته المتزايدة سوى غارات المنغوليين التي لم تنقطع خاصة في سني 1305 و1306 و1307 و1308 فقد اقتحموا في غاراتهم الست حدود الهند، وقد استطاع 120 ألف منغولي محاصرة دلهي مدة لم ينسحبوا بعدها إلا تحت ضغط قوات علاء الدين الذي كان معنيا بتعبئة الجيوش والإكثار من الحاميات، وكان هذا يحمله على تقييد حرية رعاياه وسلب مال أغنيائهم سواء لإضعاف شوكتهم وإذلالهم أو للإنفاق على الجنود، فإذا فرغ من أمر غزوات المنغوليين عمد إلى توسيع ملكه الذي بدأه في 1297 بتعيين حاكم مسلم على مملكة راجبوت جوجيرات، أغنى ممالك الهند يومئذ خلفا لآخر ملك من أسرة الفاجالا. وقد عين الأغا الهندوسي «كافورا» باسم مالك نيب نصيرا للسلطنة ونائبا للملك مدة خمسة أسابيع.
واستطاع مالك نيب، بعد أن وطد الحكم الإسلامي في الدكن بمعاونة خاجاهاجي أن يستصفي أموال مملكة هويسالا في الجنوب بعد أن استوليا على عاصمتها دافارا فاتيبورا قابضين على ملكها فيرا باللالا الثالث وأتم الجيش الإسلامي بعدئذ غزو مملكة يانديا وعاصمتها مادارا، مدمرا معبدها العظيم، ثم إن مالك سار إلى الشرق مشيدا مسجدا باسم الملك وإلى بالك على الساحل ثم عاد في طريقه في 24 أبريل 1311 فوصل إلى دلهي في 18 أكتوبر 1311 ومعه 312 فيلا و20 ألف جواد و2750 رطلا من الذهب، وعلى هذا أتيح لعلاء الدين ملك قوي عريض يستمتع بالأمن الداخلي والخارجي ورغد العيش، إذ رخصت الأسعار.
ومنذ 1311 إلى أن مات في 1316 وحين ضعفت صحة السلطان علاء الدين وأفضت شدته وسعة ملكه إلى تمرد بعض الولايات، وافاه الموت على إثر مرض الاستسقاء، مخلفا في علاي داروازا أثرا يسجل حكمه كما أشار إلى هذا سيرجون مارشال في ص573 من الجزء الثالث من كتابه تاريخ الهند طبعة كامبردج، وقد بنى علاء الدين أيضا المدينة الثانية من مدن دلهي في سيري متخذا منها عاصمة محصنة حول 1303، ومع أنه لم يكن على حظ من العلم إلا أن العلماء والأدباء كانوا يحظون في قصره بالحفاوة وكان في مقدمتهم الأمير خسرو باللغة الفارسية فقد بدأ حياته الأدبية في قصر بالبان ومات في الثانية والسبعين في 1325 تاركا 40 ألف منظومة أو بيت شعر. وعلى إثر وفاة علاء الدين ظهر نيب مالك في مظهر نائب الملك والوصي على السلطان القاصر ابن الملك الراحل طامعا إلى اغتصاب الملك لنفسه مستخدما السجن والفتك وفقأ الأعين لإقصاء كل من تحدثه نفسه بمناهضة نفوذه، الذي لم يدم سوى 35 يوما، إذ قتله الحرس السلطاني وعين الابن الثالث لعلاء الدين وكان في الثانية عشرة وصيا على العرش، وبعد شهرين فقأ مبارك أعين أخيه السلطان القاصر البالغ من العمر ست سنوات، وجلس على العرش باسم قطب الدين مبارك شاه مفرجا عن 17 ألفا ممن سجنهم والده وملغيا الضرائب والعقوبات التي كان قررها عليهم. أما سيرته فإنها تنطوي على القسوة والمذابح مبيدا هاريال ديو راجا ديجير في الدكن في 1317، وبعد أن دام الملك أربع سنوات قتل خسروخان صديقه السلطان قطب الدين ثم خلفه باسم ناصر الدين خسرو شاه (مساعد المؤمنين) وقد دام حكمه خمسة أشهر قضاها في الاعتداء على حرمات النساء وذبح خصومه وأطفالهم وانتهاك حرمة المساجد، مما أثار الأتقياء عليه، فقتله غازي مالك المشرف على المستنقعات الغربية فهزم خسرو وقتله ونادى بنفسه ملكا باسم غياث الدين توجلاك، وكان غازي مملوكا تركي الأصل عند بالبان. كان ملكا عادلا مصلحا قديرا حفظ الأمن ونظم البريد والمواصلات ونهض بالزراعة وخفض الضرائب فجعلها عشر المحصول. وقد بلغه نبأ وصول الرحالة ابن بطوطة إلى مصب الهندوس في 1333 ووسع الرحالة المغربي أن يبلغ دلهي بعد خمسة أيام؛ أي أنه اجتاز مسافة تقرب من تسعمائة ميل.
رحلة ابن بطوطة إلى الهند
حول 1333م أو في المحرم من عام 734 هجرية وصل إلى الهند (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة) وهو الرحالة العربي المسلم المشهور الذي قام برحلات من بلاد المغرب إلى البلاد العربية والهند والصين. قال في الجزء الثاني من كتابه رحلة ابن بطوطة المعروف باسم تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار: إنه في التاريخ المشار إليه قد وصل إلى وادي السند المعروف ببنج آب. ومعنى ذلك المياه الخمسة. وأن هذا الوادي المزروع تابع للسلطان المعظم محمد شاه ملك الهند والسند، وكان أمير أمراء السند على ذلك العهد مملوك السلطان «سرتيز» ومعناه «الحاد الرأس».
ومن عادة هذا السلطان إكرام الغرباء وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة، ولا بد لكل قادم على جلالته من هدية يهديها إليه فيكافئه جلالته بأضعاف مضاعفة.
الإحراق بالنار
وقال ابن بطوطة عن إحدى الغزوات التي رآها في الهند الإسلامية: رأيت الناس يهرعون من عسكرنا ومعهم بعض أصحابنا، فسألتهم الخبر فأخبروني أن كافرا من الهند مات، وأججت النار لحرقه، وامرأته تحرق نفسها معه، ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروني أنها عانقت الميت حتى احترقت معه، وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة راكبة والناس يتبعونها من مسلم وكافر والأطبال والأبواق بين يديها، ومعها البراهمة، وهم كبراء الهنود. وإذا كان ذلك ببلاد السلطان واستأذنوا السلطان في إحراقها، فيأذن لهم فيحرقونها، ثم اتفق بعد مدة أنني كنت بمدينة أكثر سكانها الكفار «أي الهندوس» تعرف بابجري، وأميرها مسلم لقتالهم، وكان لثلاثة من الكفار القتلى ثلاث زوجات، فاتفق على إحراق أنفسهن. وإحراق المرأة بعد زوجها مندوب إليه «أي مطلوب ولكنه غير واجب». لكن من أحرقت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفا ونسبوا ذلك إلى الوفاء، ومن لم تحرق نفسها، لبست خشن الثياب، وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها.
قال «ابن بطوطة»: إن البريد ببلاد الهند صنفان؛ بريد الخيل، وبريد الرجالة، وهو الأسرع لأن في الطريق قبابا بها رجال يأخذون الكتاب الذي يحمله الراكب حين يسمعون جلاجل الخيل النحاس.
سور دهلي وجامعها
دهلي وتدعى دلهي أيضا كانت عاصمة للهند. وقد وصف «ابن بطوطة» السور المحيط بمدينة دهلي قائلا: «إن عرض حائطه أحد عشر ذراعا، وفيه بيوت يسكنها السمار وحفاظ الأبواب. فيها مخازن للطعام ويسمونها «الأنبارات»؛ ومخازن للعدد، ومخازن للمجانيق والرعادات».
ووصف جامع دهلي قائلا: «إنه كبير الساحة، حيطانه وسقفه وفرشه، كل ذلك من الحجارة البيض المنحوتة أبدع نحت، ملصقة بالرصاص، وفيه 13 قبة ومنبره من الحجر، وله أربعة من الصحون، وفي وسط الجامع العمود الهائل من سبعة معادن، وعند الباب الشرقي صنمان كبيران جدا من النحاس، وفي الصحن الشمالي الصومعة التي لا نظير لها في الإسلام من الرخام والذهب الخالص، وهي من بناء السلطان معز الدين بن ناصر الدين بن السلطان غياث الدين. وأراد السلطان قطب الدين أن يبني بالصحن الغربي صومعة أعظم منها فبنى الثلث وقتل، وأراد السلطان محمد إتمامها فتشاءم».
افتتاح دهلي
قال ابن بطوطة: «إن مدينة دهلي افتتحت في 584ه على يد الأمير قطب الدين أيبك الملقب «بسلار»؛ أي مقدم الجيوش، وهو أحد مماليك السلطان شهاب الدين محمد بن سنام الغوري ملك غزنة وخراسان المتغلب على ملك إبراهيم ابن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. وكان السلطان «شمس الدين للمش» أول من ولي الملك بمدينة دهلي مستقلا به، وكان قبل ذلك مملوكا للأمير قطب الدين أيبك، فلما مات هذا خلفه.
ولما توفي السلطان شمس الدين، خلف من الأولاد ثلاثة: ركن الدين، ومعز الدين، وناصر الدين. تولى الأول وقتل الثاني، ثم قتل الناس ركن الدين انتقاما، فخلفته أخته رضية، وكانت سافرة تركب كما يركب الرجال، فخلعها الناس وولوا أخاها الأصغر ناصر الدين وقتلوا رضية، ودام الملك له عشرين سنة وكان ملكا صالحا، ينسخ بيده نسخا من القرآن ويبيع المصاحف المنسوخة ويقتات بثمنها، لكن «غياث الدين بالبان» مملوكه والنائب عنه قد قتله، وخلفه في الملك عشرين سنة، وكان من خيار السلاطين حليما.
ولما توفي السلطان غياث الدين ليلا وكان ابنه ناصر الدين غائبا، أصبح ابنه «معز الدين» سلطانا ودام حكمه أربعة أعوام، كثرت خيراتها ورخصت أسعار حاجاتها، وكان السلطان يكثر النكاح والراح فاعترته علة ويبس أحد شقيه، وخلفه نائبه باسم السلطان جلال الدين الذي قتله ابن عمه وخلفه باسم السلطان علاء الدين محمد شاه الخلجي، الذي بعد وفاته خلفه ابنه السلطان شهاب الدين، الذي خلعه أخوه وجلس على العرش باسم «السلطان قطب الدين بن السلطان علاء الدين» بعد أن قتل إخوته، لكن أكبر أمرائه قتله وخلفه باسم «السلطان خسرو خان ناصر الدين» وكان فاتحا شجاعا، لكنه أخفق بين المسلمين حين عمد إلى استرضاء الهندوس بتحريمه ذبح البقر، فإن جراء من يذبحها في شريعتهم أن يحاط في جلدها ويحرق، وهم يشربون بولها للبركة وللاستشفاء، ويلطخون بيوتهم بأرواثها، لكن قتله وخلفه «السلطان غياث الدين تغلق شاه» وكان فاتحا، ولما مات خلفه ابنه محمد شاه وكنيته أبو المجاهد».
أسرة تقلق المالكة
شق الرجا الهندوسي في وارانجال عصا الطاعة للأسرة المالكة الجديدة التي أسسها تقلق أو تغلق، ولم يقع هذا العصيان إلا في 1223 على يد آلك خان ابن السلطان حين ضمت مملكة تلينجانا إلى الإمبراطورية، فأصبحت ولاية منقسمة محافظات ومراكز تولاها المسلمون، كما جعل تقلق مملكة البنغال الشرقية التي ظلت مستقلة 13 سنة إحدى ولايات دلهي، ووطد سيادته على البنغال الغربية تاركا ناصر الدين من أحفاد بوغرا خان من بيت بالبان نائبا عنه فيها، كذلك ضم إليه تيرهوت، وحين كان تقلق عائدا إلى مقر ملكه في تقلق باد التي بناها جنوبي دلهي دبر ابنه ألك خان مؤامرة تفضي إلى موته، وذلك بأن جعل السقف يسقط على رأسه، فقد كان هذا الابن الأكبر عاقا على غير ولاء لوالده وكان صفيا للشيخ نظام الدين أوليا، الذي أبدى الأب كراهيته له. وبعد هذا جلس ألك على عرش دلهي في 1325 باسم محمد شاه، وكانت المملكة تمتد من ممر خبير إلى السندر باند، ومن الهيملايا إلى ميسور.
هذا ويؤخذ مما ورد في «تاريخ ظهور الإسلام الجزء الأول ص409-443» تأليف فيريشتا ، والفصل السادس من الجزء الثالث من تاريخ الهند طبعة كامبردج، أن هذا الملك كان متدينا لا يشرب الخمر، وكان قائدا مظفرا وإداريا قديرا يوضع في صفوف أعظم القواد والإداريين غير أنه كان شديدا في معاملة رعاياه إلى حد القسوة، يقتل أحدهم على الذنب الصغير. ولما قتل ابن عمه بهاء الدين جورشاب الذي ثار عليه ذبحه وقدم رأسه لأسرته، وذلك في السنة الثانية من الحكم، وقد أنشأ مدينة «دولة آباد» وجعلها العاصمة، وساعده موقعها في القضاء على ثورة المولتان والسند وإقرار السلام في الدكن، وهزم المنغوليين بعد أن اجتازوا الحدود وعاد إلى دلهي فوجد سكانها متذمرين؛ إذ إن نقل العاصمة منها قد ألحق بها الضرر ، فأمرهم بإخلائها والذهاب إلى دولة آباد التي تبعد عنها أكثر من 600 ميل.
وقد فرض على الحكومات الإقليمية تقييد الوارد والمنصرف في السجلات، ثم إنه حين زاد الضرائب في ولايتي دوب وكانوج ثارتا عليه، واستخدم الورق بدلا من العملة في النقود، وهذا ما عرفته الصين وإيران قبلا ولكنه لم يوفق إذ اختلطت النقود الصميمة بالنقود المزيفة، ولما رخص لسكان دلهي بالعودة إليها أمدهم بالذخيرة والغلال ولم يكن هذا كافيا فأمرهم بإخلائها للمرة الثانية وبنى بديلا منها عششا ثم مباني سارا جادواري.
ولما كان يطمح إلى أن يكون سيد العالم طرا؛ هاجم الصين من التبت بجيش مؤلف من 100 ألف فبادوا في الطريق ولم يعد منهم سوى قائدهم مالك نيكباي وضابطان، وذهبت الأموال سدى مما أفضى إلى انقضاض 23 ولاية عليه، واستطاعت البنغالان الشرقية والغربية استرداد استقلالهما في 1339 وتألفت منهما مملكة واحدة تحت حكم مالك إلياس في 1352، كذلك ظهرت المجاعات فأصبح الناس من آكلي لحوم البشر، واسترد فيرا باللالا استقلاله في دافارا فايتبورا وحكم أيضا أحد الراجات كامبلي، ونادى كريشنا نيك الذي أقصى من تيلينجاتا بنفسه مكافي وزانجال. وفي 1347 انتهى هذا الملك المترنح إلى حسن ظفر خان الذي كان محصلا للضرائب واستطاع أن يجمع الثائرين المسلمين حوله وأن يستولي على الدكن، وقد مات محمد تقلق بالحمى، وخلفه في آخر أغسطس 1351 ابن عمه فيروزشاه، وكان وزيره القدير مالك مقبول برهميا ثم أسلم، وخفض الضرائب، وجعل الحكم غير مركزي، ومنح الولاة الأراضي بدلا من النقود، وألغى ديون الفلاحين للحكومة، ونظم الري بالخزانات والترع، وأنشأ حول دلهي 1200 حديقة للفاكهة والعنب، وبلغ إيراد المملكة 6850000ج، وكان متسامحا لم يلغ المعابد ولكنه منع استرسال الهندوس في مذاهبهم الجديدة، وكان قاسيا على الملحدين وأصحاب المذاهب الإسلامية الشاذة، وكان عاملا على التبشير بالإسلام، معفيا من الضرائب أو مانحا الهدايا لمن يدينون بالإسلام، وكان من أثر هذا أن أصبح الملايين من الهندوس مسلمين وكذلك الأسرى وعددهم 180 ألفا مسلمين، وقد أنشأ فيروزآباد متصلة بدلهي، وأنشأ قصرا هو مدينة في جونيور، وقامت الاضطرابات في دلهي في أثناء حملات الملك في البنغال حيث قام شمس الدين بن إلياس شاه المستقل، وكذلك في 1359 أخفق للمرة الثانية في ضم البنغال إلى ملكه، ولكنه غزا أوريا في شتاء 1360 لكن الجيش ضل الطريق ستة أشهر في عودته، وكذلك أخفقت حملة فيروز في 1362 في السند، وفي 1362 اضطر جام مالي حاكم السند إلى عقد الصلح مقابل دفع الجزية. وفي 1377 قام بحملة أخرى موفقة في إتاوا ولما بلغ الخامسة والسبعين كان إدراكه العقلي في هبوط ثم مات في 1388.
قبل المغول
في عهد علاء الدين الخالجي، كان لعرش دلهي سيادة قصيرة على الهند كلها، أما بعد وفاة فيروز فقد زال ما كان لدلهي من السيادة، وانقسمت الهند ممالك كانت جزءا من الإمبراطورية الإسلامية، ثم ثارت على محمد تقلق، كما أن ظهور مملكة الهندوس العظيمة في الجنوب قد عاون على زوال سيادة دلهي، كما أن هذه الممالك لم تتأثر بالغزوات المريعة التي قام بها تيمور لنك. ولقد كان محمد تقلق يترنح من أثر النكبة التي نزلت بجيشه في التبت والمجاعة التي تفشت في شمالي الهند، إلى أن كان عام 1336 فاعترف ابن عم تقلق «فيروز» بشمس الدين إلياس ملكا على البنغال الشرقية والغربية المتحدة، فلما مات الأخير لبثت أسرته في الحكم حول خمسين عاما، وفي المدة الأخيرة ذاتها كان الراجا جانيش في ديناجيبور الذي هزمه حمزة ملكا حاكما متعصبا مضطهدا لمسلمي البنغال إلى أن مات في 1414، وكان حكمه الفعلي لم يزدد على سنة واحدة، ثم إن أباه جاتمال أو جادر قد خلفه وأصبح مسلما تحت اسم «جلال الدين محمد».
وقد زاد عدد المسلمين في الهند؛ ففي البنغال أصبحوا 55 في المائة، وفي البنجاب كان كل ثمانية من المسلمين يقابلهم 3 من الهندوس واثنان من السيخ، وكان المسلمون في السند 70 في المائة «وأصلهم من العرب». وفي الجهة الشمالية الغربية كانوا 91 في المائة. أما في الهند كلها فإن نسبة المسلمين 22 في المائة والهندوس 68. وقد أبدى جلال تعصبا للإسلام لم يكن يبديه الحكام المسلمون الأصليون، فقد كانوا يجرون على سياسة التسامح . وفي 1442 قتل شمس الدين أحد ملوك ديناجيبور، وخلفه أحد رؤساء وزارته ناصر خان من نسل إلياس؛ وجاء بعده ابنه ركن الدين برتك. ولما مات في 1474 عمد العبيد الأفريقيون وعددهم ثمانية آلاف كان منهم من تولوا أكبر المناصب، إلى قتل الملوك المتعاقبين وجلس من الأفريقيين ثلاثة على العرش، خلعهم أحد سلالة إلياس بين 1486 و1493 حين انتخب فيها أحد الأشراف السيد علاء الدين حسين من تيرموز وكان وزيرا قديرا، ملكا قضى على جيوش الهندوس وطرد الأفريقيين وأحل المسلمين محل الفريقين. ثم غزا أسام في سنة 1498 مستوليا على عاصمتها عاصمة آهوم. غير أن الحملة كان مصيرها الإخفاق بسبب رداءة الطقس وعدم إرسال الإمدادات في موسم الأمطار، فوقف منذ يومئذ نشاطه على إنشاء المساجد وتحصين الحدود وتأمينها إلى أن مات في 1518، فخلفه ابنه الأكبر ناصر الدين نصرت شاه، الذي كان قويا في مستهل حكمه ثم أضعفته الشهوات، وفي عهده غزا المغول شمال غربي الهند، وظهر البرتغاليون في البنغال، وقد قتل في 1533 في مؤامرة على حياته، وقد استطاع علاء الدين أن يحرر الدكن من ظلم محمد تقلق في 1347، وانتخب ملكا باسم علاء الدين بهمان شاه، وقد استطاع بهمان أن يوطد حكمه على حين حمل زعماء الهندوس في الدكن على الاعتراف بسيادته، وحين قضى على ثورة بعض الضباط المسلمين عقد لواء السلام بالتسامح والتغاضي، وقد جعل مدينة جولبارجا «إحسان آباد» عاصمة ملكه، ونظم مملكته بتقسيمها أربعة أقسام: جولبارجا، ودولة آباد، وبيرار، وتالينجايا الإسلامية. وقد امتدت فتوحه غربا إلى جوا وبالبهول وشرقا إلى تالينجانا الهندوسية، وقد أضعف صحته إدمانه على الشراب فمات في 1358 وخلفه ابنه محمد الأول، الذي استوزر ثمانية وزراء عاونوه في إدارة المملكة كمساعد المملكة، ورئيس الوزارة، ووزير المالية، ووزير الخارجية، والوزير المساعد للمالية، والبيشوا، والفتوال رئيس البوليس وقاضي العاصمة، وقاضي القضاة الذي كان وزيرا للأديان والأعطيات. وكان حكام الأقاليم الأربعة يدبرون المال والرجال للملك كما يدبرون شئون الأقاليم؛ أي كان للحكام ما يشبه الحكم الذاتي، وقد ثار على الملك حاكم دولة آباد ولكنه أخفق في ثورته. وقد عمد محمد، لأسباب سياسية ودينية، إلى أن يسك عملة ذهبية من دار سكه الخاصة لتحل محل العملة الهندوسية في الدكن، أما بهمان فكان قلما يصدر عملة ذهبية. على أن بوكا الأول ملك فيجاياناجار وكانهاية ملك فارانجال قد ناهضا قرار محمد حاملين مصرفيي الهندوس على أن يصهروا ما عندهم من الذهب ويخبئوه، وقد قابل محمد هذا التصرف بأن أمر بقتل جميع الهندوس المصرفيين ومبادلي النقود في المملكة وذلك في صيف 1360، فأعلن هذان الهندوسيان الكبيران الحرب على محمد؛ واشتدت نار الحرب، مفضية إلى ذبح 400 ألف هندوسي من الذكور والإناث نتيجة لانتصارات محمد في مملكة الفيجابانجار في 1366-1367. وقد جاء في ص381 من الجزء الثالث من تاريخ الهند طبعة كامبردج؛ أن ملك الدكن قد أخذ المدافع من حصونه وحولها إلى بطاريات فيلة يديرها مدفعيون من الأوربيين والأتراك؛ وقد اتفق محمد وبوكا على أن يكون غير المحاربين بمنأى عن ويلات الحرب.
وفي 1367 أتم محمد بناء المسجد العظيم في جالبارجا، والحصون في «دولة آباد» ثم مات في 1377 وخلفه ابنه مجاهد الذي تابع محاربة مملكة فيجاياناجار إلى أن قتل في السنة التالية، فخلفه حفيده بهمان شاه، محمد الثاني، الذي كان محبا للسلام والأدب وصديقا للشاعر الإيراني «حافظ الشيرازي»؛ وقد أخفقت ثورة حاكم ساجار ودام حكمه 19 سنة. ولما نزلت بالدكن مجاعة بين عامي 1387 و1395 نهض محمد الثاني لتخفيف ويلاتها، فكان يرسل الحبوب من ملوا وجوجيرات فتباع رخيصة الثمن في الأسواق خاصة للمسلمين، كما أنشأ المدارس المجانية لليتامى الذين كانوا يتناولون طعامهم ويبيتون فيها على حساب الحكومة. ولما مات في 1397 مات في اليوم التالي سيف الدين الغوري المعمر أكثر من مائة سنة وهو الوزير المخلص لمؤسس أسرة بهمان وخلفائه. وفي خلال ستة أشهر تقلب على العرش المضطرب ملكان تبعهما ابن عم محمد الثاني فيروز شاه في نوفمبر 1397، وكان شابا فطنا قوي البنيان وجيه الطلعة، شهما كريم المهزة شديد الوطأة على الهندوس. ويقول المؤرخ فيريشتا: إن المملكة البهمانية قد بلغت في عهده الأوج، غير أنه لما كان فيروز مدمنا على الشراب محبا للنساء، فإن أعصابه وهنت، وحمله هذا على أن يكل شئون مملكته إلى المماليك الأتراك، وحين بلغ الثانية والخمسين انهارت صحته على إثر إخفاقه في حملته على الفيجياناجار في 1422 فنزل عن العرش ومات توا، وخلفه أخوه الصغير أحمد شاه الذي كان قائدا كبيرا برزت مواهبه في حملته على الجونديين في 1399. ومنذ حملة البنجاب التي سبقت جلوسه على العرش مؤدبا راجا فيجاياناجار ورعيته، ندموا على نقضهم الاتفاق الإنساني المعقود عن حقن دماء غير المحاربين في 1367 وارتكاب الهندوس أشنع الفظائع، مما أثار حنق أحمد شاه، فذبح عشرين ألفا منهم داخل مملكتهم وأسر الألوف من نسائهم وأولادهم مرغما راجافيرافيجايا على تأدية جزية كبيرة، كما أن ابن الراجا قدم إلى معسكر أحمد شاه الفيلة الملكية، مع احتفاظ المسلمين بالأسرى الهندوس الذين كان منهم اثنان من البراهمة دانا للإسلام ففازا بالمناصب العالية؛ أحدهما «فتح الله» حاكم بيرار ومؤسس الأسرة المستقلة للدولة حين تداعت مملكة الدكن، أما الآخر فكان «حسن» الذي كان الساعد الأيمن للملكة تاركا ابنه «أحمد» الذي أسس في 1490 أسرة نظام شاهي في أحمد ناجار إحدى ممالك الدكن الخمس. وقد لبثت مستقلة أكثر من مائة سنة، وقد كانت سياسة أحمد شاه الحربية ترمي إلى أن يضم إليه في 1424 «نيلينجانا»، غير أنه بعد أن ضم هذه المملكة قد أخفق بعدئذ بأربعة أعوام في حملته على جوجيرات وقد نقل العاصمة من جالباراجا إلى بيدار التي كانت مقر الحكومة الإقليمية وأصبح اسم العاصمة القديمة لفيداربها «أحمد آباد بيدار» وهي تعلو 2500 قدم عن سطح البحر في أجمل مكان في الدكن. وفي 1432 تم إنشاء القلعة الجديدة، وتلاها منشئات عديدة مهمة من ذلك أن أحمد شاه قد بنى لنفسه ضريحا منقوشا على الطراز الفارسي ومكتوبا عليه بالذهب على الزنجفر وباللون الأزرق والقرمزي، وقد كان أحمد شاه يؤثر أن يستخدم في الجيش الأجانب على الوطنيين، وقد كان من آثار هذا - إلى كثرة الزواج المختلط - الإضرار بصحة سكان البلاد الباردة المهاجرين حين يقيمون في الدكن الحارة، فكان لا بد من تجديد قوتهم باستمرار هجرتهم إليها. على حين أن الغزاة في شمالي الهند قد وسعهم أن يحتفظوا بمستواهم، وكان وزراء أحمد شاه من الأفغانيين والإيرانيين، وقد مات حول 1435 في الرابعة والستين؛ وخلفه «علاء الدين أحمد» الذي دام حكمه 22 عاما؛ نشبت في خلالها الحرب مع الفيجاياناجار وإن كانت الخصومات قد لبثت مستمرة بين السنيين من الدكنيين المسلمين والمهاجرين الأحباش وبين الشيعة وهم من العناصر الأجنبية من العرب والترك والفرس والمغول، وقد قتل الدكنيون غدرا 1200 سيد، وألف أجنبي وبين خمسة أو ستة من ألوف الأطفال، مع إلقاء القبض على زوجات الضحايا. وسرعان ما فصل الملك موظفيه فكان هذا فوزا للأجانب المتقدم ذكرهم. ولما مات علاء الدين في 1458 خلفه ابنه الأكبر جمامايا همايون، وكان قاسيا - قمع ثورة هندوسية في أحمد آباد، كان قائده كتوال قد عجز عن قمعها فعاقبه بتصفيده في قفص حديدي، مقتطعا من لحم بدنه يوميا شيئا إلى أن مات، كذلك عذب جنود الحرس حين اتهمهم بخيانته إلى أن ماتوا، وكان جزاء زوجات الثائرين وزوجاتهم ما يعجز عنه الوصف مبالغة في الوحشية.
وعلى أثر قتل همايون في 1461 خلفه ابنه الطفل نظام شاه، واقتحمت جيوش الهندوس في أوريسا وتبلينجانا حدود مملكة الدكن، غير أن محمود جافان من أعظم الساسة في مملكة البهمان، قد طرد المغيرين. ولما مات نظام شاه في 1463 خلفه أخوه محمد الثالث وكان في التاسعة من عمره، وكانت أمه تدير الملك كوصية للعرش إلى أن بلغ السادسة عشرة، وكان محمود جافان لا يزال رئيسا للوزارة. وقد سار الحكم سيرة العدل نحو الدكنيين، الذين اقتسموا المناصب مع الوافدين. ومنذ 1469 أخذ محمود الثالث يقمع حملات سفن القرصنة التي غزت ساحل مالابار، مضيفا إلى ملكه أراضي راجات الكونكان ومكبرا أسطوله الذي استولى مع جنود البر على جوا وهي من أهم ثغور مملكة الفيجا باياجار، وعاد محمود إلى عاصمته في 1472 ضاما بيلجام، وفي 1473 تفشت الكوليرا والمجاعة في الدكن، مما كان من أثره هجرة السكان إلى جوجيرات ومالوا، وفي آخر 1477 قمع محمود ثورة في تيلينجانا، واستولى اختيار الدين على ناديا، وقد استولى محمود على معبد كانشي إحدى المدن السبع المقدسة عند الهندوس، وقد أصبحت مملكة الدكن تمتد غربا إلى ساحل البحر، أما في الشرق فقد زادت رقعة جالبارجا ودولة آباد وتيلينجانا، ثم إن «محمد» قد عمد إلى تقسيم كل من الولايات الكبرى الأصيلة إلى ولايات صغيرة لكى تكون الإدارة أقرب إلى الدقة وحسن النظام، كما أنه ضيق من سلطة حكام الأقاليم، من ذلك أن الملك قد استعاد سلطته في تعيين العسكريين، وانه أدخل نظام التفتيش والرقابة على الحكام، غير أن محمدا قد مال إلى الشراب الكثير، مما كان من آثاره أن وسع حزب الدكنيين أن يزوروا كتابا من رئيس الوزارة إلى راجا أوريسا يتضمن خيانة الأول، محمود جافان لمليكه، وقد تسرع محمد فقضى بقتل وزيره الأول القدير المخلص في 1481 بعد أن رفض سماع دفاعه عن هذه الفرية وبعد خدمة دامت 35 سنة فمات في سن الثامنة والسبعين، وكان سنيا وعادلا وحكيما وكريما، لم يترك ثروة ما؛ لأنه كان ينفق كل شيء في سبيل البر، ومن آثاره المدرسة التي بناها في بيدار على الطراز الإيراني قبل وفاته بتسع سنوات، وقد اشتملت على مسجد كبير ومكتبة، وقاعات للمطالعة وأماكن وأندية للمدرسين والطلبة وحوش، وقد توافرت فيها أسباب الراحة والتسلية والإنارة والهواء «راجع ص629-636 لسير جون مارشال، الجزء الثالث من كتاب تاريخ الهند، طبعة كامبردج». وقد مات الملك محمود شاه في 1482 في الثامنة والعشرين، ولقي في عامه الأخير من المشكلات ما أضعف حالته الصحية المتدهورة، وخلفه ابنه الصبي الملك محمود المتهالك على لذاته؛ فكان قاسم بريد المماليك التركي هو الحاكم الفعلى في المملكة، وأخذ حكام الأقاليم واحدا بعد آخر يعلنون استقلالهم، إلى أن مات محمود في 1518 ومملكته محصورة في المنطقة المحيطة بعاصمته، وقد خلفه ملوك صغار السن والحلم كانوا أداة في أيدي وزرائهم وحاشيتهم، إلى أن انتهوا بهرب الملك كليم الله، وجلس على عرش بيدار الأمير أبو بريد، وثارت الممالك الخمس في الدكن، وكان منها مملكة بيجابور التي أسسها عادل شاه، الذي يرجح أنه ابن السلطان التركي مراد الثاني، بعد أن فر عادل مع أبناء الأسرة المالكة في تركيا. ويقال: إنه قد بيع مملوكا إلى خواجه محمود جافان الوزير الدكني المشهور، إلى أن أصبح حاكما إقليميا، منضما في 1490 إلى حاكمي أحمد ناجار وبيرار. قد اشتهر عهد عادل شاه بحملاته على جيرانه الهندوس والمسلمين إلى أن مات في 1510 في الخامسة والسبعين لمرضه بالاستسقاء، ولم يبرز في حوادث عهده سوى محاولته فرض المذهب الشيعي على رعاياه السنيين، مما كاد يودي بعرشه. هذا وفي أوائل حكمه اقترن بابنة أحد رؤساء الماراثا، ثم إنه قد عين الكثيرين من الهندوس في المناصب الحكومية العالية، وكان مولعا بالموسيقى والأدب، وكان حكيما في تصرفاته. غير أنه في أواخر عهده آلت شئون الدولة إلى وزيره الخائن «كمال خان الدكني» حين غزا البرتغاليون ميناء جوا في فبراير 1510، فبعد أن تبادلها الفريقان ثلاث مرات، مات خلالها عادل شاه، استولى عليها الباكيرك البرتغالي في نوفمبر 1510 ذابحا سكان جوا المسلمين (راجع ص4-8 في الفصل الثالث، الجزء الثالث من كتاب «المسلمون في الهند»).
ولما خلف عادل ابنه «إسماعيل» هاجم البرتغاليين مخفقا في 1515 ثم فائزا في 1520 برد أرض جوا دون جزيرتها، غير أنه حين غزا كريشنا راجا فيجاياناجار وبيجابور حاربت القوات البرتغالية المسلمين فكانت نتيجة هذه الحرب انتصار الهندوس. وقد أخفق كمال خان نائب الملك في مؤامرته ضد «إسماعيل عادل شاه» الذي مات في 1534 وخلفه ابنه ماللو الذي خلع بعد قليل وبعد ستة أشهر أي في 1535 خلعه أخوه إبراهيم عادل شاه الأول، وكان مستشاره الأول خسرو لاري، وكان تركي الأصل قديرا وأصبح اسمه «أسعد خان»، ومنح إقطاعا كبيرا في بيلاجوم، وكان من آثار هذا العهد طرد الأجانب من الوظائف والجيش وإحلال الدكنيين والأحباش محلهم، ومحاربة مملكة فيجايانجار في 1535 وجيرانه الدكنيين، وإمعانه في الشراب والشهوات إلى أن مات في 1557 فخلفه ابنه «علي» الذي كان شيعيا متحالفا مع فيجاياناجارا على أحمد أناجار جاره المسلم في 1558. وبعد ست سنوات تحالفت الممالك الإسلامية الأربع وهي بيجابور وأحمد أناجار وبيدار وجواكند فانتصرت على مملكة فيجاياناجارا في موقعة 23 يناير 1565 فجعلتها أثرا بعد عين كمصير قرطاجنة، ومن ثم تمت للمسلمين السيادة على الدكن.
هذا وقد أخفق علي وحليفاه مرتضى نظام شاه أحمد أناجار، وزامورين راجا كاليكوت الهندوسي في محاولة طرد البرتغاليين بقيادة دوم لويزدي أتايد بعد أن خسر المهاجمون كثيرا بعد حصار جوا.
وقد قتل علي عادل شاه، وفي 1686 اندمجت بيجابور في الإمبراطورية.
الفصل الرابع عشر
في القرن السادس عشر
كان برهان نظام الملك شاه في السابعة حين تولى عرش أحمد ناجار التي أصبحت إحدى ممالك الدكن في 1490 تحت حكم أحمد نظام الملك ابن برهمي فيجاياناجار، وكان محمد خان الدكني وزيرا قديرا لهذا الملك الصبي برهان، الذي رخص للبرتغاليين في بناء مصنع في شول، وبعد ست سنوات حالفهم ضد مملكة جوجيرات التي دمر أسطولها برمته. هذا ولم تصبح أحمد أناجار جزءا من مملكة المغول إلا منذ 1637 في عهد شاه جاهان، وفي 1574 ضمت أحمد أناجار إليها بيرار.
هذا وقد كانت هناك، إلى ممالك الدكن، دول مستقلة تمتد في وسط الهند من الشرق إلى الغرب كدولة أوريسا على البنغال، وكانت تابعة لفيروز تقلق منذ 1360 وتدفع الجزية إلى دلهي. وفي 1435 جلس على العرش كابيليسفاراديفا، مادا ملكه جنوبا على الشاطيء مهددا فيجاياناجار إلى أن استطاع ملكها كريشنا في 1516 استرداد ما فقد من أرضها في عهد من سبقوه، فأصبح نهر كريستنا حدا للمملكتين. أما أوريسا فقد فقدت استقلالها في 1592 حين استولى عليها «أكبر».
هذا وقد كانت قبائل الجوند تسكن منطقة الغابات التي بين أوريسا وبيرار، وعرفت باسم «جوندوانا» مقسمة أربع ممالك. وقد استطاع حاكم كارا «آصف خان»؛ الذي عينه «أكبر» أن يستولي عليها. وكانت ملوا في آخر جنوب أملاك هارشا، وكان يحكمها في النصف الأول من القرن الحادي عشر ملك يسمى بهو جاپارامارا. وفي 1234 غزاها الطتمش ونهب أوجين مدمرا معبد ماهاكالي الهندوسي إلى أن أتم «عين الملك» ضمها إلى مملكة علاء الدين. ثم إن دولار خان الغوري الحاكم الأفغاني على ملوا استقل عن حكومة دلهي على إثر تهديد تيمورلنك للحكومة المركزية، وقد دام حكم أسرتي الغوري والخالجي للملكة نحو 130 سنة إلى أن كانت سنة 1530 فوسع بهادور أن يهزم محمد الثاني آخر ملوك أسرة الخالجي مستوليا على ملوا. ويقول كتاب تاريخ الهند، طبعة كامبردج ص167-622 المجلد الثالث: إن هوشانج شاه الغوري ومحمود الأول الخالجي قد أقاما المسجد الكبير والقاعة العظيمة بما لها من الأسوار الممتدة 25 ميلا مع ما يتصل بها من الأضرحة والمقابر الفخمة.
أما جوجيرات فقد عرفت بأنها مملكة إسلامية منذ عهد ظفر خان «مظفر الأول» ابن أحد الرجابيط الذين دانو بالإسلام، حين أوفد محمد تقلق لقمع فتنة ظهرت في إقليم جوجيرات في 1391، وبعد أن وفق في هذه المهمة نادى بنفسه ملكا على هذا الإقليم، وبعدئذ شهد نهضة في عهد حفيد مظفر خان «أحمد شاه» في 1411-1442 الذي كان هماما قديرا. ومن آثاره بناء أحمد آباد التي لا تزال إلى اليوم أهم مدن جوجيرات، وكان أعظم ملوك الأسرة محمود الأول البيجار، والبيجار تتألف من كلمتين: بي ومعناها اثنان، وجار ومعناها قلعة أو حصن، وذلك لاستيلائه على قلعتي جيرنار وشاميانير «راجع 316 من الجزء الثالث من تاريخ الهند طبعة كامبردج». هذا وقد تجلت شجاعة «محمود» وحزمه منذ الثالثة عشرة، حين قمع مؤامرة واجهته على أثر جلوسه على العرش في تلك السنة، إلى أن قام بحملاته على الكوتش والكاتيوار، وفتح مملكة شامبانير الهندوسية، وكان مهيب الطلعة، طويل القامة، كث اللحية، مستقيما، ليس للملذات سلطان عليه.
وكان لمملكة الجوجيرات الإسلامية بحرية وثغور صالحة، وحين واجهت المملكة تحرش البرتغاليين إلى أن استطاع «الميدا» أن يدمر أسطول الممالك الإسلامية الهندية المتحالفة في 1509، عقد محمود الصلح مع البرتغاليين، ولما مات في 1511 خلفه مظفر الثاني، الذي مات في 7 أبريل 1526؛ أي قبل اليوم الثالث عشر الذي استطاعت فيه بابار أن تفوز في معركة بانيباث، على حين أنه كان يسع أسطوله أن يرد البرتغاليين عن ثغر ديو لو لم يكن قد بعث به إلى محمود الثاني ملك لموا حين استولى الموظفون الرجبوتيون على الحكومة، وقد دمرت ماندو في 1518، وذبح من بقي من سكانها الرجابيط وكان عددهم 19 ألفا. وعلى أثر وفاة «مظفر» انقسم الأشراف ثلاثا: قسم كان يؤيد إسكندر الابن الأكبر له، والثاني يؤازر باهادار، والثالث ينصر لطيف خان. أما إسكندر فقد كان ضعيفا عاجزا سرعان ما اغتيل، وعلى أثر هذا نودي بالطفل «محمود» مظفر ملكا في 12 أبريل 1526، غير أن باهادار سرعان ما عاد من پانيبات إلى جوجيرات مناديا بنفسه ملكا في 11 يوليو ثم قتل أخاه «محمود» سرا، قامعا ثورة لطيف خان الذي ادعى الملك ثم قتل، فأصبح باهادار ملكا غير منازع، وقد اتسع ملكه فضم إليه مالوا في 1531، وفي 1534 اقتحم بلاد راجبوت شيتور فانتحر وذبح الألوف من سكانها.
وفي 1530 خلف «همايون» بابار في دلهي، وقد لبثت العلاقات بين المملكتين الإسلاميتين بعض الوقت، إلى أن غزاها همايون في 1535 ففر باهادار في سفينة في ديو إلى أن استعاد باهادار ملكه بعد ثورة في البنغال ضد همايون، وفي 1534 نزل باهادار عن جزيرة باسين إلى البرتغاليين، كما أنه عرض عليهم مكانا لإقامة مصنع مقابل 500 جندي برتغالي يدخلون خدمته، ثم إن باهادار قد عمد إلى مفاوضة الوالي البرتغالي «نينو داكانها» لكي ينسحب البرتغاليون من ديو، بينما كان باهادار ذاهبا في سفينة إلى زيارة الوالي البرتغالي أغرق في ثغر ديو في 13 فبراير 1537، وكان من أثر هذا أن سادت مملكة جوجيرات القلاقل إلى أن استطاع «أكبر» الاستيلاء عليها في 1572 في عهد مظفر شاه الثالث.
هذا ولا تزال المباني الإسلامية في جوجيرات بارزة الأثر كما في المسجد الكبير في أحمد آباد الذي قال عنه سير جون مارشال في ص608-616 من الجزء الثالث، الفصل 23 من «تاريخ الهند، طبعة كامبردج»: إن هذا المسجد هو من أعظم ما بني من أمثاله من ناحية إثارته الإعجاب والافتنان، كما أن محمود بيرجارها أنشأ ثلاث مدن جديدة جاعلا عاصمته أحمد آباد غنية بالمباني الفخمة.
أما مملكة خانديش الصغيرة في وادي تايتي فإن أهميتها ترجع إلى قوة حصنها عسبربارة. وقد ظفرت باستقلالها منذ استطاع مالك أحمد خان مقاومة قوة البهماني في الدكن حول 1380، مؤسسا الأسرة الفاروقية، هذا واسم خانديش مقتبس من «خان» وهو اسم للحاكم أو الملك، وكانت عاصمة خانديش بار هانبور، التي كانت تابعة إلى جارتها جوجيرات إلى أن استولى «أكبر» على عسير جاره في 1601.
أما الفيجاياناجار فكانت مملكة هندوسية جنوبي هذه الممالك شاغلة الحد الأسفل لشبه الجزيرة منذ عهد هارشا منذ منتصف القرن الرابع ولأكثر من قرنين.
كان محمد تقلق خطرا على الديانة والحضارة الهندوسيتين في الجنوب إلى أن انتهى ذلك بالثورة التي قامت في مادورا في 1334، فكان غياث الدين الدمجاني أو دمجان شاه الذي كان جنديا في جيش دلهي، هو ثالث ملك شق طريقه إلى عرش مادورا مستمرا في حربه ضد الملك فيراباللالا الثالث، إلى أن هزم هذا في تريشينوبولي في 1342، وأخذ في سن الثمانين أسيرا وشنق، كما يبدو أن ابنه قد مات في المعركة، غير أن أبناءه؛ أي الإخوة الخمس أبناء سانجاما في أناجاندي الذين كانوا جنودا في جيش على الحدود الهندوسية الشمالية، قد نهضوا لاسترداد استقلال مملكتهم بإيحاء فيديارانا البرهمي فأسست مملكة الفيجاياناجار.
وبعد أن تم تأسيس أسرة البهمان في الدكن في 1347، قامت قوة هندوسية في الجنوب، ولما مات بهمان شاه في 1358 كانت فيجاياناجار عاصمة الملك بوكا، الابن الباقي من أبناء سانجاما، وكانت هذه العاصمة على أعالي التانجابهادرا التي بناها فيرا باللالا الثالث، وقد امتنعت أسوارها ذات السبع صفوف على الغزاة في خلال قرنين. وقد ذهب كمال الدين عبد الرازق، الذي ورد ذكره في كتاب الهند في القرن الخامس عشر، موفدا من سمرقند في مهمة إلى فيجاياناجارا، فوصف ما كان فيها من قصر ملكي منيف وراقصين وحاشية وممثلين وفيلته التي تظهر في التمثيل، وقد دام النزاع بين الهندوس والمسلمين حول هذه المملكة منذ أعلن فيروز شاه تقلق عدم تدخله في شئون الجنوب، وكانت حروب هذه المملكة في الدكن إلى أن استطاع باكا الأول أن يهزمه.
ولقد كتب نيقولا كونتي، من أشراف البندقية، بعد رحلة إلى الهند قبل 1440 «راجع الجزء الثاني من كتاب الهند في القرن الخامس عشر» يقول عن فيجاياناجار التي أسماها «بيزينجاليا»: «إن محيط المدينة يبلغ 60 ميلا، وأسوارها تصعد إلى الجبال لتغلق الأودية التي في سفحها. أما سكانها فإنهم يتزوجون ما يطيب لهم من النساء، وزوجاتهم يحرقن معهم حين وفاتهم. أما ملكها فهو أقوى ملوك الهند، وقد اختص لنفسه باثنتي عشرة ألف زوجة يتبعه منهن مشيا على الأقدام أربعة آلاف ويستخدمن في المطبخ، وأربعة آلاف أخرى يركبن الجياد، وأما الباقيات فيحملهن الرجال على محفات، ويختار الملك منهن ألفين أو ثلاثة كزوجات يحرقن أنفسهن معه، وهذا يعد شرفا لهن. وقد بلغت عادة الساتي؛ أي التضحية بالنفس في سبيل وفاة الزوج، أوجها في هذه المملكة».
وجاء بعد ديفارايا الثاني مالليكارجونا، الذي قضى على هجوم شنته مملكة الدكن ومملكة أوريسا الهندوسية. أما خلفه وهو أخوه فيراباكشا فقد عزله سالوفاناراسيمها بمساعدة قائده نارسا في 1487 مستوليا على الحكومة ومستردا أكثر ما فقدته المملكة في عهد سلفه الضعيف المعزول، ويعرف هذا بالاغتصاب الأول. أما الثاني فقد حدث حول 1505 وكان من أثره شيوع الفوضى، إلى أن قضى عليها كريشنا ديفارايا بن ناراسا وأعظم ملوك فيجاياناجار، الذي جلس على العرش في 1509، وعلى ساحل بيجابور كانت أساطيل المسلمين والبرتغاليين ناشطة، وهؤلاء البرتغاليون الغزاة كانوا يستخدمون بعض الهنود في محاربة الهنود الآخرين.
بعثة برتغالية
وقد زارت بعثة برتغالية فيجاياناجار وكان أوفدها «الباكيرك» لعقد معاهدة تجارية ومحالفة مع زامورين أوف كلكات على أثر جلوس كريشنا على العرش، وهو الذي استرد من أوريسانا بعض ما أخذته من مملكته في 1516، وفي 1520 انتهز فرصة الحرب التي قامت بين ممالك الدكن الخمس فضم إليها ريشوردوب التي كانت سببا في الحرب مع الدكن منذ عهد محمود الأول؛ أي منذ 160 سنة. كان كريشنا قائدا قديرا احتل بيجابور ودمر قلعة جالبارجا وهي العاصمة الأصلية لمملكة البهمان، غير أنه كان رحيما بالمهزومين، وقد بذل كثيرا في سبيل المعابد والبرهمة. وكانت الحكومة في الجنوب تجري يومئذ على الاستيلاء على نصف المحصول تاركة النصف الآخر للزراع الذين كانوا في حالة تعسة من الفاقة والشقاء، مجهودهم موقوف على حكامهم من مسلمين وهندوسيين. وكان ممن زاروا حول 1470 الهند وبيدار وفيجاياناجار، تاجر من تفير يدعى أثناسياس نيكتين، فذكر أن السكان كثيرون، وأنهم فقراء، وأن الأشراف منصرفون إلى الملذات، يحملون على أسرتهم المموهة بالذهب يتقدمها عشرون مسلحا في زي ذهبي يتبعهم 300 من الفرسان و500 من المشاة، وكان عدد اللصوص قليلا؛ لأن العقاب صارم وحشي. وكان لحاكم فيجاياناجار جيش كبير يأتمر هو والرعايا بأمره المطلق، وكان لحكام الأقاليم السيادة التامة فيها، عدا تأدية نصف الإيراد إلى وزير المالية (أمين الخزينة) وكان البغاء متفشيا تحصل منه الدولة إيرادا كبيرا. وكانت المبارزة شائعة في الطبقات العالية إلى أن ألغاها المسلمون.
ولما مرض كريشنا في آخر حياته، بدأ في مملكته الاضطراب، ثم مات في 1530، وقد خلفه ملكان ضعيفان وهما أخوه أشيوتا ثم ابن أخيه ساداشيفارايا، الذي انتهت في عهده مملكة فيجاياناجار في 1565.
ولقد اجتمعت قوات ممالك البيجابور والأحمد ناجار والجولكوتدا والبيدار في تاليكوتا، وهي بلدة صغيرة على حدود بيجاپور، على تدمير هذه المملكة الهندوسية الوحيدة، وكان يقود هذه القوات حسين نظام شاه الأول الذي كانت مملكته أحمد ناجار هدفا لقسوة الهندوس في أثناء غزوات البيجاپور وفيجاياناجار، وكان جيش المسلمين يمتاز عن الهندوس بالمران والنظام ومهارة الفرسان ورماة السهام الراكبين وتفوقهم الكاسح في المدفعية، إذ كان لديهم 600 مدفع يقودهم ذلك البطل المجرب القدير شلبي رومي خان الذي مارس الجندية في أوربا، وكان يواجه جيش الهندوس غير المنظم المؤلف من 82 ألف فارس و900 ألف من المشاة و2000 من الفيلة وبعض المدفعية، غير أن السلاح لم يكن كافيا. ويقول سيزار فردريك، الذي زار فيجاياناجار بعد سنتين: إن هزيمة الهندوس مع عظم عددهم، كانت مؤكدة وراجعة إلى وجود 140 ألف مسلم من المرتزقة مع الهندوس. وقد عبر الملك «حسين نظام» نهر الكيستنا بعد مناورة بديعة لم تكلفه خسارة ما، وفي 5 يناير 1565 حارب المسلمون في موقعة تاليكارتا منتصرين آسرين القائد الهندوسي ساداشيفارايا الذي فصلت رأسه عن جسمه ووضعت على رأس حربة، وكان من أثر رؤيتها أن ولت فلول الهندوس بعد قتل 100 ألف منهم، وقد استولى المسلمون على الأسلاب الثمينة ، مدمرين فيجاياناجار تدميرا تاما، فأضحت بلاد هذه المملكة الهندوسية العظيمة دويلات صغيرة، أشهرها مملكة مادورا.
وكان من أثر تتابع هجرة الجماعات الإسلامية من إيران وبلاد العرب، ودخول الهندوس أفواجا في الدين الإسلامي، وما تم من الزواج بين المهاجرين والمسلمين الجدد، أن زاد عدد المسلمين وقويت رابطتهم، وبرز سلطانهم. غير أن كثرة المسلمين كانت من الوطنيين الهنود الذين دانوا بالإسلام. أما احتفاظ الهندوس بكثرتهم العددية في الهند فإنما يرجع إلى أن الهنود قد ألفوا نظام الطبقات، فكان ما جاء به الإسلام من تقرير المساواة وإزالة الفوارق غريبا على تقاليد الهند. «راجع ص150 من الفصل الخامس من الجزء الأول من تاريخ الهند، تأليف سير جورج داناپار».
أما الآريون الصميمون، الذين وفدوا إلى الهند في بداية الأمر فلم تبق منهم إلا أقلية ضئيلة جدا، لبثت محتفظة بطابعها فلم تندمج في الشعب الدرافيدي، الذي بقيت حضارته وأفكاره حية في الجزء الجنوبي من شبه جزيرة الهند، وقد وفق الآريون في إدماج الدرافيديين في الطبقات السفلى الهندية التي منها المنبوذون، ونسبتها بين السكان 30 في المائة من مجموع الهندوس.
الفصل الخامس عشر
البرتغاليون في الهند
لما كانت «البندقية» محتكرة تجارة الهند مع أوربا في القرن الخامس عشر، فقد عمد التاجر البرتغالي «بارتوليمو دياز دي نوفيس» إلى الطواف برأس الرجا الصالح في 1487. وفي 17 مايو 1498 شهد «فاسكو داجاما» في سفنه الثلاث التي لا تزيد حمولة كل منها على 150 طنا، مدينة كاليكات في الهند، وقد أكرم الزاموريون وفادته.
هذا وإننا لفي غنى عن القول بأن كشف أمريكا، كان من آثار البحث عن طريق مباشر إلى الهند، وأن ينابيع الثروة في أمريكا قد وثبت بالأوربيين وثبة جديدة في ميدان الاستغلال والاستعمار والتجارة، وحولت أفكارهم من التفافها حول الكرسي البابوي إلى هذه الميادين والآفاق الجديدة المليئة بالثروة الجديدة بالنجعة ومفارقة الأوطان «راجع كتاب الدين وظهور الرأسمالية، تأليف ر. ه. ثاوني، طبعة 1926». وكانت البرتغال أول دولة أوربية أفادت من هذا الاتجاه الجديد. وفي 13 سبتمبر 1500 ظهر بيدور الفاريز كابرال مع أسطوله في كاليكوت، فقد أبحر من ليشبونه في 9 مارس 1500 على أثر عودة فاسكو داجاما من الهند فأتيح لكابرال أن يكشف البرازيل وزانزيبار في طريقه إلى كاليكات. ولما لم يستطع أن ينشيء مستعمرة هناك، بحث عن مرسى أفضل من كاليكوت، وقد وجد ضالته في «كوشين» بعد أن أصبح راجاها الهندوسي حليفا له لعداوته للزاموريين. وفي 1507 حصن البرتغاليون كوشين مستعمرين سوقطرة، فأصبحت سفن البرتغاليين تحمل تجارة الهند عن طريق رأس الرجا الصالح، مما كان من أثره أن فقدت مصر والبلاد العربية وبلاد الشرق الأوسط هذا المورد العظيم بمرور تجارة الهند مع أوربا في جدة واليمن عن طريق البحر الأحمر وبلاد العرب، فقد كان لسلطان المماليك في مصر ثلث الربح في كل رحلة عدا 20 في المائة من قيمة الصادر والوارد. هذا إلى أن السفن البرتغالية كانت تتعمد إغراق سفن المسلمين في هذا البحر مبيدة الحجاج والنساء والأطفال، وكان من أثر هذا أن تحالف سلطان مصر المملوكي ومحمد الأول سلطان الجوجيرات والزامورين الهندوسي في كاليكوت، فهاجمت أساطيلهم المتحدة بقيادة الأمير حسين الحاكم الكردي في جدا قافلة بحرية برتغالية في مرسى شول في يناير 1508 ودمرتها. غير أنه في فبراير 1509 استعان الوالي فرنسيسكو دا الميدا بأسطوله كله مدمرا أسطول المسلمين في ديو، فانتقلت السيادة البحرية في البحر العربي إلى البرتغاليين الذين لم يحاولوا، مع هذا، أن يقيموا إمبراطورية في الهند قانعين بإنشاء سلسلة من المراكز الساحلية المحصنة من رأس الرجا الصالح إلى الصين، محتكرين الملاحة في هذا الخط فلا تستطيع سفينة أن تمر فيه من غير جواز منهم. وقد دامت هذه السيادة البحرية البرتغالية نحو قرن. وفي نوفمبر 1510 أقاموا في جوا فكانت أول أرض حكمها أوربي منذ فتوح الإسكندر. وقد لبثوا فيها منذ يومئذ، وقد عين ألفونسو دي الباكيرك واليا فيها في 1509، وقد عين هو البرتغاليين في مناصب هذه المستعمرة يعاونهم في الأعمال الكتابية بعض الهندوس. أما المسلمون فقد كان البرتغاليون يضطهدونهم بعد أن طردوهم من المناصب، وقد نظم البرتغاليون جيشا من الهندوس تحت إمرة ضباط هندوسيين حاربوا المسلمين في رابيول والهندوس في كاليكات، وقد عمد «الباكيرك» إلى إلغاء عادة «الساتي»؛ أي أن تنتحر الزوجة عند وفاة زوجها. كذلك قررت هذا الإلغاء ممالك هندية أخرى بين الفينة والفينة. وفي 1829 قضت شركة الهند الشرقية «بأن الساتي» عمل غير مشروع.
على أن الوالي قد اتخذ سياسة كان من عاقبتها أن سقطت قوة البرتغاليين في الهند، وذلك منذ عمد إلى تشجيع الزواج المختلط كوسيلة لتخفيف العبء عن السفن البرتغالية، وقد قافت شركة الهند الشرقية الإنجليزية قفو هذه السياسة «راجع خطاب سورات من الحاكم والمديريين في لندن في 14 يوليو 1686 في وثائق وزارة الهند»، فقد كان أبناء الزواج المختلط يرسلون غالبا إلى إنجلترا، ثم يعودون بعد إتمام دراستهم لتولي المناصب في الهند. وقد مات البا كيرك في 1514 في جوا قبل أن يغادرها إجابة لطلب حكومته، وقد كان بعيد النظر؛ إذ عرف أن مفاتيح الطريق إلى الهند هي مالقا، وأرموز، وعدن، وقد استطاع أن يحتل الأوليين وعجز عن الثالثة. وكان خلفاؤه من الولاة ضعافا وكان مرءوسوهم يشتغلون بالتجارة مفسدين الأداة الحكومية، مما أفضى إلى سقوط البرتغاليين في الهند. وفي 1540 أمر ملك البرتغال بهدم جميع المعابد الهندوسية في جزيرة جوا «راجع ص17 و18 الجزء الرابع، الفصل الأول، بقلم سير أ. وينسون روس في كتاب تاريخ الهند، طبعة كامبردج». ومما عجل بسقوط البرتغال هناك اتحادها مع أسبانيا بعد معركة القنطرة في 1580، مع أن التجار البرتغاليين قد ظلوا ينهضون بتجارة الشرق. كما أن السفن البرتغالية كانت تتولى نقلها. كذلك كان في مقدمة الأسباب التي قضت على سيطرة البرتغال على تجارة الهند، هو فقدانهم السيادة على التجارة الشرقية، وقد عجل بفقدانها كارثة الأرمادا، التي اشترك فيها الأسطول البرتغالي مع الأسطول الأسباني كجزء منه.
وكان يصحب البرتغاليين بعض رجال الدين الكاثوليك، ذلك أن أفونسو دا سوسا قد أحضر إلى جوا في 1542 «فرنسيس السافييرا» الجيزويتي المبشر القديس، فأمضى عشر سنوات مخلصا مضحيا في مهمة التبشير في الهند والشرق الأقصى، وقد مات عند الساحل الصيني في 1552 ودفن في جوا في مدفن فخم، ومنذ يومئذ أصبح رفاته المدفون محترما مقدسا معبودا في أوقات معينة يزوره خمار الناس من الهندوس والمسيحيين على السواء طلبا للبركة. كذلك حضر في العهد ذاته لويس فار دي كامويس مؤلف «اللوزياد» وكان مثل فاسكو داجاما قد نفي إلى الهند كجندي بسيط لجرحه أحد ضباط البلاط، وقد قام بمهمة خطيرة الشأن في فتح جزر الأجادا. وفي منتصف القرن السادس عشر امتدت ولاية الحاكم البرتغالي في الهند إلى موزامبيق، وأرموز، وموسكات، وسيلان، ومالاقا، وكان لكل منها حاكم ثانوي. أما الحاكم العام فقد كانت جوا مركزا له، وكانت سلطته تشمل الشئون المدنية والعسكرية والبحرية والإدارية، يعاونه مجلس دولة، ومجلس الثلاثة مستعمرات أو أملاك، وبعد وفاة ملك البرتغال جون الثالث في 1557، أخذت قوة البرتغاليين في أوربا والشرق في الضعف، على أن دوم لويزدي ستان قد استطاع أن يسترد مكانتهم في الهند في خلال ولايته منذ 1568 إلى 1571، فقد كان قائدا ماهرا وشجاعا ومخلصا لواجبه، مما كان من أثره أن وسعه سحق القوات المتحالفة المؤلفة من ممالك أحمد ناجار وبيجابور وزامورين الكاليكوت، غير أن فناء مملكة الفيجا باناجار في 1565 وما ترتب عليه من زوال تجارة كانت منتعشة، جاء صدمة نهائية لرفاهية جوا. وبعد 1573 جرت بين الحاكم العام البرتغالي وبين الإمبراطور «أكبر » مفاوضات ودية.
الفصل السادس عشر
غزوات تيمور
لبثت الممالك القائمة في الهند على النحو الذي أوضحنا قبلا إلى أن تم اتصالها بسلالة بابور المعروفة باسم «أسرة تيمور» عدا مملكة دلهي، ذلك أنه بعد وفاة فيروز، انشق حكام الأقاليم عن طاعة مملكة دلهي وامتنع الهندوس عن تأدية الجزية إلى المسلمين أو قل: ثاروا عليهم، خاصة في 1394 في كويل وأتواه وكانوج. وقد استطاع الملك سارفر أن يعيد النظام، وأن يحتل جونيور، مناديا بنفسه ملكا للشرق. أما أحفاد سارفر وأصغر أبناء فيروز فقد تعاقبوا على العرش، وقد أصبحت المملكة بعدئذ عرضة للغزو. وإذا كان فيروز بجيشه اللجب قد استطاع أن يرد عن مملكته غزوة المغول في 1379، فإن بير محمد حفيد «تيمور» استطاع أن يعبر نهر الهندوس في آخر 1397. كذلك كانت مملكة دلهي يومئذ ضعيفة في عهد ملكها ناصر الدين محمود حفيد فيروز والمالو عمدة القصر، إذ كانت دلهي محصورة بين أسوارها قبل أربع سنوات من 1398 حين كان ابن عمه «المغتصب» نصرت شاه، الذي كان يومئذ لاجئا في الدوب، يتولى الحكم في فيروز آباد.
ترك تيمور سمرقند في أبريل 1398 على رأس قوة بلغت 90 ألف فارس ساريا من كابل في منتصف أغسطس عابرا الهندوس في أواخر سبتمبر. أما الحجة التي تذرع بها «تيمور» لهذا الغزو فهي أنه كان تركيا بارلاسيا ومسلما متحمسا لا يستسيغ ما يبديه الحكام المسلمون في الهند من ضروب التسامح نحو الهندوس، غير أن السير جورج دانبار في ص156 الجزء الأول من كتابه «تاريخ الهند» يقول: إن غزو تيمور للهند يرجع إلى شهوة السلب وضعف الحكام. وفي 7 ديسمبر عسكر جيش تيمور على مقربة من دلهي عند الحافة المشهورة المشرفة على دلهي، وقد ذبح «تيمور» 100 ألف هندوسي من أسرى الحرب الذكور. وفي 17 ديسمبر عبر تيمور نهر الجومنا، وتحت أسوار دلهي، التقى بالقوات التي استطاع محمود ومالك جمعها لكنها باءت بالهزيمة التامة، ودخل تيمور دلهي وأمضى فيها خمسة أيام ناهبا أموالها، ناقلا نفائسها، ذابحا سكانها عدا الحي الذي كان يسكنه كبار المسلمين. أما محمود فقد لجأ إلى ظفر خان ملك جوجيرات، وقد تابع تيمور هذا المسلك الفظيع في هاردوار وكانجرا وجامو، وقد وصف ه. أ. فيشار في كتابه «تاريخ أوربا، طبعة 1935»، «تيمور» بأنه الأعرج العجوز ذو الشعر الأبيض القادم من الشرق الأقصى، الأخصائي في الشطرنج والمثقف دينا، والفاتح الغازي، وأعظم رجل في العالم حذق فن الهدم، الذي سجل له في تاريخ الهمجية في العالم.
وبعد هذا عاد «تيمور» إلى وادي توكي، وفي 1401 عاد محمود شاه من مالوا إلى عرشه في دلهي التي عاشت شهرين لا يغرد فيها طائر، فأطلق عليها اسم مدينة الموت، وكان ماللو هو الحاكم الفعلي وقد قتل في نوفمبر 1405 في محاربته آخر خان، المعروف بلقب التشريف «السيد»، وهو الذي كان «تيمور» قد عينه واليا على البنجاب والسند الأعلى، وقد خلف ماللو هذا بعض الأشراف يتزعمهم دولة خان اللودي إلى أن مات الملك محمود في فبراير 1413، وتبعه إلى الآخرة دولة خان في آخر 1414، وفي الوقت ذاته كان «خسر خان» قد احتل عاصمة الدوب، وقد دام حكمه وحكم من خلفوه 30 سنة وكانوا الحكام الفعليين باسم ولاة تيمور الذي كانت سلطته في مملكة الدوب اسمية، وبعد وفاة خسر وابنه مبارك شاه، جاء ملوك ضعاف نزل آخرهم علم شاه عن العرش إلى بهلول في 1451. هذا وقد كانت أسرة اللودي خالجية تركية الأصل أقامت في أفغانستان. أما بهلول فقد قدم من أفغانستان إلى القصر الملكي في دلهي، مؤسسا أسرة مالكة أفغانية. وفي آخر عهد حكم «السادة»؛ أي خسر خان وخلفائه، كان بهلول هو المسيطر على الموقف في دلهي، وبعد أن جلس على العرش نهض بحملات، كانت ثمرتها بعد ربع قرن هزيمة حسين ملك جونيور في 1479. ويقول كتاب تاريخ الهند، طبعة كمبردج ص259 الجزء الثالث: إنه قد تولى الملك في جابور أسرة شرقية، يبدو أنها من أصل زنجي ظهر أول ملوكها خواجه جاهان في 1394 الذي كان وزيرا لناصر الدين محمد ملك دلهي، هذا وقد امتازت أسرة جاهان المتبناة التي خلفه أفرادها على العرش، بالحملات لتوسيع المملكة وبإنشاء المساجد الكبيرة، التي جاءت آية في الفن. وقد خضع له راجا دهولبور والحاكم المسلم في باري وراجا جو، ولما مات بهلول في يوليو 1489، خلفه ابنه إسكندر شاه، وكان قديرا ومديرا عادلا ومتسامحا مع العصاة الذين كان منهم أخوه الأكبر باربك، ثم اضطر إلى ضم جوليور إلى دلهي. وقد امتدت مملكته إلى البنجاب، والدوب، والجونيور، وأودة، وبيهار، وما بين سوتلج والبندلكهاند، وكان موظفو بهلول وإسكندر من أقاربهم وعشيرتهم الأفغانيين، الذين كانوا ضيقي الصدر متغطرسين، وبعد وفاة إسكندر في نوفمبر 1517، خلفه ابنه الأكبر إبراهيم الذي استولى على جوالبور، قامعا الثورة التي قامت ضده. ثم إن دولة خان اللودي الحاكم القوي في لاهور قد دعا بابور ملك كابل إلى تأليف الإمبراطورية المغولية في الهند.
الفصل السابع عشر
الهند المغولية
حين غزا المغول الهند كانت منقسمة ممالك ودويلات متدابرة، فقد سقطت الإمبراطورية الخالجية في عهد محمد تقلق وانقسمت دويلات، وكانت سلطنة الأفغان في دلهي تكاد تكون محصورة في أسوار المدينة، وكان الملك الهندوسي فيجاياناجار سيدا عند نهر الكستنا ومهددا جيرانه في الدكن؛ أي أن كل شيء كان مهيئا تقريبا لدخول غازجور كبابور، وكانت الديانة الهندوسية لا تزال تتسع لقبول آلهة جديدة، ومتأهبة لتلقي أشكال جديدة في العبادة والطقوس تبعا لتغير الظروف، ومن ذلك عقيدة البهاكتي التي ظهرت في الهندوسية قبل أن يظهر بابور بقرن واحد (راجع سيرس. رادها كريشنان الأستاذ في جامعة كالكاتا في محاضرات أينون، طبعة أكسفورد 1926، والنظرة الهندوسية في الحياة ص46 طبعة لندن، وص2 من كتاب حكم ماجهال في الهند، تأليف إدواردس وجاريت).
فقد وصفت الهندوسية في هذه المراجع بأنها حركة؛ أي أنها ليست بالمركز الثابت، وأنها شيء يعمل، وليست نتيجة، وإن لبثت آراؤها الأساسية غير متبدلة منذ عهد الفيدا فقد كان من أثر الاحتكاك بالدرافيديين المتحضرين في الجنوب ما جعل الفيدا ديانة متعددة الآلهة، كذلك كان الإسلام وكان اتصال الهندوس بالمسيحية والآراء الأوربية العصرية من بواعث صبغ الديانة الهندوسية بصبغات وأشكال جديدة، وضحت في القرون الأخيرة إلى القرن العشرين.
بابور
ولد ظاهر الدين محمد الملقب ببابور (النمر) في 14 فبراير 1483 في فيرجهانا في دار إمارة والده في وادي جاكسارتس المعروف الآن باسم «خوقند» وهو يمثل العنصرين التركي والمغولي من شعوب التتر، وبين أسلافه فاتحان عظيمان؛ أحدهما «تيمور» من ناحية والده، وثانيهما «جنكيزخان» في أسرة والدته.
وحين كان بابور في الثانية عشرة، خلف والده وطرد من فيرجهانا مخفقا في العودة إليها. وفي 1504 حين بلغ الواحدة والعشرين استولى على كابل مناديا بنفسه ملكا عليها، وبعد أن مضى على هذا خمس عشرة سنة ظهر في الهند إلى أن وصل إلى نهر جهيلوم، معاملا سكانها وهم رعاياه معاملة جده تيمور لها، مفترقا عنه في تحريم سوء المعاملة ومنع الجنود من السلب. ويؤخذ من الجزء الثاني «من مذكرات بابور» التي كان يدونها بنفسه يوميا في 1519 بالتركية التي ترجمها إلى الإنجليزية ليدين وأرسكين،. أن بابور يذهب إلى أن سكان الهند وخاصة الأفغان حمقى، فاقدي الشعور، قليلي التفكير، قصيري النظر، ليس في مكنتهم أن يثابروا على القتال، ولا أن يدوم الإخاء والصداقة بينهم.
وفي 17 نوفمبر 1525، زحف بابور على طريق جلال اباد إلى الهند حين هزم السلطان اللودي ملك دلهي دولت خان، حاكمه الخائن في لاهور، وهو الذي أبدى الخضوع إلى بابور، الذي واصل الزحف إلى سهل بانيبات، التي دارت فيها معركة واجه خلالها جيش بابور البالغ عشرة آلاف، مائة ألف جندي أفغاني و100 فيل، غير أن قوة جيش المغول في المدفعية سدت نقص عددهم، وقد ورد في الجزء الثاني من ترجمة مذكرات بابور ص181-188 عن هذه المعركة أن السلطان إبراهيم كان صغير السن قليل التجربة، متراخيا في جميع حركاته، فكان يسير في غير نظام، ينسحب أو يقف من غير خطة مرسومة، ماضيا في المعركة في قصر نظر. أما بابور فكان يمضي في القتال وفقا لأساليب العثمانيين الأتراك الذين كانوا يومئذ أقدر قوة عسكرية تقوم على إعداد الخطة قبل القتال بوقت كاف، والثبات في المواقف مع مرونة التحركات. وقد بدأت المعركة في فجر 21 أبريل بهجوم شنه السلطان إبراهيم الذي قوبل بطلقات البنادق ونيران المدفعية وتصويب السهام، وعند الظهر كان جيش إبراهيم قد هزم هزيمة تامة فتعقبت فرسان بابور فلوله، واستولى بابور على دلهي وأجرا التي اتخذها عاصمته الجديدة قامعا فتنة بدت في جيشه الذي أراد أفراده العودة إلى وطنهم، مقنعا الحكام الأفغانيين بالخضوع له وديا.
وفي 16 مارس 1527 هزم الجيش العظيم الذي ألفه اتحاد راجات شمالي الهند بقيادة رانا سانجراما سنج ملك ميوار مستوليا على قلعة شانداري، ومن ثم استطاع بابور أن يؤسس إمبراطورية امتدت من الأكسوس إلى حدود البنغال، ومن سفح الهيمالايا إلى جوليور، ثم مات في 24 ديسمبر 1930 قبل أن يتم السابعة والأربعين ودفن في حديقته في كابول. وقد امتاز بالشجاعة والقيادة اليقظة وبقوة الشخصية وبمرحه في ساعات الخطر وامتلاكه زمام أعصابه وجيشه حيال الكوارث، كان جيشه صغيرا ولكنه كان يغلب ما يفوقه عشرة أمثال. وكان بابور إلى هذا يقرض الشعر الرفيع بالفارسية، مالكا ناصية لغته التركية، موسيقيا بارعا يسعه أن يضم تحت كل ذراع من ذراعيه رجلا ثم يتسلق حاجزا من حد إلى آخر، وكان صيادا وماهرا في استعمال السيف والرمح، لم يكن قاسيا بالنسبة إلى عهده. وكان مستمسكا بتعاليم الدين الإسلامي حريصا على تأدية فريضة الصلاة وعلى انتشار الإسلام وخذلان الهندوسية، يعفو عن المسيئين والخائنين المرة بعد المرة، وكان شكله جذابا لطيف المحيا مفتر الثغر طبيعيا لا تكلف فيه مهذبا حلو الحديث، وكانت علاقات بابور وخلفائه ودية مع الأسر المالكة الإسلامية في إيران وتركيا، وحكمهم لمصلحة الهند كلها مسلميها وهندوسيها مطبوعا بطابع السلطة الزمنية.
بعد بابور
خلف بابور أربعة أولاد أكبرهم كاماران حاكم بابل وقندهار، أما ثانيهم همايون فقد أوصى والده بأن يكون إمبراطورا للفتوح المغولية في الهند العليا وسهول الجنج، وقد واجه همايون متاعب كثيرة منها اضطراره إلى النزول لأخيه الأكبر عن البنجاب يتولى حكمها، فخسرت الإمبراطورية بهذا رجالا وأموالا. ولم تكن البنجال قد فتحت. وكان بهادار شاه الأفغاني ملك جوجيرات وملوا معاديا لهمايون وكذلك إخوته والبرتغاليون أصحاب السيادة في الساحل الغربي، غير أنه مع هذا كله كان همايون موفقا في بداية عهده، فقد طرد محمد لودي من جونيور، وانتهى عهد أسرة اللودي كأسرة حاكمة، وهزم بهادار شاه في موقعة ماندسور في 1535 واحتل همايون ماندو عاصمة ملوا، وكذلك تمم الاستيلاء على حصن شامبانار العظيم بتسلقه، فضمت جوجيرات إلى الإمبراطورية المغولية.
غير أن أحداثا عظيمة أضعفت همايون جيشا وإمبراطورية؛ من هذا ثورة أصغر إخوته «عسكري» عليه وتجمع قوة بهادار، وهجوم جيش مشير خان سار الحاكم الأفغاني في بيهار، وبعد أن استطاع همايون غزو البنغال في 1538 واسترداد إقليم جور من شيرخان، واجه فتنة أثارها ميزار هيندال أحد إخوة همايون مناديا بنفسه إمبراطورا.
وقد قمع كامران حركته. وقد اضطر همايون أن يعقد الصلح مع شيرخان على أن يكون لشير البنغال وبيهار مقابل دفعه الجزية إلى همايون الذي هوجم في يونيه 1539 في شوزا فهرب إلى أجرا، وهنا نادى شيرخان بنفسه إمبراطورا متحالفا مع جوجيرات وملوا. وقد هزم همايون في محاولته الأخيرة لاسترداد ما فقد في مايو 1540 على مقربة من كانوج، وقد لبث همايون 15 سنة بعدئذ ثم هرب من السند إلى ميروار ومن هذه إلى إيران إلى أن استقر في أفغانستان. وقد دامت إمبراطورية شيرشاه من 1545 إلى 1554 مخضعا البنجاب مسيطرا على البنغال معينا الغازي فازيلات حاكما عليها بدلا من خسرخان الذي فشل في إعلان استقلاله. وغزا شير ملوا في 1542 وقد مات في 12 مايو عام 1543. وقد كان جنديا قديرا وسياسيا مصلحا ومدبرا منظما، وجعل المملكة 47 وحدة وبدأ مسح جميع الأرض وتنظيم الطرق على طول ألفي ميل من البنغال إلى الأندوس مقيما استراحة عند كل ميل ونصف، حافرا آبارا للشرب متتابعة ومنظما خطوطا من أشجار الفاكهة ومحاطا للبريد الحكومي المنقول على ظهور الجياد ولخدمة التجار وغيرهم، وكذلك الحال في الطريق بين أجزاء العاصمة وماندا. كذلك بنى شير شاه عددا من المساجد ونظم العملة جاعلا الروبية 178 حبة، وقد بقيت على هذا بعد عهده إلى أن أصبحت 180 حبة في العهد البريطاني ضابطا الأمن مصلحا نظام القضاء. (راجع الجزء الأول ص399 من كتاب «أكبر نامه» تأليف أبي الفضل، وص103 من كتاب صنع الهند، وفريشنا ص125 الجزء الثاني»).
هذا وبينما ينعي أبو الفضل المؤرخ المعاصر لشير شاه عليه لؤم الطمع والطغيان، فإن المؤرخ فريشنا يقول: إن والد شير كان رجلا عاديا دمث الخلق، ترك ابنه فريد الذي صار اسمه شير شاه بعدئذ، يربي نفسه متثقفا في التاريخ والشعر حافظا شعر سعدى محبا للفقراء، وكان حكيما وحاكما عادلا صافحا عن أعدائه عاطفا عليهم.
وقد خلفه ابنه الثاني أسلوم «أو سليم» شاه، الذي كان ضعيفا لا يوثق به، ولما مات في 1590 خلفه ابنه فيروز وكان صغيرا قتله ابن عمه «مبارز خان» بعد ثلاثة أيام من ولايته العرش، ثم خلفه عليه باسم «محمد عادل شاه» وكان أميا متلافا شأن أشراف أفغانستان اتخذ الهندوسي هيمو وزيرا له. ولما فسدت أداة الحكم عمت الفوضى، مما كان من أثره أن فر عادل ووزيره إلى شونار، وخلفه سكندر شاه حفيد شير شاه بعد حرب داخلية، وهنا استطاع همايون أن يسترد إمبراطوريته الضائعة بمساعدة بيرم خان «التركماني». فجاء همايون من منفاه عند الراجا أو ماركوت. وفي فبراير 1542 ولدت زوجة همايون الملكة حميدة يانو ابنها أكبر، وفي 1544 قدم شاه إيران إلى الإمبراطور المنفي جيشا لغزو أفغانستان التي كان على عرشها قمران الخائن المغتصب، فاحتل همايون قندهار وكابل التي التقى فيها بزوجته حميدة وابنه الذي كان أخذه أخوه قمرون، وقد نفى همايون أخويه قمرون وعسكري إلى مكة بعد أن فقأ عيني الأول.
وفي 1554 دخل همايون الهند مستوليا على سيرهند ولاهور والبنجاب هازما جيش أمير خان وتتر خان. وفي 18 يونيه 1555 قضى على الجيش الأفغاني في ماكشيواري ودخل دلهي إمبراطورا عليها وكان معينا ابنه أكبر حاكما اسميا على البنجاب وبيرم مستشارا له، ثم تابع القتال مع سكندر، على أن همايون مات في يناير عام 1556 في الواحدة والخمسين على أثر سقوطه على درج سلم قصر شير مندل، ويقال إن نعيه قد أخفي بضعة أيام قبل إعلانه، ويبدو أن هذا الإخفاء قد حدث عند وفاة بابور.
الملك العظيم «أكبر»
نادى بيرم خان بأن أكبر الذي كان في الرابعة عشرة وثلاثة شهور في كالامور في الحملة ضد سكندر، إمبراطورا في دلهي منذ 14 أو15 فبراير 1556. وقد واجه الإمبراطور الجديد مشكلات ومتاعب جمة، فقد كان سكندر في البنجاب يتوثب لاسترداد عرشه، وكذلك كان محمد عادل شاه في شونار مع وزيره الهندوسي هيمو، كما كان نائب الإمبراطور في الأفغانستان أخوه الصغير حكيم ميرزا يتأهب للانقضاض عليه.
وقد وسع هيمو أن يستولي على أجرا ثم على دلهي التي كان تاردي بيك خان متراخيا في الدفاع عنها، ولما اغتر هيمو بظفره طمح إلى الاستقلال بأن ينادى به كمهراجا فيكراماديتيا ومعه 200 ألف جندي مقابل عشرين ألفا مع أكبر. غير أنه في 5 نوفمبر 1556 انطلق سهم من المغوليين أصاب هيمو في عينيه فترنح ساقطا فاقد الوعي بعض الوقت، وقبض عليه ثم قتل وتفرق جيشه هلعا، ودخل أكبر دلهي واستولى على أسلاب العدو، ثم على مانكوت في البنجاب في يوليو 1557 بعد حصارها ستة أشهر وفر سكندر إلى البنجال ومات بعد سنتين، أما إبراهيم سور فقد لجأ إلى راجاجا جاناث، وأما عادل فقد قتل في البنغال.
منح أكبر وصيه ووزيره الفارسي الشيعي وقائده ومستشاره الأول «بيرم خان»، لقب «خان الخانات»؛ أي شريف الأشراف، وهو لقب يجعل مرتبته تالية لمرتبة الأمراء الصميميين، ثم اقترن بابنة أخت الإمبراطور سليمة بنت سلطان بجام الذي كان أقوى رجل في المملكة وجعل القصر الملكي في أجرا. ولئن كان بيرم قد وفق في مهمته الإدارية كمدير لشئون المملكة فإنه لم يوفق في مهمته كمرب للإمبراطور القاصر فزادت الإمبراطورية سعة بين عامي 1558 و1560 عدا الإخفاق في مكافحة راجبوتية رانثاميهور. أما احتلال جوليور فقد قوي مركز الإمبراطورية في الهند وكذلك تم الاستيلاء على أجمير وضم إقليم جونيور؛ أي أن إمبراطورية جابور قد تمت استعادتها. غير أن أكبر قد آثر الألعاب الرياضية وترويض الوحوش والرماية والبولو على التعليم وعلى تعلم الأحرف الهجائية. غير أنه كان يحسن الاستماع إلى ما يلقى عليه وتستوعبه ذاكرته، معني بالشعر والفن والميكانيكا خاصة شعر الصوفيين وحفظ كثيرا من شعر حافظ وجلال الدين الرومي. هذا إلى وقوف على تاريخ الإسلام وآداب الهندوسية والجينزية والزواسترامانية وامتزاج بالروح الهندية. وقد بلغ من حرصه على دراسة الأديان أنه دعا بعثات جيزويتية تبشيرية لهذا الغرض، مما أثار سخط المسلمين وكاد يؤدي إلى اغتيال حياته.
وقد استعان بميرسيد علي وعبدوس صمد من كابل لإنشاء مدرسة للفنون الهندية الفارسية والموسيقى والطرب، فكان راعيا للمطرب تانسين من جواليور وكان محتفظا بسبعة أجهزة من الأوركسترا، وكان من هوايته ابتكار قذائف للمدفع تنطلق من 17 مدفعا بطلقة واحدة وأطقم للفيلة وعربات للسفر.
وقد أفضى نفوذ الوزير بيرم خان الشيعي إلى حقد السنيين وهم كثرة مسلمي الهند خاصة حين قتل تاردي يح قائد حامية دلهي لتراخيه في الدفاع عنها. هذا إلى أنه حين بلغ أكبر الثمانية عشر أعلن أن وصاية بيرم قد انتهت وأن الإمبراطور سينهض بأعباء الحكم وأن على بيرم أن يذهب إلى مكة لتأدية فريضة الحج، فغضب وثار على إمبراطوره، غير أنه فشل وأسر، ثم عفي عنه ومضى إلى جوجيرات فقتله أفغاني في پاتان، وهنا دخل عبد الرحيم القاصر بن بيرم في رعاية أكبر الذي تعهده إلى أن خلف والده في منصب خان الخانات. وفي أثناء هذا كان نفوذ حماة الإمبراطور «مهام أناجة» قد ازداد في القصر وحاشيته، فقدمت أدهم خان وبير محمد خان للنهوض بأعباء الإدارة والجندية وتوسيع الإمبراطورية لتضم مالوا في 1560 واحتفظ القائد أدهم خان لنفسه فيها بحكمها وأسلابها سابيا نساءها، غير أن أكبر أسرع إلى معسكر أدهم الذي سلم له كل شيء.
وكذلك أسرع إلى علي قالي خان أزبك حاكم جونيور، الذي أبدى خضوعه.
وكان بير محمد ظالما قاسيا لصا، وقد لقي جزاءه حين كان يعبر ناربادا فغرق فيه.
أما الإمبراطور أكبر فقد كان قد بلغ سن الرجولة وكان يتخفى ليلا ليقف على شئون رعاياه، وفي 1562 اقترن بابنة راجبوت جايبور وأصبح منذ يومئذ محبا لرعاياه الهندوس، وقد جعل راجابيهاري مال وولده من أشراف الحاشية الملكية وكان شيئا جديدا في تقاليد المسلمين في الهند مع إبقائه الراجات في امتيازاتهم وفتح الباب أمام الهندوس للمناصب العسكرية والمدنية. ثم عين محمد خان اتكا وزيرا له على غير رأي أمه بالرضاعة ماهام أناجا، وفي مايو 1562 فشل أدهم خان في استعادة نفوذ الأسرة في دفة الحكم، بعد أن اقتحم القصر الملكي وقتل الوزير اتكا حين كان يؤدي فريضة الصلاة، غير أن أكبر قد عاجل أدهم بضربة يده فسقط وماتت أناجا غما وكمدا بعدئذ وقد دفنهما أكبر في مقبرة فخمة على مقربة من قطب مينار.
ومن الإصلاحات التي أدخلها أكبر بعد سنتين من هذا الحادث إلغاء الضرائب المفروضة على الحجاج والجزية المفروضة على الهندوس وجعل خواجة مالك اعتماد خان مشرفا على الإيرادات؛ أي وزيرا للمالية ثم خلفه راجا تودار مال.
ويقول تقرير لجنة نظام الهند في الجزء الأول ص338: إن النظام الذي وضعه اعتماد خان لإيرادات الأراضي طبقا لسياسة شير شاه هو أساس الطرق العلمية الحديثة في هذا الشأن.
وكان أكبر يعمد إلى الحرب الهجومية تحقيقا لفكرة توسيع الإمبراطورية، وكانت حروبه الدفاعية قليلة، وكان يجري في الشئون الداخلية على قاعدة العدل والمساواة والمرونة والتسامح.
وفي عام 1563 استولى جيش أكبر بقيادة أصفر خان على جوندوانا كان يحكمها سان دور جافاتي الذي مات وأخذت عاصمته سورا جاره.
وقد ثار حزب من الأشراف بقيادة زمان علي كولي خان أزبك حاكم جونيور على أكبر لخلعه والمناداة بابن أخيه ميراز أبو القاسم ابن قمران إمبراطورا، ولكن أكبر هزم الثوار في يونيه 1657 في معركة مانيكبور وقتل على كولي خان وهزم الأشراف وثورة أزبك، كذلك وسع محمد حكيم ميرزا أخا أكبر، أن يستعيد كابول التي كان سليمان حاكم بادكشان قد استولى عليها، ثم استولى أكبر على مملكة ميواز وشيتور بعد أن فر رانا أودي سنج الراجبوت، وفي 1567 حاصر حاميتها جيش بقيادة جمال، وسلمت بعد أن أبدى الفتح سنج من كيلوا وكان في السادسة عشرة شجاعة نادرة وبعد أن قتل القائد جمال، وقتل أكبر 30 ألفا من الحامية المدافعة عن شيتور، وبعد هذا في 1569 سلم رانثامبور التي كان عليها الراو سوجان الهارا رئيس البوندي الوالي من قبل أراء ميوار ثم منطقة كالانجار، غير أن رانا بارتاب الذي خلف أوداي سنج لم يذعن لأكبر.
وفي 1572 أخضع أكبر الجوجيرات في أحمد اباد التي كان يحكمها يومئذ مظفر شاه ثم هزم أكبر ابن عمه إبراهيم حسين ميرزا في سارنال في ديسمبر 1572. وفي فبراير 1573 سلمت سورات التي قاتل فيها أكبر للمرة الأولى أناسا من الأوربيين، إذ كان البرتغاليون يؤلفون هناك قوة صغيرة كانت قد جاءت لمعاونة المدافعين عن ميناء سورات، غير أنها بدلا من القتال سرعان ما عقدت مع الإمبراطور معاهدة تعهد فيها البرتغاليون أن ييسروا الحج إلى مكة. وفي 1573 تمت هزيمة إبراهيم حسين.
أما جوجيرات فقد لبثت نحو قرنين خاضعة لسيادة المغول وكانت مع ثغر سورات من أسباب دعم الإمبراطورية المغولية. وفي يوليو عام 1576 قتل ملك البنغال داود بن سليمان، الذي كان مستقلا بالفعل تحت السيادة الرسمية للمغول، وكان من أثر قتله في حربه ضد المغول أن أصبحت البنغال جزءا من إمبراطوريتهم، التي بلغت حدودها في غضون عشرين عاما من كاتش إلى ساندرباندس.
أما كشمير فقد أصبحت إسلامية منذ استطاع رئيس الوزارة ميرزا شاه من سوات أن يؤسس في النصف الأول من القرن الرابع عشر أسرة مالكة إسلامية بعد انقراضها، شاعت في كشمير الفوضى إلى أن أخضعها أكبر في 1591.
وفي 1590 ضمت إلى الإمبراطورية المغولية أوريسا، وفي 1592 السند، وفي 1594 قندهار بعد أن تم ضم بلوخستان والميكران، وفي 1596 سلمت بيرات بعد أن هاجم أحمد ناجار جيش ابن أكبر الأمير مراد الذي مات في مايو 1599 وعبد الرحيم جان الخانان. وفي 1600 استولى الإمبراطور على أحمد ناجار، وفي 1601 على أسيرجار، وفي أثناء هذا ثار سليم ابن الإمبراطور ونادى بنفسه إمبراطورا في الله اباد ثم عفا عنه والده خاصة بعد وفاة الأمير دنيال ابن الإمبراطور في 1604، وكان استيلاؤه على الجزء الشمالي من الدكن آخر حملاته العسكرية.
ولعل من أكبر ما واجهه أكبر من المتاعب التي كادت تودي بعرشه ما أحاط بعقيدته الإسلامية من الريب؛ إذ كان يستمع للأديان الأخرى وكان يبني دار عبادة خانه التي دعا إليها علماء السنيين والشيعة والحنفية والشريفية خاصة بين عامي 1575 و1576؛ وحين دعا إليه بعثة الجيزويت التبشيرية ووصلت إلى فاثبور سكرى في آخر فبراير 1580، وقبل هذا في 1578 زاره الأب بيريرا؛ أي أن أكبر كان يصغي إلى التعاليم المسيحية ويحمي مبشريها. ثم إن الشيخ مبارك رجل أكبر الديني، قد نادى في دار «عبادة خان» أن للملك سلطته الزمنية، السلطة الروحية على رعاياه، وخرج الإمبراطور من بحوثه إلى «الدين الإلهي».
وعند بعض المؤرخين أن أكبر لم يخرج عن أصول الإسلام بل اختلف مع أئمته على التفصيلات وفي سبيل الإصلاح الديني، وعند آخرين منهم البدويني أنه ارتد عن الإسلام.
وقد لقب مفتي الإمبراطورية وخان بادخشان وممثلو المسلمين الأعلام أكبر بلقب «الإمام العادل» وأنه حيال اختلاف الأئمة والمذاهب والآراء الدينية، تكون كلمة الإمبراطور هي القول الفصل، كذلك كان يبدي من ضروب التسامح نحو المبشرين المسيحيين ونحو رعاياه الهندوس ويأخذ بعاداتهم التي لا تتعارض مع مبادئ الإنسانية وذلك بتحريم عادة الساتي إذا اقترنت باستعمال الإرغام. (راجع ص23-26 من «الجيزويت والمغول الأكبر» للسير إ. ماكلاحابه، والبدويني جزء 2 ص263 و279 و280 و284، ومقال الثقافة الإسلامية» للسيد أمير علي في مجلة الكوارتارلي ريفيو عدد أكتوبر 1927، وفي المجلة نفسها مقال عن «شخصية أكبر» بقلم ب. ك. مينون الكاتب الهندوسي، عدد يوليو 1927).
وممن ثاروا أو حاولوا الثورة على أكبر لنزعاته الدينية هذه، البنغال في 1580، والملا محمد يازدي، غازي جونيور، ومحمد حكيم في كابول. وقد قمع أكبر هذه الفتن وقتل أكثر العصاة بعد مقاومة دامت سنوات مصطحبا معه محمد قاسم خان مهندس حصن أجرا لإنشاء الطرق. وفي 1581 دخل كابل مرخصا لحكيم بأن يكون حاكما في أفغانستان إلى أن مات في 1585 وضمت إلى الإمبراطورية. وقتل أكبر وزير ماليته خواجه شاه منصور للخيانة العظمى. ويقول بعض المؤرخين: إنه كان ضحية تزوير ورقة عليه، وقد اتخذ أكبر الأوردية لغة لرعاياه المسلمين والهندوس.
وقد نادى أكبر بأنه خليفة الله أو ظله على الأرض، وأن الدعوة الإسلامية قد مضى عليها ألف سنة وانتهى أمرها، قائلا في مذهبه أو دينه الجديد إنه يوجد إله واحد وإن الشمس أو النجوم أو النار تجوز عبادتها كممثلة للإله. وكان أبو الفضل أحد أنصار «الدين الإلهي» الذي انتقده صراحة وعلنا القائد خان عزام ميرزا عزيز ابن مهام أناجا.
وفي 27 أكتوبر سنة 1605 مات الإمبراطور جلال الدين محمد أكبر بادشاه، وتم دفنه طبقا لطقوس السنيين على أثر انحطاط صحته في سبتمبر 1605 بداء الدسنطاريا في سن الرابعة والستين إلا أشهرا بعد أن حكم الهند نحو خمسين سنة.
وقد وصفه مونسيرات «ص197 و199 من تعليقاته» قائلا: من النظرة الأولى يدرك من يلقاه أنه أمام ملك، كان عريض المنكبين، مقوس الساقين بما يتفق وركوب الجياد، ذا بشرة سمراء، رأسه ينحدر إلى منكبه الأيمن، أما جبهته فعريضة طلقة، عيناه لامعتان بريقمها يبدو كتألق البحر في ضوء الشمس، أما أهداب عينيه فهي طويلة، وأما حاجبها فليس واضح البروز، أنفه صغير ومستقيم ولكنه يسترعي النظر، أما منخراه فواسعان يبدوان كالساحر، وبين المنخر الأسفل والشفة العليا شامة، حليق الذقن ذو شارب، يعرج بساقه اليسرى وإن كان لم يصب بداء، ليس بالبدين ولا بالنحيف، قوي شديد عنيد، إذا ضحك بدا وجهه كالمشوه، هادئ التعبير، صريح رصين في كرامة وترفع، فإذا غضب ألفيته مهيبا مخوفا.
وكان عظيما أمام العظماء، متواضعا أمام الضعفاء، وكان يتناول خمرا تسمى پوست وهي خليط من الأفيون المخفف والتوابل، ولم يكن يدخن، وبينما منح السيخ في 1577 أرضا عند أمريتسار لإقامة معبدهم عليها فإنه بعد بسنين حرم إنشاء المساجد بل ترميمها، وهو من أقدر الزعماء وأقوى ملوك الأرض.
نظام الحكم المغولي
كان أكبر محور الحكومة المركزية وكان مرجع الأمور العسكرية والإدارية والأحكام القضائية، كان إمبراطورا مطلقا. وفي عهد المغول كانت شخصية الإمبراطور هي كل شيء، فإن كان قائدا ماهرا وإداريا قديرا ومصلحا نافعا وعادلا منصفا؛ صلحت الرعية. أما إن كان على غير هذه الصفات؛ فسدت شئون الرعية وأداة الحكم وفشا الظلم والرشوة وقامت الفتن وعمت الفوضى كما كان الأمر في آخر عهد المغول. (راجع ص197 من التقرير الخامس للجنة المختارة في مجلس العموم كما أوردها سير جون شور «لورد تيجينموث» في 1790 ونشرت في تاريخ الإيراد القديم في بنغال. لاسكولي). •••
كانت إمبراطورية أكبر مقسمة 12 قسما أو «صوباح» 15 في بعض الأحيان، يحكمها حكام عسكريون باسم «صوبحادار» وكان كل إقليم مقسما إلى ساركار أو قسم، والقسم يقسم بارجانات «مراكز»، والمركز هو الوحدة الإدارية الأولية الصغيرة، والذي ينهض بأعباء المركز هو القومندان العسكري، ومحصل الضرائب. وكانت سلطة الأول تشابه حاكم الإقليم على أن ينهض إلى جانب تبعاته المدنية، برياسة المحكمة الجنائية، وكان للأقاليم الكبيرة إدارات يراقب بعضها البعض الآخر، فكانت سلطة الحاكم تتحدد أحيانا تحديدا يمنع سيطرتها مباشرة على قضاة المحاكم المدنية، وكان لرئيس الخزانة «الديوان» استقلال في مهمته، من شأنه أن يكون مسئولا أمام الخزانة الإمبراطورية «وزارة المالية» عن كل ما يتصل بالضرائب والإيرادت والرسوم الجمركية والمصروفات.
أما المواقع العسكرية المحصنة والثغور الإمبراطورية فقد كان ينهض بشئونها موظفون تتولى السلطة المركزية تعيينهم دون أن يكونوا خاضعين لأوامر حاكم الإقليم. وكان للإمبراطورية المغولية جيش خاضع لسلطة الإمبراطور وكافل الدفاع عن الحدود وقمع الثورات، غير أنه على أثر وفاة «أورا نجزيب» آخر أباطرة المغول العظام، طرد حكام الأقاليم الحاميات العسكرية وأصبحوا يستمتعون بسلطة غير محدودة لا يخشون شيئا سوى مجيء جيش من دالهي لرد الأمور إلى نصابها، الأمر الذي ما كان يحدث. (راجع ص15 و16 من كتاب الإدارة الهندية في فجر الحكومة المسئولة، تأليف الپروفسير ب. ك ثاكور، طبعة بومباي).
وفي عهد أكبر كانت جميع المناصب مفتوحة للهندوس، غير أنه في الواقع كان للهندوس 51 منصبا كبيرا من 415 أكثرهم من الراجبوت، وفي خلال أربعين عاما شغل براهميان منصبين كبيرين. كذلك كان عدد المناصب العسكرية والمدنية التي شغلها الهندوستانيون الذين دانوا للإسلام قليلا. أما كثرة الوظائف فكان يشغلها الإيرانيون والأفغانيون، وكان التعيين والترقية والعزل لا يجري وفاقا لقواعد مرسومة، بل كان أمرها تابعا لمشيئة الإمبراطور ذاته.
وكانت قوة الإمبراطورية برية، فلم يكن لها أسطول، وكانت الرشوة متفشية وكانت المرتبات لا تدفع بانتظام، وكان الإمبراطور يرث أملاك كبار الموظفين، ولم يكن هناك فصل بين السلطات ولا تخصيص للإدارات، بأن تكون هناك إدارة للزراعة وأخرى للتجارة وثالثة للتعليم.
ولعلنا في غنى عن القول بأن كثرة الشعب كانت فقيرة ومجهدة ومعرضة للمجاعات الناشئة من قلة الأمطار في بعض المواسم والأعوام، ولهذا كان يأكل الناس بعضهم بعضا، وكذلك كان يموت مئات الألوف جوعا ويباع الطفل بروبية واحدة. وكانت القلة تجني ثمار الطبقات الفقيرة العاملة، وأما المرافق العامة التي تؤديها الدولة كالطرق المعبدة والكباري والمستشفيات والخدمة الطبية والتعليم العام أو الكثير الصالح والبر بالفقراء، فتكاد تكون معدومة أو قليلة جدا. أما ثمرة الإحسان فكانت مقصورة على فئات معينة وبطريقة غير مطردة وتبعا للأهواء. أما الطبقة المتوسطة فكانت ضئيلة العدد والنفوذ، أما الطبقة العالية وهي تشمل طبقة الموظفين فكانت مستأثرة بالثروة والسيادة، مستمتعة بالملذات والدور والقصور، غير مترددة في اغتصاب عقارات صغار الملاك. وكانت الزراعة ولا تزال إلى اليوم المهنة الرئيسية التي تشغل 70 في المائة من السكان يعيشون في نصف مليون قرية متناثرة لا تزال على حالها منذ عهد المغول إلى اليوم عدا ما طرأ من تغيير ضئيل شامل حماية الملكية اليوم، أما مدن الهند فقليلة ويسكنها 11 في المائة من سكان الهند البالغ عددهم 388 مليونا، و800 ألف طبقا لإحصاء 1941.
هذا ويقول البروفسور ثاكور في كتابه عن «الإدارة الهندية إلى فجر الحكومة المسئولة»: إن أبناء القروي يكادون يعيشون كماشيته في حظيرتها وهو ينظر إليهم كما ينظر إليها، لا فرق بين الزرائب والعشش الطينية، وتختلف المزرعة الصغيرة بين الفدانين والنصف وبين الخمسة أفدنة حول القرية تقوم الأسرة على زراعتها وقلما تستأجر الآخرين لمساعدتها مستخدمة ثورين في فلاحتها على الطريقة العتيقة التي لم تعدل إلا في المزارع الكبيرة وعلى أيدي المتعلمين. وكان الملك يعين رئيس القرية «العمدة» ثم أصبح يتوارث الرياسة أبناؤه، يساعده أتباعه كالحاسب «الصراف» ويقوم بجميع الشئون المالية، والخفير «الشوكيدار» ويقوم بجميع أعمال البوليس، أما مناصبهما فوراثية في الأغلب.
ثم رجل الدين. وفي بعض القرى يوجد نجارون ونساجون وسقاءون وباعة البترول والزيت، هذا إلى تفشي الأمية وتفاهة النظرة إلى الحياة كما كانت من قبل، عدا الطبقات القليلة المستنيرة، وستظل الحياة القروية مقيدة بالطقوس الدينية والتقاليد والمواسم والحفلات المتوارثة والأمطار والمجاعات وأحوال الطقس القاسية والأسواق.
وفي السند كان أكبر يأخذ جزءا من المحصول مقابل الضريبة. أما في الجهات الأخرى فكانت هناك قواعد تنظم تقدير الضرائب وتحصيلها كأن تكون بقيمة ثلث متوسط المحصول في عشر سنوات، كذلك كانت هناك ضريبة كبيرة على الملح منذ عهد الموريين حين كانت الحكومة تحتكر الملح وتفرض عليه ضرائب ترانسيت وضريبة التوريد وكان احتكارا ملكيا في عهد أسرة جويتا. وكذلك كانت هناك ضريبة الترانسيت في عهد المغول كبيرة في البنغال وكانت تؤجر مقابل مبلغ سنوي.
فكرة توحيد الهند
هذا وترجع فكرة توحيد الهند وإقامة دولة تحكمها كوحدة إلى عهد بعيد، وقد وفق أكبر في تحقيق هذه الوحدة إلى حد كبير. «راجع ص433 الجزء الثاني من كتاب الأعمال السياسية والحربية في الهند، تأليف برينسيب طبعة أدنبره 1825، وص49 و50 من كتاب صنع الهند، تأليف يوسف علي».
وقد نشطت الحركة الأدبية والعلمية في الجزء الأول من عهد المغول خاصة في عهد أكبر، الذي ظهر فيه مثل الشاعر الشيخ أبو الفايز الفيظي الذي كان شعره عن أربعين سنة وكان جوادا معطاء؛ وكذلك راج الرسم والنقش الذي كان أكبر يقيم له المعارض الأسبوعية، ثم غلب على الفن الطابع الهندوسي منذ زاد عدد الفنيين الهندوس وفي مقدمتهم داسونث وبازاوان وكيسير وماسكين على الإيرانيين في القصر الإمبراطوري والنقوش محفوظة بخط اليد. (راجع من أجله كتاب «رسامي القصر عند المغولي الكبير أكبر» تأليف لورنس بنيون، طبعة جامعة أكسفورد 1921، وص222 من الجزء الأول من عين الأكبر، وتاريخ الفن الرفيع في الهند وسيلان، تأليف ف.أ. سميث بمراجعة ك دي ب كوردينجتون، طبعة أكسفورد 1930).
بعد أكبر
تولى الملك سليم وهو آخر من بقي من أبناء أكبر، وكان في السادسة والثلاثين باسم نور الدين محمد جهنجير پاد شاه غازي في 17 أكتوبر 1605؛ أي بعد مضي أسبوع على إقامة الحداد على وفاة أكبر. وقد استهل جهنجير عهده بإلغاء ضرائب الترانسيت والجمارك وبقمع ثورة ابنه خسرو، وفي 1611 تزوج جهنجير ميهير أنيسا أرملة أحد حكام الإقطاعيات في البنغال، وقد قتل بعد أربعة أعوام لخيانته، وقد أطلق على الزوجة اسم نورجهان؛ أي نور الدنيا التي طغى نفوذها وإرادتها على شخصيته، وكانت في الرابعة والثلاثين يومئذ ممتازة بالكرم والثقافة والذكاء والذوق السليم، وكانت تصحب زوجها في صيده وركوبه، وكان اسمها يوضع إلى جانب اسمه على النقود وتوقيعها على الأوامر والقوانين إلى توقيعه.
وقد قمع جهنجير الثورات التي قامت في التبت والدكن وانتصر في 1613 على البرتغاليين، على أن المنافسة بين ورثة العرش - خاصة بين خسرو الذي كان الأشراف يؤيدونه وبين خورام الذي كان يؤيده حزب الملكة - هددت حياة الإمبراطور بالاغتيال والإمبراطورية بالقلاقل، فلما مات خسرو خلفه قاتله خورام باسم شاه جيهان منذ 1621 حين كان جهانجير على فراش المرض ولم تعلن وفاة خسرو إلا في أوائل 1622. (راجع 318 تاريخ جهانجير وحكم المغول في الهند وتاريخ الهند، طبعة أكسفورد).
ثم استولى جهانجير على كانجرا الهندوسية بعد أن حاصرها 14 شهرا.
شاه جيهان
ولما خلف جهانجير ابنه شاه جيهان لم يستطع الاستقرار على العرش إلا بعد أن صفى الكثير من المتاعب التي واجهته خاصة من الطامعين في وراثة العرش، منهم شاهريار أخوه الأصغر الذي اقترن بابنة نور جيهان من زوجها الأول وقد فقئت عينه، وآصف خان شقيق نور جيهان، ولكي يمهد شاه جيهان للعرش، قتل أكثر أعضاء الأسرة المالكة، وفي فبراير 1628 وصل من الدكن وأعلن في أجرا نبأ اعتلائه العرش، وكان مخلصا لزوجته «ممتاز مهل» المعروفة باسم تاج بيبي.
ولما توفيت في 1631 حزن عليها الإمبراطور حزنا كان من أثره تخليده ذكرها بتمثال أقامه لها في أجرا، وعدم الاقتران بعدها إلى أن مات بعدها بخمس وثلاثين سنة أمضى منها حول الثلاثين سنة في العرش.
ولئن كانت الإمبراطورية قد اكتنفت حياتها في عهده القلاقل على الحدود والمنازعات الدينية، والأمراض المتفشية والمجاعات المتكررة غير أن الثروة التي خلفها أكبر تقدر بما لا يقل عن مائتي مليون جنيه وثروة اللآلئ والمجوهرات - قد زادها شاه جيهان من ذلك القصور والأضرحة والمنشآت والمساجد وتمثال الملكة وقد اشتغل فيه 20 ألف عامل مدة 23 سنة، وإقامة عرش الطاووس من الذهب الخالص المموه بالأحجار الكريمة. (راجع ص99 و360 و363 من كتاب حكم المغول في الهند)، ومن المساجد: المسجد الجامع في دلهي، وضريح جهانجير في شاه دارا، ومسجد اللؤلؤة، ومن الثورات التي قمعها شاه جيهان، ثورة البوندخاند وراجبوت البنديلا وراهي جوجهار سنج بن محظية جهانجير وبيرسنج وخان جاهان اللودي الأفغاني.
وقد وسع شاه جيهان أن يبسط سلطانه على قنديش وبيزار وسلينجانا ودولت اباد من بلاد الدكن، وأن يستولي على قندهار في 1638 على أنه قد فقدها في فبراير 1649، كما أنه قد حارب البرتغاليين في الهوجلي في 1632 وانتصر عليهم وأسر 400 من رجالهم، وهدم معابد الهندوس في بنارس، وقد استخدم للمرة الأولى مدافع الحصار وعين أورابحزيب حاكما على الدكن ثم على جوجيرات، ثم قائدا على جيشه إلى آسيا الوسطى فواليا على الدكن في 1652، وقد ساعده مرشد قولي خان من خراسان في تنظيم مالية ولايته وتشجيع زراعتها بالري والإقراض، ولما كان سلاطين الشيعة في الدكن مصدر القلق لولاية أورنجزيب، فقد هاجم بيجانور وجولكوندا، وكان حليفه محمد سعيد المعروف باسم ميرجوملا (راجع ص173 و216-242 من الجزء الأول من كتاب تاريخ أورنجزيب).
أورنجزيب
كان تتويج أورنجزيب في 1658 على عجل. أما الحفلة الرسمية لاعتلائه العرش فقد أقيمت بعد عام. ولما كانت المجاعة وضعف الرياح الموسمية قد أجدبت البلاد، فقد ألغى 8 ضرائب وإن كان حكام الأقاليم قد استمروا في تحصيلها ذلك لأن كبار الموظفين كانوا ينفقون على قصورهم وزوجاتهم ومظاهر حياتهم وهداياهم إلى الإمبراطور وحاشيته الكثير من المال فأصبحوا مدينين يتقاضون المال غصبا من الرعية. (راجع ص212 من «حكم المغول في الهند» و271 و272 من كتاب «من أكبر إلى أورانجزيب») على أن أورانجزيب لم يفتأ يصدر التعليمات إلى الموظفين بتخفيبف الأعباء عن الأهلين.
دام حكم أورانجزيب 47 سنة، أمضى الشطر الأول منها في حروب في شمال الهند، والشطر الثاني في الجنوب، وقد استقبل سفراء الدول الإسلامية في إيران ومكة وممثل هولندا من باتافيا، خاصة حين اجتذب إليه الدول بالهدايا والكرم. (راجع كتاب حكم المغول في الهند، ودراسات في الهند المغولية وص3 و115 و116 الجزء الثالث من تاريخ أورانجزيب).
وكان معطاء وشجاعا حازما متزنا مالكا زمام أعصابه في أشد الأوقات ضيقا، وكان إلى القصر أقرب، ذا أنف طويل ولحية طويلة، نحيفا يميل إلى التقوس عند الشيخوخة، يلبس العمامة ويرتدي الشاش الرفيع الموسلين الأبيض المحلى بالزمرد.
نادر شاه ملك إيران
استطاع الملك نادر شاه ملك إيران وهو الجندي الباسل أن يسحق الجيش المغولي في 1739، وقد عاد جيش نادر شاه حاملا الجواهر النفيسة التي أمضى المغول ثلاثة قرون في جمعها، كما ذبح الألوف جماعات جماعات. ثم إن الأفغانيين قد اقتحموا السهول وأوقع رئيسهم أحمد شاه الفوضى في صفوف رجال اتحاد الماراثيين في پانيبات في 1761، تلك المعركة التي أدت إلى نهاية الحكم المغولي في الهند، فأعقبه فوضى شاملة، وبعد ثلاث سنوات استقر رجال شركة الهند الشرقية في البنغال كحماة للمغول في دلهي طاردين الفرنسيين من جنوب الهند.
وقد زادت الشركة الفرنسية ضعفا بعد دوبليه الذي كان يسعى جاهدا لكي يصبح سيدا على جنوب الهند، غير أن ظهور روبرت كلايف، وكان أحد كتبة الشركة الإنجليزية، وإلحاقه الهزيمة بجيش وطني في أركوت، أفضى إلى أن تأمر الشركة الفرنسية دوبليه بأن يعود من الهند. ثم إن السير أركوت قد هزم الحاكم الذي خلف دوبليه فلم يبق للفرنسيين غير مركزين تجاريين أحدهما في سورات، والثاني في كاليكوت.
هذا إلى أن كلايف سافر من مدراس وسحق في بلاسي جيش نواب كالكاتا حين هاجم مركز الإنجليز بها وسجنهم في غرفة ضيقة، فمات أكثرهم اختناقا، ومن ثم أصبح الإنجليز سادة البنغال، فعينت الشركة الإنجليزية نوابا آخر محله قتل 200 أوربيا ثم هزمه هيكتور مونروه في بوكسار في 1764، وقد وقع الذي تنبأ به كلايف حين كان يمضي إجازته في إنجلترا، من أن يكون هذا النصر مفتاحا للسيادة الإنجليزية على الهند كلها، ذلك أن إمبراطور المغول قد منح الإنجليز حق الإشراف على إيرادات البنغال والبيهار وأوريسا، وقد جنى موظفو الشركة من إيراد البلاد وتجارتها ثروة شخصية طائلة بوسائل غير مشروعة، ومن هؤلاء كلايف نفسه.
وكان من حكام البنغال في 1772 وارين هيستينجس كان كاتبا في الشركة، وفي 1774 أصبح حاكما عاما لجميع أملاك الشركة.
وقد أنشأ نظاما جديدا للإدارة متوخيا ما يمكن من النزاهة في أعمالها، دارسا لغات الهند وعاداتهم وقوانينهم واللغتين الإيرانية والبنغالية، وكان سياسيا لا جنديا، على أن أعضاء مجلسه قد عارضوا سياسته متهمين إياه باستعمال القسوة والاغتصاب والظلم أمام مجلس اللوردة، وبعد أن ظلت المحاكمة سنوات قضى المجلس ببراءته، وقبل هذا تم إلغاء النظام الإداري الذي وضعه وكان سببا في احتجاجهم عليه.
ومنذ 1784 آثرت الحكومة الإنجليزية أن تشرف بنفسها على النشاط السياسي للشركة، معينة حكاما عامين من غير موظفي الشركة.
الفصل الثامن عشر
عصر الشركات التجارية الأجنبية
بعد أن استقر البرتغاليون في بعض ثغور الهند ناهضين بأعباء تجارتها البحرية الخارجية، جاء إلى الهند الهولنديون والإنجليز في مستهل القرن السابع عشر، حين كان تجار الجملة من الهندوس والمسلمين، وكانت هناك أسواق وحلقات وجماعات تجارية معترف بها تحت رقابة الحكومة، كما أنه قد ظهرت أداة الإقراض والتأمين وتحديد الأسعار، وقام مبدأ إشهار إفلاس العاجزين من التجار المدنيين، وكانت الروبية الفضية هي أساس النقد في إمبراطورية المغول. أما في الجنوب فكانت «الباجوداه» الذهبية هي العملة الرئيسية وكانت تساوي
من روبية أكبر، وتقرب قيمتها من قيمة الروبية الحالية. أما الحاصلات فكانت تشمل القمح والشعير والأرز والذرة العويجة والحمص والفول والحبوب الزيتية كالسمسم ثم قصب السكر والقطن والعنب والنيلة والخشخاش والتانبول والفلفل والبهار.
وقد أهمل استخراج الذهب والفضة، وعني باستخراج النحاس شمالا وتصديره جنوبا. وكان حديد الهند الذي يصهر كأتون مشتعل بالخشب المتقد يكفي حاجتها، وفي الدكن حقول الماس.
أما الملح فقد كان ولا يزال يستخرج من بحيرة سامبهار ومناجم البنجاب وماء البحر، وكان هناك الصياغ والجوهريون والغزالون والنساجون اليدويون والصوافون وطحانو الحبوب ومخمرو المشروبات المسكرة وصانعو السجاد.
أما الواردات فكانت في القرن السادس عشر قليلة، وكان أهمها الذهب والفضة لاستخدامها في سك النقود وصنع الحلي، ثم الجياد والجواهر الفضية والقطيفة والأقمشة الحريرية والمشجرة والمطرزة والمشروبات المسكرة الأوربية. وكان هناك مواني بومباي وكالكاتا وكراتشي بل كانت سوارت وبروش وكامباي أهم الثغور. ومن سوارت كان الحجاج يذهبون إلى الحجاز. أما البرتغاليون فكانوا مسيطرين على التجارة في الخليج منذ أن استولوا على ديو، ومستعمرة دامان وجوادكوشين. وكانت جولكوندة تتجر مع بيجو ومالاقا، كما كانت هناك سريبور بعد وفاة «أكبر» بقليل، وكانت الطرق قليلة وشاقة تسير فيها الإبل والثيران وعربات تجرها الثيران إلى الثغور لنقل البضائع الواردة من الخارج، وكانت السفن هدفا للقرصان ولمطالب الموظفين المرهقة.
أما أهم الطرق البرية فهي الطريق من لاهور إلى كابل، وطريق القوافل بين غرب الصين وأوربا، أما الطريق التي بين المرتفعات فكانت تستخدم في بعض الفترات، وكانت الضرائب الداخلية البرية هي أهم إيرادات الدولة.
وقد أمر الإمبراطور جاهنجير بوضع حد لتحصيل الضرائب على الطرق والأنهار. أما التجار الأجانب فلم يكونوا يستطيعون التجوال في البلاد، إلا إذا عقدوا مع الحكومة اتفاقا، يرخص لهم بالتجول والاتجار، وكانوا يؤلفون جاليات تستمتع بالامتيازات، وتخضع لحكام منهم. (راجع الفصل الثامن من كتاب «من أكبر إلى أورانجزيب» تأليف و.ه. تيورلان).
وبينما كان التجار الإنجليز والهولنديون يجرون على هذا كان البرتغاليون وهم ممثلو ملك البرتغال - وليسوا تجارا - جاءوا إلى الهند قبلهم، قلما يعمدون إلى الاتفاق مع الحكومة أو سلطاتها المحلية، ففي كالكاتا كان الزاموريون يرحبون بهم، إذ كانت الجاليات العربية والمصرية تعرقل نشاطهم في تجارة الواردات، ثم كانوا - إلى هذا - يعمدون إلى القوة والأسطول في أخذ الامتيازات واحتلال الثغور.
هذا ولم يكن التجار الهولنديون والإنجليز يرمون إلى استعمار البلاد، بل كان همهم الاتجار معها. غير أن الحوادث قد أرغمتهم على إقامة الوكالات والمصانع ثم إقامة الحصون التي أصبح لبعضها سلطة الحكومة. ومما كانت الشركات التجارية الأجنبية تعمد إليه، أن تتقرب إلى الأمراء والحكام بل إلى الإمبراطور القائم ، بالهدايا ومنها اللعب والنظارات المكبرة والثياب الأنيقة والكلاب والحلي، وكان في مقدمة السلع التي باشرت شركة الهند الشرقية الإنجليزية الاتجار فيها البفتة المصنوعة في الهند، وصناعة الكتان في إنجلترا في دائرة ضيقة.
أما في هولندا فقد كانت من الصناعات الكبيرة. وفي سنة 1676 أنشئت مصانع للبفتة على مقربة من لندن. وفي 1696 و1697 ثار العمال الإنجليز في سبيل منع ما تصنعه الهند وتورده من البفتة والأقمشة الحريرية والصوفية، وفي 1700 صدر في إنجلترا قانون بمنع ارتداء ما يرد من آسيا من الحراير والبفتة المطبوعة والمصنوعة، على أن يستمر اتجار إنجلترا فيها لكي تصدرها ثانية في البلاد الأخرى. ومنذ 1720 إلى 1774 استجاب البرلمان الإنجليزي إلى ما طلبه أرباب مصانع الأقمشة الصوفية من منع استعمال البفتة الإنجليزية إلا قليلا، وعند س. هملتون في ص86، 89، 108 من كتاب «العلاقات التجارية بين إنجلترا والهند، طبعة كالكاتا في 1919» أن سياسة التجارة الإنجليزية والأوربية في الهند كانت في القرن الثامن عشر تقوم على: (1) الاحتكار، و(2) حماية المصنوعات المحلية مع كفالة ما تحتاج إليه من المواد الخام، و(3) مجيء الميزان التجاري للدولة بثروة أكبر من التي تخرج منها، كذلك كان من أثر الحروب التي خاضتها الحكومات الإنجليزية في عهد الملكة «آن» أن فرضت منذ 1703 ضرائب على البضائع التي كانت ترد من الهند إلى إنجلترا.
هذا ولم تكن العلاقات بين الشركات الأجنبية في الهند تتأثر من الحالة السياسية في أوربا، فقد هاجم برتغاليو الهند باخرتين في جوا في 1611. وفي 1614 أمر ملك أسبانيا الحاكم البرتغالي بأن يطرد الإنجليز من الهند. وفي 1618 تقاتلت السفن الإنجليزية والهولندية، مع أنه لم يكن هناك بين إنجلترا والحكومات الأوربية يومئذ حرب ما.
وحين اتحدت أسبانيا والبرتغال منذ 1580 في دولة واحدة، أصبحت التجارة بين هولندا والبرتغال مهددة بالزوال، خاصة حين أصبح لهولندا حكومة قوية وأسطول كبير، مما كان من أثره أنه بعد أن مضى 15 شهرا على تأليف شركة الهند الشرقية اللندنية، تألفت في مارس 1602 الشركة المتحدة الهولندية برأس مال كبير وبمجلس إدارة مؤلف من 17 عضوا على أن تكون دائرة نشاطها الاحتكاري جميع البلاد التي بين الرجاء الصالح ومضيق ماجلان، وأن يكون للشركة أن تشهر الحرب وأن تعقد الصلح والمعاهدات وأن تضم الأراضي، وكانت الأساطيل الهولندية القوية تهاجم البرتغاليين في موزمبيق ومالقا وجوا على غير جدوى إلا في جزائر التوابل فقد رسخت أقدام الهولنديين في البحار الشرقية، ثم إن الهولنديين قد عمدوا إلى إنشاء المصانع منذ 1605 في الهند خاصة في ماسولي باتام ونظام باتام في جولكاندة، وفي 1606 في سانت تومي وبيجاباتام، وإلى فرض الضرائب كثيرة على الصادرات والواردات. أما محاولة البرتغاليين في 1612 طرد الهولنديين من ساحل الكورومانديل فقد لقيت المقاومة.
وفي 1916 استطاع الهولندي بيتيرسون كوين منشئ باتافيا، أن يؤسس الإمبراطورية الهولندية الشرقية، ومنذ يومئذ أخذ الهولنديون يصدرون الأسرى ويشترونهم من البنغال وغيرها. ولئن كانت سياسة شركة الهند الشرقية الإنجليزية يومئذ تقوم على التعاون مع الهولنديين على اقتسام التجارة الشرقية على حساب البرتغاليين، إلا أن هذا التعاون قد انتهى أمره في 1623، حين وقعت حادثة أمبويانا، التي كثيرا ما وصفت بأنها مذبحة، ذلك أن السلطات الهولندية قد عذبت في مصنع إنجليزي هناك خمسة عشر عضوا ومعهم أحد البرتغاليين وتسعة من اليابانيين ثم قتلتهم بعد محاكمة غير قانونية، متهمة إياهم بارتكابهم مؤامرة كان الغرض منها الاستيلاء على هذا الثغر.
وبعد عام 1624 قنعت شركة الهند الشرقية الإنجليزية بالاحتفاظ بمعمل واحد للبهار في جزيرة سومطرا، وقد دفع لها تعويض قدره 85 ألف جنيه طبقا لما اشترطه كرومويل في معاهدة وستمنستر في 1654، مع دفع التعويض المناسب إلى ورثة المقتولين.
وفي 1616 افتتح الهولنديون مراكز تجارية في سوارت وأحمد آباد. وفي 1618 افتتحوا مركزا آخر في أجرا. وفي 1653 نمت تجارتهم في هوجلي وباتنا. وفي 1665 أكملوا الاستيلاء على سيلان من البرتغاليين. وفي 1663 أنشئوا المستعمرات على ساحل مالابار، وبقي البرتغاليون الذين ضعفت قوتهم وتجارتهم في جوا ودامان وديو.
أما شركة الهند الشرقية فقد وثقت صلاتها الودية بأباطرة المغول والبرتغاليين، خاصة في منتصف القرن السابع عشر، وضمنت بقاء مصانعها، بينما أخذ مركز الهولنديين يضعف لكثرة النفقات، وأعباء أساطيلهم، وإن كانت تجارة هؤلاء قد بقيت في سيلان والبنغال وسوارت. وحين ودعت إنجلترا القرن الثامن عشر وهي سيدة البحار زاد موقف الهولنديين في الهند ضعفا. وحسبنا أن نذكر أنهم في 1824 تخلوا عن مراكزهم فيها مقابل استيلائهم على الأملاك الإنجليزية في جزيرة سومطرا. وبعد أن تم تأليف شركة الهند الشرقية الدانيمركية في 1616، أنشأت على ساحل الهند الشرقي في ترانكيبار مستعمرة بيعت إلى شركة الهند الإنجليزية في 1845.
الشركة الفرنسية ومراحل الشركة الإنجليزية
ولئن كان هنري الرابع ملك فرنسا قد حاول إنشاء شركة فرنسية للتجارة الهندية في 1625 إلا أن هذا الغرض لم يتحقق إلا في 1664، حين استطاع كولبير، المالي الكبير، في عهد لويس الرابع عشر، أن يؤسس شركة الهند الشرقية في 1664 لكي يحتكر التجارة من رأس الرجاء الصالح إلى البحار الجنوبية، وتمنح مدغشقر بصفة دائمة. وفي 1673 أخذت من شيرخان اللودي، بونديشيري. وفي 1668 أقامت مصنعا في سوارت. وفي 1690 أنشأ ديلاند مستعمرة في شاندر ناجور، غير أن نشوب الحرب في أوربا في 1701 جاء كارثة للشركة. على أن دوبليه قد ناهض الشركة الإنجليزية في القرن الثامن عشر للظفر بالسيادة الفرنسية على الهند، ومحو النفوذ البريطاني منها. وكان من أسباب نهضة الشركة الإنجليزية أن الشركة الهولندية عمدت إلى رفع أسعار البهار في أوربا، ومن أجل مواجهة هذا الغلاء الفاحش قام تجار لندن بتأليف شركة بالاكتتاب برأس مال قدره 72 ألف جنيه إنجليزي، يستخدم في اقتناء السفن والمتاجر، وفي إنشاء تجارة في التوابل وغيرها من السلع في الهند الشرقية.
وفي 31 ديسمبر 1600 منحت الملكة إليزابيث الشركة امتيازا احتكاريا لمدة 15 سنة من رأس الرجاء الصالح إلى مضيق ماجيلان، وفي 1609 جعل الملك جيمس الأول هذا الامتياز لأجل غير مسمى على أن يكون قابلا للفسخ، متى أبلغ ذلك قبل ثلاث سنوات.
هذا وقد كان الأب س. ج. ستيفنز من وينشيستار ونيو كوليدج هو أول من ذهب إلى جوا في 1579. وقد ساعد نيوبيري ورفاقه التاجر فيتش والجوهري ليذر والنقاش ستوري، الذين سجنهم البرتغاليون بتهمة التجسس. ومما يذكر أن نيوبري قد حمل في 1583 إلى زيلايديم ملك كامبيا رسالة ودية إليه من الملكة اليزابيث، التي أبدت أمنيتها في أن تقوم العلاقات التجارية بين الفريقين على أساس المودة. كذلك قابل جون ميلدينهول في 1603 الإمبراطور «السلطان أكبر» الذي منحه امتيازات تجارية. أما سير توماس رو فقد كان أول سفير أوفده جيمس الأول إلى الإمبراطور المغولي الأعظم «أكبر». ولئن كان الملك جاهانجير قد رفض عقد معاهدة تجارية، إلا أن رو قد وسعه من عام 1615 إلى 1619 أن يرفع الكرامة الإنجليزية، وقد عمد إلى تحسين حالة المصانع والوكالات التجارية في سورات وأجرا وأحمد آباد وبروش. وفي 1611 حين أنشئ في مانزاليباتام مصنع ولكنه أغلق في 1641 حين بني حصن سانت جورج على مقربة من مدراس باتام على ساحل كرومانديل، وكان رئيس الحصن ماضيا في النهوض بتجارة السلع الهندية الصغيرة في كارناتيك؛ أي أطلال فيجا ياناجار، حين استولى ميرجوملا، قائد جيش جولكوندا في 1647 على المركز الذي يحيط بها. وقد دامت العلاقات الودية الإنجليزية مع هؤلاء الغزاة، لذلك توثقت الروابط الودية بين التجار الإنجليز والبرتغاليين منذ اتفاق جوا في 1635، وفي 1650 أنشئت مستعمرات إنجليزية في هوجلي على ساحل الهوجلي في كازحبازار وباتنا. وبعد عامين هبطت تجارة شركة الهند الشرقية بعد اشتغال موظفيها بالتجارة لحسابهم الخاص، وذلك لضآلة مرتباتهم وبسبب قيام الحرب الداخلية في إنجلترا ونشوب الحرب بين إنجلترا وهولندا صاحبة السيادة البحرية في البحار الشرقية يومئذ، مما كان من أثره أن أخلت الشركة بانتام، وأغلقت مصانعها في البنغال، ومستعمراتها على ساحل الكورمانديل عدا حصن سانت جورج وماساليباتام وجوا، ومحاط داخلية أخرى. ومما زاد الطين بلة أن تجارا آخرين وصلوا إلى الهند منافسين الشركة، مما كان من عاقبته أنها أعلنت في فبراير 1657 أنها سوف تنسحب من ميدان العمل التجاري؛ وأن كرومويل منحها في أكتوبر 1657 امتيازا جديدا مماثلا للامتيازين الممنوحين قبلا من اليزابيث وجيمس الأول، وإن بلغ الاكتتاب في رأس مال الشركة 740 ألف جنيه إنجليزي، وفي 1661 منح الملك شارلس الثاني الشركة امتيازا جديدا، خولت بمقتضاه سلطة التحقيق على الدخلاء والطفيليين والحق في إبعادهم، وإشهار الحرب وعقد الصلح مع الأمراء غير المسيحيين، وتعيين الحكام، الذين يخولون مع المجالس التي تنشأ، إلى جانبهم مباشرة السلطتين المدنية والجنائية في مستعمراتهم. ولئن كانت سورات قد استمتعت مدة عشرين عاما بالمركز التجاري الرئيسي إلا أنه منذ أصبح جيرالد أو نجير حاكما في 1669 زادت أهمية بومباي بما أنشأه فيها من العملة والمحاكم، هذا إلى تشجيعه التجار على الإقامة فيها.
ولئن لم تقم في بداية الأمر حرب بين الشركة وبين الهنود، إلا أنها كانت مرغمة على محاربة البرتغاليين والهولنديين. على أن اشتباك المغوليين والماراثيين في القتال حول بومباي وقيام الحكومة المغولية بفرض الضرائب على تجارة الشركة - قد أدى إلى تحصين بومباي ومدراس، وإلى تسليح بعض الأوربيين والهنود واتخاذهم حراسا للمصانع التي كانت، إلى هذا، محصنة بالمدافع. وفي بومباي وضعت نواة الجيش الهندي تحت إشراف البريطانيين، فكانت مؤلفة من مدفعيين معهما خمسة ضباط و139 من رتب أخرى و54 توباسيا، وهم خليط من جنود جوا. وفي 1683 أضيف إليهم بلوكان من الراجبوت و200 رجل مسلح، أما في البنغال فكان هناك 30 جنديا أوروبيا تحت إمرة الحاكم الإنجليزي. وقد ثار الكابتن كيجوين قومندان بومباي على الشركة لسوء تصرفها في تحصيل الإيراد وإنقاص المصروف، وقد لبث يحكم بومباي باسم ملك الإنجليز عاما، ثم سلمها إلى الشركة طبقا للشروط التي تم الاتفاق عليها، وفي 1687 عين الرئيس سيرجون شيلد كابتن جنرالا وأميرالا وقائدا عاما ومديرا للشئون التجارية كلها، وقد بدأ عهده بالاستيلاء على بعض سفن المغول، مما كان من عاقبته إشهار الملك أورنجزيب الحرب على الشركة، وسجن وكلائها في سورات، ومحاصرة بومباي، وقد وضعت الحرب أوزارها في 1660 على أساس قيام الشركة بدفع تعويض إلى الإمبراطور. وقد مات شيلد في أثناء هذه المفاوضات. (راجع ص2 و6 من تاريخ الجيش في الهند وتطوره، المطبوع في مطبعة الحكومة في كالكاتا عام 1924).
وبعد أن حملت تصرفات المغول الشركة على إغلاق مصانعها في البنغال، عاد وكيل الشركة جوب شارنوك إليها مؤسسا مصنع وليام أوف أورانج في 1698 في الموقع الذي أصبحت فيه الآن قرى سوتاناتي وكالكاتا وجوفقدبور. وفي 1700 اتخذها سير شالس آير، أول رئيس وحاكم لحصن ويليام في البنغال، مركزا رئيسيا. وقد واجهت الشركة المتاعب منذ أواخر القرن السابع عشر، وذلك لظهور القرصان الإنجليز في البحر العربي واستيلائهم على السفن المغولية وإنشاء شركة إنجليزية جديدة باسم «الشركة التجارية الإنجليزية لجزر الهند الشرقية» وحصولها من وليام الثالث في 1698 على امتياز باحتكار التجارة، وتعيين ثلاثة من موظفي شركة الهند الشرقية وآخرين رؤساء لها. على أن الشركة الجديدة المنافسة لم تلبث أن قبلت الاندماج في الشركة الأصلية في 1702 بصفة وقتية، انتهت إلى حالة دائمة في 1709 بقانون من البرلمان.
سلطات شركة الهند الشرقية
قلنا: إن عقد الامتيازات الممنوح للشركة الشرقية قد خولها إنشاء المحاكم المدنية والجنائية منذ 1661 طبقا للقوانين الإنجليزية، ونضيف إلى هذا أنه في 1673 قد أنشئت في بومباي محكمة طبق فيها القانون الإنجليزي للمرة الأولى على الرعايا الهنود، وكان القضاة من الأوروبيين. أما الهنود فيشغلون في المحكمة الجنائية والمدنية نصف عدد المحلفين، متى كان أحد الخصوم غير إنجليزي. ولم يعين من الهنود في المناصب القضائية أحد إلا منذ القرن التاسع عشر.
نقل حكم الهند من الشركة إلى التاج
في أول نوفمبر 1858 وفي عهد الملكة فكتوريا تم نقل حكم الهند من الشركة إلى التاج البريطاني، وتم تعيين كانينج أول حاكم عام بالإعلان التالي:
من الملكة إلى الأمراء والزعماء والأمة الهندية
نحن، فيكتوريا حامية العقيدة، بفضل الله - ملكة المملكة المتحدة لبريطانيا وإيرلندا والمستعمرات وملحقاتها في أوربا وآسيا وإفريقيا وأمريكا وأستراليا.
نعلن بهذا ونصرح بأنه بناء على نصيحة المجلس وموافقته قد أخذنا على عواتقنا الحكومة المذكورة، وبهذا ندعو جميع رعايانا في داخل حدود هذه الأراضي أن يكونوا مخلصين موالين حق الموالاة لنا ولورثتنا وحلفائنا، وأن يقدموا خضوعهم إلى سلطة الذين سنقوم بتعيينهم بعد، من آن إلى آخر، حين تأنس فيهم الكفاية والإدارة حكومة أراضينا باسمنا ولمصلحتنا، ومن أجل هذا قد عينا شارلس جون فيكونت كانينج أول وال وأول حاكم عام على أراضينا، ولكي يدير شئون حكومتنا باسمنا وليعمل باسمنا ولمصلحتنا وفقا للأوامر والقواعد التي سيتلقاها من وقت إلى آخر منا عن طريق وزرائنا. ونحن نثبت جميع الموظفين العسكريين والمدنيين الذين في خدمة شركة الهند الموقرة، طبقا للقوانين والقواعد التي سوف نسنها. ثم إننا نعلن الأمراء الوطنيين أننا قد وافقنا وأبقينا في الهند جميع المعاهدات والتعهدات المعقودة معهم تحت سلطة شركة الهند الشرقية الموقرة، كما أننا لسنا نريد مزيدا في توسيع ممتلكاتنا الحالية، ولا نقبل أي اعتداء عليها أو على حقوقنا. وسنحترم ما للأمراء الوطنيين من الحقوق والمكانة أسوة بنا، ونرجو لهم ولرعايانا أن ينعموا بالرفاهة والتقدم الاجتماعي اللذين لا يكفلهما إلا السلم الدولي والحكومة العادلة.
ونحن مرتبطون لأبناء أراضينا الهندية بما علينا من الالتزامات نحو رعايانا وسنؤديها بفضل الله تعالى في أمانة ونزاهة ضمير. ونحن لا نعتزم أن نفرض عقيدتنا المسيحية على أحد من رعايانا، الذين سوف ينعمون بحماية القانون في غير فارق بين الأديان وفي غير محاباة، كذلك ندعو كل من يعملون تحت حكمنا أن يمتنعوا عن التدخل في العقيدة الدينية أو عبادة أحد رعايانا. كذلك نعلن أن إرادتنا قد اقتضت أن يتاح للجميع شغل الوظائف التي يؤهلهم لها تعليمهم وكفايتهم واستقامتهم، ونحن نعلم ونحترم شعور الرابطة التي تربط سكان الهند بالأرض التي ورثوها عن آبائهم ونرغب في حمايتهم في حقوقهم فيها طبقا لطلبات الحكومة. وفي تطبيق القانون سوف نراعي الحقوق القديمة والعادات في الهند. ونحن نبدي أسفنا الشديد لما نزل في الهند من أعمال الرجال الطامعين الذين خدعوا مواطنيهم بالأنباء الكاذبة وقادوهم إلى العصيان الذي قمعناه بقوتنا
1
ونحن نبسط عفونا على هؤلاء، الذين يرغبون في العودة إلى واجباتهم العادية، ولكننا لن نعفو عمن ارتكبوا مباشرة قتل الرعايا البريطانيين. أما الذين قبلوا مختارين إيواء القتلة مع العلم بجنايتهم أو الذين كانوا في الثورة بمثابة زعمائها أو المحرضين عليها - فإننا نضمن بقاءهم أحياء، على أن يحاكموا، وأن تقدر العقوبات التي ستوقع عليهم بمراعاة جميع الظروف التي حملتهم على إطراح الولاء لنا. أما أولئك الذين يثبت أنهم قد ارتكبوا جرائمهم بسبب تصديقهم الأنباء الكاذبة التي كان ينشرها ذوو الأغراض فسيعاملون بقدر كبير من التسامح. أما بالنسبة لجميع الذين حملوا السلاح ضد الحكومة فإننا نعدهم بإعلاننا هذا بالعفو الشامل غير المقيد، والإغضاء وتناسي كل ما اقترفوا ضدنا، وضد تاجنا وكرامتنا، وبالعيش في سلام، وسيمتد هذا العفو إلى جميع من يؤدون هذه الشروط قبل أول يناير التالي. ثم إنه حين يأذن عفو الله بأن يعود السلام إلى الهند، فإننا نشهد الله على أننا سنمضي بالبلاد الهندية في طريق التقدم والسلم والنهوض بالأعمال العامة وإدارة حكومتها لمصلحة جميع رعايانا المقيمين بها، غير مدخرين وسعا ولا مجهودا؛ لأن سعادتهم وسلامتهم سعادتنا وسلامنا، وفي عرفانهم بمجهودنا خير مكافأة لنا. والله القوي القدير، نسأل أن يمدنا بعونه وأن يمد من يعملون تحت سلطتنا بالقوة التي تحقق أمانينا في سبيل مصلحة الأمة.
الشئون الداخلية تحت الإدارة البريطانية
حين شغل اللورد ويليام بيتنك، سير شالي ميتكالف، منصب الحاكم العام للهند عاما، اعتزل هذا المنصب بعدئذ، وفي أغسطس 1835 ألغى لوائح الصحافة، مما كان من أثره أن أتاح للصحف الهندية حرية أوسع مما كان مخولا للصحف في إنجلترا، وإن فقد اللورد بيتنك تثبيت مجلس إدارة الشركة له في منصبه هذا.
وقد عين السير روبرت بيل في 1835 في خلال وزارته التي كانت قصيرة المدة، اللورد هاتيسبوري خلفا للورد بينتنك، ولما خلف الأحرار وزارة بيل المحافظة ألغى التعيين رئيس الوزارة اللورد ميلبورن، وعين لحكم الهند اللورد أوكلند الذي أدى اليمين في دار الحكومة في كالكاتا في 20 مارس 1636.
أما ميتكالف فقد عين حاكما عاما لكندا، وأما هاتيسبوري فقد فصل، ومما يذكر أن ميتكالف قد جاء إلى الهند صبيا في السادسة عشرة ملتحقا بكلية فورت ويليام، وأمضى 30 عاما في الهند مشتركا في الحركات السياسية التي ظهرت في قصور الأمراء من حيدر باد إلى لاهور، فلم يتح لغيره من الموظفين ما ظفر به من ثقة الوطنيين الأمراء واحترامهم. (يراجع الجزء 3 من «تاريخ الهند» ص88 و89، تأليف مارشمان).
ثم إن جورج إيدن «أي: اللورد أوكلند» صار كوالده، وزيرا في إنجلترا، ورئيسا لمجلس التجارة، حين عاد حزب الأحرار إلى الحكم في 1930، ثم أصبح اللورد الأول للأميرالية؛ أي «وزيرا للبحرية» في وزارة ميلبورن لمدة أربع سنوات.
ومما ذكره مارشمان في كتابه «تاريخ الهند» ص112، أن أوكلند كان كفؤا منصرفا لعمله، وقد استمتعت الهند في عهده بالسكينة والمالية، غير أنه كان قليل الثقة بنفسه، معتمدا على مشورة الآخرين خاصة سكرتيره جون كولفين.
الفصل التاسع عشر
الهند الحالية
كلمة «الهند» جاءت من «أندوس»؛ أي مملكة الهند، أما «هندستان» الواردة في خرائط أوربا فمعناها مملكة الهندوس الإنجليزية واللغات الهندية. ولقد انتشرت اللغة الإنجليزية وأصبحت لغة الكلام بين الهنود الناطقين باللغات الهندية المتعددة التي يبلغ عددها 222. أما اللغات التي أصلها آري فذائعة في شمالي الهند، وعلى وجه الإجمال ينطق بها ثلثا شبه الجزيرة الهندية، وهذه اللغات يختلف بعضها عن بعض اختلاف الإنجليزية عن الألمانية أو الأسبانية، ومما يزيد اللغات الهندية تعددا، تعدد الأديان والمعتقدات والمذاهب.
إن الهند أغنى مستعمرات بريطانيا وأكثرها سكانا، وأعظمها أهمية وأجودها صناعة، إذ تسمى ألمع درة في التاج البريطاني، لها مساحة هائلة تقدر ب 5 ملايين كيلو متر مربع، ونفوسها نحو 350 مليونا معظمهم بوذيون وهندوس وبراهما، وهناك أكثر من 70 مليون مسلم، وكلهم يعيشون على ضفاف نهر السند ... أما الهندوس الذين يعيشون هناك فينقسمون إلى أربعة أقسام: (1) الكهان: وهم محترمون من جميع طبقات الهندوس، وهم الذين يصدرون الأوامر الدينية و(2) طبقة التجار: وهم الذين يشتغلون بجميع تجارتهم و(3) طبقة الأشراف: وهم مثل الكهان ومثل التجار تقريبا و(4) طبقة الأنجاس، وهذه الطبقة محتقرة ومكروهة من جميع الهندوس، والغريب عنهم أنه إذا وقع ظل أحد منهم على رجل آخر يذهب في تلك اللحظة مسرعا إلى النهر لكي يزول منه أثر ظل ذلك الرجل.
الهند شبه جزيرة واقعة على خط مدار السرطان، وهي شديدة الحر في الجنوب ومعتدلة في الوسط والشمال ... وتسقط بها الأمطار الهائلة طول السنة وخاصة في الصيف، ويهطل معظمها في الشمال، ولذلك تكونت هناك بقاع واسعة خصبة كثيرة الخيرات، فقد سقط مرة في الهند مطر لا يتصوره العقل، فهي أكثر بلاد في العالم تسقط فيها الأمطار بعد جزيرة جاوه، ولذلك فقد أنشئوا بيوتا من رخام صلب جدا وقاية من هذا المطر المرعب.
الهند بلاد غنية بالمزروعات، فهناك تزرع أعظم الفواكه في العالم وأكبرها حجما، ويزرع القطن والشاي السيلاني الشهير والتوابل والقنب والأرز وأنواع الحبوب والفواكه ... وفيها غابات عظيمة واسعة هائلة الكبر كغابات راجبور وغابات الأنهار ... ومن هذه الغابات تستخرج الأخشاب الجيدة القوية، وللاقتصاد في وسائل نقلها يضعونها في النهر، فتسير بقوة الماء حتى تصل إلى المكان المعين، ولكن في تلك الغابات توجد أشد الحيوانات المفترسة، وأشرسها كالنمور والفيلة والأسود والأفاعي المتنوعة وأشدها الكوبرا، وأنواع القرود كالشمبانزي والغوريلا والنسناس وأنواع الببغاوات.
أما سطح الهند فهو: (1) سهول نهر السند، وهي من أخصب بقاع الأرض كما ذكرنا و(2) هضبة الدكن وهي مكونة من جبال متوسطة الكبر وبقربها هضبات عديدة و(3) جبال هملايا، وهذه الجبال أشهر جبال العالم في الارتفاع؛ إذ يبلغ ارتفاعها 8840 مترا، وتسمى سقف العالم لشدة ارتفاعها. ويقول الهندوس الذين يقطنون هناك: إن هذا ليس جبلا، بل هو إله الآلهة! ويتخلل هذه الجبال وديان عميقة جدا وهي مليئة كلها بأنواع الأفاعي والثعابين.
الهند شبه جزيرة مثلثة الشكل تقريبا، فالساحل الشرقي منها يدعى كرومندل والغربي ملبار، وأما مدن الهند فأهمها دلهي وهي العاصمة، وبومباي وهي أهم ميناء تجاري هناك؛ فنفوسها مليون نسمة، وكلكتا وتقع عند مصب نهر براهماتوترا، ومدينة بنارس وسملا وهي عاصمة الهند في الصيف لأنها مصيف جميل، ومدينة أحمد آباد والله آباد وحيدر آباد وكراجي وكيلات وهي عاصمة بلوخستان.
من الشركة إلى التاج
في 1858 تلقت الحكومة البريطانية إدارة حكم الهند من شركة الهند الشرقية البريطانية، التي كانت إلى يومئذ تنهض - كما قدمنا - بعبء الحكم في الهند، وتألفت حكومة الهند على قاعدة الأتوقراطية، وأنشئ في لندن مجلس يعمل مع وزير الهند، وهو أحد أعضاء الوزارة البريطانية، وفي 1945 أي في عهد وزارة العمال نقلت شئون الهند إلى وزارة المستعمرات وعين وزير دولة يشرف عليها، والوزير في الحالتين أحد أعضاء الوزارة البريطانية، كما أنشئ في الهند مجلس آخر يعاون الحاكم العام. وكان الموظفون البريطانيون المدنيون في حكومة الهند يعينون في بريطانيا ذاتها، طبقا لامتحان مسابقة كان قد اقترحه «ماكولي» الذي كان عضوا في مجلس الهند في كلكتا من 1834 إلى 1838. وكان أساس اختيار الموظفين البريطانيين للمناصب الهندية إلى شرط الكفاية والمؤهلات «إن العقل السليم في الجسم السليم»، ذلك لأن جو الهند قاس جدا، لا يستطيعه إلا الأجسام القوية. وقد عمدت حكومة الهند إلى مناهضة الفساد، الذي اقترن بحكومة الشركة ...
نظام الطوائف
يرجع أصل نظام الطوائف في الهند - كما أوضحنا قبلا - إلى تجمع الناس، حين تحيط بهم أمواج الغزاة، كالخطوط التي يخلفها المد على الساحل حين ينحسر عنه. وللطوائف نوع من الجلال والقداسة، نذكر من هذا: طائفة القسس أو الكهنة، والطوائف العسكرية، والطوائف التجارية، وطوائف كل مهنة، وطوائف الرعاة، والبقر والسائقين، وحملة المحفات والهوادج. وبعد الطوائف العالية تجيء الطوائف السفلى، من ذلك طائفة الكولي التي يجب عدم تناول الماء من أيدي أفرادها، وطائفة الكناسين، وفي قاع الطوائف السفلى تجيء طائفة المنبوذين أو الأنجاس، ويبلغ عددهم ستين مليون نفس، وقد دان القليل منهم للإسلام والأديان الهندوسية وغيرها.
التمهيد لنظام الحكومة المسئولة
بدأت الخطوة الأولى للإصلاح الدستوري في الهند بتصريح ألقاه وزير الهند في مجلس العموم في 20 أغسطس سنة 1917 جاء به: «إن سياسة حكومة جلالة الملك ترمي إلى زيادة إشراك الهنود في كل فروع الإدارة والتدرج في إنماء هيئات الحكومة الذاتية بقصد اضطراد التقدم في إيجاد حكومة مسئولة في الهند باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الإمبراطورية البريطانية».
وأعقب هذا تصريح للملك جورج الخامس في ديسمبر 1919 بمناسبة الموافقة على قانون الهند 1919. فقد جاء في هذا التصريح «أن القانون الذي أصبح نافذ المفعول يعهد بحصة محددة معينة في الحكم لممثلي الشعب المنتخبين ويرسم الطريق إلى حكومة مسئولة مسئولية كاملة».
وفي 9 فبراير 1921 تلا دوق أوف كنوت في الاحتفال بافتتاح الجمعية التشريعية الجديدة في دلهي الجديدة، رسالة من الملك جورج الخامس من بين ما جاء بها ... «منذ أعوام، وقد يكون منذ قرون، ووطنيو الهنود المخلصون يحلمون باستقلال أرض الوطن، وها أنتم اليوم تحصلون على أوليات الاستقلال في داخل الإمبراطورية وتحصلون على أوسع ميدان وأنسب فرصة للتقدم نحو الحرية التي تتمتع بها ممتلكاتنا المستقلة الأخرى». وكانت الخطوة التالية في 15 مارس 1921 فقد جاء في التعليمات المنقحة الصادرة من الملك للحاكم العام ما يأتي: «لأن إرادتنا ومن دواعي سرورنا، أن تثمر المشروعات ثمارها حتى تحصل الهند البريطانية على مكانها المناسب بين ممتلكاتها المستقلة».
وفي نوفمبر 1927 تألفت لجنة الإصلاح الدستوري برياسة سير جون سيمون. وألقى لورد بير كنهد وزير الهند تصريحا في مجلس اللوردات جاء به: «إذا ما وضعت اللجنة تقريرها انتهت مهمتها، ولكن منتقديها من الهنود يبقون ونحن ندعوهم ونرحب بهم ليأتوا ليجلسوا مع اللجنة المنتخبة في البرلمان ويقدموا الاقتراحات والاعتراضات التي يرونها على تقرير اللجنة».
مؤتمر المائدة المستديرة الأول
وفي 16 أكتوبر 1929 أوصت اللجنة الدستورية بعقد مؤتمر المائدة بقصد الوصول إلى أكبر اتفاق ممكن عن المقترحات النهائية التي يكون من واجب حكومة جلالة الملك أن تقدمها فيما بعد للبرلمان. وفي 10 يونيه 1930 قدمت اللجنة الدستورية القسم الأول من تقريرها إلى مجلس العموم وهو مؤلف من إحصاء عن تنفيذ نظام الحكومة وانتشار التعليم ونمو هيئات التمثيل النيابي في الهند البريطانية والمسائل الأخرى المتصلة بها. وفي 24 يونيه 1930 قدمت اللجنة القسم الثاني المشتمل على توصياتها وهي تتضمن منح الهند استقلالا إقليميا ذاتيا تاما، ونقل حماية القانون وحفظ النظام إلى الحكومة المركزية، وجاء في التقرير: «يجب أن يكون دستور الهند الأخير اتحاديا؛ لأن في الدستور الاتحادي وحده، يمكن الجمع بين وحدات مختلفة في تكوينها ودستورها اختلافا شاسعا، كالولايات والإمارات مع احتفاظ كل وحدة باستقلالها الداخلي».
وفي 12 نوفمبر سنة 1930 عقد مؤتمر المائدة المستديرة الأول، وأظهر ما امتاز به هذا الدور قبول الأمراء الهنود لمبدأ الحكومة الاتحادية.
وفي 19 سبتمبر 1931 ألقى رئيس الوزارة البريطانية تصريحا جاء فيه:
إن رأي حكومة جلالة الملك أن تكون حكومة الهند مسئولة أمام المجالس التشريعية المركزية والإقليمية مع التحفظات التي تكون ضرورية في فترة الانتقال لضمان احترام التزامات معينة ولمقابلة ظروف أخرى خاصة، وأيضا الضمانات التي تطلبها الأقليات لحماية حرياتها السياسية وحقوقها.
وفي سبتمبر 1931 عقد مؤتمر المائدة المستديرة الثاني.
وفي أول ديسمبر 1931 ألقى رئيس الوزارة البريطانية تصريحا أكد فيه ثقة حكومة جلالة الملك «في الاتحاد الهندي باعتباره الحل الوحيد للمشكلة الدستورية في الهند».
وفي 17 نوفمبر 1932 عقد مؤتمر المائدة المستديرة الثالث.
وفي أواخر شهر مارس 1933 تمت موافقة مجلس النواب البريطاني على مقترحات الحكومة البريطانية التي أصدرت بها الكتاب الأبيض الذي يقرر بديلا من الدستور الهندي الحالي دستورا اتحاديا جديدا يتناول الهند البريطانية والإمارات الهندية وإنشاء برلمان اتحادي يتألف من ممثلين للهند البريطانية وللإمارات، على أن تكون الهيئة التنفيذية مؤلفة من الحاكم العام ليمثل التاج البريطاني يعاونه ويشير عليه مجلس وزراء يكون مسئولا أمام المجلس التشريعي «بقيود معينة».
وينشأ الاتحاد بإعلان ملكي بناء على التماس من مجلس البرلمان البريطاني. والبرلمان الاتحادي يؤلف من مجلسين لكل منهما حقوق معينة، ويكون مجلس النواب من 375 عضوا على الأكثر، منهم 125 يعينهم حكام الإمارات المنضمة إلى الاتحاد، أما الباقون فينتخبون بالانتخاب المباشر في الهند البريطانية، ويتألف المجلس الأعلى أو مجلس الدولة من 260 عضوا يعين الأمراء منهم مائة وينتخب الباقون في الهند البريطانية بشروط معينة. ويتولى الحاكم العام مهام وظيفته باعتباره ممثلا للتاج البريطاني ورئيسا للهيئة التنفيذية بواسطة وزرائه، وهؤلاء يكونون مسئولين في تدبير شئون وزارتهم أمام البرلمان، وعلى الوزراء أن يتقدموا بالمشورة للحاكم العام الذي يجب عليه أن يتبع هذه المشورة إلا في أحوال معينة يجوز له أن يتصرف على مسئوليته على عكس ما ترمي إليه مشورة الوزير المختص. وللحاكم العام أن يتولى تدبير شئون معينة مستقلا فيها عن الوزارة. وللحاكم العام أن يصدر قرارا على عكس ما يقرره البرلمان، وأن يمنع البرلمان من الاستمرار في بحث موضوع معين، وأن يصدر أوامر تكون لها قوة القانون، وهكذا إذا اطمأن الحاكم العام إلى أن قانونا بعينه سيلقى تأييد غالبية المجلس يقدمه له، وأما إذا خشي رفض الغالبية له يصدره هو مباشرة ويكون لأمره هذا قوة القانون. وتكون أقاليم مدراس وبمباي وبنغال والأقاليم المتحدة والبنجاب وبيهار والأقاليم المتوسطة وأسام وإقليم الحدود الشمالية الغربية والسند وأوريسا وحدات مستقلة استقلالا ذاتيا يتولى شئون كل منها حاكم يمثل الملك ويعاونه ويشير عليه مجلس وزراء يكون مسئولا أمام برلمان الأقاليم، ولمجلس الوزراء حق نصح الحاكم في كل شئون الإقليم فيما عدا المسائل التي يحدد الدستور أنها من اختصاص الحاكم يتولاها في حدود تقديره.
على أن الحاكم حر في الأخذ بمشورة وزرائه وله أن يهمل هذه المشورة، وفي هذه الحالة يتصرف على مسئوليته.
ولكل إقليم برلمان من مجلسين: جمعية تشريعية ومجلس أعلى، ويكون توزيع المقاعد وطريقة الانتخاب في كل إقليم من هذه الأقاليم الأحد عشر تبعا لظروفه ووفاقا لنظام خاص به يحدده المشروع، على أن يكون الاتحاد الهندي اتحادا بين الأقاليم التي لها حاكم خاص وبين الإمارات التي يبدي حكامها رغبتهم في الانضمام إلى الاتحاد، ويتم ذلك بقرار ضم رسمي ينزل به الحكام للتاج عن حقوقهم وسيادتهم في كل الشئون التي يكونون على استعداد لاعتبارها من شئون الاتحاد. وينشأ الاتحاد بإعلان من جانب جلالة الملك، ويرأس السلطة التنفيذية في الاتحاد الهندي بما في ذلك القيادة العليا للجيش والبحرية والطيران، الحاكم العام بالنيابة عن الملك، وتصدر كل الأعمال التنفيذية باسم الحاكم العام، كما أن الحاكم العام يشرف بنفسه على إدارات الدفاع والشئون الخارجية والمسائل الكنسية، ويتألف مجلس الوزراء من أشخاص يختارهم الحاكم العام ويبقون في وظائفهم ما داموا متمتعين بثقته، وعلى الحاكم العام أن يختار الوزراء من بين الأشخاص الذين يستطيعون اكتساب ثقة البرلمان. وللحاكم العام، متى أراد، أن يترأس اجتماعات الوزراء.
وتتألف الهيئة التشريعية في الاتحاد الهندي من الملك ممثلا في شخص الحاكم العام ومن مجلسي البرلمان، وللحاكم العام حق دعوة البرلمان للاجتماع وحله. ويجب أن يجتمع البرلمان مرة على الأقل كل سنة، ولا يجوز أن يطول تعطيله لأكثر من اثني عشر شهرا، ولا تكون القوانين واجبة التنفيذ إلا بعد أن يصدق عليها الحاكم العام بعد موافقة المجلسين، ولا يلغي أي قانون إلا بعد موافقتهما في مدى سنة.
تصديق الحاكم العام
وللحاكم العام، تمكينا له من القيام بواجباته، أن يرسل لأي مجلسي البرلمان مشروع قانون يرفعه برسالة يطلب فيها من المجلس إجازة هذا المشروع في ميعاد يحدده، وأن يرسل لأي المجلسين رسالة في شأن مشروع قانون يكون مطروحا عليه، يطلب فيها إتمام النظر في هذا القانون في أجل يعينه. وللحاكم العام فوق ذلك أن يسحب من أي المجلسين أي مشروع قانون يرى فيه مساسا بسلطاته الخاصة أو يهدد السلم والنظام في الهند تهديدا خطيرا.
ولبرلمان الاتحاد الهندي حق التشريع لنظام وحسن إدارة الاتحاد أو أي جزء داخل فيه. وإذا ما اصطدم تشريع لبرلمان الاتحاد مع تشريع لبرلمان إقليم من الأقاليم التي لها حاكم يكون الأفضلية لتشريع برلمان الاتحاد وهو الذي ينفذ.
وليس لبرلمان الاتحاد ولا لأي برلمان إقليمي أن يشرع للبريطانيين في الضرائب وحيازة الأملاك من أي نوع ومباشرة أي مهنة أو تجارة أو عمل أو وظيفة أو استخدام موظفين أو مندوبين أو في شئون الإقامة والعمل في دائرة حدود الاتحاد.
هذا ورأي أعضاء الجمعية التشريعية الهندية عند طرح هذا المشروع عليهم أنه لا يحقق مطالب البلاد فقرروا رفضه بناء على اقتراح تقدم به السير عبد الرحيم أحد الزعماء وجاء به أن المجلس لا يستطيع أن يقبل هذا المشروع إلا أن تدخل عليه تعديلات يكون من شأنها توسيع اختصاص ممثلي الأمة وتحقيق مطالب البلاد. (راجع صفحة 585 من الجزء الثاني من كتاب تجاربي مع الحقيقة).
أما في عام 1938، فقد أبلغ رئيس المؤتمر بأن «المرحلة النهائية - أي لهدفنا - هو الانفصال من روابطنا بالإمبراطورية البريطانية، فمتى تم هذا ولم يبق هناك أي أثر للحكم البريطاني، فسنكون في موقف يخولنا تحديد علاقتنا المستقبلة ببريطانيا العظمى على أساس معاهدة تحالف، يعقدها الفريقان حرين مختارين». (راجع برقية روتر في 19 فبراير 1938، والنتائج غير الرسمية التي أسفرت عن أن في عضوية المؤتمر 4510038 في 1938 و1543351 في 1941 وأكثر من هذا العدد منذ يومئذ إلى اليوم).
الاستقلال التام والجلاء التام
وعلى هذا انتهت مطالب الوطنيين الهنود، أو حزب المؤتمر الهندي إلى طلب الاستقلال الصريح التام، والجهر بالانفصال عن الإمبراطورية البريطانية؛ أي الخروج من نظامها وعدم قبول الحكم الذاتي الداخلي أو نظام الدومينون - الأملاك المستقلة ككندا وأستراليا - ولقد وضح هذا منذ عقد مؤتمر أرميتزار في 1919، حين انتخب موتيلال نهرو، وهو من أنبل طراز الساسة الهنود، رئيسا للمؤتمر، وإن كان غاندي قد لبث الروح الملهمة والمحركة للحزب الوطني الهندي؛ أي المؤتمر. ولقد كان موهانداس كارامشاندي غاندي - هذا الزعيم الملهم خالد الذكر حيا وبعد الموت - في الخمسين، حين أصبح بمثابة أكبر شخصية في الهند الحديثة.
المؤتمر الوطني والحكم الذاتي
منذ أواخر القرن الماضي، القرن التاسع عشر، بدت أمارات الديمقراطية والمطالبة بالحكم الذاتي واشتراك الهنود في حكم بلادهم وإحلالهم محل البريطانيين، وكان من أثر هذا تطبيق نظام جلادستون رئيس الوزارة البريطانية يومئذ (1880-1885) ذلك أن اللورد ريبون الحاكم العام للهند أخذ يدخل النظام التمثيلي «النيابي» فيها منذ إنشاء المجالس البلدية، كما أنه ظهر بعض الهندوس المتعلمين الناطقين بالإنجليزية، مما أفضى إلى تأليف المؤتمر الوطني الهندي في 1885 الذي كان يمثل فئة قليلة هم جماعة النابهين المثقفين الواقفين على أصول الحضارتين الهندية والغربية المتشبعين بالمبادئ الوطنية، وقد نمت المجالس البلدية الهندية إلى أن أصبحت اليوم تنهض بأعباء المصالح المحلية لعشر بلاد الهند البريطانية.
ثم إن اللورد مورلي أو أرجون مورلي قد عاون اللورد منيتو في سبيل إنشاء حكومة نيابية، كذلك تم تعيين عضوين هنديين؛ أحدهما هندوسي والثاني مسلم في مجلس الهند، وفي 1909 صدر قانون خول إدخال أعضاء منتخبين للمجلس الهندي التشريعي وإن كانوا أقلية فيه.
وفي الحرب العالمية الأولى 1914-1918 لبثت الهند خلال الحرب العالمية الأولى هادئة.
التعديلات التشريعية
وفي 1935 صدر قانون الحكومة الهندية الجديد، وبدئ في تطبيقه منذ أبريل 1937، وطبقا لهذا القانون، انتهى مجلس لندن، وفصلت بورما عن الهند، وأنشئ اتحاد للهند كلها، للأمراء الهنود حق الاشتراك فيه، متى وافقوا عليه، من غير أن يكون لهذا الانضمام أي مساس بسلطتهم الداخلية. على أن إنشاء الاتحاد لن يتم إلا إذا انضم إليه نصف الإمارات، ومما يخوله هذا القانون، أن يكون للهند - شكلا - نظام الدومنيون، فيكون لها حاكم عام كما في كندا، ومجلس مؤلف من 252 تختارهم المجالس التشريعية الإقليمية، و215 عضوا من الإمارات، وهناك مجلس أعلى يسمى مجلس الدولة، وللحاكم العام مجلس من الوزراء مسئول أمام الهيئة التشريعية، على أن للحاكم العام في الهند، دون الأملاك البريطانية المستقلة، أن يعمل بالتعاون مع وزير الهند في إصدار ما يراه الأول، كذلك بقي للبرلمان البريطاني الإشراف على شئون الهند من الناحية العامة، ويبدو أن هذا القانون أو الدستور لم ينفذ كل ما ورد فيه، ذلك أن المؤتمر الوطني يعارض في اشتراك بلاد الأمراء ما دام حكمهم أتوقراطيا، وهم - من ناحيتهم - لم ينضموا إلى هذا الاتحاد، ثم إن الحكومة البريطانية قد استمسكت بأمر الدفاع عن الهند، وبالاستئثار بضبط الأمن، ولو أدى هذا إلى استخدام القوة، وعلى هذا لبثت فكرة إنشاء دستور ومؤتمر للهند كلها حبرا على ورق.
صيام غاندي بعد مقاطعة الدستور الجديد
كذلك نهض غاندي فصام من أجل وطنه وأعلن عدم التعاون مع الحكومة والصوم شعاره في كل حركة.
لجنة سيمون
لم يسع الحكومة البريطانية حيال هذا إلا أن توفد إلى الهند لجنة يرأسها سير جون سيمون بين عامي 1928-1929 ثم أتبعتها بلجنة أخرى، قدمت تقريرا عن الولايات والحكومات الهندية الوطنية، أما المؤتمر فقد طالب بالحكم الذاتي «السوارج». وفي 1930 أقيم مؤتمر المائدة المستديرة في لندن وقد حضره الساسة البريطانيون والهنود ومنهم المهاتما غاندي. هذا وكلما استيقظ الهنود، وضحت مطالبهم فكانت في البداية محدودة الأغراض ثم تطورت إلى طلب الحكم الذاتي داخل نطاق الإمبراطورية، ثم تقدمت خطوة أوسع نحو السوارج وله في اللغة الهندية معان مختلفة؛ منها الاستقلال، وهو ما أقره المؤتمر الهندي الذي يشبه، على نوع ما ومع الفوارق، الوفد المصري حين تألف برياسة سعد زغلول في أواخر 1918، والكتلة الوطنية في سوريا، والكتلة الدستورية في لبنان، واللجنة العليا في فلسطين. وكان «السوارج» عند غاندي في بداية الأمر يعني الحكم الذاتي داخل الإمبراطورية البريطانية متى كان هذا ميسورا أو خارجا عنها إذا ما قضت الضرورة بهذا الانفصال. وفي حرب 1914 لم تحدث أية ثورة أو تمرد بل بادر أمراء الهند إلى تعبئة رجالهم واشتراكهم في ميادين القتال في فرنسا ومصر والعراق والشرق العربي، وقد بلغ عدد الجنود الهنود 200 ألف في تلك الحرب، ومليونين في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وكان من أثر هذا الاشتراك أن دعيت الهند إلى المؤتمر الإمبراطوري الذي عقد في 1917 وأن صدر في 20 أغسطس 1917 في مجلس العموم البريطاني إقرار «تصريح» جاء فيه: إن سياسة حكومة جلالة الملك ترمي إلى زيادة اشتراك الهنود في كل فرع من فروع الإدارة تمهيدا للتدرج في تحقيق الحكم الذاتي في الهند. وفي ديسمبر 1917 أعرب المؤتمر الهندي عن ارتياحه وشكره لهذا الإقرار، وفي سنة 1919 صدر قانون ينشئ هيئة تشريعية جديدة من مجلسين: أعلى حكومي والأدنى للهنود، وكذلك خولت الأقاليم سلطات أكبر، غير أن السيادة البريطانية في لندن تقف خلف هذا كله، ولقد قاطع المؤتمر الهندي هذا الدستور، وقامت الفتن والاضطرابات في الهند مما كان من أثره أن القائد البريطاني في أرمتزار في 1919 قد أطلق النار على جماعة غير مسلحين، فأصاب مقتلا من 379 وجرح أكثر من ألف ...
وحين قامت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) نهض الهنود أو قل فريق من مفكريهم ومواطنيهم يطالبون الحكومة البريطانية بإعلان الحكم الذاتي للهند - كما قدمنا - وذلك بالاستناد إلى اشتراك الهنود وتضحياتهم في سبيل الإمبراطورية في تلك الحرب، وإلى مبادئ ويلسون وحق كل أمة في أن تقرر مصيرها بنفسها، وإلى ما للهند والأمة الهندية من مكانة في عالم الأمم. غير أن الحكومة البريطانية - كما ذكرنا قبلا - لم توافق على هذه المطالب. ثم إنه حين نشبت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) أعلنت الحكومة البريطانية على لسان نائب الملك في الهند، أن بريطانيا العظمى - مع قدرها المعونة التي قدمتها الهند، ومع تأكيدها العهود التي سبق قطعها لتحقيق أماني الهند في الاستقلال الذاتي - ترى أن ترجئ بحث التسوية النهائية إلى ما بعد انتهاء الحرب.
الإمارات الهندية
إلى جانب «هند» الإمبراطورية البريطانية، تقوم مئات الإمارات الهندية الخاضعة، في السياسة الخارجية على الأقل، للدولة البريطانية أو حكومة الهند، أما عدد سكان هذه الإمارات فهو سبعون مليونا، أكبرها إمارة حيدرباد، التي مساحتها 82700 ميلا وسكانها 14500000، أما أصغرها فيتألف كل منها من مساحات صغيرة؛ أي بضعة أميال مربعة. ويمكن القول إجمالا بأن لهذه الإمارات نوعا من الاستقلال الذاتي الداخلي كالبوليس والقوانين وفرض الضرائب وتحصيلها والميزانية وتعيين الموظفين، وأن أمراءها حكام بأمرهم، يعد أكثرهم إمارته ضيعة أو إقطاعية له، وسكانها عبيدا أو في حكم العبيد، غير أنه يبدو أن هؤلاء قانعون بحالهم لأنهم ألفوها منذ القرون الطويلة، ولأن الجهل هو الذي يسود نشأتهم ومجتمعهم، ولأنهم - إلى هذا - منقطعو الصلة بالعالم الخارجي، ومن أجل هذا كانت ثروة أمراء الهند، مما تعد أرقامه خيالية، ولبريطانيا - كما قدمنا - في هذه الإمارات نوع من الحماية أو الوصاية، يقوم في الغالب على المعاهدات المعقودة أو الكتب المتبادلة، ولعل أهم شروط هذه الاتفاقات؛ أن لا يكون للإمارات أية علاقات بالدول الأجنبية الأخرى، ولا أن تقوم بين بعض الإمارات وبعضها الآخر العلاقات الدبلوماسية، وأن يشرف البريطانيون على بعض المصالح العامة كالمواصلات والتلغراف، وأن يوجد «مقيم بريطاني» لدى بلاط الأمير ، وعلى رأس الإمارات حيدرباد وبارودا وميسور وكشمير وراجبوتانا والبنجاب وغيرها، وهي تشمل سبعين مليونا، وترتبط مباشرة بالتاج البريطاني، وهي بهذا الوضع بعيدة عن نفوذ الهند.
مقترحات السير ستافورد كريبس
في 1941 ذهب السير ستافورد كريبس أحد الوزراء العمال في الحكومة الائتلافية برياسة المستر تشرشل إلى الهند، موفودا منها لإقناع الزعماء الوطنيين هناك بقبول المقترحات الجديدة التي عرضها. غير أنهم ومعهم غاندي استمسكوا بوجوب إعلان الاستقلال التام للهند وجلاء الجنود البريطانية عنها منذ يومئذ، وعدم إرجاء تحقيق ذلك إلى ما بعد الحرب، وقد أعقب هذا اعتقال الوطنيين ومرض غاندي.
وقد وضعت هذه المقترحات على صورة بيان أو تصريح أذيع يومئذ، والتصريح شطران، يختص أولهما بالكلام عن الدستور وطريقة وضعه والوعد بعقد معاهدة، أما الشطر الثاني فللكلام عن مسئولية الدفاع عن الهند إلى مراحل التنفيذ فيتناول طبقا للتصريح ما يأتي: (1)
عند انتهاء الحرب تجرى الانتخابات لمجالس النواب والهيئات التشريعية الإقليمية. (2)
تنقسم المجالس والهيئات هيئة واحدة تتولى وضع الدستور طبقا لنظام التمثيل النسبي؛ أي أن الولايات الهندية تمثل بالنسبة لعدد سكانها. (3)
تتفاوض هيئة الدستور في عقد معاهدة مع الحكومة البريطانية تتناول جميع المسائل التي تترتب على انتقال التبعة في إدارة البلاد من أيدي البريطانيين إلى أيدي الهنود، وسينص فيها طبقا للتعهدات التي تعطيها الحكومة البريطانية على حماية الأقليات الطائفية والدينية.
أما الأهداف التي ترمي إليها هذه الاقتراحات فهي إنشاء اتحاد هندي يتم برضاء الولايات الهندية على نسق نظام «الدومنيون» في أستراليا وكندا ونيوزيلندا ويكون داخلا في نطاق الإمبراطورية البريطانية.
أما الشطر الثاني فهو أنه لما كان من المعروف أن في الهند أديانا متعددة وأقليات دينية أكبرها الطائفة الإسلامية التي تبلغ 80 مليونا فقد كفلت الاقتراحات البريطانية مصالح هذه الطوائف فجعلت من حق الولايات والإمارات الإسلامية إذا شاءت أن لا تنضم إلى الاتحاد، وفي هذه الحالة يكون لها دستورها ونظامها الذي ترتضيه. (4)
حرصت الحكومة البريطانية على أن تتضمن المعاهدة التي تنظم استقلال الهند ما يكفل حماية الأقليات الدينية والطائفية. (5)
وأخيرا للاتحاد الهندي طبقا لنظام الدومنيون الحق في الانفصال عن مجموعة الشعوب البريطانية إذا رأى أن ذلك في مصلحته.
هذا وقد أذاع السير ستافورد كريبس المقترحات البريطانية للاتحاد الهندي الجديد في أثناء اجتماعه بمندوبي الصحف بعنوان «مشروع المناقشات مع زعماء الهند» وقبل أن يتلو السير ستافورد نص المقترحات قال لمندوبي الصحف: إن من الصعب أن يتصور المرء مسألة أعظم خطورة من هذه المسألة التي سيتوقف عليها مستقبل شعب مؤلف من 350 مليون نفس وسعادته وحريته. وفيما يلي نص هذه الاقتراحات:
إن النتائج التي وضعتها وزارة الحرب البريطانية في الصيغة التي ستأتي بعد هي النتائج التي حملها السير ستافورد كريبس معه لبحثها مع زعماء الهنود. أما مسألة هل تنفذ هذه الاقتراحات فأمرها يتوقف على نتيجة المباحثات التي تدور الآن.
إن حكومة صاحب الجلالة بعد أن نظرت في الأفق الفكري الذي بدا في هذه البلاد «إنجلترا» وفي الهند من جراء مصير العهود التي قطعت فيما يتعلق بمستقبل الهند، قررت أن تضع في عبارات واضحة مقترحات لتحقيق الحكم الذاتي للهند في أقرب وقت ممكن، والغرض من هذه المقترحات هو إنشاء اتحاد هندي جديد يتألف منه «دومنيون» تشترك في الولاء للتاج البريطاني وتكون مساوية للممتلكات المستقلة في جميع الوجوه، ولا تكون في حال ما خاضعة في شئونها الداخلية أو الخارجية لغيرها، وعلى ذلك تعلن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي: (أ)
عند انتهاء الحرب ستتخذ التدابير اللازمة لإنشاء هيئة منتخبة بالصورة التي ستذكر فيما بعد، تكون مهمتها وضع دستور جديد للهند. (ب)
سينص بالصورة التي ستذكر فيما بعد على اشتراك الولايات الهندية في الهيئة التي ستتولى وضع الدستور. (ج)
تتعهد حكومة صاحب الجلالة بأن تقبل وتنفذ في الحال الدستور، الذي سيوضع على شرط أولا أن يكون لكل ولاية من ولايات الهند البريطانية التي لا تبدي استعدادها لقبول الدستور الجديد حق الاحتفاظ بمركزها الدستوري الحالي، وسينص على الشروط التي تتخذ لقبولها الانضمام (إلى الدستور الجديد) إذا شاءت ذلك فيما بعد. أما الولايات التي لا تقبل الانضمام فإن الحكومة صاحبة الجلالة ستكون مستعدة لقبول دستور جديد يخول هذه الولايات نفس المركز السياسي الذي يمنح للاتحاد الهندي ويكون الوصول إليه بإجراء يماثل الإجراء المنصوص عليه هنا.
توقع معاهدة تدور المفاوضات بشأنها بين حكومة صاحب الجلالة والهيئة التي يعهد إليها في وضع الدستور، وهذه المعاهدة تتناول جميع المسائل اللازمة التي تترتب على انتقال التبعة من أيدي البريطانيين إلى أيدي الهنود انتقالا تاما، وسينص فيها طبقا للتعهدات التي تعطيها حكومة صاحب الجلالة على حماية الأقليات الطائفية والدينية.
ولكنها لن ترفض أي قيد على سلطة الاتحاد الهندي فيما يتعلق بما قرره في المستقبل بشأن علاقتها بالأعضاء الآخرين من مجموعة الأمم البريطانية، وسواء اختارت إحدى الولايات الهندية الانضمام إلى الدستور أو لم تختره، فإنه سيكون من الضروري المفاوضة في شأن تعديل الترتيبات المنصوص عليها في المعاهدة من حيث ما تتطلبه الحالة الجديدة. (د)
تؤلف الهيئة التي تتولى وضع الدستور على الوجه الآتي: إذ لم يوافق زعماء الرأي الهندي في الطوائف الرئيسية على شكل آخر قبل انتهاء الحرب وجب على جميع أعضاء مجالس النواب والهيئات التشريعية الإقليمية أن يشرعوا كهيئة انتخابية واحدة في انتخاب الهيئة التي تتولى وضع الدستور طبقا لنظام التمثيل النسبي، وكل هذا على أثر إعلان نتيجة الانتخابات الإقليمية التي يجب أن تجرى عند انتهاء الحرب، وهذه الهيئة الجديدة ستكون من حيث عددها نحو عشرة، عدد الهيئة الانتخابية، وستدعى الولايات الهندية إلى تعيين ممثليها بالنسبة نفسها من حيث مجموع عدد سكانها كما حدث فيما يتعلق بممثلي الهند البريطانية، على أن يكون لهم السلطات نفسها التي يتمتع بها أعضاء الهند البريطانية.
ولا مناص لحكومة صاحب الجلالة في خلال هذه الفترة الخطيرة التي تواجه الهند الآن وإلى أن يستطاع وضع الدستور الجديد من أن تتحمل مسئولية الدفاع عن الهند، وتحتفظ بالإشراف والتوجيه في شئون هذا الدفاع كجزء من المجهود الذي تبذله في الحرب العالمية. أما مهمة تنظيم وسائل الهند العسكرية والمادية والأدبية فيجب أن تكون من اختصاص الحكومة الهندية بالتعاون مع شعوب الهند.
إن حكومة صاحب الجلالة تريد وتدعو في الحال إلى اشتراك زعماء الطوائف الرئيسية في الشعب الهندي اشتراكا فعالا في مجالس بلادهم وفي مجموعة الأمم البريطانية وفي الأمم المتحدة، وهكذا يستطيعون بذل مساعدتهم الإنسانية الفعالة في القيام بالمهمة الجوهرية الخاصة بحرية الهند في المستقبل. وبعد أن انتهى السير ستافورد من تلاوة هذه المقترحات والإجابة عن الأسئلة التي وجهت إليه قال: إن الدفاع عن الهند لن يكون في أيدي الهنود ولو أرادت ذلك جميع الأحزاب؛ لأن هذا يكون من أسوأ الأمور للدفاع عن الهند؛ إذ من شأنه أن يخل بجميع أنظمة الدفاع، ومثل هذا الإخلال يجر وراءه الخراب.
وقال السير ستافورد بعبارة صريحة: إن المشروع جزء لا يتجزأ، فإما أن يقبل كله أو يرفض كله، ويستحيل أن يحتفظ فقط بالجزء الذي يتعلق بالترتيبات العاجلة ويترك الجزء الأخير من المشروع. وصرح السير ستافورد بأن سيكون للاتحاد الهندي مطلق الحرية في تقرير علاقاته المقبلة بأعضاء مجموعة الأمم البريطانية ومنها بريطانيا العظمى؛ أي سيكون حرا تماما في البقاء داخل مجموعة الأمم البريطانية أو السير بدونها.
مؤتمر سملا
دعا الفيلد مارشال اللورد ويفل الحاكم العام للهند في صيف 1945، زعماء الهند الهندوسيين والمسلمين خاصة رجال المؤتمر وغاندي والسيد أبو الكلام أزاد رئيس المؤتمر الوطني وزعيم المسلمين المؤيدين للوحدة الهندية، والسيد محمد علي جنه رئيس الرابطة الإسلامية وزعيم المسلمين القائلين بانفصال ولايات المسلمين عن غيرها، إلى عقد مؤتمر في سملا.
وقد أخفق مؤتمر سملا، وتألفت حكومة العمال بأغلبية ساحقة في إنجلترا وفيها الوزير ستافورد كريبس، ودعي اللورد ويفل الحاكم العام للهند إلى إنجلترا منذ 26 أغسطس إلى منتصف سبتمبر 1945 لكي تنفذ مقترحات ستافورد كريبس وتسوي المسألة الهندية تسوية تامة، بعد أن كان ويفل معتزما في عهد حكومة تشرشل وضع تسوية وقتية. ولا يزال محمد علي جنه رئيس الرابطة الإسلامية الهندية يطالب «بالباكستان»؛ أي استقلال الولايات التي غالبيتها مسلمون عن الولايات الأخرى، وعاد الوطنيون يقترحون معاهدة كمعاهدة التحالف بين مصر وإنجلترا. ومهما يكن من شيء فالمسألة الهندية في سبيل التسوية السياسية، ونحن نرجو أن يتحقق للهند استقلالها ووحدتها .
تصريح السير ستافورد كريبس
هذا وقد أكد السير ستافورد كريبس في لندن في 4 أغسطس 1945 «أن شئون الهند لن تكون من اختصاص وزير واحد، ولكن ستتولاها لجنة للهند مؤلفة من بعض أعضاء الوزارة البريطانية، ويرأسها المستر أتلي رئيس الوزارة، فإن الحكومة البريطانية لا ترضى بأن يكون إخفاق مشروع ويفل للهند عائقا يحول دون القيام بعمل جديد في المسألة الهندية، ولن تبذل جهود لحمل الهند على قبول تسوية مؤقتة، بل ستعمد في الحال إلى العمل على الوصول إلى تسوية دائمة، فلقد فات أوان التسويات المؤقتة، هذا وستنقل شئون الهند إلى وزارة المستعمرات».
Unknown page