كلمة تمهيدية
مقدمة
المسألة الحبشية وجارات السودان
الحبشة والمسألة الحبشية
من تاريخ الحبشة
عصبة الأمم ووظيفتها
قناة السويس، وهل تغلق؟
الغازات والأسلحة الجهنمية
حرب الحبشة وجوها وفصولها
كلمة أخيرة وبيانات
كلمة تمهيدية
مقدمة
المسألة الحبشية وجارات السودان
الحبشة والمسألة الحبشية
من تاريخ الحبشة
عصبة الأمم ووظيفتها
قناة السويس، وهل تغلق؟
الغازات والأسلحة الجهنمية
حرب الحبشة وجوها وفصولها
كلمة أخيرة وبيانات
المسألة الحبشية
المسألة الحبشية
تأليف
عبد الله حسين
كلمة تمهيدية
تحتل المسألة الحبشية الصدر الأول من أخبار الصحف وأنباء المجالس والأندية وتستأثر بالنصيب الأوفى من اهتمام الجمهور، وقد خبرت ذلك بسبب مهنتي؛ فمنذ ظهرت المسألة الحبشية وشغلت أنباؤها الأذهان، رأيت الكثيرين من الفضلاء يزورون مكتبتي ويسألونني عن الكتب المؤلفة في «الحبشة».
المؤلف.
صحيح أن هناك كتبا مؤلفة في هذا الموضوع، ولكنها لا تشفي غليل الطلاب الراغبين في تتبع أخبار الصحف السيارة والوقوف على تاريخ جلي للنزاع الإيطالي الحبشي، وليس في الكتب المؤلفة قبل نجوم النزاع ما يفي بحاجتهم.
جلالة هيلا سيلاسي إمبراطور الحبشة الحالي.
من أجل ذلك توجهت إلى حضرة العلامة الباحث المحقق، والمؤرخ المدقق، والكاتب الكبير، والسياسي المحنك، والوطني الغيور؛ الأستاذ عبد الله حسين المحامي، ورجوته أن يضع للجمهور كتابا في «المسألة الحبشية»؛ لعلمي بأن حضرته قد توافر على البحث فيها خلال تأليفه ذلك الكتاب الفذ النادر المثال «كتاب السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية» الذي يقع في ثلاثة أجزاء، والذي أجمع المطلعون عليه على أنه لا مثيل له فيما صدر من تواليف عن السودان باللغات كلها.
بيد أن الأستاذ المؤلف قد اعتذر بضيق الوقت وبانحراف صحته، فناشدته باسم المصلحة الوطنية أن يلبي طلب الجمهور، فبسط حضرته لي ما ينبغي أن يشتمل عليه كتاب يؤلف في المسألة الحبشية من بيانات وإحصاءات وصور وخرائط وعرض لحالة كل من الحبشة وإيطاليا وعصبة الأمم، وما إلى ذلك من شئون عسكرية واقتصادية وسياسية وعلاقة ذلك بمصر والسودان وأفريقيا، ومثل هذا البحث يحتاج إلى شهور ومراجعات كثيرة، لا يتسع له الوقت.
ولكني ذكرت له أنه يكفي وضع مؤلف يلم بالمسألة الحبشية ويساعد الجمهور على تتبع الأخبار الجديدة؛ لأن من بين القراء من يتعب ويكل ويضل عن مطالعة شتات الأنباء المتناقضة والشروح الناقصة. «الدوتشي» السنيور موسوليني زعيم إيطاليا ورئيس حكومتها.
وبعد إلحاح في الرجاء، تفضل الأستاذ المؤلف فوضع هذا الكتاب وقد أخرجه وافيا ببيان المسألة الحبشية ولا سيما الطور الأخير من أطوارها، وها هو الكتاب قد صدر بحمد الله تعالى. ولا شك في أن القراء سيجدون فيه من الفوائد والبيانات ما سيحملهم على مشاركتنا في شكر حضرة المؤلف على مجهوده، والرجاء في أن يتمكن في القريب العاجل من وضع المؤلفات الأخرى في الحروب الحبشية وفق ما يوده المؤلف من بيان كامل وتحقيق وبالدقة المعروفة عنه في مؤلفاته وكتاباته وبحوثه القانونية المشهورة.
ويجد القارئ في هذا الكتاب بيانات مفيدة عن الحبشة وعاداتها وحكامها وملوكها، وعلاقاتها بغيرها وبإيطاليا والسودان ومصر، وعصبة الأمم ووظيفتها، وقناة السويس ومسألة إغلاقها، والغارات الجوية والغازات الخانقة - وقانا الله شرها، وفضلا عن ذلك فإن حضرة الأستاذ المؤلف يعد أول مؤرخ في العالم قد أرخ الحوادث الأخيرة التي وقعت بين سبتمبر وأكتوبر سنة 1935، وأرجو أن يوفقه الله إلى تأريخ الحوادث التالية.
والله أسأل أن يمنحه وافر الصحة والعافية، وأن يحفظه ذخرا للعلم، وأن ينفع به البلاد والعباد، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
11 أكتوبر سنة 1935
إبراهيم يوسف
صاحب مكتبة الأهرام بشارع محمد علي بالقاهرة
مقدمة
في أثناء مطالعاتي ومراجعاتي وكتاباتي لتأليف كتابي «السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية»، جعلت نصب عيني أن أحيط بعلاقات السودان بجاراته، ولقد ألفيت للحبشة «إثيوبيا» نصيبا كبيرا من الصلات التاريخية المتواصلة مع مصر والسودان، وأصبح لزاما علي أن أتناول الكلام على «إثيوبيا» بشيء غير قليل من البيان.
الإمبراطورة الحالية وايزو منن.
على أنني رأيت أن تاريخ «إثيوبيا» يتسع أمامي أحيانا وينبهم أحيانا أخرى، ثم تفاقم النزاع بين الحبشة وإيطاليا منذ حادث ولوال إلى اليوم؛ حيث أصبح القتال دائرا فعلا بين الإيطاليين والحبشان في الأرض الحبشية ذاتها ، وأصبحت الحرب بين الفريقين مهددة السلام العالمي كله؛ مما دعا عصبة الأمم إلى موالاة الانعقاد - بلجانها ومجلسها - وحفز إنجلترا للاستعداد الحربى الوافي في حوض البحر الأبيض المتوسط، وأصبحت مصر معسكرا حربيا، ويوشك أن تتخذ فيها إجراءات استثنائية تحوطا للطوارئ.
أمام هذا كله رأيت أن الكلام على «المسألة الحبشية» يتناول طورها الحاضر وهو عندي أهم من أطوارها الماضية جميعا؛ لأن الخلاف بين الحبشة وإيطاليا وسواها كان خلافا محدودا، أما الخلاف اليوم فقد أضحى نزاعا دوليا أقلق بال العالم، وأقض المضاجع، وجعل من مصر ميدانا محتملا من ميادين القتال والحرب.
وقد وجب على مؤرخ «المسألة الحبشية» أن يؤرخ الطور الحالي لها، وأن لا يقنع - كما فعل المؤلفون المؤرخون الذين قرأنا كتبهم الجديدة - بالتاريخ الماضي فقط. •••
رأيت عندئذ البحث يتسع والموضوع يتشعب، وأن المسألة الحبشية لا بد أن تكون موضوع كتاب خاص، ولا يكفي لها أن تكون فصلا من فصول كتاب «السودان»، وأن أرجع إلى الصحف في تدوين الأخبار.
وقد حملني دقة البحث وتشعبه وما أصابني من مرض وإعياء بعد تأليف كتاب السودان ثم الإشراف على طبعه، على أن أدع وضع تاريخ للحبشة إلى فرصة أخرى.
وفيما كنت أذكر رأيي هذا أمام أخصائي، رأيت منهم إلحاحا في وجوب مواصلة المجهود وإخراج كتاب في المسألة الحبشية، ولو كان موجزا، على أن يكون البحث في التفاصيل الأخرى وحروب الحبشة موضوع كتاب أو كتب أخرى. وهأنذا أخرج هذا الكتاب شاملا المسألة الحبشية منذ القديم حتى أكتوبر سنة 1935، ومعها بيانات عن الحبشة وإدارتها والفاشستية، وعصبة الأمم، والغازات.
والله أرجو أن يوفقني إلى إفادة القراء، وأن يسبغ علي محبتهم ورضاءهم وعفوهم.
المؤلف
12 أكتوبر سنة 1935
المسألة الحبشية وجارات السودان
يجاور السودان بلاد كثيرة، ومن تمام الكلام عن السودان التحدث عن جاراته، فيحده شمالا مصر - وقد تكلمنا عن علاقاتها بالسودان في أجزاء كتاب «السودان» الثلاثة - ثم طرابلس الغرب، ومن الغرب «واداي» التي أصبحت الآن وبعد توزيع المستعمرات الألمانية جزءا من «أفريقيا الاستوائية الفرنسية»، وفي الجنوب الكونغو البلجيكية، ومستعمرتا أوغندا الإنجليزية وكنيا الإنجليزية، وفي الشرق أريتريا والحبشة.
ولما كانت المسألة الحبشية هي أهم حوادث العالم الحالية، والحرب بينها وبين إيطاليا وشيك الوقوع، فقد أسهبنا الكلام عليها.
طرابلس الغرب
مستعمرة إيطالية، وكانت حتى سنة 1912 ولاية تحت حكم الأتراك، وتقع في أقصى الشمال بين الأمم العربية الشمالية، وتحد من الغرب بتونس وفي الجنوب بصحراء ليبيا وفي الشرق بالقطر المصري وفي الشمال بالبحر المتوسط، وقد وافقت بريطانيا على أن تضم جغبوب وواحة الكفرة إلى طرابلس، وقد قبلت الحكومة المصرية ذلك في مقابل تعديل حدودها عند السلوم، وتبلغ المساحة على وجه التقريب حوالي 500 ألف ميل مربع، ويختلف السكان اختلافا نوعيا في الأصل، والتعداد في سنة 1921 بلغ نحو 550000، منهم 20 ألف أوروبي في القسم المسمى طرابلس، أما في القسم الآخر برقة فبلغ العدد 235000 منهم 10 آلاف أوروبي، وكل جزء له حاكم ومجلس، والقسم الأول عاصمته طرابلس والقسم الثاني عاصمته بنغازي.
واداي من أفريقيا الاستوائية الفرنسية
واداي
Waday
منطقة تقع في أفريقيا الاستوائية الفرنسية بين بحيرة شاد ودارفور، وكانت سلطنة وطنية قوية ولكنها لا تزال نصف مستقلة، وهي بين البداوة والحضارة، وبها واحات خصبة؛ حيث تنمو المحاصيل فيها وفي الجنوب الغابات وعاصمتها أبو شير، وتبلغ مساحة المنطقة حوالي 170 ألف ميل مربع، وعدد السكان 1000000 نفس.
الكنغو البلجيكي
وصفتها الدول الأوروبية كدولة حرة في مؤتمر برلين سنة 1885، وهي مستعمرة بلجيكية كبيرة، ومساحتها تبلغ 900 ألف ميل مربع، وتقع بين الكنغو الفرنسي في الشمال الغربي وأفريقيا الغربية البرتغالية في الجنوب الغربي، وروديسيا في الجنوب والجنوب الشرقي، وتجانيقا وأوغندا في الشرق والسودان المصري الإنجليزي في الشمال الغربي، والشاطئ يمتد نحو 35 ميلا شمال مصب نهر الكنغو، وتقترب في الشرق من: البحيرات، موبرا، تنجانيقا، إدوارد. والإقليم ليس بجبلي، وتتكاثف أشجار المطاط في الغابات السوداء ويقطنها حيوانات كثيرة غريبة، ويوجد بها الماس والذهب والنحاس والقصدير، والقبائل مختلفة وفي بقاع عديدة يعيش الأقزام في الغابات وتتبع إدارتها حكومة بروكسل ويحكمها الحاكم العام للمستعمرة، كما أن الكنغو البلجيكي أهم منبع تستمد منه مادتا الراديوم والكريلت، والسكان حوالي 8 مليون وخمسمائة ألف ، منهم ثمانية آلاف من الأجانب.
أوغندا
تحت الحماية الإنجليزية، وهي في شرق أفريقيا، وتقع على جانبي خط الاستواء، وتحد من الشمال بالسودان، ومن الشرق بمستعمرة كنيا، وفي الجنوب ببحيرة فيكتوريا ومستعمرة تنجانيقا وفي الغرب بالكنغو، المساحة 98776 ميلا مربعا، بما في ذلك 15017 ميلا مربعا يشمل: بحيرات كيوجا، وأجزاء من البحيرات: فكتوريا، إدوارد، ألبرت. وفي الشمال الأرض منبسطة ما عدا في الوسط، والجو حار جاف، وسكانها ثلاثة ملايين ومائة وخمسون ألفا، منهم سبعمائة ألف تابعون لأوغندا وهم مسيحيون نبهاء، والباقي سودانيون وقبائل أخرى، بينما بعض الأقزام التابعون للكنغو يعيشون بالقرب من نهر السمليكي.
كنيا
كانت حتى سنة 1920 تحت حماية شرق أفريقيا، والآن هي مستعمرة إنجليزية تحت الرعاية الإنجليزية، يحدها أرض الصومال الإيطالي، والحبشة بحيرة رودلف وأوغندا وبحيرة فكتوريا، ومستعمرة تنجانيقا والمحيط الهندي، وتغطي الغابات مساحات شاسعة؛ فهي نحو3600 ميل مربع وتحتوي على بعض أنواع الأخشاب المتينة، ومساحتها 245 ألف ميل مربع، ويبلغ عدد السكان نحو مليونين وخمسمائة ألف بما في ذلك نحو عشرة آلاف أجنبي، و22 ألف هندي وعشرة آلاف عربي.
خريطة بلاد الحبشة.
الحبشة والمسألة الحبشية
الحبشة يطلق عليها اسم سويسرة أفريقيا، وهي من وادي النيل العلوي إلى الجزء الجنوبي الغربي من البحر الأحمر، ممتدة جهة المحيط الهندي، وتقع بوجه أصح بين السودان المصري والشاطئ الإيطالي أريتريا، وقد تكونت مناظرها الجبلية الخلابة نتيجة ثوران بركاني شديد، وتنقسم إلى الأقسام الأساسية الآتية: نياجرا في الشمال، وأمهارا في الوسط، وشوا في الجنوب.
وتقع أرض منخفضة جرداء بين الأراضي المرتفعة والبحر الأحمر، تقطنه قبائل مميزة عن الأحباش تمت للمصريين. ومساحتها تبلغ 350 ألف ميل مربع، بما في ذلك أرض الصومال الحبشي؛ وهي عبارة عن هضبة عظيمة يبلغ ارتفاعها سبعة آلاف قدم، ويكون الانحدار نحو ساحل البحر الأحمر شديدا ونحو حوض النيل تدريجيا.
وتنقسم الأرض إلى ما يشبه الجزائر بواسطة مجاري المياه التي نحتت لنفسها في الصخر إلى عمق كبير يصل إلى أربعة آلاف قدم، وقد تصل قمم الجبال إلى علو 15 ألف قدم، وتبلغ درجة حرارة السهول المتوسطة الارتفاع التي تزدحم بالسكان علو 5000-8800 قدم من 77-95 وتنمو فيها النباتات الاستوائية.
وفي أثناء فصل الأمطار الذي يقع من أبريل إلى سبتمبر يغطي الثلج قمم الجبال العالية، ولا يذوب هذا الثلج على علو 13 ألف قدم، وفي وديان الأنهار وفي الأراضي الغدقة تكون الحرارة والرطوبة مميتة وخانقة، وفي الجهات المنخفضة تجاه البحر الأحمر يصبح الجو حارا جافا، ويزرع محصولان أو ثلاثة في بعض الجهات سنويا.
ومن المحاصيل المهمة: الموز، النحيل، القصب، العنب، البرتقال، الليمون، القطن، النيلة البرية، والبن. وتزرع الهضاب العليا القرطم والشعير، ويبلغ سكانها ما بين أربعة وخمسة ملايين بين عناصر مختلفة، وبعضهم يقدر عدد السكان بعشرة ملايين، وليس هناك إحصاء صحيح؛ نظرا لاتساع المساحة وكثرة القبائل، ويقال إن مسلمي الحبشة هو ثلث سكانها. (1) أصول السكان
الأحباش من حيث الدم سلالتان؛ إحداهما: زنجية، لأفرادها كل ملامح الزنوج من الشعر المفلفل إلى الأنف الأفطس، وهؤلاء يسكنون الأقاليم الغربية، وهم متأخرون يمارسون ضروبا من القسوة التي تبلغ التوحش ويزينون أكواخهم بغنائم القتال، والسلالة الثانية: سامية، لها شعر سبط وملامح تقرب جدا من الملامح العربية في الأقاليم الجنوبية من الجزيرة العربية، وهم متمدنون قد ثقفوا شيئا غير قليل من الحضارة، وهم يدينون بالإسلام والمسيحية. أما في الأقاليم الغربية فالمسيحية منتشرة بعض الشيء، ولكن معظم السكان لا يزالون في الوثنية أو هم يؤمنون بالمسيحية مع خلطها بالشعائر الوثنية.
والكنائس كثيرة في الحبشة وكذلك القسوس، ومع أن الكنيسة الحبشية هي إلى الآن تحت رياسة الكنيسة القبطية فإنها تختلف عنها من حيث إنها تبنى مستديرة، والقسيس وقت الصلاة لا يختلط بجمهور المصلين كما هي الحال في الكنائس القبطية في مصر، ولا بد أن هذه التقاليد قد ورثها الأحباش عن اليهود؛ لأن المسيحية دخلت الحبشة حوالي سنة 330 من اليمن في وقت كانت تلبست فيه بالتقاليد اليهودية التي كانت سائدة في اليمن قبل المسيحية، ولقد دارت معارك دموية بين اليهود والمسيحيين يذكرها التاريخ قبل ظهور الإسلام.
والمنازل تبنى مستديرة أيضا في الحبشة، وهي أشبه بأكواخ الزنوج منها بالمعنى الذي نفهمه من المنازل، والمنزل يبنى من القصب أو البوص ويطين من الخارج ومن الداخل، وتزرع حوله الأشجار ويتسلق على جدرانه الفرع فيكسوه ورقه وترقد ثماره على سطحه، وأحيانا تبنى مصطبة داخل المنزل يقعد عليها السكان الذين يعيشون مع الدواجن والماشية في مكان واحد! أما الأغنياء فلا تختلف منازلهم إلا من حيث الملابس؛ فإنهم يشترون الحرير الزاهي ويقتنون السجاد الإيراني ويطرحونه على الأرض في أي مكان للجلوس، ويزينون جدرانهم من الداخل بجلود الأسود والنمور والسيوف وقرون الوعل.
والأحباش لا يعرفون القرى كما نفهمها في مصر؛ فإن الحبشي يعيش وحده في حقله مع زوجته وأولاده لا يجاوره آخر، وقد تتكاثر أسرته فتتألف قرية صغيرة بها عشرة منازل مثلا هم أولاده وأحفاده وزوجاتهم، والزراعة الفاشية عندهم هي زراعة أسلافنا قبل نحو 3000 سنة؛ فإنهم يزرعون الثوم والبصل ويأكلونهما كثيرا، وقد تفشت بينهم زراعة البطاطا والبطاطس هذه الأيام، أما الفواكه فكثيرة وأشجارها تبسق وتشتبك حول المنازل.
1
وقد أخذ الأحباش بكثير من تقاليد الفراعنة، ولا يزال الإمبراطور هيلا سيلاسي يكتب اسمه بالهيروغليفية في خرطوش على نحو ما كان يفعل رمسيس أو توتنخ آمون. (2) الأرض والطقس
وقد نشرت جريدة التيمس بحثا تحت هذا العنوان بقلم الكولونيل س. ل. كراست الذي زار الحبشة لأول مرة وبسط أحوال أراضيها في حالتي الدفاع والهجوم عند القيام بحملة عسكرية في بلاد الحبشة. وقد آثرنا نقل هذا البحث فيما يلي:
في عصر قديم جدا من العصور الجيولوجية اعترى القشرة الأرضية ضعف بين خطي طول 30 و40 شرقا، ولدينا الآن دليل على التشقق الذي حدث إذ ذاك في بعض المظاهر الطبيعية، أهمها الانخفاضات العميقة في البر والبحر، وهي وادي الأردن، الذي يشمل: بحيرة لوط، والبحر الميت، وخليج العقبة، وخليج السويس، والبحر الأحمر، ووادي النيل، الممتد جنوبا إلى البحيرات الكبرى من بحيرة ألبرت في الشمال إلى نياسا في خط عرض 14 درجة جنوبا.
ومثل هذا الاضطراب الواسع المدى في القشرة الخارجية للأرض يؤثر على الأجزاء المجاورة في كثير أو قليل من العنف، ويحتمل أن يكون هبوط الأرض مسئولا عن بروز الهضبة الحبشية.
والمساحة التي تأثرت أكثر من غيرها مباشرة بهذا التشقق تبلغ حوالي 700 ميل من الشمال للجنوب و500 ميل من الشرق للغرب داخل الحدود الحبشية، وهي مساحة تزيد على أربعة أمثال مساحة إنجلترا. وفي الشرق والجنوب الشرقي توجد وديان شاسعة واسعة مفتوحة تتدرج في الارتفاع، محرومة من الماء، مغطاة بالحشائش الغليظة التي يبلغ ارتفاعها حوالي خمسة أقدام، وهي تنخفض بالتدريج إلى الشرق والجنوب الشرقي إلى المحيط الهندي من رأس جاردفوي إلى قمايا على مصب نهر بوبا في الصومال الإيطالي، وهذه الأراضي يخترقها ثلاثة أنهر - نذكرها من الجنوب إلى الشمال - وهي: التوبا، والويبي شبيلي، وتج فافان. ومقطع ويبي معناه المجرى الذي يستمر الماء فيه طول العام، أما «تج» فمعناه المجرى الذي ينحط إلى نهير أثناء فترة الجفاف. ومن هذه الأنهر الثلاثة يرتفع الأولان في جوار بحيرة «شالا» على مستوى تسعة آلاف قدم، بينما ينبع الأخير من جبل مقدس «كوندبودو» وعلوه عشرة آلاف قدم على ثلاثين ميلا شمالي شرق هرز.
تربة هذه السهول التي تعرف محليا باسم مود صلصالية، لونها شديد الحمرة، تختلف كثافتها من مائة قدم بقرب هارجية في الصومال البريطاني إلى قدم واحد أو قدمين على طول ساحل الصومال الإيطالي أو بنادير. هذه حقيقة يجب أن تظل في الذهن؛ وذلك أن الإيطاليين إن كانوا يرمون إلى الحصول على أراض غنية ليقطنوها فإن وديان الحبشة قد تجذبهم؛ لأن هذه الأراضي صالحة لزراعة القطن.
بين خط 10 شمالا وخط طول 40 شرقا وساحل البحر الأحمر، يوجد منخفض صغير يعرف باسم دناكل أو دناجل الشمالية والجنوبية، وعند النهاية الشمالية لهذا الإقليم يقع وادي الملح الكبير أو منخفض دناكل الشمالي الذي ارتاده ورسم خريطته في سنة 1928 المستر نسبت مع اثنين من الرفاق الإيطاليين، وامتحان مسطحات هذا المنخفض قد أظهر مساحة طولها 100 ميل من الشمال للجنوب وخمسين ميلا من الشرق للغرب أقصى عمقها في النهاية الشمالية 400 قدم تحت سطح البحر الأحمر، وهذه هي المساحة الواقعة عند كولولي حيث توجد مناجم البوتاس الإيطالية .
أما مسألة الطقس فإنها جديرة بالنظر فيها باختصار، فمرتفعات الحبشة تقوم إلى علو 12 قدما أو أكثر؛ وتبعا لهذا فإن الإثيوبي الحقيقي الذي يكره الحر يرفض أن يعيش في مكان آخر غيرها أي على علو يزيد على ثلاثة آلاف قدم، وطقس الهضبة والمرتفعات يقارن بطقس إنجلترا في سبتمبر إلا في الفترة بين أبريل وسبتمبر حين يكون موسم الأمطار على أشده وتهب رياح جنوبية غربية شديدة. وفي زمن الصيف تكون البقاع الحبشية التي على علو 3000 قدم في بعض الأحيان حارة ورطبة حتى تأتي زوبعة عنيفة تخفف عن الناس الحر، أما الأراضي الواطئة فإنها على العكس من ذلك حارة لا ترتاح إليها النفس، وبالرغم من أن الهواء قد يترطب وقتا ما بعد المطر فإن هذا يكون على حين أن نتيجة مطر المناطق الحارة تجعل التربة السطحية موحلة والسير فيها متعبا، على أنه مهما يكن من رداءة الطقس في الأراضي الواطئة في الشرق والجنوب الشرقي فإن الطقس في منخفض دناكل أردأ بكثير فإن الرحالة قد سجلت هناك درجات حرارة فوق 155 فرنهيت يوما بعد يوم، ولا يسع الإنسان إلا أن يبدي إعجابه بالإقدام والمثابرة اللذين تحلى بهما هؤلاء الرجال الذين شقوا طريقهم إلى الشمال بقدر يسير من الماء، في هواء مملوء بالغبار ودخان الكبريت، يحيط بهم من كل الجهات بسكان رحل أهم ما يحترفونه الحرب والقتل. (3) اللغات الحبشية
أشهر اللغات الحبشية ثلاث: (1)
اللغة الإثيوبية القديمة: وهي لا تستعمل الآن إلا في الكتابة الأدبية. (2)
اللغة التجرانية: وهي لغة الأريتريا وشمال الحبشة، وهي المستعملة الآن. (3)
اللغة الأمهرية: وهي اللغة الرسمية؛ نسبة إلى أمهرا.
وحروف الهجاء الحبشية مأخوذة من لهجات العرب القديمة؛ مثل: الصابئية، والحميرية. (4) العادات في الحبشة
يجري ختان الطفل الذكر في يومه السابع أيام الأربعاء والجمعة، والأنثى يجري ختانها بعد ذلك، وإذا كانت الأم مريضة ينبغي أن يبقى طفلها دون ختان حتى شفائها.
وينصر الطفل الذكر في اليوم الأربعين وتنصر الطفلة في اليوم الثمانين.
ولا تدفن المرأة في أماكن الرجال، ولا يجوز للرجل أن يشرب البيرة قبل زوجته إذا كانت حاملا؛ لأنها تتألم باشتياقها للشراب.
وعندما يغيب أحد الآباء عن بلده يختار صديقا له لحراسة بيته والإشراف على أولاده.
ويوسط الخطيب أصدقاءه لدى والد الفتاة ليقبل الزواج، ومعظم الآباء يقاسمون بناتهم نصف مهورهم، وتقام أعراس بها مزامير وتنحر الذبائح. (5) المرأة الحبشية
المرأة الحبشية مشهورة بالجمال - وخاصة جمال العينين - وبالجاذبية، ولها أنف دقيق وشفتان غليظتان مستديرتان، وقامة هيفاء.
وطالما كانت بيوت أمراء المصريين الحجازيين والأتراك والأعيان مزدانة بالجواري الحبشيات، وطالما تزوجوا منهن.
والمرأة الحبشية مثال الشجاعة والإقدام والتضحية، وهي تشترك في الحرب مع الرجال، وهي وافرة الذكاء بسيطة الهندام والأثاث.
وفي أديس أبابا جمعية اسمها جمعية نساء إثيوبيا الوطنية، وقد قامت بمظاهرة وحملت لوحة جاء فيها باللغة الأمهرية: «أيها الشبان، انهضوا ولا تخافوا، ودافعوا عن وطنكم، دافعوا إننا سنموت معكم.»
لا تتزوج المرأة الحبشية إلا بإذن أبيها وإلا كانت ملعونة، وهي تشجع بجاذبيتها الشبان على خطوبتها وأحيانا تهرب مع عشيقها.
والمرأة الحبشية تشرب البيرة، وقد يتخذ الرجل الحبشي عشيقة له لمدة سنة - وهي زوجية مؤقتة - وعلى المرأة الحبشية أن تطيع زوجها.
وينتشر البغاء في الحبشة بالرغم من موانع الدين المسيحي، والطلاق كثير، وأكثر بغايا السودان من الحبشيات المهاجرات، وتكثر بينهن الأمراض التناسلية بصورة مخيفة محزنة. (6) ممالك الحبشة وإمبراطورها
الحبشة منقسمة إلى ولايات وممالك صغيرة وقبائل متنازعة، وقلما تهدأ الحالة الداخلية في الحبشة فهناك حروب بين ملوك الحبشة أو بين بعضهم أو بين إمبراطورها.
وقد نادى «ساهالا سيلاسي» ملك شواه وإيفات والجالا سنة 1813 بنفسه ملكا على ملوك الحبشة، وجعل الملك بطريق التوارث في أسرته.
و«ساهالا سيلاسي» الذي ولد سنة 1795 وعين ملكا سنة 1813 ومات سنة 1847 ولد له ستة أولاد، كان منهم «هيلا ملاكوت» الذي ولد سنة 1825 ومات سنة 1885، وخلفه ابنه منليك الثاني الذي ولد سنة 1844، وصار ملكا لشوا سنة 1866، وإمبراطورا سنة 1889، ومات سنة 1913، وتزوج الإمبراطورة كاتو سنة 1883، ولم يرزق منها ذكورا. وقد كان من بناته ثواراجا التي تزوجت الرأس ميكاييل ورزقت بولد اسمه ليج ياسو سنة 1896، وعين إمبراطورا سنة 1913 خلفا للامبراطور منليك إلى سنة 1916، ثم قامت ضده فتنة لأن الأحباش المسيحيين قد اتهموه بأنه يمالئ مسلمي الحبشة ويقربهم، ويؤثرهم وبأنه اعترف بخلافة سلطان تركيا وحالفه وحالف الألمان وأغضب الحلفاء. وقد أعلن مطران الحبشة حرمانه، وهرب ياسو ولكنه لم يذعن لقرار المطران وجمع جيشا وآزره الرأس ميكاييل حاكم ولاية جايا، وقد خلفته الإمبراطورة زوديتو ابنة منليك الثاني التي ولدت سنة 1876 وتوجت سنة 1916، وقد قامت بينها وبين أتباع ياسو والرأس ميكاييل مذبحة عنيفة في ساجال في أكتوبر سنة 1919، وأسرت الرأس ميكاييل وهرب ياسو، وتوجت زوديتو رسميا سنة 1917. (7) الرأس تفري والإمبراطور هيلا سيلاسي
ولد الرأس تفري سنة 1881، وهو ابن الرأس ما كونن بن وازبروتانا أحد أبناء الملك ساهالا سيلاسي.
وعين الرأس تفري وصيا للعرش مع الإمبراطورة زوديتو التي ماتت سنة 1930، حيث توج الرأس تفري إمبراطورا سنة 1930 باسم الإمبراطور هيلا سيلاسي، وقد تزوج سنة 1912 من الأميرة وازيرو منن، وولدت له سنة 1912 ماميتي التي ماتت طفلة، ثم أصفاوصين سنة 1916 وهو ولي العهد الرسمي ولكن أباه الإمبراطور غاضب عليه، وزينب ورك ولدت سنة 1918، ويشي أمابت ولدت سنة 1920، وما كونن ولد سنة 1923 وهو محبوب من أبيه ويقال أنه هو المرشح الحقيقي لولاية العهد، وقد أسماه والده «دوق هرر». ومن الإشاعات التي لم نقف على صحتها أن «زوديتو» ماتت مسمومة ليخلو الجو للإمبراطور هيلا سيلاسي. (8) حول إسلام النجاشي
وقد ذكرت روايات عن إسلام نجاشي الحبشة في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
الذي أرسل كتابا إلى النجاشي أصحمة، وهذا رده على النبي
صلى الله عليه وسلم :
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا الله الذي هداني للإسلام، أما بعد، فقد وصلني كتابك يا رسول الله فما ذكرت فيه من أمر عيسى ابن مريم، فورب السماء والأرض إن عيسى ابن مريم لا يزيد على ما ذكرت، ولا علاقة ما بين النواة والقمع، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وشهدنا بأنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك بواسطة ابن عمك جعفر وأسلمت على يديه لله رب العالمين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ولما قرأ النبي هذا الكتاب قال: «اتركوا الحبشة ما تركوكم.» فمن أجل هذا الأمر هيمن العرب على آسيا وبعض أوروبا، وبلغت طلائع جيشهم أقاصي النيجر وبلاد السنغال والهند وغيرها، ولم يخطر ببال أمراء الإسلام احتلال الحبشة وبسط نفوذهم عليها، بل كانت دول الإسلام وإماراته في سلام ووئام مع الإمبراطورية الحبشية إلى ما بعد القرون الوسطى.
وقد أفتى بعض علماء الصومال الإيطالي ومفتيه بعدم جواز محاربة المسلم للحبشة. (9) الحبشة والجندية
الأمة الحبشية هي أمة جندية، جميع أفرادها على استعداد للقتال، وهو حرفتهم وسجيتهم.
وقد أنشأ الإمبراطور هيلا سيلاسي جيشا باسم الحرس الإمبراطوري قام بتدريبه ضباط سويسريون وبلجيكيون وسويديون، وعدده ستة آلاف، وبه وحدات من البيادة والسواري والطبجية، وله بنادق عصرية ومجهز بمدافع كبيرة وصائدات للطائرات.
ولكل رأس من رءوس الحبشة «حكامها» حرس أو جيش لا يقل عدده عن ربع مليون وجيش غير نظامي لا يقل عن نصف مليون، ولدى إمبراطور الحبشة طائرات وذخائر.
ويقول الأديب محمد عبد الرحيم: ليس للإمبراطورية الحبشية نظام مخصوص للجندية كنظام القرعة العسكرية المصرية أو كنظام التطوع لدى الدول الغربية، بل تطلب الجنود من الولايات، كل بحسب سعة الولاية وضيقها، والجيش العامل في حفظ الأمن في وقت السلم 200 ألف جندي، أما في وقت الحرب فتصبح الجندية فرض عين على كل رجل يستطيع حمل السلاح. والأحباش أكثر العالم شغفا بالحروب وأسرعهم قبولا لويلاتها، وقد دلت التجارب على أن الشعب الحبشي إن هو إلا بركان ثائر يحركه الإمبراطور بسبابته متى شاء، هكذا كان في غارته على مملكة سنار وفي حربه للحملة المصرية التي كان يقودها السردار محمد راتب باشا في سنة 1292، وكذا في واقعة القلابات سنة 1306 وواقعة عدوة في سنة 1895، أما القيادة العامة فللإمبراطور نفسه. والذي يراجع تاريخ الحبشة قل أن يرى إمبراطورا مات حتف أنفه كما حدث للإمبراطور ياهنس الرابع أي «يوحنا» الذي قتله أنصار المهدية وخلافه من أسلافه ؛ إذن فليس بغريب عزم جلالة الإمبراطور هيلا سيلاسي على تولي زمام القيادة في الحرب المزمع نشوبها، فما أجود الجندي بروحه عندما يرى مليكه يسير تحت قساطل الجيوش للذود عن الأمة! ولا غرو أن هذه أعظم محرك لحماس الأحباش في حروبهم المتواصلة التي كانت تكلل بالنجاح.
وقد قرر الإمبراطور إلباس 200000 جندي الملابس العسكرية، وتناول 15000 منهم طعام الغذاء مع الإمبراطور في قصره في شهر أغسطس سنة 1935، وأكثر الجنود حفاة، وأكثر أسلحتهم بنادق قديمة، ولكنهم يجيدون الرماية. (10) ولايات الحبشة
تتألف بلاد الحبشة من ثلاث عشرة ولاية لكل منها ملك يلقب بالرأس، وهو حاكم الولاية القائم بشئونها الإدارية والسياسية تحت إشراف الإمبراطور أو النجاشي، وهناك ألقاب أخرى وهي: دجاج ودجاز وداز جماح دفيتواري وقيفا زماج ... وغير ذلك من الألقاب. وتتألف من تلك الممالك الصغيرة إمبراطورية ذات شأن عظيم، ويلقب الإمبراطور هناك بالنجاشي وهو لقب كلقب بطليموس عند دولة البطالسة، وقيصر عند الروس، وشاه عند العجم، وباي تونس عند التونسيين، وخديوي عند ولاة مصر سابقا. وللحبشة لقب ثان هو منليك إلا أنه يقصر على الملوك من سلالة نبي الله سليمان عليه السلام؛ لأنه تزوج بلقيس ملكة سبأ ولما رزق منها بولد قال لها: «مني إليك.» فمزجت الجملتان فصارت «منليك». وجاء في رحلة الدكتور محمد نيازي الذي كان طبيبا لأحد الآلايات المصرية في سنة 1282ه بالسودان، قال: سمعت من أحد الأطباء الإفرنج يقول إنه قرأ في بعض المؤلفات القديمة أن ذلك المولود الذي هو منليك الأول بن سليمان، كانت بلقيس تخاف عليه من قومها، فبعثته إلى مدينة سوبا ليربى بها وسميت المدينة سبأ، ثم حرف الاسم إلى سوبا لتقادم الزمان، وقد تبوأ عرش الحبشة كثير من الملوك فلا حاجة إلى بيان أسمائهم وزمن ولاية كل منهم تجنبا للتطويل. (11) القضاء في الحبشة
ويقول الأديب محمد عبد الرحيم: «إنه بالرغم عن كساد الثقافة الحبشية وبوار سوق العلوم العقلية والنقلية، فإن القضاء سائر بطريقة كافلة للحقوق المدنية والاجتماعية، والقائمون به يؤدونه بأمانة ونزاهة جديرتين بالإعجاب، حتى كان كل آمنا على حقه وكل بما فعلت يداه رهينا، وما كان للحبشة نواميس شرعية ولا قوانين وضعية فيما يختص بالمعاملات القضائية، بل كان القضاء يسير مع العرف إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، وهناك قام أحد رجال الدين المسيحي المدعو أسعد عسال القبطي ووضع للحبشة قانونا نسقه تنسيقا بديعا، قسمه على قسمين؛ الأول منهما يختص بالكنيسة وتعاليمها الدينية، وقد لخص ذلك من تعاليم المذهب الأرثوذكسي والديانة الإسرائيلية، والثاني في المعاملات وكان مرجعه فيه كتاب «التنبيه» لأبي إسحق الشيرازي في فقه السادة الشافعية، وقد أطلق على هذا القانون اسم «فتانفوس»، وقد صدق جلالة الإمبراطور على المعاملة به في جميع أنحاء الأقاليم الحبشية، أما المسئولون عن تنفيذه في القرى فهم أكبر سكانها سنا وأكثرهم حنكة، وفي العواصم الرءوس ما عدا «أديس أبابا» التي يباشر القضاء فيها جلالة الإمبراطور بنفسه، وهو يجلس في ساحة مكشوفة، ثم ترفع على رأسه مظلة كبرى «شمسية» كملوك الفور وواداي، ويجلس عن يمين الإمبراطور 12 رجلا وعن شماله 12 رجلا من أعيان المملكة الذين يشترط أن يكون فيهم رئيس الكهنة بردائه الكهنوتي، ويحمل القانون المسمى «فتانفوس» كاهن آخر، ثم يؤتى بالمتقاضين فيقفون صفا أمام الإمبراطور على بعد 30 مترا منه، ثم يؤذن لهم في عرض ظلامتهم على هيئة القضاء، فينادي المظلوم بأعلى صوته قائلا: «جاتهوه جاتهوه.» أي: يا حضرة الإمبراطور. يكررها سبع مرات، وذلك بين دائرة من جنود الحرس المدججين بالسلاح، والناس في سكون شامل لهيبته.»
ومن المألوف في الحبشة نظام التحكيم، وكثيرا ما يلجأ المتخاصمان إلى رجل محترم في الطريق يحتكمان إليه وينزلان عند حكمه. (12) إيطاليا والحبشة: الجيش الإيطالي
منذ بعيد تستعد إيطاليا لغزو الحبشة، وقد بلغ ما أرسلته من الجنود إلى أريتريا حتى آخر سبتمبر سنة 1935 ربع مليون جندي إيطالي، مرت من قناة السويس على سفن حربية إيطالية ومعها ستمائة طائرة ومدافع كثيرة رشاشة وسيارات مدرعة، هذا عدا الجيش الإيطالي الذي في شمال إيطاليا وعدده 500 ألف، وعدا الجنود الوطنيين.
بدأت إيطاليا استعمارها الأفريقي بإنشاء شركة إيطالية اشترت ثغرا صغيرا يدعى «عصب » سنة 1869 من شيخها، وكانت من أملاك الباب العالي التركي، فاحتج على هذا البيع وعده باطلا لصدوره من غير مالك، ولكن الشركة الإيطالية «شركة روباتينو» نزلت عن «عصب» إلى الحكومة الإيطالية التي أرسلت بعض التجار الإيطاليين للإقامة بها وعلى رأسهم «الكونت أنتونيللي» الذي عقد مع إمبراطور الحبشة منليك الثاني معاهدة صداقة، واحتلت إيطاليا ثغر مصوع وجزرا غيرها وتألفت مستعمرة أريتريا، منتهزة فرصة الثورة المهدية في السودان وضعف مصر وسعي كل من إنجلترا وفرنسا لتقسيم أفريقيا الوسطى والشرقية، وواصلت إيطاليا احتلال بلاد الحبشة، وطلب الإمبراطور منليك إلى الجنرال جيته الإيطالي إخلاء البلاد وضم منليك «هرر» إلى أملاكه، ووقعت حرب بين الرأس ألولا وهزم الجيش الإيطالي في يناير سنة 1887 على مقربة من دوجالي، فأرسلت الحكومة الإيطالية في أواخر سنة 1887 جيشا عدده 25 ألفا نصفه من الإيطاليين ونصفه من الأهلين واحتل الجيش «صاتي».
وقد حدث في أثناء ذلك أن الملك يوحنا انتفض على الإمبراطور منليك وحارب جنود المهدي عند «القلابات» وقتل في مارس سنة 1888، وانهزمت جنوده بعد انتصارها في حياته.
وقد عقدت إيطاليا مع «منليك» معاهدة أوتشيالي، وبناء عليها قبل الإمبراطور أن تكون حكومة إيطاليا وسيطا بين الحبشة والدول الأجنبية في جميع المسائل.
وقد كتبت هذه المعاهدة من نسختين: نسخة باللغة الحبشية، ونسخة باللغة الإيطالية. والنسخة الحبشية تقول:
يجوز لجلالة الإمبراطور أن يتخذ وساطة حكومة جلالة ملك إيطاليا سبيلا إلى تسوية جميع المسائل المتعلقة بالدول الأجنبية.
فأما النسخة الحبشية فتقول «يجوز»، والنسخة الإيطالية تقول: «يوافق إمبراطور الحبشة ... إلخ.» وقد وقع منليك النسخة الحبشية ولم يوقع على النسخة الإيطالية، وفي 12 فبراير سنة 1893 أبلغ منليك الثاني الدول بأنه غير مرتبط بالمعاهدة الإيطالية التي نشرتها إيطاليا، وفسرتها على أنها جعلت الحبشة تحت حمايتها.
غضبت إيطاليا من الحبشة وزحفت جنودها بقيادة الجنرال باراتيري فاحتلت كلا من بلاد السودان سنة 1894، ثم تقدمت إلى الحدود الحبشية، فانتصرت الجنود الإيطالية على جيش الرأس مانجاشا سنة 1895 واحتلت أديجرات وميكالي وأمبا ألاجي، ولكن منليك تقدم بجيشه ومعه الرأس ما كونن فهزم الجيش الإيطالي شر هزيمة وقتل منه الألوف وغنم ذخائره، وانتحر القائد الإيطالي الماجور توسلي وانسحب الإيطاليون.
وطلب منليك أن تدفع إيطاليا له فورا 25 مليون ريال حبشي حتى يقبل وقف الحرب وعقد الصلح الذي عرضه القائد العام للجيوش الإيطالية في أفريقيا؛ وهو الجنرال باراتيري.
ولكن إيطاليا رفضت الصلح على هذه الشروط؛ فاستعد الجيش الإيطالي للحرب، وقسم نفسه إلى أربعة أقسام أحدقت بها الجيوش الحبشية وهزمتها.
وأعاد براتيري تنظيم الجيش الإيطالي وهجم على «عدوة» التي وقعت فيها الموقعة المشهورة، وقتل الجنرال أريمندي والجنرال دامبراميدا، وأسر الجنرال البريتوني، وأصيب الجنرال أنلينا بجرح خطير، وغنمت الحبشة 72 مدفعا وذخائر وأعلاما إيطالية و7000 أسير، وقتل وجرح 10000 إيطالي.
وهرب باراتيري وواصل منليك زحفه ودخل أريتريا، واستولى على حصن «أدي أوجري» وحاصر الجنرال برستناري وحمله على التسليم في مايو سنة 1896.
وعينت الحكومة الإيطالية الجنرال بالديسيرا، وأراد أن يتقدم بجيش عدده 30000 ألف جندي، ولكنه وجد الهزيمة محققة، وأشار على حكومته بالصلح؛ فذهب وفد إيطاليا في 26 أكتوبر سنة 1896 إلى أديس أبابا، حيث عقدت معاهدة بين إيطاليا والحبشة اعترفت فيها إيطاليا باستقلال الحبشة استقلالا تاما.
على أن الإيطاليين لن ينسوا موقعة عدوة وهزيمتهم الهائلة، ومن أسباب استعدادهم الحربي الحاضر الرغبة في غسل الإهانة التي لحقتهم بهزيمتهم في عدوة.
وقد تسلم منليك غرامة قدرها 700000 جنيه إنجليزي وأطلق سراح الأسرى الإيطاليين، وكان عقد المعاهدة في أديس أبابا في 26 أكتوبر سنة 1896، وعقدت بعدها معاهدات واتفاقات أخرى في صدد تحديد التخوم بين الحبشة وأريتريا. (13) موسوليني والحرب
وقد صرح السنيور موسوليني علنا بأنه يريد الاستيلاء على الحبشة كلها، وأنه لا بد من محاربتها، وأنه لن يمسك عن الحرب أمام أي قرار من عصبة الأمم أو سواها، وأنه لا يمنع الحرب إلا شيء واحد؛ هو أن تسلم الحبشة نفسها لإيطاليا بغير قتال. (14) الاتحاد بين الحبشان
جمعت الحرب الحبشية القادمة بين القلوب المتنافرة وبين رءوس الحبشة المتنافسين وقد تحمسوا للدفاع عن الوطن، وقد عني الإمبراطور بكسب رضاء المسلمين من رعاياه، وقد أصبحوا يدا واحدة مع إخوانهم. (15) الجاليات الأجنبية
بالحبشة جاليات أجنبية من جميع الجنسيات، ومنها جاليات عربية ولبنانية وسوريا ويونانية وأرمنية، وأكثر أفرادها تجار، ومنهم من جمع ثروة كبيرة وأنشأوا المدارس. (16) البعثات في الحبشة
في الحبشة بعثات تبشيرية لمختلف الأديان - ولا سيما البروتستانتية الأمريكية - وبعثات تجارية لمختلف الدول، وقد عقدت البعثة الإنجليزية، التي كان يرؤسها السير رنل رود، معاهدة صداقة مع الحبشة في 15 مايو سنة 1897، وللبعثات مدارس ومستشفيات وملاجئ.
ورأس الدجاز «تاساما» بعثة أوروبية في عضويتها مسيو فايفز ومسيو بوتو السويسري ومسيو أرتومونوف الروسي، واجتازت الحبشة إلى نهر النيل عند مصب نهر السوباط في يونية سنة 1898، وبعد أيام وصل إليه الماجور مارشان الذي صار جنرالا فرنسيا وهو صاحب مسألة فاشودة.
عينت الدول ممثلين لها في العاصمة الحبشية، فكان السير هارنجتن قنصلا جنرالا لإنجلترا فوزيرا مفوضا.
وعقدت بعثة أمريكية سنة 1903 معاهدة تجارية بين الولايات المتحدة والحبشة.
وعقدت بعثة ألمانية سنة 1905 معاهدة تجارية مع الحبشة، وعين وزير مفوض ألماني لدى إمبراطور الحبشة.
وقد وضعت إنجلترا وفرنسا وإيطاليا اتفاقا في ديسمبر سنة 1906، جاء فيه: «إن مصالح هذه الدول الثلاث تقضي بالمحافظة على سلامة أملاك إثيوبيا.» وقضت المادة الأولى من الاتفاق على التعاون بينهم في المحافظة على كيان إثيوبيا من الوجهة السياسية وسلامة أراضيها، ونصت على أنه إذا وقعت طوارئ تخل بالكيان السياسي للحبشة فإن هذه الدول تتفق على صيانة مصالحها الخاصة، وقد تم الاتفاق في شهر يوليو في سنة 1906 وأبلغ في الحال إلى النجاشي، وقد رد الإمبراطور منليك على تبليغ الدول بأنه يشكر لها نياتها الطيبة ويشترط أنه لا يكون من شأن هذه الاتفاقية الحد من حقوق سيادته، ثم عين من شهر يونية سنة 1908 حفيده ليج ياسو وليا لعهده. (17) السكة الحديدية ودوليتها
وقد تقرر في الاتفاقية المذكورة أن تكون السكك الحديدية في الحبشة دولية - وليس في الحبشة سوى سكة حديدية واحدة بين أديس أبابا وميناء جيبوتي الواقع في الصومال الفرنسي - ولا تسير القطارات إلا نهارا، وتقف عند إحدى المحطات ليلا، ويستغرق مسيرها بين جيبوتي وأديس أبابا ستة أيام.
ويقف القطار لأقل سبب كان، ولو كان السائق يريد شرب الماء أو تحية صديق أو الوضوء والصلاة!
وأنشأت هذا الخط شركة فرنسية سنة 1894 منحها النجاشي منليك امتيازا، وساعدتها الحكومة الفرنسية وأتمت الخط الحديدي من جيبوتي إلى ويرة داوي التي تبعد عن هرر بمسافة 28 ميلا سنة 1902، ثم وقف العمل. وتقرر في معاهدة 13 ديسمبر سنة 1906 التي عقدت في لندن بين إنجلترا وفرنسا وإيطاليا أن تقوم السلطات البريطانية بإنشاء الخط الحديدي، وأنه إذا أريد وصل أريتريا بالصومال الإيطالي بسكة حديدية، فإن إيطاليا هي التي تقوم بإنشاء هذا الخط. وتقرر في المعاهدة تعيين مندوب بريطاني وثان إيطالي وثالث حبشي في مجلس إدارة الشركة الفرنسية، ومدير فرنسي لمجلس إدارة أية شركة إيطالية أو إنجليزية تنشأ فيما بعد، كما ضمنت المساواة التجارية العامة للدول جميعا سواء في ميناء جيبوتي أم على الخط الحديدي الفرنسي الذي تم. (18) الصعوبات التي ستلقاها إيطاليا
الطرق في الحبشة كثيرة الانعراج والانخفاض والارتفاع والوديان العميقة؛ مما يجعل المسافر قد يفكر في نتيجة الهجوم الإيطالي، والطريق إلى أديس أبابا لا يعد شيئا لصعوبة سلوكه أمام الجبهة الشمالية الإثيوبية، خصوصا عند هطول الأمطار الغزيرة التي تحجز طرق السيارات لمدة يومين أو ثلاثة من شدة تراكم الأوحال، وهكذا قد يتراءى للمسافر أنه من الصعب أن تتغلب إيطاليا على الحبشة؛ نظرا لأسباب عديدة، أهمها: (1)
عدم ملائمة الطقس الإثيوبي للإيطالي. (2)
وجود كثير من نبات الأحراش غير المعروفة للأجنبي. (3)
وجود كثير من الأراضي الصخرية القاحلة الحارة. (4)
كثرة المنخفضات والمرتفعات والوديان. (5)
قلة الأمواه «المياه». (6)
قلة طرق المواصلات.
ففي الحالة الأولى: يمرض العسكري ويصبح غير صالح للعمل في ميدان القتال، وقد بدأت بوادر عدم ملائمة الطقس للطليان تظهر بموت بعض مئات ومرض بعض آلاف الذين أودعوا بالمستشفيات أو الذين عادوا إلى الوطن.
وفي الحالة الثانية: لو تجرأ الجيش الإيطالي وتقدم، فمن الصعب أن يجد منفذا، فضلا عن ذلك أن تلك الغابات تسهل للإثيوبيين عملية «الكاموفلاج»، فلا يلبثون أن ينقضوا على أعدائهم.
وفي الحالة الثالثة: يظن بعضهم أن الجيش الإيطالي لا يخاطر بنفسه في مركز حرج مثل هذا يقضي على أبنائه حرا.
وفي الحالة الرابعة: يصعب على البيادة السير تحت حماية الطوبجية، كما أنه يصعب على هذه ضبط المسافات وإصابة مواقع العدو؛ لأنها ليست سهلا منبسطا يسهل فيه استعمال المدافع، كما أنه يصعب أيضا سير الدبابات؛ لأن التلال ذات الارتفاع الشاهق يقدر ميله من 60 في المائة إلى 80 في المائة، وبذلك لا ترجى أية فائدة من المدفعية أو الدبابات فهي لا تقدم ولا تؤخر، وهناك عامل مهم وهو أن الإيطالي لا يمكنه مجاراة الإثيوبي في تسلق التلال والجبال والنزول منها، وخذ مثلا من الأعرابي المصري الذي يتسلق الهرم وينزل منه في ثماني دقائق، وانظر إلى الأجنبي الذي يحتاج لمدة ساعة أو أكثر لهذه العملية.
وفي الحالة الخامسة: لا يمكن لأي جيش أن يسير بعساكر ظمآنين، انظر إلى ما يصيب الجندي الآن في مدينة مصوع أو أسمرة وهو في حالة سلام وينام على سرير وتحت سقف؛ لترى أن المياه لا تكفيه لسد كل احتياجاته من غسيل جسم وملابس وشرب، وتصور حالته عند الزحف وتركه المدينة حيث يسير في أجواء وأراض ذات تيبوغرافية مختلفة بعيدا عن الراحة، ويكون فراشه الخنادق وغطاؤه السماء ووساده بندقيته، وربما لا يتسنى له الحصول على نصف لتر!
وفي الحالة السادسة: قد تتوقف سيارات اللوري - أقصد الحملة - وهي التي تحمل المؤن والذخائر وأدوات التلغراف والتلفون التي لا يمكن للجيش الإيطالي أن يتقدم خطوة بدونها، هذه حالة المناطق التي تقدم إيطاليا على المغامرة فيها، على أن هناك كثيرا من المناطق المعتدلة الصحية الصالحة للعمليات العسكرية، ولكني أقصد بما ذكرت وصف أعظم بلاد إثيوبيا، ومنها المناطق المتاخمة لحدود الصومال الإيطالي والإثيوبي، والتي لا بد لإيطاليا من الهجوم من أحد نواحيها. وعلى ذلك فلا يمكننا أن نبني ونقيس ما هو منتظر من النتائج. (19) العلم الحبشي
أنشأه منليك، وهو كثير النقوش، في وسطه أسد يهوذا وفي قبضته الصولجان وعلى رأسه تاج الملك.
وهناك أعلام محلية لملوك الحبشة ورءوسها. (20) أديس أبابا
أنشأها الإمبراطور منليك سنة 1896 على سفح جبال أونتوتو، وترتفع عن سطح البحر بمقدار 2500 متر تقريبا، ومعنى «أديس أبابا» «الزهرة الجديدة»، وسقوف منازلها من الزنك، وتحيط بها أشجار اللبخ والكافور، وترويها فروع من نهر هواش، ومساحتها كبيرة، وقد خططت تخطيطا عصريا، وفي وسطها القصر الملكي «الجبي»، وعدد سكانها حوالي مائة ألف نسمة بينهم أربعة آلاف أوروبي، عدا المهاجرين من البلاد المجاورة واليمن، وقد اندمجوا في السكان الأصليين.
وقد أنشأ الإمبراطور الحالي برلمانا للحبشة. (21) النقود الحبشية والبنك الحبشي
أساس العملة الحبشية هي «التالير» وهو الريال النمسوي المضروب باسم ماري تريزي، ووزنه 28 جراما وقيمته عشرة قروش مصرية تقريبا، وللحبشة عملة اسمها الريال الإثيوبي وعليه صورة منليك الثاني، ولكنه غير متداول ويشبه في شكله الريال النمسوي، وأجزاء الريال هي نصف الريال وربعه والقرش، على أن أكثر الأهالي يتعاملون بالمبادلة بين السلع.
وفي سنة 1905 أصدر النجاشي أمرا ملكيا بإنشاء بنك إثيوبيا، وجعل من اختصاصه حق سك النقود وإصدار أوراق البنكنوت والقيام بأعمال البنوك على اختلاف أنواعها، وهذا البنك يعاني اضطرابا بسبب الأزمة الحالية. (22) المستر وليم فرانك ريكيت وامتيازه
حصل مستر ريكيت من إمبراطور الحبشة في أغسطس سنة 1935 على امتياز الزيت في نحو نصف البلاد الحبشية، وقد أثار هذا الامتياز ضجة، وقيل إنه مندوب عن شركة إنجليزية أمريكية. وقد تخلت شركة استاندارد فاكوم الأمريكية عن الامتياز بتأثير الحكومة الأمريكية، وأعلنت الحكومة البريطانية بأنه لا علاقة لها بهذا الامتياز، الذي وضع صيغته سعادة توفيق دوس باشا، ومن شروطه أن يشترك في الشركة ومجلس إدارتها إثيوبيون وأمريكيون، وفي العمل عمال مصريون، ويقال إن قيمة الامتياز بين 15 و20 مليونا من الجنيهات، وإن الإمبراطور قبض مبلغا مقدما، وإن شركات أخرى نالت امتيازات.
ولكن مستر ريكيت يقول بأن الامتياز باق وسيستغل وأن رأس المال سيوجد، وقد وصل إلى السويس مساء 9 سبتمبر سنة 1935، وقد سافر إلى بودابست وجنيف ولندن وهو صديق لسعادة توفيق دوس باشا الذي أقحم اسمه في هذا المشروع وفي هذه الضجة، ودوس باشا هو الذي أوصى إمبراطور الحبشة لكي يعطي الامتياز لمستر ريكيت.
ومستر ريكيت في الثانية والأربعين من عمره، وقيل إنه من أصل سوري، وهو معروف في مصر وفي فنادقها كشبرد، وكان جنديا متطوعا في الجيش البريطاني، ثم موظفا في شركة بترول ونجح في أخذ امتياز بترول الموصل ونزل عنه للشركة البريطانية، وهو كثير الصمت والعمل. (23) بين مصر والحبشة في عهد سعيد باشا
في أثناء حكم سعيد باشا أغارت الحبشة على بعض بلاد السودان، وزحفت جيوش نجاشي الحبشة وملك ملوكها تيودوروس، وكان في عزم سعيد باشا إعداد جيش مصري كبير للرد على عدوان الحبشة.
على أن سعيد باشا رأى أن يحل الخلاف بطريقة ودية، فاستعان بصديق حميم للنجاشي وهو المطران كيرلس المرشح بابا الكرازة المرقسية، فأرسله سعيد على رياسة وفد في باخرة، ووصل كيرلس إلى مجدلة التي كانت عاصمة للحبشة يومئذ، وتقدم النجاشي تيودوروس وقبل يد المطران كيرلس وقبله المطران في جبينه، وقد رغب تيودوروس أن «يمسحه» المطران ملكا على ملوك الحبشة، فنفذ الرغبة وأقيمت حفلة ودقت النواقيس، ومسح كيرلس تيودوروس ملكا على ملوك إثيوبيا.
وبعد ذلك فاوض كيرلس الإمبراطور في إعادة الأراضي التي اغتصبها من مصر، فقبل الإمبراطور وانتهى النزاع.
الحبشة وزعامة مصر الدينية عليها
كثرة سكان الحبشة أو ثلثاهم من المسيحيين الأرثوذكس الذين يدينون بالولاء والطاعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر، ولهذه الكنيسة مندوب في الحبشة هو القمص سيداروس الأنطوني من بلدة النغاميش بمركز البلينا، وقد رسمه غبطة الأنبا يؤنس مطرانا باسم الأنبا كيرلس وعينه مطرانا للحبشة سنة 1929، ومن اختصاص المطران أنه لا يجوز لغيره تتويج إمبراطور الحبشة، وبعد مسحه تجوز مبايعته والمناداة به ملكا على ملوك الحبشة، ومن واجبات المطران أنه في حالة الحرب يخرج في مقدمة الجيش، يبارك الجنود قبل الهجوم ويصلي من أجلهم في أثناء حربهم.
بين الحبشة والسودان
بعد استعادة الخرطوم صعدت الجنود المصرية في النيل الأزرق إلى «فامكا» ومنها إلى «القلابات»، والتقت بجنود حبشية كان الرأس ما كونن قد أرسلها إلى بني شنغول لإخضاع شيخها.
ولكن لم يحصل تصادم بين الجنود المصرية والحبشية.
وقد عقدت بين إنجلترا والحبشة في 15 مايو سنة 1902 معاهدة حددت بها التخوم بين الحبشة والسودان ، وتعهد منليك بأن لا يقوم بأي عمل يترتب عليه حجز ماء بحيرة تانا أو النيل الأزرق أو نهر السوباط أو منع وصول الماء إلى النيل، ووافق على إعطاء امتياز بإنشاء سكة حديدية بريطانية تصل بلاد السودان بإقليم أوغندا مجتازة بلاد الحبشة إذا ما دعت الضرورة ذلك.
الأزهر والحبشة
ندب الأزهر بعثة من علمائه إلى الحبشة، وهما صاحبا الفضيلة الشيخان محمود النشوي ويوسف علي يوسف، وقد وصفا مهمتهما كما يلي:
لما كان الجامع الأزهر الشريف مبعث الهداية الإسلامية ومشرق نورها في جميع أنحاء الدنيا، اتجه إليه المسلمون من جميع الأقطار يطلبون منه في إلحاح أن يبعث إليهم من صفوة خريجيه من يرشدهم ويفقههم في أمور دينهم، وينشر بينهم الثقافة الإسلامية واللغة العربية، وكان من بين البلدان التي تقدمت إليه بهذا المطلب: جنوب أفريقيا وأمريكا واليابان وبلاد الحبشة، وقد سارعت مشيخة الأزهر الجليلة إلى دعوة خريجي قسم التخصص واختبرتهم اختبارا عاما بعد أن ألفت لجنة عليا لهذا الغرض، وكان من حسن حظنا أن ندبتنا مشيخة الأزهر للذهاب إلى بلاد الحبشة لنشر الثقافة الإسلامية فيها.
وقد سافرنا من بورسعيد في يوم 31 يناير سنة 1935، وقد وصلنا إلى أديس أبابا عاصمة إثيوبيا يوم 6 فبراير، وكانت رحلتنا إليها جميلة وسارة، وقد فرح المسلمون بقدومنا وأقبلوا علينا مرحبين مهنئين شاكرين لمصر وللجامع الأزهر فضله عليهم وتلبيته طلبهم، وقد وجدنا في العرب ومسلمي الحبشة أهلا بأهل وإخوانا بإخوان، ولا يفوتنا شكر رجال القنصلية المصرية وفي مقدمتهم حضرة القنصل الكريم؛ فهم ما فتئوا يساعدوننا بمعلوماتهم واختباراتهم.
وبعد أسبوع من وصولنا، أعني بعد أن خفت الزيارات وقلت وفود المرحبين بدأنا عملنا في مدرسة نادي الاتفاق الإسلامي، واتخذنا من المسجد ميدانا لإلقاء العظات التي رأينا أنها تنفع مسلمي هذه البلاد.
أما المدرسة فإن العمل فيها شاق إلى أقصى حد؛ نظرا لاختلاف أسنان الطلبة فيها وتباين بيئاتهم وتعدد لغاتهم؛ ففيها أحباش وعرب يمنيون وحضرميون وهنود وأتراك وصومال، والطلبة الأحباش أنفسهم من مقاطعات مختلفة مما يجعل الدرس الواحد يعادل خمسة دروس في مصر على الأقل، ولكنا في الوقت نفسه نجد سرورا في العمل بها للتقدم الحسن الذي نشاهده في طلبتها، وقد أصبح سهلا عليهم وخصوصا طلبة الفرق المتقدمة أن يفهموا العربية الصحيحة.
ونحن نقوم الآن بتدريس أهم المواد وأشقها؛ كالتوحيد وفقه الشافعي والتاريخ والأخلاق الدينية وتحفيظ القرآن الكريم بطريقة تجعلهم يدركون المعنى الإجمالي لكتاب الله، وقد وجدنا في استعداد أبناء المدرسة الفطري وذكائهم الطبيعي خير معوان لنا على أن نتقدم بالأولاد في هذه المدة الوجيزة التي قضيناها بينهم في المقررات الموضوعة رغم أنها في حاجة إلى تهذيب؛ فهي بوجه عام فوق مستوى الأولاد، ونرجو في المستقبل أن نوفق لإقناع القائمين بإدارة المدرسة بذلك حتى نعمل على تعديلها بما يناسب مدارك الطلبة وتحقيق الأمل المنشود في هؤلاء التلاميذ الذين لا شك في أنهم ستتغير بهم حالة مسلمي الحبشة متى صاروا رجالا.
وأما الوعظ فإننا نرى أن الحبشي مفطور على حب الدين وإجلال رجاله، والعقل الحبشي من أخصب العقول لتلقي العظات والانتفاع بها، فهم قوم قلوبهم طاهرة نقية، فحينما يلقي أحدنا العظة يترامى الناس - وخصوصا الأحباش - على يديه وكتفيه بل رجليه لثما وتقبيلا، ومما يدل على أن احترام الأحباش لرجال الدين عام أن المسيحيين منهم حينما يقابلوننا يحيوننا بالانحناء الشديد وبرفع قبعاتهم إجلالا، وتلك هي التحية الحبشية ونحن نرجو أن نصل بالمسلمين منهم إلى الاكتفاء بالتحايا التي يجيزها الإسلام فحسب.
وقد تخيرنا من موضوعات الوعظ التعليم والحث عليه، ومما لاحظناه أنه يندر أن تجد مسلما لا يعلق التمائم والأحجبة المتعددة الكثيرة على صدره، وهذا يدل على أنهم يعتقدون في الدجالين والمشعوذين ويقدمون إليهم نفسهم ونفيسهم على فقرهم وحاجتهم، وكذلك وعظناهم في البغاء وضرورة الابتعاد عنه وخاصة لما يترتب عليه من الأمراض الخبيثة المنتشرة فعلا بينهم والتي لا يهتمون بعلاجها، كما نهيناهم عن كثير مما يفعلونه في أعراسهم ومآتمهم والإسلام لا يجيزه، وإنه ليسرنا أن نجد نصائحنا وعظاتنا تنفذ إلى قلوبهم ويعملون بها.
وإنا لجادون الآن في دراسة عادات البلاد وأحوالها الاجتماعية دراسة جدية، مع النظر فيها من الوجهة الإسلامية حتى تكون عظاتنا مبنية على أساس متين، ولا يفوتنا أن نذكر أن من طرق الوعظ والتعليم في هذه البلاد افتتاح المنازل وإلقاء دروس بها وإفتاء من يحضر للاستفتاء بها، ونحن مجاراة للعرف نستقبل الناس يوميا بعد أداء أعمالنا الأخرى.
وقد عرض علينا كثير من الفتاوى فأجبنا بما كان موضع الثقة والقبول، ومما تحسن الإشارة إليه أن الفتيا والقضاء في هذه البلاد على مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه، وهو المذهب الذي يعتنقه معظم مسلمي الحبشة، والذي يقوم بالقضاء بينهم قاض واحد «بأديس أبابا»، وحكمه نافذ إلا إذا استؤنف أمام هيئة أخرى من العلماء، وكثيرا ما قمنا نحن بمهمة النظر في القضايا المستأنفة وهو ما يستلزم منا مراجعة وبحثا طويلين.
ومما استفتينا فيه أخيرا أن شابا تزوج بفتاة بكر، وفي اليوم التالي لزواجه بها طلب استرداد المهر مدعيا أنه وجدها ثيبا؛ فرفع والد الفتاة دعوى أمام القاضي طالبا حد المتهم حد القذف ... وأشباه ذلك مما يعرض علينا كثير.
وفي البلاد هيئات متعددة، منها: نادي الاتفاق الإسلامي، والجمعية الوطنية، وجمعية التعاون. وصلتنا بنادي الاتفاق الإسلامي وثيقة بحكم عملنا الرسمي، وهو أهم هذه الهيئات وأغناها وأنفعها وأوسعها نفوذا، ونحن نرجو أن توجد في المستقبل القريب في هذه البلاد شبيبة حبشية مسلمة تقوم على أكتافها نهضة تتقدم بها هذه الأمة النبيلة. ا.ه. (24) تجارة الرقيق في الحبشة
مما يأخذه السنيور موسوليني على الحبشة أنها لا تزال تبيح الرقيق، وقد وضعت اللادي سيمون عقيلة السير جون سيمون الوزير الإنجليزي المشهور كتابا عن «تجارة الرقيق في العالم»
2
جاء فيه:
إذ كانت لجنة جامعة الأمم ماضية في بحثها، تلقى السراريك درموند سكرتير الجامعة مذكرة في الرقيق من الحكومة الفرنسوية تكشف فيها عن نواح مختلفة من حالة الرقيق والنخاسة في الحبشة.
وقد ختمت الحكومة الفرنسوية مذكرتها بقولها: في 9 نوفمبر سنة 1918 صدر مرسوم إمبراطوري يوجه النظر خاصة إلى مراسيم منليك عن منع بيع الأرقاء وشرائهم، وفي يوليو سنة 1922 قبض على نخاسين متلبسين بالنخاسة وشنقا في أديس أبابا، ولكن ما زال بعض كبار الرؤساء يشتركون في غزوات الرقيق لكي يخضدوا الفتن على ما يدعون أو يعاقبوا من يرفض دفع الضرائب، وما زال غيرهم في أديس أبابا نفسها يقبلون هدايا من الأرقاء، وما زال مقدمو الأحباش أنفسهم يرفضون أن يعتقوا مستر فيهم في خلال حياتهم، ضاربين بذلك المثل لغيرهم. ما زال كل ذلك قائما، وقد يخف هذا الويل ولكنه لن يزول. •••
ومن المعلوم أن في حيازة الحكومة الإيطالية معلومات كثيرة عن أحوال النخاسة في بلاد الحبشة وما يجاورها، وقد ورد على جامعة الأمم تقارير بأن القناصل الإيطاليين يبذلون الجهد لعتق الأرقاء الذين يجتازون الأراضي الداخلة في نطاق نفوذ الحكومة الإيطالية، وفي خلال نظر الجامعة في موضوع الرقيق وجهت الحكومة الإيطالية نظر السراريك درموند إلى غزوة رقيق وقعت واتصل حبرها برجال الحكومة الإيطالية، وأن هذه الغزوة مثال لغيرها وتدل على القساوة والعنف في معاملة المسترقين في البيع والشراء. وقد بعثت الحكومة الإيطالية إلى سكرتير الجامعة برسالة وصفت فيها جمعية مؤلفة من 150 من الأرقاء كانوا يساقون كالحيوانات إلى المرافئ على الساحل، وإذ كانوا في طريقهم هاجمهم فريق من النخاسين المعادين لأصحابهم، فدارت معركة دموية مثل فيها نحو ثلاثين من هؤلاء المساكين وهم عاجزون كل العجز عن الدفاع عن أنفسهم.
ثم قالت اللادي سيمون: نكتفي بما تقدم من المصادر الأجنبية التي يصح الاعتماد عليها في دراسة هذا الموضوع، ثم عمدت إلى ما نشرته الحكومة البريطانية من الوثائق الرسمية في كتب بيضاء، فاستخلصت منها أهم ما جاء فيها كما يلي:
في سنة 1920 ظهر أول كتاب أبيض في هذا الموضوع، وكل كتاب أبيض تصدره وزارة الخارجية البريطانية جدير بالعناية والتدبر، ويغلب أن لا تنشر الحكومة البريطانية كلاما فيه نقد لاذع لأحوال بلاد أجنبية من دون أن ترى السبب كافيا للنشر.
فإذا طالعت الكتاب الأبيض البريطاني ووجدت كلمة «جهنم» قد استعملت فيه لوصف الحالة داخل بلاد الحبشة لكان ذلك كافيا لإقناعنا بأن الحالة - من هذه الناحية - على أسوأ ما تكون.
وإليك الحادثة التالية :
وجد الكابتن كوكراين - وهو الضابط البريطاني المسئول في موبال - نفسه أمام طائفة من الأرقاء الفارين من الحبشة واللاجئين إلى موبال، وليس من الصعب أن يتصور المرء حالة هذا الضابط البريطاني المقيم في موقع من أبعد المواقع الأفريقية عن العمران وليس لديه إلا مئونة محدودة له ولموظفيه، عندما وجد أنه عاجز عن العناية بجماعة كبيرة من هؤلاء اللاجئين المذعورين؛ فعزم على أن يتوسل إلى أحد حكام الحبشة المشهورين بأنه أقل عسفا من غيرهم في هذا الصدد، فأعاد الكابتن كوكراين هؤلاء الأرقاء اللاجئين إلى حاكمهم متوسلا إليه أن يعنى بهم ويحسن معاملتهم، وكان هو يشك بعض الشك في إمكان استجابة طلبه، كما يبدو من قوله في كتابه إلى آتوجابرو؛ إذ قال فيه: «... وأنتم تعلمون أن حكومتي ما كانت لترضى بإعادة اللاجئين لو كانت تظن أنها تعيدهم إلى «جهنم» التي فروا منها.» وقصده واضح وهو أن يستثير نخوته.
وفي عبارة أخرى من هذه الرسالة يقول الكابتن كوكراين، وكأنه يصف جهنم الأرقاء:
ولكن إذا ثبت أن هؤلاء اللاجئين نالوا عقابا أشد من العقاب العادل لفرارهم، أو إذا شوهوا، أو حرموا حريتهم ... فأؤكد لكم أن حكومتي في المستقبل لن تفكر في إعادة اللاجئين إلينا من بلادكم.
أما الوزير البريطاني في أديس أبابا فيعلق على الحادثة بقوله في رسالة رسمية إلى وزارة الخارجية: ... أخشى أن تكون تأكيدات آتو جابرو لا قيمة لها، وإنني ليحزنني أن أتصور العقاب الذي سوف يناله هؤلاء المساكين عند وقوعهم ثانية في قبضة أسيادهم السابقين.
وتلاحظون جنابكم أن بعض نساء القبيلة نبذت عائلاتها وفرت ثانية إلى المنطقة البريطانية مفضلة ذلك على مواجهة ما يعلمن أنه مصيرهن بلا شك.
وقد حاولت وزارة الخارجية البريطانية أن تتحقق من عدد الأرقاء في تلك المنطقة، فرد الكابتن كوكراين على سؤالها بقوله أنه يظن أن كل حبشي على الحدود تقريبا يملك عبدا أو أكثر.
وقد كتب كاتبان إنجليزيان - هما الدكتور ريس شارب والماجور دارلي - سلسلة مقالات في جريدة وستمنستر غازيت ، وصفا فيها ما صادفاه في بلاد الحبشة .
ثم كتب الماجور دارلي كتابا مستقلا في هذا الموضوع، وقد اطلع الكابتن كوكراين على ما كتبا؛ فوافق على معظم ما جاء فيه وخالفهما في بعض الأمور.
وقد أشارت الحكومة الفرنسوية إلى ما كتباه، فذكرت مواضع خطأ أو مبالغة فيها، ولكنها قالت إن ما جاء في هذه المقالات هو «صحيح بوجه عام».
ومن أقوالهما أن الأرقاء في أديس أبابا أكثر من الأحرار، وأن الحالة ساءت جدا بعد وفاة منليك الثاني سنة 1913؛ فكانت النخاسة وعنف أصحابها سببا في خراب بقع من البلاد كانت عامرة، فأصبحت مناطق تنعق فيها البوم وتسرح فيها الذئاب والضباع.
وقد شبه الماجور دارلي الخراب الذي حل بمنطقة عرفها عامرة قبل عشر سنوات بقوله أنه أتم من تخريب الجراد وأفظع.
ثم أشار الكاتبان
3
إلى الغزوات التي يقوم بها النخاسون إلى السودان وكنيا وغيرها من البلدان المجاورة، وقد نشرت الحكومة البريطانية من عهد قريب جدولا ذكرت فيه جميع هذه الغزوات التي حدثت في كنيا والسودان بين سنة 1913 وسنة 1927، ويقول السرجون مافي في أحد تقاريره أن: «الراجح أن جميع الغزوات لم تذكر.»
ويؤخذ من هذه الجداول أن الغزوات كانت في بعض الأحيان بالاتفاق مع الحكام والرءوس أو مع ممثليهم.
وقد كتب كاتب أمريكي يدعى جيمس بوم كتابا عن الحبشة بعد سفره في لجنة للبحث العلمي هناك، ومما قاله في كتابه على ما روته اللادي سيمون في كتابها أنه قابل الرأس تفري مرارا، وقال له في إحداها أنه إذا لم يخط خطوة حاسمة لإلغاء الرقيق سريعا، فقد تفوز دولة أوروبية بموافقة العالم المتمدن وتأييده على خطة غرضها إدارة بلاده.
وقد أشارت اللادي سيمون في آخر فصلها هذا إلى نية الإمبراطور الحسنة وأنه ينتظر عونا في سبيل هذا الغرض العالي من جامعة الأمم والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن البحث في هذا الموضوع لا يتسع له المقام اليوم. (25) المعاهدات الدولية بشأن الحبشة
نشرت مجلة الإيكونومست الإنجليزية مقالا عن الحبشة ضمنته بيانا للاتفاقات
4
الدولية التي تمت بشأنها: «حددت العلاقات بين إيطاليا والحبشة لأول مرة بمعاهدة «أوتشيالي » سنة 1889 التي وافق بمقتضاها منليك صاحب شوا - الذي صار فيما بعد الإمبراطور منليك - على الاستعانة بالحكومة الإيطالية في أية مفاوضات محتملة مع الدول والحكومات الأخرى، وذلك مقابل تعضيد إيطاليا في مطالبته بالعرش.
وفي سنة 1893 نقض منليك من جهته هذا الاتفاق بسبب العدوان الإيطالي، وبعد هزيمة إيطاليا في عدوة سنة 1896 ألغت معاهدة الصلح المبرمة في أديس أبابا في السنة نفسها معاهدة «أوتشيالي».
وفي أثناء ذلك، في سنتي 1891 و1894، عقدت ثلاث اتفاقيات بين إيطاليا وبريطانيا العظمى اعترف فيها بدخول الحبشة بأكلمها تقريبا في منطقة النفوذ الإيطالي، وفي سنة 1902 خولت معاهدة الحدود الإنجليزية الحبشية بريطانيا العظمى حقوقا في داخل منطقة النفوذ الإيطالي المعترف بها، وتعهدت الحكومة الحبشية بأن لا تسمح بأية إجراءات تكون نتيجتها تحويل مياه السوباط أو النيل الأزرق أو بحيرة «تانا» عن مصبها الأصلي في النيل.»
الاتفاق الثلاثي سنة 1906
وفي سنة 1906 قبل الإمبراطور منليك معاهدة ثلاثية عقدت بين بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا تقضي بضمان النظام القائم في الحبشة؛ طبقا للمقرر في المعاهدات الموجودة.
وتنص المادة الثالثة من هذه المعاهدة على أن لا تتدخل أية حكومة من الحكومات في أية حالة من الحالات أو بأية طريقة من الطرق «في شئون الحبشة» إلا بالاتفاق مع الحكومتين الأخريين، وإذا ما حدث ما يهدد النظام القائم فإن الحكومات الثلاث «تبذل غاية جهدها للمحافظة على سلامة الحبشة» وهي على أية حال تعمل معا على أساس الاتفاقات المفصلة في المادة السابقة الذكر - وهي المحددة للنظام القائم - لتحافظ على ما يأتي: (1)
مصالح بريطانيا العظمى ومصر في حوض النيل، وخاصة فيما يتعلق بضبط مياه هذا النهر وفروعه ... وذلك دون المساس بالمصالح الإيطالية المشار إليها بالفقرة الثانية. (2)
مصالح إيطاليا في الحبشة فيما يتعلق بأريتريا والصومال - بما فيها بينادير - وخاصة مؤخر ممتلكات إيطاليا والأراضي اللازمة للمواصلات بينها بالقرب من أديس أبابا. (3)
مصالح فرنسا في الحبشة فيما يتعلق بالحماية الفرنسية المفروضة على ساحل الصومال ومؤخر هذه الحماية والمنطقة اللازمة لإنشاء سكة جيبوتي - أديس أبابا الحديدية ، وتشغيلها.
ولا يزال هذا الاتفاق الثلاثي المعقود سنة 1906 قائما. (26) تأثير الحرب العظمى
تعهدت كل من بريطانيا العظمى وفرنسا بمقتضى معاهدة لندن السرية في سنة 1915، التي سببت دخول إيطاليا الحرب إلى جانب الحلفاء بما يلي:
إذا ما وسعت فرنسا وبريطانيا العظمى مساحة ممتلكاتهما الأفريقية على حساب ألمانيا، توافق الدولتان مبدئيا على أن تطلب إيطاليا بعض التعويض العادل، خصوصا فيما يتعلق بتسوية المسائل المتعلقة بحدود المستعمرات الإيطالية في أريتريا، والصومال، وليبيا، والمستعمرات المجاورة التابعة لفرنسا وبريطانيا العظمى، على أن تكون التسوية في مصلحة إيطاليا.
وفي نوفمبر سنة 1919 اقترحت إيطاليا على بريطانيا العظمى «كجزء من مفاوضات واسعة النطاق ذات صبغة استعمارية» ما يأتي: (1)
تعزز إيطاليا طلب بريطانيا العظمى الخاص بامتياز إنشاء خزان على بحيرة تانا، «داخل منطقة النفوذ الإيطالي» المحددة بالاتفاقية الثلاثية المبرمة في سنة 1906. (2)
تعزز إيطاليا طلب بريطانيا العظمى الخاص بإنشاء طريق للسيارات من بحيرة تانا للسودان. (3)
وفي مقابل ذلك تعزز بريطانيا العظمى مطالب إيطاليا فيما يختص بالحصول على امتياز لإنشاء سكة حديدية تربط أريتريا بالصومال الإيطالي وتمر غربي أديس أبابا. (4)
تحتفظ إيطاليا بكافة حقوقها في المنطقة الإيطالية.
على أن هذا الاقتراح كما يؤخذ من المذكرة البريطانية المؤرخة 14 ديسمبر سنة 1925 - التي سيرد ذكرها بعد - والموجهة إلى إيطاليا، لم يلق قبولا حين عرضه وقتذاك 1919؛ «نظرا للمعارضة القوية التي قامت ضد فكرة الترخيص لدولة أجنبية بفرض أي نوع من الرقابة على منابع الأنهار اللازمة لرخاء مصر والسودان، بل حياتهما.»
والدول التي حلت محل ألمانيا في مستعمراتها الأفريقية هي: بريطانيا وفرنسا وبلجيكا، أما إيطاليا فلم تتمكن من تسوية طلباتها إلا متفرقة؛ فالخلاف الذي شجر مع فرنسا على الحدود بين ليبيا وأفريقيا الشمالية الغربية الفرنسية سوي سريعا، كما سوي الخلاف مع بريطانيا على الحدود بين كنيا والصومال الإيطالي بتنازل بريطانيا لإيطاليا عن جوبالاند في 15 يوليو سنة 1924، وأخيرا سوي الخلاف القائم على الحدود بين ليبيا ومصر - التي كانت وقت معاهدة لندن سنة 1915 تحت الحماية البريطانية - بالاتفاقية الإيطالية المصرية التي عقدت في ديسمبر سنة 1925. (27) انضمام الحبشة إلى جامعة الأمم
غير أن التغييرات التي طرأت على خريطة أفريقيا بعد الحرب بعثت الخوف إلى نفس الإمبراطورة الحبشية جوديت ابنة منليك والرأس تفري الوصي على الملك ووارث العرش؛ فقد خشيا الاعتداء على الحبشة بحجة منع تجارة الرقيق والوسائل المؤدية لهذه التجارة وهي تجارة السلاح، وبذلك قدمت حكومة الحبشة في سنة 1923 طلبا للانضمام إلى جامعة الأمم.
وقد انقسمت الآراء في اللجنة السادسة التي فحصت هذا الطلب، فالنمسا وبريطانيا العظمى وسويسرا كانت تميل أولا إلى بحث أهلية الحبشة للقيام بتعهداتها إذا تم قبولها عضوا بالجامعة، أما فرنسا وإيطاليا فكان من رأيهما أن قبول الحبشة في العصبة سيمهد الطريق إلى إلغاء الرق ويقوي من شأن الحكومة المركزية في أديس أبابا. وأيد المندوب الإيطالي طلب الحبشة بكل قوة وهون من شأن الرق فيها، وأعلن أن للحبشة الحق في استيراد السلاح حسب حاجتها للدفاع عن نفسها ككل دولة مستقلة.
ثم ألفت لجنة من سبعة أعضاء: الإمبراطورية البريطانية، وفنلاندا، وفرنسا، وإيطاليا، ولاتفيا، وإيران، ورومانيا. وقدمت تقريرا يتضمن أن الحبشة دولة ذات سيادة، لها حكومة ثابتة وحدود معروفة تماما، ولكن لمعاونتها في التغلب على الصعوبات التي ربما سببت في الماضي قصورها عن القيام بتعهداتها، يجب أن يتوقف قبولها في الجامعة على إمضاء تعهد يتكون من مواد ثلاث؛ تقضي المادتان الأولى والثانية منها بأن تتعهد الحبشة بالقيام بما فرضه اتفاق سان جرمان سنة 1919 الخاص بالسلاح. وقد عدل هذا الاتفاق من نصوص عهد برلين سنة 1885 وعهد بروكسل سنة 1890 الخاصين بتجارة الرقيق الأفريقية، ولا سيما بالحصول على السلاح خصيصا لاستعماله في هذه التجارة في أفريقيا الوسطى.
على أن اتفاق سنة 1919 واتفاق جنيف الذي تلاه في سنة 1925 بشأن الإشراف على تجارة السلاح لم يصادق عليهما البتة. وهذا ما دعا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في سنة 1930 إلى تسوية مركز الحبشة باعتبارها دولة ذات سيادة وعضوا في جامعة الأمم فيما يختص بالحصول على السلاح.
أما المادة الثالثة، فتعلن الحبشة بها أنها مستعدة في الحاضر والمستقبل لأن تقدم إلى المجلس أية معلومات يطلبها، وأن تحل محل الاعتبار ما قد يقضى به في شأن القيام بهذه التعهدات التي تعترف باختصاص جامعة الأمم بها.
فلما وقعت الحبشة هذا التعهد أقرت جامعة الأمم بالإجماع طلب انضمامها بخمسة وأربعين صوتا، وكان ذلك في 28 سبتمبر سنة 1923، ومن ثم أخذت على عاتقها كافة الالتزامات المبينة في عهد الجامعة وأصبحت عضوا في مكتب العمل الدولي. (28) الاتفاق الإيطالي الإنجليزي سنة 1905
وفي سنة 1924 دخلت حكومة العمال في بريطانيا في مفاوضات مع الحبشة بشأن بحيرة تانا، ولكن هذه المفاوضات لم تؤد إلى نتيجة غير أن الحكومة البريطانية التي تلتها «حكومة المحافظين» أبرمت مع الحكومة الإيطالية اتفاقا في ديسمبر سنة 1925 تقرر فيه - طبقا للمذكرة البريطانية المؤرخة في 14 ديسمبر سنة 1925 - أن تقوم الحكومة البريطانية بمساعدة الحكومة الإيطالية في طلبها الخاص بإنشاء السكة الحديد المرغوب إنشاؤها من أريتريا إلى الصومال الإيطالي عن طريق غربي أديس أبابا، مقابل تعضيد الحكومة الإيطالية لها في طلبها الخاص بالحصول على امتياز من الحبشة لبناء خزان على بحيرة تانا وطريق للسيارات منها إلى السودان. وفضلا عن ذلك إذا حصلت بريطانيا العظمى على امتياز بحيرة تانا، وإذا تعهدت إيطاليا بعدم التعرض لجريان الماء إلى مجرى النيل الرئيسي تعد الحكومة البريطانية بأن: «تعترف بتفرد النفوذ الاقتصادي الإيطالي في غربي الحبشة وفي جميع المنطقة التي ستمر فيها السكة الحديد المشار إليها فيما تقدم، وتعد أيضا بتعضيد جميع المطالب الإيطالية قبل الحكومة الحبشية لنيل امتيازات اقتصادية في هذه المنطقة.»
وهذا الاتفاق الإنجليزي الإيطالي يتعارض في ظاهره مع نصوص الاتفاقية الثلاثية لسنة 1906، ولكن حدث في 2 أغسطس سنة 1926 أن أخبر سير أوستن تشامبرلن مجلس النواب بأنه يعتقد أن «الفرنسيين قد اقتنعوا تماما بما تلقوه من تفسيرات»، على أن الحكومة الحبشية في أثناء ذلك - فضلا عن التخوف من وجهة النظر الفرنسية - عارضت في الاتفاق الإنجليزي الإيطالي وفي نصوصه، وأبلغت ذلك إلى كل من الحكومة البريطانية والحكومة الإيطالية، وانتهت إلى إبلاغ اعتراضها هذا إلى جامعة الأمم.
ولكن المسألة لم تعرض قط على المجلس؛ لأن بريطانيا وإيطاليا نشرا تفسيرات متواضعة لاتفاقهما هذا، فحواها : «أن الاتفاق كفل مركز بريطانيا ضد المنافسة الإيطالية للحصول على امتياز بحيرة تانا، وضمن مركز إيطاليا ضد المنافسة البريطانية التجارية في المنطقة التي تنفرد فيها إيطاليا بالنفوذ الاقتصادي.» (29) المعاهدة الإيطالية الحبشية في سنة 1928
وفي 2 أغسطس سنة 1928 وقع الرأس تفري معاهدة صداقة وتحكيم مع إيطاليا تمتد أحكامها لعشرين عاما، وتنص المادة الثانية منها على أن كلا من الحكومتين تتعهد بعدم اتخاذ أي إجراء ضار باستقلال الأخرى، وتنص المادة الخامسة على: «أن الحكومتين توافقان على الالتجاء إلى التسامح والتحكيم في أية مسألة قد تثار فيما بينهما ولا يمكن تسويتها بالوسائل الدبلوماسية المعتادة، وذلك بدون التجاء إلى القوة المسلحة، ويختار المحكمون بتبادل المذكرات.» (30) الحبشة وتجارة السلاح
وأبرم الرأس تفري في أغسطس سنة 1930 معاهدة - لا تزال قائمة - مع بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بشأن الإتجار بالسلاح، فإن اتفاق سان جرمان واتفاق جنيف سنة 1925 لم ينالا من مصادقة الدول ما يكفي لتنفيذهما؛ ولذلك سوت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والحبشة ما بينها لغرضين:
الأول:
تمكين إمبراطور الحبشة من الحصول على السلاح والذخيرة اللازمة للدفاع عن حياضه من تعدي الأجنبي، وللمحافظة على النظام في داخل بلاده.
الثاني:
منع الأشخاص غير المرخص لهم من الحصول على الأسلحة. وسلم للحبشة طبقا لمعاهدة سنة 1930 بحق شراء السلاح من الخارج، ولكن بشرط ألا يرخص بدخول الواردات إلى الحبشة إلا بأوامر موقعة ومختومة من «الإمبراطور أو ممن يرخص له بالنيابة عنه». (31) الاتفاق الحبشي الفرنسي في سنة 1935
وفي 7 يناير سنة 1935 اتفق مسيو لافال وسنيور موسوليني في روما على تسوية المنازعات الناشئة عن مناطق نفوذ كل منهما في أفريقيا الشمالية، فنزلت فرنسا عن 2500 سهم من 34000 في سكة حديد جيبوتي - أديس أبابا، وقطعة من الأرض مجاورة لليبيا الجنوبية. وكان هذا الاتفاق في مصلحة فرنسا لدرجة كبيرة إذا عرفنا سياستها الأوروبية، وقد أشيع بلهجة التأكيد أن فرنسا تفاهمت تفاهما تاما مع إيطاليا على الأغراض الأخيرة في الحبشة، ولكن مسيو لافال نفى نفيا باتا في 19 يونية سنة 1935 أمام لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب أن الحكومة الفرنسية وافقت على إطلاق يد إيطاليا إطلاقا تاما في الحبشة. (32) حقائق مستخلصة من المقال
وهنا ينتهي مقال الإيكونومست أما الحقائق التي تستخلص منه فهي:
اتفاقية جغبوب:
يتضح لنا أن اتفاقية جغبوب بين مصر وإيطاليا - وقد تمت على يد الوزارة الزيورية سنة 1925 وكنا فيها الخاسرين - لم تراع فيها مصلحة مصر، وإنما تمت تنفيذا لرغبات الإنجليز الذين تعهدوا بتسوية هذه المسألة وغيرها في عام 1915 لمصلحة إيطاليا.
5
خزان تانا:
لست أدري أخزان تانا في مصلحة مصر أم أن مصلحتها فيه تنشأ بعد نصف قرن، ولكن ما أدريه هو أن الحكومة المصرية تهتم اهتماما جليا بإنشاء هذا الخزان، وكان إنشاؤه رغبة إنجليزية ذكرت صراحة في المعاهدة الإيطالية الإنجليزية المعقودة في عام 1925 من جهة أخرى.
موقف إنجلترا:
يتبين لنا أيضا أن موقف بريطانيا تجاه إيطاليا الآن هو كما يلي: إن حجة إنجلترا الآن في معارضة إيطاليا في مطامعها في الحبشة هي المحافظة على السلام وعلى كيان جامعة الأمم والتعهدات المرتبطة بها.
وقد حدث عام 1925 حينما كانت جامعة الأمم قائمة بخير والحبشة وإيطاليا وبريطانيا أعضاء متساوين فيها، في ذاك العام عاهدت بريطانيا إيطاليا على تعضيدها للحصول على امتياز بمد سكة حديدية تمر بمنتصف الأراضي الحبشية مع الاعتراف بتفرد النفوذ الاقتصادي الإيطالي في تلك المنطقة. والوعد بتعضيد كل طلب لنيل امتيازات اقتصادية يؤدي إلى استعباد الحبشة، والنزول بها من مصاف الدول المستقلة ذات السيادة - وهي الصفة التي انضمت بمقتضاها الحبشة إلى عصبة الأمم - إلى مستوى المناطق المفتوحة للاستعمار الأوروبي.
ولا أفهم هذا التناقض إلا على أساس واحد هو أن إنجلترا كانت مستهينة بقوة إيطاليا سنة 1925 أو مخطئة في تقديرها، فلما اتضح لها بعد عشرة أعوام أن إيطاليا تصير جارة لا يؤمن جانبها غيرت سياستها. (33) حكومة السودان وكيف تكافح النخاسة
جاء في كتاب اللادي سيمون: «لموضوع الرقيق في السودان صلة وثيقة بمشكلته في الحبشة؛ لأن طوائف الأرقاء الفارين كثيرا ما تلجأ إلى السودان؛ فإعادتهم من حيث أتوا إلى القيود التي فروا منها ظلم واشتراك في النخاسة، والاحتفاظ بهم يقتضي تدبير أمور معيشتهم علاوة على ما قد يجر إليه من جدال مع حكام بعض الولايات الحبشية المجاورة أو تعقيدات دولية. •••
أما في السودان نفسه فحيازة الرقيق قد زالت تماما أو كادت من المنطقة التي إلى شمال الخرطوم، ولكن في بحر الغزال ومنجلة ومناطق أعالي النيل وهي المناطق الجنوبية توجد جماعات قليلة تملك أرقاء.
بقيت المناطق المتوسطة، وهي: كردفان، وكسلة. والحالة فيهما تحتاج إلى سهر الحكومة وعنياتها، وإنه ليسرني أن أقول أن الحكومة باذلة جهدها في هذه الناحية. •••
في هذه المنطقة المتوسطة التي تبلغ مساحتها 120 ألف ميل مربع عدد الموظفين الإنجليز يسير جدا، وصعوبة معالجة الحال فيما يتعلق بالرقيق ناشئة في الغالب عن أن أغلب السكان من قبائل الرحل.
وليس في الإمكان معرفة عدد الأرقاء في هذه المنطقة معرفة مضبوطة، ولكن المأمول أنه إذا جرت الحكومة على غرار حكومة بورما يمكن الحصول قريبا على تقدير مضبوط لعدد الأرقاء؛ فيكون هذا التقدير خطوة أولى نحو الإلغاء التام. •••
والقبيلة الرئيسية في كسلة التي تملك أرقاء هي قبيلة اللحوبين، ومصدر أرقائهم في الغالب من الحبشة، ولكن من المتعذر معرفة عدد الأرقاء الذين تملكهم هذه القبيلة والقبائل التي تجاورها.
ومما يقوي الأمل بإبادة الرقيق من السودان زيادة سهر الحكومة على الموضوع وقيام حركة اقتصادية نشيطة تغري بالعمل، وبها بدأ السوداني يفهم أنه متى حصل على عمل يعمله أصبح حرا حقيقة، وهذه الأنباء والآراء بدأت تتسرب إلى حدود الحبشة، وقد يكون لها تأثير كبير في موضوع الرقيق في الولايات الحبشية المحاذية للسودان.»
والظاهر مما كتبته اللايدي سيمون مؤيدا بالأدلة من الوثائق الرسمية أن هذا الاتجاه في حركة الأرقاء من الحبشة إلى السودان؛ ليعملوا فيها ويصيبوا الانعتاق من رق، قد أصبح ظاهرا وأنه آخذ في الازدياد.
وقد أوردت اللادي سيمون عدة رسائل من شيوخ وضباط حبشيين إلى مأموري بعض المراكز السودانية تدل دلالة واضحة على ما تقدم.
وعلى سبيل المثال، ننقل جانبا من الكتاب التالي وهو مرسل إلى مأمور القضارف:
المسألة هي أن جميع الأرقاء في منطقة قبطية فروا إلى القضارف ؛ ولذلك أصبحنا نحن المساكين المظلومين لأنه يصعب علينا أن نمضي في شئوننا من دونهم؛ ولذلك بعثت إليك الآن بابني لتساعدنا في الموضوع المتقدم.
وقد عالج السير أوستن تشمبرلين لما كان وزيرا للخارجية البريطانية هذا
6
الموضوع من الناحية الدولية في رسالة بعث بها إلى جمعية مقاومة الرقيق وحماية الأهلين الأصليين، قال فيها إن هذا الاتجاه من الحبشة إلى السودان قد بدأ قبل عشر سنوات، وإنه يزداد ويتسع من حيث عدد الأرقاء الفارين وعدد النقط التي يجتازون عندها الحدود بين الحبشة والسودان.
ومما قاله أن مستندات مديرية كسلة تدل على أن 173 عبدا اجتازوا الحدود بين الحبشة والقضارف في السنوات العشر السابقة على رسالته. وهذا الرقم يشير إلى الذين دونت أسماؤهم فقط، والراجح أن هناك أرقاء لجأوا إلى السودان ولم يعرفوا أو لم تدون أسماؤهم. •••
فماذا تفعل حكومة السودان بالأرقاء اللاجئين إليها؟
لقد أشار السير أوستن تشمبرلين إلى ذلك في رسالته التي تقدم ذكرها، فقال إنهم يرسلون إلى محطة خاصة بذلك أنشئت في غرب القاش على مقربة من كسلة، فيعطى الرجال عملا ويبحث النساء عن أزواج. ويقال إن هذه المحطة ناجحة ومواليدها جميعهم أحرار.
هؤلاء اللاجئون يخيرون بين النزول في منطقة الروصيرص، وهي على نحو ستين ميلا من الحدود الحبشية السودانية؛ حيث أنشئت محطات خاصة للاجئين، أو الذهاب إلى الشمال إلى مديرية الفونج، فيزداد بعدهم عن حدود البلاد التي فروا منها - وهم يختارون الأول في الغالب - ومعظم الأعمال التي يعهد إليهم بها هي الزراعة والبناء. وقد حدث أن أكثر من جماعة واحدة منهم دخلت السودان وهي في حالة ترثى لها من البؤس، فعقد لها قرض على أن يوفى بعد الحصاد وبعد أن تسدد ضرائب السنة السابقة. •••
وتختم اللايدي سيمون فصلها الموجز عن السودان بقولها أن العبارة في رسالة السير أوستن تشمبرلين التي يصح أن تعد أساسا لخطة حكومة السودان في الموضوع ويجب أن تثلج فؤاد كل خصم «للرقيق» ومظالمه هي هذه العبارة: «... ونحن لم نرغم عبدا واحدا فارا على العودة إلى الحبشة ...»
من تاريخ الحبشة
تاريخ الحبشة حافل بالحوادث والعبر والمجد والمآسي، ولكن أكثره غامض، وقليله جلي. وسننشر فيما يلي فذلكات تاريخية عن الحبشة:
كان الدكتور «جونسون» أول من وضع القاموس الإنجليزي، ونقل إلى لغة قومه كتابا بعنوان «رحلة في الحبشة»، وهي التي قام بها الأب «لوبو» رئيس إحدى بعثات الجيزويت فيما بين سنتي 1624-1633، وعندما غزا العرب الحبشة لم يجد إمبراطورها وقتذاك - وهو المسمى «داود» - مندوحة عن أن يطلب المساعدة من «دون كريستوفر دي غاما» نجل الرحالة البرتغالي المعروف، فأمده بأربعمائة من البرتغاليين صمدوا في قتالهم المسلمين أشهرا غير قليلة، وقابل الإمبراطور «سيجويد» هذه المساعدة من البرتغاليين باعترافه بالبابا رئيسا للكنيسة في بلاده غير أن هذا الاعتراف لم يدم طويلا؛ إذ بعد موت الإمبراطور المذكور ألحقت الكنيسة بالحبشية في رعويتها إلى بطريرك الأقباط الأرثوذكس حتى اليوم. (1) الحروب الحبشية القديمة
يقول المؤرخ الفاضل الأستاذ محمد عبد الرحيم:
لقد قضى تنازع البقاء على الإثيوبيين «الحبشيين» بحروب دائمة وفتن ثائرة، فكانت الأمة في عصورها الأولى وقرونها الوسطى بين سابق ولاحق وغالب ومغلوب، تقف تارة موقف المهاجم وتقف طورا موقف المدافع مع قدماء المصريين والآشوريين بآسيا واليمانيين والحميريين وغيرهم، ولم يعد السيف إلى غمده إلا في فترات بسيطة قد لا تكفي للأهبة والاستعداد لدرء ما يأتي به الغد من كارثة كبرى وجائحة عظمى، حتى لا يكاد يرى المرء غير ملاحم دموية وحركات عسكرية ومفاوضات سياسية. وكانت مصر في سنة 720 قبل الميلاد مفككة العرى منقسمة إلى عشرين ولاية صغيرة يهيمن على كل ولاية أمير مستقل، وكان بعضهم لبعضهم عدوا كملوك الطوائف بالأندلس، ولكل أمير من الحصون والقلاع ما يدعو إلى الدهشة. وقد ظهر في الوجه البحري ملك يدعى «تفنخت»، وكان هذا جريئا مقداما طامح النفس، يريد التغلب على تلك الولايات الصغيرة ليمد نفوذه على جميع القطر المصري؛ فعبأ جيوشه وهاجم تلك القلاع والحصون حتى تم له إخضاع قسم صالحجر وقسم أتريب وقسم منف، ولم يستطع أحد من الأمراء أن يوقف تقدمه، ولم يزل كذلك حتى اجتاح بلاد الصعيد ودان له بعض أمرائها بالطاعة وفرض عليهم الضرائب وكانوا خاضعين لمملكة إثيوبيا، ولما بلغ ذلك «بيعنخي» الإثيوبي تميز غيظا وعقد النية على محاربة الملك «تفنخت» المصري الذي سطا على أملاكه بلا مسوغ. وهناك تقدمت جيوش إثيوبيا وحاربت الجيوش المصرية حتى قضت على نفوذها في صعيد مصر، وقد وجدت أخبار تلك الحرب العظيمة مدونة على الآثار بالهيروغليفية، فنقلها من تاريخ السودان القديم الدكتور حسن كمال باشا الأثري الشهير، فقال يبتدئ الأثر بالعبارة الآتية:
في غرة شهر توت سنة إحدى وعشرين من حكم «بيعنخي» قال جلالته: بلغني أن تفنخت تغلب على مدينة منف واستولى على الصعيد، فأطاعه الأمراء وأعيان البلاد ولم يغلق دونه حصن، واعترفوا له بالسيادة في أقسامهم، فأباح لهم الحكم على البلاد كما كانوا؛ فعظموه بما يستحقه ذكاء عقله، فانشرح فؤاده. قال بيعنخي: وكانت تأتيني الرسل كل يوم من الأمراء وقواد الجيوش سائلة عن سبب سكوني وعدم مدافعتي عن بلاد الوجه القبلي وأقسامها ومخبرة لي بما فعل «تفنخت»؛ فأمرت قوادي وضباط عسكري الذين كانوا في مصر أن استعدوا لقتاله وسلب مواشيه وسفنه التي في النيل، وأمددتهم بجنود ونصحت لهم بعدة نصائح قبل توجههم إلى القتال، فقلت لهم: «لا تهاجموا في أثناء الليل هجوم المتلاعبين بل اهجموا متى رأيتم أن العدو أعد جيوشه وخيوله للمسير إليكم، وإذا قامت الحرب فاعلموا أن آمون هو الذي أرسلنا إليهم، فإذا وصلتم مدينة طيبة فاغتسلوا في مياه معابد آمون واسجدوا له وقولوا: ثبت أفئدتنا على الحق لنحارب في ظل سيفك.» ففعلوا ما أوصاهم به، ثم زحفوا منحدرين في النيل، فقابلتهم سفن حربية عليها جند كثيف مسلح، فحدثت بينهما معركة هائلة أظهر فيها الفريقان غاية الحرص، إلا أنه ما لبث أن تطرق الوهن إلى عزائم المصريين؛ فتغلب الإثيوبيون عليهم وغلبوا تلك السفن الحربية المصرية والآلات والمؤن، وهناك تضاعفت همم عسكر الإثيوبيين وزاد نشاطهم؛ فاستأنفوا الزحف شمالا. هذا ورغما عن تضافر أمراء الأقاليم المصرية على مظاهرة الملك «تفنخت» فإن الإثيوبيين تغلبوا عليهم وظفروا بهم، ثم كتبوا إلى ملكهم «بيعنخي» كتابا ذكروا فيه أسماء من قتلوهم من الأعداء، فما كاد ذلك الملك يقرأ كتاب قواد جنده حتى استشاط غضبا وتميز غيظا وتلون كالنمر وأمرهم بأن لا يتركوا جنديا من جيوش مصر إلا قتلوه؛ فأوغل الإثيوبيون في بلاد مصر ولحق بهم الملك «بيعنخي» وتولى القيادة العامة بنفسه، ولما وصل إلى مدينة أرمنت سلمت إليه بعد قتال شديد دام الكر والفر فيه متبادلا بين المصريين والإثيوبيين وبعده خرج حاكم أرمنت ووقف خاضعا أمام ملك إثيوبيا، ثم قال له: «لقد جعلتني سطوتك في هذه الحال!»
وأحضر إليه الهدايا والطرف من الخيل، ثم جاء ملك أهناس بهدايا من ذهب وفضة وأحجار نفيسة وجياد بديعة، ولما تشرف بالمثول أمام ملك إثيوبيا خر ساجدا تواضعا وإجلالا. وهناك أيقن المصريون بشدة بطش ملك إثيوبيا وجبروته وأوجسوا خيفة من شره، ومن ثم دانت له البلاد وطأطأت لسطوته الأجناد؛ فأوغل في بلاد مصر حتى بلغ مدينة منف، وكتب إلى سكانها قائلا: «لا تقفلوا أبوابكم ولا تحاربوا أيها الناس القاطنون في المدينة؛ لأني سأدخل وأخرج من غير إساءة إليكم.» إلا أن سكان المدينة لم يأمنوا على حياتهم منه وصمموا على حربه ورده خائبا، وهيهات! وكانت المدينة إذ ذاك محاطة بسياج من مياه الفيضان، أما جلالة الملك بيعنخي فإنه عقد مجلسا حربيا من قواد جنده، وقر رأيهم على دخول «منف» عنوة. وهناك صف الأسطول الإثيوبي حول المدينة ووجهت سهامه عليها، وبدأ بهجوم عنيف، وفتك عسكر الإثيوبيين بالمصريين فتكا ذريعا ودحضوا من شوكتهم بسرعة مدهشة، ودخل جلالة الملك بيعنخي معبد «بتاح» وقدم له القربان من بقر وعجول وأوز وغير ذلك من أنواع القرب، ثم دخل قصر المنف. وكانت هذه المعركة من أهم البواعث في إخضاع القطر المصري لملك إثيوبيا الذي أتته أمراء الوجه البحري يحملون الجزية والهدايا خاضعين لسلطانه، وقد سار جلالته إلى عين شمس لأداء الصلاة شكرا لما أفاء الله به عليه من فتح عظيم وخير عميم، فوفد إليه بها أربعة عشر أميرا من أمراء مصر، وبعث إليه الملك تفنخت رئيس المصريين يقول له: «اكتم غيظك؛ فإني وجل من رؤيتك لعدم مقاومتي نار حربك وامتلأ قلبي بفزعك؛ فأسألك العفو عني، وأعلم أنك بذرت بذورا حصدت محصولها في إبان حصادها.» ثم أردف ذلك بهدايا قيمة من الذهب والفضة، وأقسم يمينا مقدسة بأن لا يخالف له أمرا ولا يعكر لسياسته صفوا ولا يسيء لأحد من عماله؛ فرفض ملك إثيوبيا وعفا عنه بعد القدرة عليه، وما كاد يمر ملك إثيوبيا في بلاد حتى هتف له المصريون قائلين: «أيها الملك المنصور، لقد أتيت وحكمت الوجه البحري وحل الفرح في قلب أمك التي ولدتك فصرت شهما، وأعطاك آمون جوهرة؛ فبشرى لك أيتها البقرة التي ولدت ثورا كان على ممر الدهور ذكرا مخلدا وملكا مؤيدا، ألا وهو الملك المحب لطيبة.» وقد كان ذلك النفوذ الإثيوبي في مصر واختلاط الإثيوبيين بالمصريين اختلاط الحاكم بالمحكوم عادة سببا أكسب الشعب الإثيوبي صبغة مصرية بحتة، حتى أشكل على بعض الأثريين، فقال اليونانيون منهم: «إن السودان أصل رقي مصر ومنشأ مدنيتها.» وذلك لما رأوه من تربية بيعنخي وأنظمته وما شيده من المعابد والآثار المحلاة بالنقوش والكتابة الهيرغرافية بالقطر المصري. وما لبث ذلك المظفر زمنا طويلا بمصر حتى حن لوطنه ومسقط رأسه بمدينة نبتة «أي مروي»؛ فعاد إليها بعد أن سلم مقاليد الأمور إلى تفنخت المصري الذي حلف له يمين الطاعة كما أسلفنا.
وما كادت جيوش إثيوبيا تصل إلى نبتة حتى ثار المصريون وشقوا عصا الطاعة؛ فانعسكت الآية وكانت النهاية بداية، فهذا أمر طبيعي وحكم بديهي متى حانت للمغلوب الفرصة لاغتنام الحرية ونزع قيود العبودية. أما تفنخت فقد ردت بضاعته إليه، وانتحل لنفسه الألقاب الفرعونية، وجيش الجيوش الجرارة، وأعد السفن الحربية، وظل ثماني سنين في حرب عوان مع بعض أمراء مصر الخارجين عليه حتى أخضعهم لطاعته، ومهدت له البلاد ودام نافذ الكلمة فيها إلى أن أدركته الوفاة، وخلفه ابنه «بوكوريس» مؤسس العائلة الرابعة والعشرين. وبقي صعيد مصر في يد مملكة إثيوبيا، وكانت الحدود الفاصلة بين مصر وإثيوبيا مدينة «أهناس» الداخلة في نطاق النفوذ الإثيوبي، ووالي هذه المدينة هو قائد الأسطول الإثيوبي. وقد شيد بيعنخي معبدا للمعبود «موت» وآثارا بسيطة، ولكنه كان ذا دهاء وذكاء، فأراد أن يحتفظ لعائلته بسلطة «آمون» ووراثة عرش مصر؛ فوهب زوجته المسماة «أمادريس» إلى شعب «نوبت» الأميرة الكاهنة بنت الملك «أوسور كون» الثالث في طيبة، وكان ذلك في سنة 707 قبل الميلاد.
ومن أغرب ما رواه التاريخ أن كبشا نطق في السنة السادسة من حكم الإمبراطور الروماني أوغسطوس، فقال: «إن مصر ستبقى تعسة تعبة تسعمائة سنة.» وكان القطر المصري إذ ذاك مهددا بغزو الآشوريين، وكان الولاة لا يقدرون المسئولية حق قدرها، فصدق الله نبوءة الكبش، فتضاءلت حالة البلاد المركزية، وتعارضت الأهواء السياسية، واضمحلت موارد الثروة، وأجدبت الأرض، وأخذت الترع والقصور في التلف. وجاء في التوراة ما معناه:
إن ملوك تانيس صاروا لا عقول لهم، وملوك منف ضلوا وأضلوا قومهم؛ فقضينا أن نعطي مصر لرجل جبار يتولى أمرها ويدير شأنها. ففسر الأحبار الملك الجبار بالملك «شاباكا» الإثيوبي.
وقال المؤرخ السيد محمد عبد الرحيم: لم يهمل الإثيوبيون التدبير لاسترجاع ما فقدوه من ولايات مصر التي نادت باستقلالها بعد أن تركت في يد الملك تفنخت، بل حشدوا الجيوش وأعدوا المعدات ووطدوا العزم على غزو مصر مرة ثانية لتدارك ما فات وللاحتفاظ بما هو آت.
وفي سنة 711 قبل الميلاد بدأت قوات إثيوبيا في زحفها شمالا تحت قيادة الملك شاباكا أخي بيعنخي وزوج ابنته، وقد أمكن جيوش الإثيوبيين إخضاع مصر بغير عناء ووقع الملك بوكوريس في أسر «شاباكا» الإثيوبي، فدفنه حيا - حنقا وتشفيا - وتبوأ شاباكا عرش مصر، وهو الذي أسس العائلة الخامسة والعشرين. وكانت مصر إذ ذاك مهددة بغارات الآشوريين كما أسلفنا، وكان الملك الإثيوبي ماكرا كثير الدهاء، فأشعل نار الفوضى في فلسطين وسوريا، ووعد الآشوريين بالمساعدة إن تقدموا لاحتلالهم؛ فاغتر الآشوريين بتلك الوعود العرقوبية وتقدم ملك الآشوريين في جند كثيف وهاجم فلسطين. وبعد معارك دموية أسر «هوشع» ملك اليهود وحاصر سمرية إلا أنه مات بها فنادى الآشوريون بالقائد العام «سرجوز» ملكا عليهم وهو الذي أخضع سمرية وواصل الآشوريون زحفهم إلى أن اشتبكوا مع جيوش مصر في حرب هائلة هزم فيها المصريون وفر الملك شاباكا الإثيوبي ضاربا في الصحاري والقفار ضالا عن الطريق حتى اهتدى إليها بدلالة راع من فلسطين، ولما رأى المصريون فشل الملك شاباكا وفلول جنده إلى إخلاء الوجه البحري وعاد أدراجه إلى طيبة ومات بها الملك شاباكا غما؛ لما مني به من الهزيمة وتبديد جنده وقد خلفه ابنه «شاباتاكا» وكان الأمير كأبيه حزما وعزما وإقداما؛ فإنه ما كاد يقبض على زمام الأمور حتى انصرف انصرافا كليا إلى تجييش الجيوش وإعداد المعدات الحربية، وكان المصريون - لحسن حظه - في شغل شاغل لتفرق كلمتهم وتعارض أهوائهم، وبينما هم يتنازعون على الرياسة إذ أحدقت بهم كتائب الإثيوبيين، فاجتاحت البلاد وبسطت نفوذها إلى أقصى حدود القطر المصري، وقبل أن يجني «شاباتاكا» ثمار نصره المبين وثب عليه طهراقة بن بيعنخي، فقتله في سنة 688 قبل الميلاد، وتولى الملك مكانه، ودعا أمه من مروي إلى مدينة «تانيس» عاصمة الإثيوبين بمصر في تلك العصور؛ لكي تتمتع بحقها في الملك باعتبارها والدة جلالته، ولقد مهدت البلاد لطهراقة ودانت له الأمة المصرية بالطاعة عشر سنين لم يحدث في غضونها ما يعكر صفوه ولا نكست أعلامه لخطب جلل، بل خطا بمصر خطوات متناسبة؛ حيث شيد بها قصورا شامخة ذات شرفات بديعة، وزينها بالأثاث وبالرياش في تانيس ومنف وطيبة، ولم يشغله ذلك عن الاستعداد لدفع ما تتمخض به الأيام من الطوارئ الأجنبية التي تحدق بالبلاد من آن لآخر، خصوصا من البلاد الآسيوية، بل أعد لها ما استطاع من قوة. وفي سنة 681 قبل الميلاد تولى على مملكة الآشوريين ملك يدعى «آشور أخي الدين» وكان هذا جريئا إلى درجة التهور، فرأى نفوذ مصر في سوريا وفلسطين يتعاظم شأنه، وربما يكون خطرا يهدد كيان مملكة آشور فزحف في جند كثيف لغزو مصر، وبسط نفوذه عليها أو - على أقل تقدير - خض شوكتها، فتنجاب سحب الخطر عن نظره.
وما كادت جيوش الآشوريين تصل إلى شرق الدلتا حتى خرجت للقائها الجيوش المصرية بقيادة جلالة الملك طهراقة، وهناك اصطدم الفريقان، وجرت بينهما ملحمة دموية اشتد فيها الطعن والضرب. وقد أظهر المصريون إذ ذاك أقصى ما يستطاع من ضروب البطولة والاستخفاف بعزمات العدو، حتى تمكنوا بذلك من كبح جماح الآشوريين، وفطم مطامعهم في استعمار القطر المصري، إلا أن تلك الهزيمة لم تفت في ساعد العدو الذي ما لبث أن كر راجعا في سنة 670 قبل الميلاد، وباغت مصر بحرب مزق بها الجيوش المصرية شر ممزق، ودخل البلاد قسرا بحد السيف، ولما أطلت جيوش الآشوريين على مدينة منف أخلاها الملك طهراقة فارا إلى الوجه القبلي. ولما رجع الملك آشور أخي الدين نقش على صخور نهر الكلب بجوار رمسيس الثاني كل ما عمله بمصر وفلسطين، وبين للملأ انتصاراته الباهرة في كرته الجريئة على مصر، وصور نفسه في شكل رجل عظيم يقود أسيرين تدل صفاتهما على أنهما ملك الشام وطهراقة ملك إثيوبيا.
هذا وجاء في تاريخ السودان لمؤلفه حسن باشا ما نصه: «وهكذا حكمت مملكة آشور مصر بعد أن حكمها الليبيون فالسودانيون، ولا يخفى أن هذين الأخيرين كانا شديدي الشبه بالمصريين، يحافظون على ديانتهم وعاداتهم وأخلاقهم، ويتطبعون بطباعهم ويتقلدون بملوكهم.» وقال علماء الآثار أنه لم يثبت لديهم للآن أن الآشوريين تقلبوا على مدينة طيبة، وإنما من المعلوم أن الملك طهراقة التزم خطة الدفاع في شمال بلاد النوبة. أما ملك آشور فإنه عاث فسادا في بلاد الوجه البحري وشدد النكير على سكانها، حتى اضطرهم إلى الاستنجاد بالملك طهراقة، فأخذوا يراسلونه سرا لإنقاذهم من الكابوس الآشوري المخيم على ربوع البلاد، ولكن سرعان ما بلغ ذلك آشور أخي الدين الذي قبض على دعاة الفتنة وأودعهم أعماق السجون. أما الوجه القبلي فلم يزل خاضعا لطهراقة الذي ولى ابنه «تانوت آمون» حاكما عليه في سنة 663 قبل الميلاد، وجعل مقامه في طيبة وبقي هو في نبتة «أي مروي»، وكان «تانوت آمون» كبير الهمة طامحا إلى استرجاع ما فقده أبوه من أملاكه بمصر، فتأهب لذلك وسار في جند كثيف إلى الشمال، وحارب أمراء الوجه البحري وأخضعهم لحكمه، ولكنه ما كاد يعيد السيف إلى غمده حتى كرت عليه جيوش الآشوريين في سنة 661 قبل الميلاد، وفتكت بالجنود المصرية الإثيوبية وخربت مدينة طيبة وسلبتها مجدها، وهدمت الحصون والقلاع.
ولما اشتدت وطأة الآشوريين بمصر طمحت نفوسهم إلى ما وراءها، وضعفت لدى الإثيوبيين إلى درجة العجز عن وقاية الحقوق وحماية الأرواح وصون الأعراض؛ أجالوا الفكرة وأمعنوا الروية في بقاع القارة الأفريقية، فلم يجدوا أرحب صدرا ولا أخصب أرضا ولا آمن جانبا من قطرهم الحالي، كثير الجبال والكهوف والغابات؛ فقرروا الانتقال إليه شيئا فشيئا، أما العاصمة فنقلت إلى مدينة البجراوية في سنة 560 قبل الميلاد، فبعدت الأمة قليلا عن منطقة الخطر المحدق بها والذي كان يتهددها من غارات الآشوريين الذين عاقت سفنهم الشلالات، وبذلك فطمت مطامعهم وكفوا أذاهم عن الإثيوبيين الذين كان فصلهم عن مصر واختلاطهم بقبائل الزنج سببا في تلاشي ثقافتهم المصرية التي رفعت مستواهم العلمي إلى ما كانت عليه فراعنة مصر كما تدل آثارهم الآن، واشتغل الإثيوبيون بحروب متواصلة مع قبائل الزنج لإخضاعهم وتسخيرهم لخدمتهم، وهذه وسيلة من وسائل الاسترقاق.
وعندما ساد الرومانيون في مصر ومدوا رواق نفوذهم إلى مروي السفلى وجزيرة الخرطوم انتقل الإثيوبيون مرة واحدة إلى هضابهم الشامخة وساحاتهم الفسيحة، وكان ذلك في خلال القرن الرابع بعد الميلاد، فوجدوا هناك حصنا طبيعيا نسقته يد القدرة الإلهية بحالة كانت جنة لحياتهم السياسية وصيانة هيئتهم الاجتماعية منذ تلك القرون المتطاولة والعصور المتوغلة. وهنا فلنترك الماضي هنيهة ولنتساءل فنقول: ماذا يكون عندما تحدث الغارة الجوية التي تتألف من ألف طائرة إيطالية مسلحة فوق سماء الحبشة حتى تحجب ضوء الشمس لكثافتها وتصم الآذان بدوي المراجل وحفيف القوادم وقصف القنابل، وحتى تعقد بذلك إكليلا من الغازات ومواد المهلكات على قنن تلك الجبال. وهل هذا وحده كاف لإرهاب الحبشة وإرخاء أعصاب أولئك الأسد التي تزمجر في زوايا الكهوف، فتترك العرين مذعورة من هول ما أصابها حتى تسير الفيالق الإيطالية لاحتلال أديس أبابا تترنح أعطافها على نغمات الموسيقى أظن الجواب سلبيا أكثر منه إيجابيا وإن قال قائل لماذا فنقول له أن الحبشة أمة جافة الطبع قضت جل حياتها بين صلصلة السيوف وموارد الحتوف وأنها حريصة على استقلالها إلى درجة الجشع. وقد ترى بطن الأرض خيرا من طهرها عندما تفكر في سيطرة الأجنبي، وربما تلجأ إلى كهوفها وعندما يظن العدو أنه مهد بغارته الجوية طريقا مأمونا إلى الاحتلال سارت مشاته فتجد في كل عرين كمينا وفي كل خطوة داء دفينا، فيقبض هؤلاء الجفاة بحلاقيم ذلك الجند الجديد المتوغل في بلاد لا يلائمه هواؤها ولا يصلح له غذاؤها، فتكون المصارعة عنيفة والمجزرة رهيبة مخيفة، وربك أعلم بالعاقبة؛ فسبحان القائل:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون .
هذا ولنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول: قد اشتهر الإثيوبيون في هضابهم باسم الحبشة وما بقي منهم على شطوط النيل عرف باسم النوبة. والنب في لغتهم هو الذهب؛ أي: سكان بلاد الذهب. قال هيردوت: «وكان في إثيوبيا عين ماء تنعش أهلها،
1
ومروج مخضرة يانعة، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وكان الذهب في بلادهم كثيرا جدا، حتى إنهم كانوا يستعملونه في الأشياء الدنيئة كالسلاسل التي يسحبون بها الأسرى.» ويقال إن اثنين من ملوك إثيوبيا المعاصرين لقمبيز ملك مصر هما نستاسن وحروساتف أخضعا أكثر بلاد الزنج، وقهرا كل قائم في سبيل النفوذ الإثيوبي جنوبا. (2) اكتشافات حبشية
كانت الآثار الإثيوبية
2
منذ عصورها الأولى في دثار الإهمال لم تمتد إليها يد المكتشفين سوى تلك النقوش والخطوط الهيلوغرافية القائمة على الجبال والصخور، لا يعرف السودانيون منها شيئا عدا نسبتها إلى الأعمال الكفرية القديمة غير آبهين لها إلى سنة 1236ه الموافق 1820م؛ حيث امتد نفوذ محمد علي باشا إلى ربوع السودان. ولقد أميط الأذى عن سبيل العلماء الأثريين الذين أخذوا يجوبون الصحاري والقفار منقبين عن تلك الآثار العظيمة في نبتة، وصنم، وجبلة البركل ... وغيرها بدنقلا، والبجراوية، وسوبا، وعلوي ... وغير ذلك من البلاد الواقعة على ضفاف النيل. وإليك نبذا صغيرة عن خلاصة تلك الاكتشافات؛ قال المرحوم كمال باشا: «كانت بلاد إثيوبيا مملكة شورى، فإذا أرادوا انتخاب ملك كانوا يعقدون في معبد آمون بمدينة نبتة مجلسا يجتمع فيه الكهان والنواب الذين ينتخبهم القضاة وبعض العلماء والعساكر والضباط، فإذا اجتمع المجلس دخل الإخوة الذين هم من العائلة الملكية إلى معبد آمون ووقفوا أمام هذا المعبود المشير بأصبعه إشارة اتفاق إلى الإنسان الذي تريد الكهنة انتخابه من العائلة الملكية لتوليته الملك، ومتى تم الانتخاب واستقر الرأي على واحد جعلوه ملكا عليهم وظل طول حياته تحت سلطة الكهنة، فليس له أن يشهر حربا أو يجري شيئا مهما في الحكومة إلا إذا استأذن المعبود آمون وكهانه، فإن عصا أو أراد الاستبداد قرر الكهنة قتله، فلم يكن بد من تنفيذ هذا الحكم فيه. وكما كان هذا القانون مشددا على الملك أيضا كان مشددا على الرعية، فإذا خالف أحد الرعية رأي الكهنة أو غير أقل شيء في الشعائر الدينية عدوا عمله بدعة سيئة وحكموا عليه بالقتل.
وقد اتفق في آخر القرن السابع أن بعض الكهنة أتى بدعة سيئة في شعائر الدين المصري القديم، منها إباحة أكل لحم القربان نيئا - وهي عادة بني الأسود - فتوجه الملك الحاكم إلى معبد آمون بنبتة وحكم بطرد من ابتدع شيئا في الديانة، وحرق ما وجده من آثار تلك البدع السيئة؛ فعلى هذا أخرج أصحاب هذا المذهب الجديد من بلادهم إلى جهات بعيدة واتخذوا لهم فيها مساكن وتمكنوا من هذا تمكنا قويا.» إلى أن قال: «لذلك استمروا ناهجين هذا النهج حتى ظهر سيدنا عيسى - عليه السلام - وبقيت هذه العادة إلى الآن متأصلة في بعض الحبشان، فهم يأكلون اللحم النيئ، ويسمونه «رنيدة».»
وبعد انفصال الإثيوبيين عن مصر ظهرت فيهم الثروة والغنى، وأصبح ملوك مصر يبعثون إليهم الجواسيس من بلاد الكنوز ممن يحسنون لغة إثيوبيا، فصار هؤلاء يرودون البلاد ويستكشفون أحوالها حاملين الهدايا لملوك إثيوبيا، وكانت مصنوعات من التبر، والحلل الحمراء الأرجوانية، والروائح العطرية، وأنبذة التمر التي كان يعجب بها ملك إثيوبيا. وأراد مكافأة ملك مصر على ما أسداه إليه من عظيم الهبات؛ فبعث إليه بقوس أوترها أمام سفرائه، وقال لهم ما معناه: إن ملك إثيوبيا ينصح ملك العجم أن لا يحضر إلا بنفسه لحربنا على كثرة جندنا ولا يكون حضوره إلا إذا قدر هو أو أحد رعيته أن يوتر قوسا عظيمة مثل هذه القوس وحده كما أوترها وحدي في الحال، فإن لم يمكنه فليحمد الإله المعبود حيث لم يرزق إثيوبيا الطمع في المسير إلى بلادهم العجم.
فلما أبلغ ذلك إلى الملك قمبيز استشاط غضبا وسار في جند عظيم يريد الحبشة طائشا متهورا مسلوب الحواس، فلم يعتن بتنظيم جيوشه ولا إعداد ذخائره، فظل في الصحراء بعساكره - أي في عتمور أبي أحمد - وما كاد يقطع ربع الطريق حتى بلغ الجهد منه مبلغا عظيما، حيث انتهى إلى سهول رملية قاحلة لا ماء بها ولا كلأ، فأخذوا يأكلون دواب الحملة، ولما انتهت صار يأكل بعضهم بعضا بالاقتراع؛ أي: كل عشرة رجال يقترعون واحدا منهم، ومتى وقعت القرعة على رجل منهم أجهزوا عليه وأكلوه في الحال، ولما اشتد بهم الضنك خاف الملك قمبيز على نفسه، فقفل راجعا بمن بقي من عسكره حتى وصل إلى طيبة، وأراد تعويض ما خسره فاستعمل أقصى حدود القسوة مع أهل مصر، وسلب أمتعة الهياكل وزينتها وذخائرها من ذهب وفضة، ولما وصل إلى منف التي كانت أعظم مدن العالم، وكان هناك موسم مشهور لإقامة عجل جديد يسمى «أبيس» على التخت المعد لإقامته، وكان يوم احتفال كبير ومهرجان فخم به جمع عظيم من الناس فرحين مستبشرين بذلك الموسم، فظن قمبيز أنهم مسرورون بهزيمته، فقتل الكهان والأمراء وأرباب المعابد، وبعثرت الآثار، فذاع ذلك وشاع وملأ الأسماع، فوقعت الرهبة في قلوب الإثيوبيين، وتقهقر تانوت آمون بما بقي من جيوشه إلى مروي. وكان ذلك آخر عهد الإثيوبيين بمصر، وقد أخذت مدينة طيبة في الاضمحلال حتى صارت تلالا خربة تحوي أعظم آثار العالم صلابة ومتانة. وإلى هنا يعلم القارئ اللبيب أن دولة إثيوبيا عظم شأنها وتضخم سلطانها حتى ضمت إليها مملكة الفراعنة، وحاولت بسط نفوذها على دول آسيا، وكان ذلك الفشل الأخير مثبطا لهمم الإثيوبيين، فلم يفكروا بعده في إعادة نفوذهم بمصر، بل كانوا يعانون عبأ ثقيلا وهو رق الكهنة وغطرستهم التي تدل بوضوح تام على سخافة العقول وفساد العقائد الدينية. ولقد كان كهنة آمون يأمرون ملك إثيوبيا بالاستقالة فينزل عن عرشه بلا مسوغ، وفي بعض الأحيان يأمرونه بالانتحار فلا يسعه إلا أن يقتل نفسه بنفسه رجاء المغفرة من وثنه؛ فلله در ابن مطروح حيث قال:
يا له من عمل صالح
يرفعه الله إلى أسفل
وبفضل تلك العقائد وببركة أولئك الكهنة وهنت قوى الإثيوبيين وتضاءل نفوذهم وسقطت هيبتهم
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
فإن تلك الدولة الموطدة الدعائم التي كانت تهيمن على أقطار واسعة وأراض خصبة وديار رحبة؛ صارت هدفا لغارات المغيرين وعبث الطامعين، حتى اضطرت إلى إخلاء نبتة والتوغل في مجاهل أفريقيا إلى هضابها إلى الآن. (3) حول تسمية إثيوبيا بالحبشة
يقول المؤرخ الإيطالي «لامبرتي سورينتينو» بأن اللفظ الإفرنجي الذي بالإنجليزية
Abyssinia
وبالإيطالية
Abissinia
مشتق من اللفظ العربي «الحبشة» التي فعلها «حبش».
وقد رجعنا إلى القواميس اللغوية، ونجترئ بالخلاصة التي ذكرها «مجد الدين الفيروزآبادي» صاحب «القاموس المحيط» ص266 جزء 2 حيث قال:
الحبش والحبشة محركتين، والأحبش بضم الباء: جنس من السودان، جمعه: حبشان وأحابيش. والحبشة: بلاد الحبشان. والحبشان بالضم: ضرب من الجراد، وكثمامة الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة كالأحبوشة.
ولا يخرج ما ورد في القواميس الأخرى عن مثل هذه المعاني؛ فليرجع إليها من يشاء.
وقد ذكر مراسل البلاغ بأديس أبابا أنه قد تقابل مع أحد الوطنيين ممن تلقوا علومهم في مصر، فأظهر له دهشته من أن الصحف المصرية تسمي بلاده باسم الحبشة، وهو الاسم الذي يمقته الأحباش ويرون فيه إهانة لهم وتحقيرا، وبهذه المناسبة نذكر لمحة تاريخية عن الاسمين ورأي الحبشان فيهما: أما عن كلمة «حبشة» فهناك فرضان فيها؛ الأول: وهو ما عرف عن أهالي الحبشة الأولين من سكنى المغارات والكهوف، وهذه تسمى بالحبشة «واشا»، وقد عرفت بلادهم بهذا الاسم الذي حرف وصار حبشة. وهذا الفرض في ظني لا يستقر، وإن كان بعض المؤرخين يأخذون به. أما الفرض الثاني: فهو تسمية البلاد باسم القبائل والشعوب التي نزحت من جزيرة العرب إلى بلاد إثيوبيا، وهذه القبائل كانت خليطا من شعوب مختلفة؛ ولذلك سميت حبشات، وقد فتحت البلاد وأذلت أهلها، وكانت على شيء من الثقافة، فعلمت الوطنيين سكنى المنازل وتهذيب الأسلحة الحجرية، وأطلقت اسم الحبشة على بلادهم، ومعناها - كما ذكرت - خليط.
وكلمة إثيوبيا التي يعتز بها الأحباش هو الاسم الرسمي الذي تستعمله الحكومة في مكاتباتها الرسمية، وهذه التسمية ترجع في رأي علماء الأحباش إلى مجيء إثيوبس حفيد حام وتأسيسه لبلادهم، وقد عرفت البلاد التي أسسها باسمه فصارت إثيوبيا، وهذه كانت تتسع أحيانا فتشمل أجزاء كبيرة من أفريقيا وآسيا حتى الهند، وتنكمش أحيانا أخرى فتقتصر على الأجزاء الأفريقية المعروفة. وتروي الأساطير أن حاكما مسيحيا يسمى «يوحنا» كان يحكم هذه الإمبراطورية الشاسعة التي كانت تضم جزءا كبيرا من الهند وبلاد العرب وشرقي أفريقيا، وكانت تعرف إذ ذاك باسم إثيوبيا، ثم قام أحد الملوك الأحباش واستقل بالملك وأطلق اسم إثيوبيا على بلاده.
هذا موجز تاريخي للاسمين، أما الأحباش فيرون في كلمة «حبشة» إهانة لهم ولبلادهم، ولا يجري هذا الاسم على لسان حبشي واحد؛ لأنه يذكرهم بعهد الذل الذي قاسوه من إغارة القبائل الأجنبية على بلادهم، فضلا عن دلالته على عدم صفاء جنسهم وشعوبهم. •••
على أن القراء يلحظون أننا آثرنا إطلاق لفظ «الحبشة» على البلاد الإثيوبية في تعليقاتنا وتأريخنا للحوادث؛ وذلك لأن «الحبشة» هو الاسم العربي وكتابنا بالعربية، ولأن الاسم يرجع إلى أساس معقول، فالحبشان خليط من الأقوام، ولا تزال الحبشة ذات رءوس وممالك، ولأن الكتب العربية والصحف المصرية والعربية تستعمل كلمة «الحبشة» في كتاباتها، فوجبت مراعاة هذا الاستعمال المشهور والذي في الوقت ذاته ليس خطأ أو بدعا.
وليس لإخواننا الحبشان أن يبرموا بهذا الاستعمال، ومهما يكن معنى لفظ «الحبشة» منبئا عن حطة أو مهانة في نظرهم، فإن التلفظ به ولا سيما على لسان المصريين والعرب لا ينبئ إلا عن أنه علم على تلك البلاد المعينة المعروفة. والمعاني المستهجنة لبعض الألفاظ تفقد وجودها بالعرف والاصطلاح والاستحالة إلى مسميات محترمة.
ويشبه برم الحبشان باسم «الحبشة» مقت سكان بلاد «العجم» لاسم «العجم» ومطالبتهم بتسميتها «بإيران».
ولمجمع اللغة العربية الملكي أن يبت في اسم الحبشة، ويبدله إلى إثيوبيا أو نحوها. (4) الحبشة بين القرن الرابع والقرن التاسع عشر
يقول السنيور «لامبرتي سورنتينو» أن كلمة «الحبشة» مأخوذة من فعل عربي اسمه «حبش»، وأن «الحبشة» تكون إذن «مجموعا من الأقوام!»
3
وفي القرن الرابع دخلت الحبشة في حظيرة المسيحية، وفي سنة 525م ظهر مشروع غزو اليمن. ولكن انتشار الإسلام وقوته بعدئذ حملت الحبشان على الانسحاب من السواحل العربية، والاكتفاء بتوسيع الحبشة داخل القارة الأفريقية.
وتاريخ الحبشة في القرون الوسطى غامض جدا، وجملة ما يقال فيه أنه كانت هناك ثلاث أسر تتنازع ملك الحبشة، وقامت حرب بين المسيحيين والمسلمين، وضعف المسيحيون حتى أنجدهم البرتغاليون الذين تغلغلوا في الحبشة من البحر الأحمر، وقتلوا زعيم المسلمين سنة 1543، وبعد انتصار المسيحيين عادت الحبشة إلى الفوضى مرة أخرى. وكان دخول البرتغاليين سببا في نشر المذهب الكاثوليكي، وانقسم مسيحيو الحبشة قسمين: قسم يؤازر المذهب الكاثوليكي، وقسم يقاومه. ونجح القسم الأخير؛ حيث اضطر النجاشي «سوسنيوس» الذي قبل الديانة الرومانية، إلى النزول عن الملك سنة 1632 بعد حكم سبع سنوات، وخلفه النجاشي «فاسيليوس» الذي حكم من سنة 1632 إلى 1637، وأسس مدينة «جندار» في الشمال الشرقي من الحبشة وفي شمال بحيرة تانا، وما لبثت البلاد أن عادت إلى الفوضى وعاد الرءوس إلى طغيانهم ومنافساتهم، وكان النجاشي ضعيفا طوع بنانهم، يعينونه ويقيلونه من آن إلى آخر، وأصحبت شوا وجالا ولاستا وجوجيام وسمين وتيجري دويلات مستقلة متنازعة، حتى ظهر عقب النصف الأول من القرن التاسع عشر الرأس كاسا، وتغلب على الرءوس وأصبح ملكا للملوك. (5) الملك تيودور والحرب مع الحبشة
بعد أن ضم الخديو إسماعيل محافظتي سواكن ومصوع إلى مصر، قرر أن يصل بين مصوع وكسلا بخط حديدي، حيث مر هذا الخط بسنهيت «كرن» بكسر الكاف؛ ليسهل المواصلات بين السودان والبحر الأحمر، وكان يعد البلاد الواقعة بين البلدين ومعها «سنهيت» أرضا مصرية منذ فتحها محمد علي الكبير، ولكن النجاشي تيودوروس ملك ملوك الحبشة عارض الخديو وادعى أن «سنهيت» أرض حبشية، ومن ثم قام الخلاف بينهما. (6) بين إنجلترا والحبشة
منذ فتحت إنجلترا عينها على القارة الأفريقية، طمحت إلى أراضي الحبشة، بسبب كتب الرحالة والمؤرخين الذين تحدثوا عن كنوز الحبشة وخيراتها والمنازعات بين ملوكها وقبائلها. وكان من أثر ذلك زيارة الكونت جورج فالنتيا ومستر هنري صولت للحبشة سنة 1805 وتعرفهما بملك الحبشة «إمبوالا سيوني»، وزيارة صولت للحبشة ومعه كتاب من الملك جورج مصحوبا بهدايا إلى ملك الحبشة وإلى زعماء القبائل، ثم زار مستر كوفن والأسقف جوبات الحبشة سنة 1830 وعاصمتها جندار. وفي سنة 1844 عقد الميجر هاربس مندوبا من حكومة الهند معاهدة مع الرأس سملا سيلاسي ملك شوا، وزار جلالته عقب ذلك بريطانيون آخرون منهم جونستون وروستيه وهركورت، وبل وبلودن، الذي عينه اللورد بلمرستون وزير الخارجية البريطانية - باطلاع الملكة فكتوريا - قنصلا في مصوع ثم في الحبشة، وفي أثناء ذلك تمكن القنصل من عقد معاهدة صداقة سنة 1849 مع الرأس «علي» أقوى ملوك الحبشة، ثم أفل نجم الرأس علي ونزل للإنجليز عن حق حماية رهبان الحبشة في القدس. ثم ظهر الرأس كاسا
4
قويا جامعا للقبائل، ثائرا على صهره الملك علي، فوقعت بينهما حرب هزم فيها جيش الملك علي وقتل الملك نفسه.
ثم أعلن الرأس كاسا نفسه ملكا لملوك الحبشة، وتوج في 7 فبراير سنة 1855 باسم «تيودور الثاني».
ويقول السنيور «لامبرتي سورينتينو» إن الرأس كاسا قد نشأ نشأة عسكرية وإنه كان رجلا مهيبا، وكان برنامجه توحيد البلاد الحبشية وجلعها وحدة سياسية ومملكة قوية، وقد نجح في إخضاع الرءوس الإقليميين؛ ولذا يمكن عد «تيودور» أول مؤسس للحبشة الحديثة، وعقد الصلات السياسية والتجارية مع البلاد الأوروبية ولا سيما مع فرنسا وإنجلترا.
ولكن «تيودور» عاد فأوجس خيفة من تغلغل النفوذ الإنجليزي، ولعله كان واقعا تحت تأثير النفوذ الفرنسي يومئذ، فألقى القبض على مستر كامرون قنصل إنجلترا وعلى الموظفين والمبشرين والتجار الإنجليز؛ فأثار هذا الفعل ثائرة الإنجليز ووسطوا الخديو إسماعيل لإطلاق سراح الأسرى، ولكن تيودور أصر على بقائهم في الأسر، فلم تر إنجلترا بدا من إرسال بعثة عسكرية بقيادة سير روبرت نابيير. وتحالف الخديو مع الإنجليز ضد الحبشة، وأمر الخديو عبد القادر الطوبجي باشا - محافظ مصوع - بمساعدة الجيش الإنجليزي برا، وبأن يكون الأسطول المصري تحت أمره. وقد تغلغل الجيش الإنجليزي وحلفاؤه داخل بلاد الحبشة، واحتل «مجدلا» التي تقع شمالي أديس أبابا، وانتحر «تيودور» وانسحب الإنجليز، وآل ملك الحبشة إلى الملك يوحنا.
هذا وقد كان عدد الحملة الإنجليزية بقيادة السير روبرت نابيير أربعة آلاف إنجليزي، وتسعة آلاف وخمسمائة هندي من بومباي إلى زولا قرب مصوع، وأخذ معه عشرة آلاف حيوان بينها بغال وأفيال لجر المدافع الخفيفة والثقيلة. وكان الإمبراطور مخيما في مجدلا على بعد أربعمائة ميل عن زولا التي بلغها الإنجليز في شهر نوفمبر سنة 1867، وكان الطقس يتراوح بين حر لاذع وبرد قارص، قال عنه ستانلي الرحالة أن ست بطانيات صوف لم تكف ليلا لدفئه.
وكان تيودور مكروها من القبائل في بلاده؛ فلم يتعرض أحد منها لمواصلات الجيش الإنجليزي الطويلة، ولولا ذلك لما أمكنها الإقدام بتلك السهولة، ولاسيما أن الجنرال نابيير
5
اهتم جدا بأمر القبائل، فأخذ معه نصف مليون دولار نمسوي فضي تحمل صورة ماريا تريزا مؤرخة سنة 1780، وقد جرى ضربها خصيصا له في فيينا. هذه النقود المتداولة في الحبشة كانت ذات تأثير عظيم في القبائل المتنكرة للنجاشي، فحملت إلى القائد الإنجليزي أطعمة لعشرين ألف جندي وعلفا لستين ألف حيوان، وجعلت تهدم خيامها وتقدمها وقودا للطباخين.
وقد جرت معركة واحدة في هذه الحرب قتل فيها 560 حبشيا وجرح كثيرون، أما الإنجليز فلم يخسروا إلا خمسة عشر جريحا فقط شفوا جميعا فيما بعد، ومات منهم بالأمراض 11 ضابطا و37 رجلا.
ومما يؤثر عن هذه المعركة أن الإمبراطور تيودور نفسه لما رأى ما حل بجماعته من الهزيمة المشئومة انتحر في ساحة القتال برصاصة أطلقها على صدغه من مسدس فضي كانت الملكة فكتوريا قد أهدته إليه سنة 1854. (7) بين الحبشة والمماليك
وصف «حسام » العلاقات التي قامت بين ملوك الحبشة ومماليك مصر وبعض الخديوين، فقال: مما يدل على أن مقام مصر كان عظيما من 600 سنة أن جيرانها كانوا يخشون بأسها فيخطبون ودها. ومن هؤلاء الجيران مملكة الحبشة؛ فقد أرسل ملكها إلى سلطان مصر الناصر محمد بن قلاوون رسولا في سنة 712ه ومعه هدية قومت بمائة ألف دينار أو أكثر من ذلك، حتى عدت من النوادر.
وجاء رسل ملوك الحبشة أيضا في أيام الأشرف برسباي، ثم في أيام الظاهر جقمق، وكذلك في سنة 880ه في عهد الأشرف قايتباي، وقد شاء الرسل أن يجلسوا بحضرته على كراسي كانت معهم فلم يمكنهم النوب من ذلك، وعمل لهم السلطان موكبا بالحوش من غير شاش ولا قماش، ثم مضت مدة طويلة لم يحضر فيها أحد من رسل ملوك الحبشة حتى أيام السلطان الغوري. •••
وقد وصف ابن إياس في كتابه بدائع الزهور كيف حضر هؤلاء الرسل في أيام السلطان الغوري ومعهم الهدايا النفيسة والكتب التي تحوي الألفاظ الحسنة والنعوت العظيمة لسلطان مصر.
قال ابن إياس ما ملخصه:
وفي يوم الخميس 15 محرم سنة 923ه حضر قاصد من عند ملك الحبشة، فعمل له السلطان موكبا بالحوش من غير شاش ولا قماش - كما تقدم للأشرف قايتباي - وجلس السلطان على المصطبة التي أنشأها بالحوش، ونصب على رأسه السحابة الزركش، واصطفت الأمراء عن يمينه وشماله كل واحد منهم في منزلته، ثم طلع القاصد من الصليبة وصحبته: الأمير أزدمر المهمندار، وجماعة الرءوس النوب، ومن المماليك السلطانية ... وغير ذلك. وقد حضر مع القاصد ستمائة رجل منهم نحو خمسة من أعيان الأمراء، وكانت أوساطهم كلهم مشدودة بحوائص كهيئة الزنانير، وفيهم من هو عريان مكشوف الرأس وعلى رأسه شوشة شعر، وفيهم من في أذنه حلق قدر القرصة وفي أيديهم أساور ذهب.
وأما القاصد الكبير، فذكروا أنه كان ابن أمير كبير الحبشة، وقيل إن أباه هو الذي حضر في دولة الملك الأشرف قايتباي، وكان على رأسه خودة مخمل أحمر فيها صفائح ذهب وفيها بعض فصوص، وعلى رأس الخودة درة كبيرة مثمنة، وعليه شايات حرير ملون وعلى رءوسهم شدود حرير، وذكروا أن فيهم شخصا شريفا.
ولما شقوا من الصليبة كان معهم طبلان على جمل يضربون عليهما، وكان صحبتهم البطرك وعليه برنس حرير أروق، وقد ركب أعيانهم الخيول والباقون كانوا مشاة، فطلعوا القلعة من سلم المدرج وفي مقدمتهم البطرك، فلما وصلوا إلى باب الحوش أرادوا أن يجلسوا بحضرة السلطان على كراس حديد عالية كانت معهم، فلم تمكنهم رءوس النوب من ذلك كما حدث في أيام الملك الأشرف قايتباي.
ولما وصل هذا القاصد إلى الحوش قبل الأرض، فلما وصل إلى أوائل البساط قبل الأرض هو ومن معه من أعيان الحبشة، ولم يدخل معه بحضرة السلطان غير سبعة أنفس أما الباقون فلم يدخلوا، فلما قربوا من السلطان قبلوا الأرض بين يديه ثالث مرة، ثم قدموا كتاب ملك الحبشة، وقيل إنه كان في غلاف من الفضة وقيل من الذهب، فلما قرئ على السلطان وجد فيه ألفاظا حسنة ونعتا عظيما للسلطان، ومما جاء فيه:
وإن قصادنا أتوا إلى مصر ليزوروا القمامة التي بالقدس؛ فلا تمنعوهم من ذلك.
واستمر رجال الحبشة واقفين على أقدامهم نحو خمس درج حتى قرأوا كتابهم، ثم انصرفوا ونزلوا من القلعة، فرسم لهم السلطان أن يقيموا في ميدان المهارة الذي بالقرب من قناطر السباع إلى أن يسافروا، وأرسل لهم خياما ضربت لهم من داخل الخيام، ووكل بباب الميدان جماعة من المماليك يمنعون من يدخل إليهم من العوام، فلما نزلوا من القلعة نزل معهم الوالي والمهمندار وجماعة من رءوس النوب، فوصلوهم إلى الميدان خوفا عليهم من العوام أن يرجموهم، فكان لهم يوم مشهود؛ لأن قصاد ملوك الحبشة لا يدخلون مصر إلا قليلا تبعا لبعد بلادهم، حتى قيل إن هذا القاصد وصل مصر بعد سفر أمده تسعة أشهر.
ثم إن القاصد أرسل إلى السلطان تقدمة لم تكن كبيرة، وقيل إنها قومت بنحو خمسة آلاف دينار أو دون ذلك، فلما عاينها السلطان وبخ الذي طلع بها وأحضر له قوائم هدايا ملوك الحبشة إلى الملوك السابقة، وأحضر له عدة تواريخ يذكر فيها هدايا ملوك الحبشة إلى ملوك مصر، فقرئت عليه. ولكن ضعف ملوك الحبشة بالنسبة إلى ما كانوا عليه من قديم الزمان؛ حتى نقل بعض المؤرخين أنه كان لملوك الحبشة على نواحي النيل ستون مملكة لا ينازع بعضها بعضا فيما بأيديهم من الأراضي التي هناك، أما في أيام السلطان الغوري فقد ضعف أمرهم بالنسبة إلى ما كانوا عليه من قبل ذلك.
وبعد أن قام قاصد الحبشة في الميدان ثلاثة أيام سافر هو ومن معه إلى القدس ليزوروا «القمامة». ا.ه.
أما في تاريخ مصر الحديث، ففي سنة 1299ه أرسل علاء الدين باشا العامل يومئذ على شرق السودان إلى ديوان الخديو «توفيق باشا» يقول: جاءت رسل نجاشي الحبشة، وبينهم قسيس من قسوسهم اسمه «ملاك برهان فيروت»، ومعهم عشرة رجال آخرون، منهم خمسة من أئمة الدين، وترجمان اسمه يعقوب، وعشرة من الأتباع الذين يحملون متاع الوفد، فدفع إلي كبيرهم كتابا من النجاشي يقول فيه:
باسم سيدنا يسوع المسيح كلمة الله ... إلخ.
من الملك المحب يوحنا ملك صهيون نجاشي الحبشة وملك ملوكها إلى حضرة المحب المكرم علاء الدين باشا.
نخبركم أننا بنعمة سيدنا يسوع المسيح نحن وجميع عسكرنا ورجال مملكتنا حائزون كمال الصحة والعافية، ممتعون بالراحة الوافية، ونود استمرار العلاقات بيننا وبين حكومة مصر، ونحب تثبيت أحسن الصلات الودية. وإنه مرسل لكم يا محبنا الباشا هدية، وهي حصان من جياد الخيل؛ إشارة إلى التودد والمحبة والسلام. ا.ه.
وكان مع ذلك الوفد أيضا هدايا أخرى بعضها إلى بطرك القبط بديار مصر وبعضها إلى الخديو؛ وهي عبارة عن عشرة كمام من الفضة المموهة بالذهب، ونيشانين من الذهب الخالص، وثماني درقات، وكمية من الزاد، وزهاء ألف وخمسمائة جنيه فرنسوي برسم القدس الشريف، وكتاب إلى الخديو توفيق باشا. وكانت وجهة جميع رجال الوفد ببيت المقدس ليلبثوا فيه ما شاء الله، وقد حضر أولئك الحبشان ومثلوا بين يدي الخديو، ونزلوا بدار البطريركية القبطية بالقبيلة، وتجد تفصيل ذلك في الجزء الرابع من كتاب الكافي.
ويذكر القراء أنه في سنة 1924 كان إمبراطور الحبشة الحالي هيلا سيلاسي ما زال وليا للعهد، وكانوا يطلقون عليه اسم «الرأس تفري»، وقد جاء إلى مصر لزيارتها في طريقه إلى أوروبا، فاستقبلته الحكومة استقبالا رسميا، وكان يرأس الوزارة في ذلك الوقت المغفور له سعد زغلول.
وكذلك فإنه منذ سنوات قليلة قدمت كريمة إمبراطور الحبشة الحالي إلى مصر لعمل عملية جراحية لها في المستشفى القبطي بشارع الملكة نازلي، وقد عملت العملية وشفيت المريضة. (8) حملات مصر على الحبشة
6
أثارت رغبة الخديو إسماعيل في الفتح وتوسيع الملك وإنشاء إمبراطورية أفريقية في نفسه إعداد حملات عسكرية لغزو الحبشة، والهيمنة على منابع النيل الأزرق فيها؛ فجرد ثلاث حملات عسكرية: (1) حملة بقيادة أندروب بك الدانيمركي سنة 1875، ثم (2) حملة بقيادة منزنجر باشا السويسري سنة 1875 وهزمت الحملتان، ثم (3) حملة بقيادة راتب باشا ومعه الجنرال لونج باشا «الأمريكي»، وباءت بالفشل في مارس سنة 1876، وعقدت بين الخديو وبين الملك يوحنا معاهدة، قضت بانسحاب الجيش المصري من الحبشة وترك «سنهيت» لمصر، وبفتح التجارة بين مصوع والحبشة، وكانت هذه الحملات مغامرة وخطأ. (9) المحالفة الحبشية الإيطالية
وقد كتب مستر مارسيل برات مقالات متتابعة عن رحلة له في الحبشة وعن تاريخها وأسباب النزاع الحالي بين الحبشة وإيطاليا، وقد نشرت «الديلي تلغراف» هذه المقالات، وقد تكلم حضرته عن مخالفة بين إيطاليا والحبشة، فقال:
يقال إن النجاشي يوحنا قد حصل على مدافع وذخيرة من الإنجليز، ونجح في إخضاع كل مزاحميه، واتخذ لنفسه لقب نجاشي النجاشيين أو «ملك الملوك»، ولما توج في أكسوم - المدينة المقدسة - في سنة 1879 تسمى باسم يوحنا، وكان حكمه سلسلة طويلة من الحروب الداخلية.
كان منليك أكبر خصوم يوحنا، وكان الإيطاليون يؤيدونه لأن مصلحتهم في أن يبذروا الشقاق في الحبشة، وأخيرا قتل يوحنا في حربه مع الدراويش؛ فمكنت وفاته منليك من تولي السلطة. وكان عرش منليك ما يزال مزعزعا؛ فاستعان بالإيطاليين الذين رأوا في الملك الجديد حليفا نافعا؛ فسارعوا إلى عقد محالفة معه - محالفة 1889 الشهيرة.
قد يكون من المفيد في الموقف الحاضر أن نقرأ واحدا أو اثنين من نصوص المعاهدة التي جاء فيها: (1)
إن جلالة أمبرتو الأول ملك إيطاليا وجلالة منليك ملك ملوك الحبشة لكي يجعلا السلم مفيدا ودائما بين مملكتي إيطاليا والحبشة في سبيل الصداقة والتجارة. (2)
على أن يكون سلاما ودائما وصداقة بين صاحب الجلالة ملك إيطاليا وصاحب الجلالة ملك ملوك الحبشة، وبين وارثيهم وخلفائهم ورعاياهم والسكان الذين تحت حكمهم. (3)
تجنب أي نزاع على مشكلة حدود الأقاليم التي يتولى الطرفان المتعاقدان السيادة عليها. تقوم لجنة مؤلفة من مندوبين إيطاليين ومندوبين حبشيين برسم خط تحديدي على الحدود يرسم طبقا للنصوص الآتية: (أ)
خط الهضبة العالية بين الحدود الإيطالية الحبشية. (ب)
تدخل قرى هالاي ساجانيتي في الأراضي الإيطاليا. (ج)
يبدأ من نقطة آدي بوانس تعيين الحدود بخط يسير مباشرة شرقا وغربا. (4)
تكون تجارة الأسلحة عن طريق مصوع مباحة لملك ملوك الحبشة. (5)
يعقد لإمبراطور الحبشة قرض مقداره أربعة ملايين ليرة في بنك إيطالي بضمان الحكومة الإيطالية، ويتفق على أن إمبراطور الحبشة من جانبه يسلم للحكومة الإيطالية المذكورة جمارك هرر ضمانا لدفع فوائد الدين وتصفيته. (6)
لما كان الرق مخالفا لتعاليم الدين المسيحي؛ فإن جلالة ملك ملوك الحبشة يتعهد بأن يمنع بكافة الوسائل التي يستطيعها مرور قوافل الرقيق في بلاده.
ولما حققت الدبلوماسية في إتمام أغراض هذه المعاهدة؛ فإن الإيطاليين استطاعوا احتلال هرنت وأسموه بغير معارضة.
تقول الأنباء المعلنة حديثا أن ليج ياسو حفيد منليك، وملك ملوك الحبشة المعزول قد توفي. فإذا ثبت أن هذا صحيح فإن التاريخ خليق أن يعيد نفسه؛ لأن إيطاليا تفقد حليفا قويا لأن الأمير ما يزال له أنصار، وأي حرب داخلية في الحبشة تكون لمصلحة إيطاليا. (10) الإمبراطور هيلا سيلاسي
ظهر في طليعة رجال العالم اسم الإمبراطور هيلا سيلاسي إمبراطور الحبشة الحالي، فهو قائد الجيوش الحبشية، وموقد الحماسة، وقد صرح بأنه لن يقبل أية حماية أو انتداب أو وصاية أو أي اتفاق أو قرار يمس استقلال الحبشة، وأنه مستعد فقط للاتفاقات الاقتصادية، وهو يجتمع بشعبه وبمراسلي الصحف ويدلي بالتصريحات، ويعمل ليل نهار.
وقد وصف الأستاذ كامل صمويل مسيحة هذا الإمبراطور، فقال: كتب الإمبراطور منليك مرة إلى الدول الأوروبية يقول:
إن الله القادر على كل شيء، هو الذي حمى بلاد الحبشة حتى الآن، وإني متأكد كل التأكيد بأنه سيظل يحميها في المستقبل.
هذا ما قاله الإمبراطور منليك في بداية هذا القرن، واليوم يردد ابن أخيه ووريثه الشرعي العبارات عينها، وبالأسلوب نفسه، وفي اللغة الفرنسية عينها؛ فيكتب لجامعة الأمم يقول:
في تاريخ الحبشة ما يزيدني ثقة وإيمانا في القدرة الإلهية على حماية الحبشة.
وقد يكون من الطريف أن تعلم الألقاب التي يحملها الجالس على عرش الحبشة مع حظها الضئيل من الحضارة والرقي ... صاحب الجلالة الإمبراطورية ملك الملوك ... الأسد الظافر من سبط يهوذا ... الإمبراطور العظيم المنحدر مباشرة من سلالة ملكة سبأ وبيت داود! •••
ولد الرأس تفري عام 1891، وهو ابن الرأس ما كونن الذي كان حاكما على هرر أغنى أقاليم الحبشة بلا جدال، والذي كان يملك الأراضي الشاسعة الغنية بمعادنها وحاصلاتها.
وتلقى علومه على النمط الأوروبي على يد رهبان فرنسيين يقيمون في هرر؛ فتثقف تثقيفا عاليا، فهو يقرأ الفرنسية ويتكلمها بطلاقة، ولا يمل من دراسة تاريخ بلاده وأدبها، وعلى اتصال بالحركتين الأدبية والعلمية في أوروبا.
وعناية الرأس تفري بالآداب شديدة، وقد لازمته حتى بعد تركه للرهبان الفرنسيين.
وقد أسس في أديس أبابا - عاصمة بلاد الحبشة الجديدة - مطبعة تتولى طبع المؤلفات الأكليركية الحبشية القديمة طبعا متقنا منقحا.
وهو فضلا عن هذا يحب التأليف فهو واضع مقدمة كتاب لكريسوستوم، وهو عبارة عن مجموعة عظات وتحذيرات، القصد منها الإصلاح والحض على الاستقامة.
ووقعت الاضطرابات الداخلية عام 1916 بسبب اتصال «ليج ياسو» بتركيا، فعين الرأس تفري نائبا لعمته الإمبراطورة زوديتو؛ فأظهر نشاطا عظيما.
واضطر عام 1921 للسير على رأس جيش مؤلف من عشرة آلاف مقاتل فقبض على «ليج ياسو».
وفي عام 1923 ألقى الرعب في قلوب مواطنيه المحافظين على القديم بزيارته الرسمية لعدن وصعوده لأول مرة بالطيارة إلى طبقات الجو العالية.
ولما كان الرأس تفري إيديا ليست - العائش في عالم الخيال والأحلام - فقد ساعد على انضمام بلاده إلى جامعة الأمم.
وزار عام 1924 روما وباريس ولندن، زيارات رسمية للاتصال بالعالم الخارجي.
ثم خلف الإمبراطورة ... زوديتو . واعتلى العرش عام 1930، واتخذ لنفسه منذ ذلك الوقت اسم «هيلا سيلاسي».
والإمبراطور تفري مطلع على السياسة الغربية، واقف على سير المخترعات الحديثة، شغوف بها إلى حد بعيد.
وإن الإنسان لتأخذه الدهشة إذ يرى التباين العظيم بين رجل يقبل على شراء سيارات رولزوريس في الوقت الذي يستعمل رجاله القوس والرمح، وبين أمة تنضم إلى جامعة الأمم في الوقت الذي تسمح فيه بفظائع الرق!
ومع هذا فقد بذل الإمبراطور تفري جهودا جبارة لتحسين حالة بلاده، فهو وإن لم يكن قد أدى الخدمات التي أداها الإمبراطور منليك بعده إلا أنه يعمل بجد وهمة.
وإنه من الإنصاف أن نذكر أن شعبه يعيقه عن الأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية؛ ذلك لأن من طبيعة الحبشي أن يفكر سنوات قبل أن يعمل عملا يتطلب أسابيع، فهذا التأجيل هو السر في انحطاط الحبشة إلى هذا الحد، ولكن من الإنصاف أيضا أن نذكر أنه في الوقت الذي يبدأ فيه الحبشي في العمل يفعل في أسابيع ما يفعله سواه في سنين، وقد ثبتت هذه الحقيقة مؤخرا وشهدت بها السلطات الحربية العليا في أوروبا.
كان منليك أول من أدخل التلغرافات إلى الحبشة منذ 40 سنة.
ثم جاء هيلا سيلاسي من بعده، فأدخل التلفون والسيارة من نوع رولزرويس دفعة واحدة، وعلى هذا فإن الأجنبي لا يستطيع أن يتحدث عن الحبشة أو يكتب عن الحبشة دون أن يذكر هذه السيارات الفخمة.
وأدخل هيلا سيلاسي أيضا الكهرباء، والطيارات، ومدافع الحصار، والدبابات، والمدافع الرشاشة. ونظم الجيش وجاء بالضباط الاختصاصيين في تنظيم الجيوش من البلجيك والسويد بحجة أنهم من رعايا الدول «المحايدة» التي يثق بها.
والطرق الموجودة في الحبشة الآن صالحة إلى حد، ولكن نظام التلغرافات ما يزال في حاجة ماسة إلى تحسين؛ فإن الأسلاك ثقيلة، وفي بعض الأحايين تعلق على الأشجار؛ ولهذا فإنها معرضة كثيرا للسقوط. وهذه الأسلاك معلقة على قضبان يأكلها النمل الأبيض فتسقط، ولكن بجانب هذا تجد المخاطبات اللاسلكية بين أطراف الحبشة وبين أديس أبابا وكل أنحاء العالم. •••
والتجارة وإن كانت ما تزال ضئيلة الشأن إلا أنها سائرة سيرا حثيثا في طريق التقدم. •••
حدث منذ عهد قريب أن سافر أمير حبشي إلى اليابان في مهمة شبه دبلوماتكية، وبينما هو هناك تعلق بحب ابنة أحد نبلاء اليابان، وأراد أن يقترن بها ففشل، ولكنه نجح في عقد اتفاقية تجارية، فاستطاع هذا الحبشي أن يقدم للنبيل الياباني امتيازا لاستغلال مليوني فدان من الأراضي الصالحة لزراعة القطن ... قدمها صفقة رابحة لهذا النبيل الياباني السعيد الحظ.
وفي الحقيقة أن عمل الإمبراطور هذا لا يعد غريبا منه؛ فإنه يرتاب أشد الريبة في الدول الأوروبية التي لها مصالح في الحبشة والتي تملك بعض مستعمرات قريبة منه، فلا يريد التقرب منها سواء أكانت تأتي إليه بالفروض والهدايا أم لا تحمل إليه شيئا، في الوقت الذي يرحب بصداقة الدول التي تقول أنها بعيدة عنه كالولايات المتحدة واليابان، فيسعى إلى خطب ودها بمنحها الامتيازات التي لا تكاد تعقل كلما انتابته الملمات ووقع في الضيق والمحن.
حياة الإمبراطور كلها إنما هي عبارة عن ظفر العقل على المادة ... الرجل مستقيم في كلامه ... بسيط في معيشته ... بشوش ... مجامل ... ضئيل الجسم ... يقرب لون بشرته من لون العاج ... سامي في تقاطيع وجهه وملامحه لا يعرف غير العمل المتواصل المضني، فهو يكب على عمله من الصباح الباكر إلى ساعة متأخرة من الليل ... شديد الشغف بالقراءة والاطلاع على المؤلفات العلمية وعلى الأخص العلمية منها.
جمع في قصره أحد المخترعات: اللاسلكي ... السينما ... الضوء الكهربائي ... بل رئيس مطبخ أوروبي! وتجد ضمن حدود قصره لبانة عصرية تمد المؤسسات الأوروبية بما تحتاج إليه من ألبان ... وزبدة ... وجبنة.
ولكنك تجد خارج قصره مظاهر الوحشية، فهناك تجد الزعماء الذين ما يزالون يعيشون على النمط الإقطاعي، ولا يخضعون إلا لقوانينهم التي تعارض قوانين الإمبراطور وأحكامه؛ أمثال الرأس هيلو الذي هجم مرة على أديس أبابا مع ألوف من أتباعه للاستيلاء على العرش!
والإمبراطور تفري سياسي مشهود له بالحذق والمهارة، لم يقع في الأخطاء التي وقع فيها أمان الله الذي حاول أن يرغم الشعب على قبول الإصلاحات العصرية التي كان يريد أن يدخلها عنوة واقتدارا دون أن يهيئ العقول لها؛ ولهذا فإنه لم يلاق المصير الذي لاقاه أمان الله.
وليس أدل على دهائه من أنه عند زيارته لأوروبا عام 1924 جمع كل الزعماء الذين ينتظر أن يحدثوا القلاقل في أثناء تغيبه عن البلاد «وحملهم» معه، وتكاليف هذا «الحمل» - ولا شك - ونفقات نقله أقل بكثير من نفقات إخضاعهم إذا عمدوا إلى الثورة في غيابه.
والإمبراطور دبلوماتيكي، يستخدم الأساليب الدبلوماتيكية كلما وجد أية مناسبة لاستخدامها، ويستعمل السياسة والحكمة في مفاوضاته مع كنائس الشرق الأدنى التي تنافس كنيسته، وقد استطاع أن يحصل من بطريرك القدس الأرثوذكسي على حق بناء كنيسته بالقرب من القديس إبراهيم، فتحققت أمنية طالما تمنتها الكنيسة الحبشية الأصلية.
ولكن مع هذا فالدبلوماسية لا تفيده كثيرا كما أن سياسة الشدة لا تنفعه كثيرا، وكان آخر ملك مطلق في العالم اليوم بعد أن قضي على الملكية المطلقة في سيام، ولا يمكنه أن يحافظ على سلطته المطلقة إلا بقدر ما تساعده العوامل الجغرافية وطبيعة الشعب الحبشي، هذا الشعب الواثق من مقدرته الحربية ثقة لا حد لها، وإلا لو كان في وسع هذا الملك المطلق أن يفعل ما يريد لكان قد استطاع أن يقضي على تجارة الرقيق؛ فينقذ بلاده من سمعتها الشائنة في نظر الغربيين والشرقيين، وعلى الأخص وهو يعلم قبل سواه أن بلاده أول مملكة اعتنقت المسيحية! •••
هذا وقد قضى هيلا سيلاسي سني حداثته في بلاط أديس أبابا تحت إشراف النجاشي منليك، وكان زميلا في الدراسة لحفيد منليك اللدج ياسو بإشراف حنا صليب بك مدير معارف الحبشة وناظر مدرستها. ثم عين حاكما لولاية سيدامو، ثم لهرر. وكان الرأس «تفري» يخشى اللدج ياسو، ودبر مؤامرة ضده انتهت بخلع ياسو في 26 ديسمبر سنة 1916، وبتعيين الأميرة أوزير زوديتو إمبراطورة، والرأس تفري نائبا لها ومنفذا لأوامرها، وقامت ثورة في أديس أبابا سنة 1927 ضد الرأس تفري فقمعها.
وتحمس الشبان للرأس تفري، وتظاهروا طالبين تعيينه إمبراطورا، فعين وليا للعهد، على أن أشياع زوديتو، وكانوا يبيتون له مؤامرة، فقاد الرأس جوكسا أوليه زوج زوديتو ثورة، ونشبت موقعة «زربيت» قتل فيها جوكسا، وبعد يومين ماتت زوديتو، وقيل إنها ماتت مسمومة، فنودي بهيلا سيلاسي إمبراطورا.
ويقول الأستاذ أنيس داود أنه لم يكد يتولى الحكم حتى اهتم بإنشاء جيش قوي كامل العدة والسلاح، وأقام له فرقة من الحرس انتخب أفرادها من أقوى شبان الأحباش، وعزل بعض حكام المقاطعات الذين كان يشك في ولائهم له، وعين بدلا منهم من أهله ومن الموالين له. وغضب على الرأس كاسا حينما توهم أن له يدا في هرب اللدج ياسو الذي كان في حراسته، ولكنه عاد فصالحه، واتهم الرأس هيلو أمير قوجام بمؤازرة اللدج ياسو، وحكم عليه بالإعدام، ثم عفا عنه واستبدل الحكم بالأشغال الشاقة إجابة لطلب نيافة الأنبا كيرلس مطران الحبشة، وشطر مقاطعة التجرة شطرين؛ ترك أحدهما للرأس سيوم حفيد الملك يوحنا كاسا أمير المقاطعة الشرعي، وعين لحكم الشطر الثاني الدجاز سيلاسي العدو الألد للرأس سيوم، وانتزع إقليم سيدمام من الدجاز «بورون» وزير الحربية وأبعده إلى مقاطعة العروسي، وعزل الدجاز هبنا ميكائيل حاكم مقاطعة «ليمو».
ولما مات الأنبا متاءوس مطران الحبشة لم يرض أن يعين مطرانا حبشيا كما كان حزب الشبيبة الحبشية يريد، بل أصر على وجوب مراعاة التقاليد القديمة وتعيين مطران قبطي، بشرط أن يعين معه خمسة أساقفة من الأحباش؛ حتى لا تكون السلطة الدينية في يد المطران القبطي وحده، وبهذه الوسيلة ينقي تدخل رؤساء الدين في شئون المملكة وبسط نفوذهم عليها كما كان في الزمن الماضي.
وهذه السياسة كلفت الإمبراطور نفقات طائلة ناءت بها ميزانية الدولة فضلا عن الأموال التي أنفقها على حفلة تتويجه، وعلى شراء الأسلحة الحديثة من كل نوع والذخائر، وعلى البعثات العسكرية التي استقدمها من الخارج لتدريب الجيش.
وقد كانت البلاد قبل اعتلائه العرش يحكمها زعماء ورءوس من الشيوخ المحافظين على التقاليد القديمة، ولكن الإمبراطور هيلا سيلاسي أثار الحماسة في قلوب الشبيبة الحبشية، وقد دفعهم للمطالبة بأن يكون لبلادهم ميناء على البحر الأحمر، وبينما هو يطأطئ رأسه خضوعا للكنيسة القبطية فإنه في الوقت ذاته ينادي بوجوب العطف على الدول الإسلامية وشد أزرها ومناصرتها، ويعمل بنشاط في التقرب بين العنصرين المسيحي والإسلامي، وفي يده الآن مستقبل بلاده، فإن أصر على الاحتفاظ بالاستقلال وعدم التفريط في شيء من حقوق بلاده فإن الرءوس والزعماء الذين يضمرون له الحقد لن يجدوا حجة لإثارة الشعب عليه، أما إذا تهاون ورضي التسليم بما تريده بعض الدول من منح بعض امتيازات سياسية واقتصادية للدول الاستعمارية؛ فإن الحرب الأهلية لا بد أن يندلع لسانها، فتكون عاقبتها أشق من عاقبة الحرب الخارجية. (11) الوزارة الحبشية: أعضاؤها ومستشاروها
تتألف الإمبراطورية من 70 مقاطعة، وهي تحكم حكما إقطاعيا، ولجلالة النجاشي بعض مقاطعات خاصة يديرها مباشرة.
أما حكومة أديس أبابا الإمبراطورية فلها هيمنة عليها على الشئون الخارجية وعلى كثير من مرافق الدولة.
وتؤلف حكومة أديس أبابا من 12 وزارة، ويلحق ببعضها مستشارون أجانب. (1)
وزارة الخارجية، ولها مستشار سويدي. (2)
وزارة الداخلية، ولها مستشار إنجليزي. (3)
وزارة التجارة، وليس لها مستشار أجنبي. (4)
وزارة البريد والتلغراف والتلفون، ولها مستشار فرنسي. (5)
وزارة المالية، ولها مستشار أمريكي. (6)
وزارة الزراعة. (7)
وزارة الأشغال العمومية، ولها مستشار ومهندس أول فرنسيان. (8)
وزارة المعارف العمومية والفنون الجميلة. (9)
وزارة الحربية، ولها بعثة حربية بلجيكية. (10)
وزارة البلاط الإمبراطوري. (11)
وزارة الحقانية، ولها مستشار سويسري. (12)
وزير حامل ختم الإمبراطور. (12) مدينة هرر
وصف الأستاذ محمد علي إبراهيم لقمان مدينة هرر، فقال: كانت مدينة «هرر» التاريخية القديمة في يوم من الأيام جزءا من مصر، وأحد أقسام تلك الإمبراطورية المصرية الواسعة إلى عهد قريب، وقد بنيت هذه المدينة التاريخية منذ أربعمائة وخمسين سنة، ومؤسسها هو «الحاج نور».
وتقع مدينة «هرر» على رابية عالية، وعدد سكانها اليوم يربو على الستين ألفا، وهي ضيقة الأزقة قذرة جدا، خلا بعض مساكن الإفرنج، كما أنه ليس فيها إدارة بلدية تنظم أحوالها الصحية وأكثر بيوتها من الطين، وهي حقيرة منخفضة، وليس فيها سوى طريق واحدة تجري فيها السيارات؛ وهي طريق «فس مجالا» يعني السوق الكبرى . وفي هرر مستشفى فرنسي وبعض مدارس للمبشرين ومستشفى آخر لهم، وكنيسة - بل كنائس - وجملة من القصور البديعة ، وقصر شامخ الأركان مرتفع البنيان كلف حكومة الحبشة مبلغا كبيرا، وقد أنشأته بمناسبة زيارة الإمبراطور «لهرر»؛ لأنها مسقط رأسه.
ويحدق «بهرر» سور قديم، لكن الدولة الحبشية لا تألو جهدا في ترميمه، وهرر تكاد تكون المدينة الوحيدة التي تكثر فيها حوانيت الخمر والمطاعم، ولها خمسة أبواب، فإذا خرج الإنسان إلى خارج المدينة ينحدر إلى مساكن الأوروبيين؛ ليجد نفسه في فردوس من فراديس الدنيا، فهي تشبه جزيرة أو صخرة عالية وسط بحر متلاطم بالأمواج، فإذا أطل المرء من نافذة بيته في هرر رأى أرضا كأنها الجنة في بهائها ورونقها واخضرارها وبساتينها المثمرة بلا انقطاع ما تعاقب الليل والنهار.
ويسكن هرر جمع خليط من الهرريين، وهؤلاء لا يسمون أنفسهم أحباشا ولا عربا، ويأنفون من كل نسبة غير انتسابهم إلى هرر الخضراء، وهم مزيج من الأمم ولهم لغة مستقلة والكثيرون منهم يتكلمون العربية والحبشية والصومالية، والحبشية نفسها تنقسم إلى لغتين: الأمحارا، والقنو. وفي هرر أحباش وصومال وعرب وإفرنج، غالبا من اليونانيين وبعض الأرمن.
وأكثر الإفرنج الذين في هرر يديرون البارات والمطاعم العديدة فيها، أما القناصل وأصحاب الوظائف فيقيمون خارج هرر، وسكان هرر لا ينقصون عن 60 ألفا من جميع الأجناس.
ولا ترى في هرر أندية ولا جمعيات ولا محافل للعلوم والآداب، وليس فيها مدارس تعلم اللغات الأجنبية سوى مدرسة للمبشرين، ومن أغرب الأمور أن لهم فيها ثلاث عشرة سنة وهم يقومون بمهمتهم على أتم وجه دون أن يتمكنوا من استمالة أحد من المسلمين، وكل ما هنالك أنهم استمالوا ولدا من الأرثوذكس فحولوه برتستنتيا، وهرر لو اعتنت بها حكومة الإمبراطور ونظفتها وعمرتها وأصلحت الطريق إليها من جقجقة ومن دردوة؛ فإنها تصبح درة في أرض الحبشة وزهرة في مدن الشرق.
والجو في هرر معتدل لا حرارة مهلكة ولا شمس ساخنة، فالمطر يسقط غالبا رذاذا، وينهمر في بعض الأحيان؛ فتمتلئ به الوديان وتدفق منه العيون، وحول هرر خمسة أنهر يجري ماؤها دائما عذبا سائغا للشاربين، ومن المؤسف أن تذهب هذه الأرض لقمة سائغة للاستعمار الإيطالي لا قدر الله . (13) خطة الحرب الحبشية
أثار فتح قناة السويس رغبة الدول في احتلال ثغور على البحر الأحمر، فاستولت إنجلترا على الصومال الإنجليزي، وفرنسا على الصومال الفرنسي وميناء جيبوتي، وإيطاليا على أريتريا سنة 1769، والصومال الإيطالي سنة 1685، وميناء مصوع.
وقد أرسلت إيطاليا سفنا تحمل مستشفيات وسفنا للمواد الغذائية تكفي لستة أشهر، وأنشأت طرقا، وأقامت «كوندينسات» لتحويل ماء البحر المملح إلى ماء عذب.
وكتب مكاتب حربي في جريدة المنشستر غارديان مقالا في الخطة العسكرية التي يتوقع أن تجري عليها إيطاليا إذا نشبت الحرب في الحبشة، فقال: إن الحالة السياسية تقتضي من القيادة نصرا عسكريا سريعا حاسما، والوقت المحدد للفوز بذلك بين أكتوبر من هذه السنة وأبريل أو مايو من السنة القادمة؛ عندما تبدأ الأمطار في الهطول، فتصبح الأعمال العسكرية صعبة - إن لم نقل مستحيلة. فالهدف الذي ترمي إليه إيطاليا من الناحية العسكرية في الحدود الزمنية التي يفرضها جو الحبشة هو الوصول إلى خطة سكة الحديد قبل أبريل أو مايو سنة 1936، وعند الإيطاليين في الأريتريا والصومال 300 ألف رجل في الجيش والخدمات التابعة له وللإدارة، ثلثاهم بقيادة الجنرال ده بونو في الأريتريا والثلث الباقي في الصومال الإيطالي بقيادة الجنرال غرازياتي وهو تابع للجنرال ده بونو في القيادة العامة. وينتظر أن يبدأ الزحف في الصومال والأريتريا في وقت واحد وقد يتقدم الزحف من الأريتريا على الزحف من الصومال قليلا، ويكون الهدف الأول للزحف من الشمال عدوة، حيث وقعت المعركة المشهورة سنة 1896 التي خذل فيها الإيطاليون، ولا يظن أن جيشا من الأحباش يصمد للإيطاليين في الموقعة، فإذا فعل فالغالب أن الإيطاليين يفوزون عليه هناك فوزا حاسما.
يدعي الإمبراطور مزهوا أنه من سلالة سليمان وملكة سبأ، وهو يكنى بملك الملوك ورب الأرباب وأسد يهوذا، وهذا الأسد نفسه هو شارته الشخصية، والسيادة غير المؤكدة التي يمارسها في القبائل البعيدة التي يشكو الطليان منها مر الشكوى؛ هذه السيادة يمكن فهمها تماما إذا تذكرنا دائما ذلك الميل الطبيعي المركب في غريزة الحبشي من تجنب المضايقات الشخصية والحاجة إلى الطرق الصالحة والأنهر الملاحية وبطء تقدم التعليم كما فهم في العالم الغربي؛ ولهذا فإن الحبشي شجاع إلى حد التهور، شديد المراس، قوي الاحتمال، يحسن استخدام بندقيته، وهو صائد ماهر.
عند وضع الخطط لمقاومة الغارات الأجنبية ينبغي أن يحسب حساب نظام الرءوس الإقطاعي؛ فكل رأس يقدم حصته من الرجال قلوا أو كثروا، وكما هي الحال من الزعماء العرب فإن المنافسات الحقيرة والمشاجرات قد تتدخل في أساليب الحرب؛ فصغار الرءوس قد يتحركون لفض نزاع خاص أو مساعدة رأس صديق إذا كان في شدة.
من الصعب أن نقدر قوة الجيش الحبشي أو قيمته الحربية، ومع أن هذا الجيش يشمل فرقا من المدفعية والفرسان والمشاة؛ فإن الإنسان لا يسمع شيئا عن المهندسين، وهؤلاء في مثل هذه البلاد من ألزم اللزوميات؛ لكي يكون الجيش سريع النقل منظم التموين.
وبجانب الحرس الإمبراطوري يوجد الرجال الذين يقدمهم الرءوس، وهؤلاء قد يبلغ مجموعهم 200 أو 300 ألف، وبجانب هؤلاء أيضا التجنيد العام الذي قد يأتي بستمائة ألف أو 700 ألف أو أكثر منهم من الرجال. على أن هذين الصنفين الأخيرين غير نظاميين وليس لديهم بنادق حديثة، وهم يجيدون القتال في المعارك التي يلتحم فيها الفريقان، ولكن الفوز إنما يدرك بالمفاجآت كما حدث في «عدوة» في أول مارس سنة 1896، فهناك كان الجيش على أقسام وتعذر على الفرق المتصلة أن تتصل ببعضها حتى بالإشارة، وكان منليك سريعا في تبين النقطة الضعيفة في خط الدفاع الإيطالي، فمزق الفرق المتباعدة واحدة أثر أخرى، ثم حشد قواه أمام قوة القلب فأبادها بعد هجوم بقوة لا تدفع. «فعدوة» ذكرى فخار للأحباش وذكرى ألم للطليان، وهي ترتفع على مائة ميل للجنوب من أسمرة - أهم مواقع الأريتريا في الوقت الحاضر - وهذا يجعل من المحقق تقريبا أن أهم هجمة إيطالية ستوجه ضد «عدوة» وأن جيشا جانبيا يمكن أن يجعل قاعدته زولا، التي تبعد حوالي 30 ميلا جنوبي مصوع على الساحل، وقد كانت هذه قاعدة السير روبرت نابيير سنة 1868 وآثار طريقه إلى «سنافة» قد تكون موجودة، ويمكن تحسينها والعودة إلى استخدام الطريق حتى هذا المكان.
المسافة الجوية بين أسمرة وعدوة مائة ميل وعلى بعد أربعين ميلا شمال عدوة في هذا الخط يجري من الشرق للغرب نهر مريب، وهذا قد يبدو عقبة كأداء للتقدم الإيطالي حتى تنشأ طرق صالحة وتكون الطرق مكشوفة أمام المخافر الحبشية، وستكون جبهة القتال الحبشية بين أكسوم وأدجرات «الواقعة على 69 ميلا من زولا وطريق نابير» وطول الخط كله مارا بعدوة، أربعون ميلا مكشوفة بين أكسوم وعدوة «عشرة أميال»، وجبلي في بقية المسافة، وهذا يجعله صالحا للدفاع إذا أمكن أن تضمن منطقة لضرب النار عن كثب.
مسألة التموين عند الأحباش ذات أهمية كبرى، فإذا فرضنا أن قواتهم الجنوبية تجعل قاعدتها في جواندر على بعد 130 ميلا جنوب غرب أكسوم «بالجو»؛ فإن كل قطر التموين يجب أن تهبط إلى مصب نهر تا كازي «أكثر من 3000 قدم تحت الهضبة المجاورة»، وهذه مشكلة بالنسبة للمهندسين الأحباش، وكذلك فإن الأمطار تستمر من أبريل إلى أواسط سبتمبر. ومن ثم فإن أيا من الحبشيين لا يستطيع قبل الأسبوع الأول من أكتوبر أن يبدأ عملياته الحربية آمنا.
أما كون الإيطاليين جادين في أعمالهم الهندسية الهائلة؛ فدليله الأنباء التي ترد الآن عن مجهوداتهم في تحسين إنشاء الطرق الكثيرة، وفي مد الخطوط الحديدية إلى الأمام، وغيرها من سبل النقل. وهم يهيئون كذلك خزانات كبرى لا لخزن مياه الشرب بل لمياه الري أيضا، وهم يصنعون شبكة من الترع وقنوات المياه فوق هضبة أسمرة لرفع المحاصيل التي ينتفع بها الإنسان والحيوان. •••
سافرت من أديس أبابا ثلاثة قطارات تقل خمسة آلاف جندي نظامي وجهتها جهات هرر والأوجادين، كما قام «البيتودد مكونن» حاكم «لكمتي» على رأس عشرة آلاف جندي إلى الشمال، وقد كان منظر توديع الجنود لأهليهم وأولادهم مؤثرا، ولا سيما حينما أقبل الجنود على أولادهم يقبلونهم.
وقد صدرت أوامر الإمبراطور إلى القائد التركي محمد وهيب باشا بتوليته قيادة جيوش الجنوب إلى هرر، وتحرك بجزء كبير من الجيش المرابط هناك إلى «جيرلجوبي » بالقرب من «ولوال»، وقد طلب مددا آخر فأرسل إليه جزء كبير من الجيش النظامي الموجود بأديس أبابا . وسفر القائد التركي وهيب باشا إلى نقطة جيرلجوبي يعد في الواقع بداية الأعمال الحربية المنتظرة.
ومن أخبار ولوال أن الإيطاليين يتجمعون في جهات عصب؛ وهي ميناء تبعد قليلا عن الحدود الحبشية المحاذية لمقاطعة «واللو» مقر ولي العهد حيث يوجد جيش لا يقل عن مائتي ألف مقاتل، وسافرت ثلاث طائرات إلى تلك المقاطعة حاملة القواد والمهندسين، ويرجح أن يبدأ الهجوم الإيطالي من تلك المنطقة. على أنه لا بد لاجتيازها من قطع منطقة قاحلة هي صحراء الدنقلي، وهذه مأهولة بشعب حربي قوي المراس وهو شعب الدنقلي، وتعد هذه المنطقة من مجاهل أفريقيا نظرا لتعصب أهلها وصعوبة الوصول إليها.
وقد وصل
7
من مدة أحد الزعماء الآشوريين، وهو ملك «كمبر»، وتجنس بالجنسية الحبشية والتحق بخدمة الجيش الحبشي لتدريب الجنود، ويقال إنه من كبار القواد العارفين بفنون حرب العصابات ولا سيما الجبلية منها، وقد سافر إلى مقاطعة «واللاجا» أمس أول للبدء بالعمل. •••
وأنشأ الميجر ريد في جريدة نيوزكرو نيكل مقالا أتى فيه على الاحتمالات التي قد تقع فيما إذا نشبت الحرب ما بين إيطاليا والحبشة، فكان مما قال:
مؤكد من اليوم أن الأحباش سيستبسلون جد الاستبسال في الحرب والدفاع عن بلادهم، وعندهم من العقبات الطبيعية مثل الجبال والمنحدرات والهاويات ما يعينهم كثيرا على الدفاع عن بلاد يعرفونها حق المعرفة، فنتيجة الحرب إذن رهن بالطريقة التي يجري عليها الإيطاليون.
وإذا نظرنا إلى الطليان وجدنا أنهم من مدة مضت يدرسون طبوغرافية الحبشة خصوصا في مناطق ثلاث تجاور حدود الأريتريا، وفي ثلاث مناطق أخريات على الصومال الإيطالي.
أما المناطق الثلاث الأولى فهي وادي بركة الجاش، ويؤدي إلى غندار مجاورا لإقليم عدوة، ثم الأراضي الممتدة إلى ما وراء سهول عدوة حتى المكلا ومجدلة.
وهذه الطريق كانت طريق البريطانيين في حملتهم على الحبشة في سنة 1868، ثم سهل الدناكل المؤدي من عساب إلى مجدلة أيضا، وإلى إقليم أوزجا حتى القسم الشمالي من الطريق الحديدي من أديس أبابا إلى جيبوتي؛ فمن هذه المناطق أو الطرق الثلاث ينتظر أن يكون الزحف الإيطالي من الأريتريا على شمالي الحبشة.
أما من ناحية الصومال الإيطالي، فالمعروف أن الطليان اشتغلوا كثيرا في إعداد خرائط للمنطقة الكائنة غربي الحدود التي لم تعين في إقليم أوجادين بما في ذلك الما آبار المشهورة في ولوال، ووارداير، وجرلجوبي، ثم يكون الاتجاه شمالا بغرب إلى هرر - وهي المدينة الحبشية الثانية في الأهمية ووطن الإمبراطور، ثم طريق وادي وياشيلي مع الخط الحديدي لمجاريشو الموصول بالخطوط الإيطالية التي مدها الطليان في الأشهر الأخيرة، ثم خط نهر جوبا ودولا حتى بلدة خبير.
على هذه الخطوط الستة يحتمل كثيرا أن يجري الزحف الإيطالي على الحبشة وأهمها سهولي عدوة، وطريق أساب «عصب»، وطريق هرر، ووادي وياشيلي. أما الطريقان الباقيان فيكونان في الجنب لاجتذاب بعض الجنود الحبشية.
ومن المستصعب على الأحباش الدفاع عن الخطوط الستة في آن واحد، فأهم قواتهم محشودة ناحية الشمال في غندار وعدوة وملا كال. وقد مدت المواصلات ما بين هذه الأماكن وأديس أبابا إلا أنها مواصلات غاية في الصعوبة؛ فالطرق غاية في الرداءة ببلاد الحبشة، ومن أشق الأمور تموين ربع مليون من الرجال بواسطة هذه الطرق.
أما تحت الخط الحديدي من أديس أبابا إلى جيبوتي فالقوات الحبشية مبعثرة؛ لهذا نقول إنه إذا سهل على الطليان الإشراف على الأراضي الممتدة على يمين الخط الحديدي وشماله، فالاستيلاء على العاصمة الحبشية ميسور.
ويقول بعض الخبراء أن الزحف على هرر لا يستلزم غير أسبوع، والمظنون أن الطيارات ومركبات التانكس تقوم أولا بنقل الجنود والذخائر والماء، ثم تنشأ نقط تحمي الاتصال بالصومال الإيطالي.
وسوف تكون الحميات في الشهور الأخيرة من هذه السنة آفة الطليان إلا إذا سهل عليهم الإسراع باجتياز المناطق الرديئة الجو خصوصا في أوجادين.
وسوف يكون أشد هجوم في اتجاه الجنوب ناحية سهول الدناكل وتجتنب بالمفاجآت.
ويظهر أن مسألة النقل ستكون عقدة العقد للفريقين؛ فالطليان يعتمدون على الجرارات والبغال، والأحباش على البغال فقط.
وإذا ضرب الطليان ضربة قوية شفوا بها الغليل من ثأر عدوة، فربما أدى هذا إلى الصلح بعد ذلك في ظلال الوساطة والحالة المعنوية الجديدة . (14) اقتسام أفريقيا والتوازن
نشر الكاتب شبرد ستون في مجلة نيويورك تيمس مقالا عن اقتسام الدول الكبرى لقارة أفريقيا، جاء فيه ما يلي على ذكر الخلاف الحبشي الإيطالي قال:
إن الاستعدادات الحربية التي يقوم بها السنيور موسوليني لغزو الحبشة ليست إلا تجديدا لعادة أوروبية قديمة؛ ففي النصف الأخير من القرن الماضي تنافست بعض الدول الأوروبية في انتزاع قطع من القارة الأفريقية وإخضاعها لحكمها، ولكن إيطاليا لم تخرج في صف الرابحين من هذا التنافس؛ فموسوليني يحاول الآن أن يعوض ما فات.
تفوق القارة الأفريقية قارة أوروبا ثلاثة أضعاف مساحتها، ولكن معظمها خاضع لدول أوروبا، إلا أن بريطانيا وفرنسا أوسع الممالك الأوروبية ممتلكات في أفريقيا، وتأتي بعدها الدول الأوروبية الأخرى. وتدل الإحصاءات على أن عدد الأوروبيين الذين هاجروا إلى هذه البلدان واستوطنوها يسير إذا قيس بمساحتها الشاسعة وضغط السكان في البلدان المستعمرة.
وتبلغ مساحة القارة الأفريقية نحو 11460000 ميل مربع، موزعة كما يلي:
المساحة (ميلا مربعا)
عدد السكان
بريطانيا
3409692
47251900
فرنسا
3697610
35440500
إيطاليا
946134
2210000
بلجيكا
922083
11500000
البرتغال
787608
6604050
مصر
350000
15000000
الحبشة
350000
10000000
إسبانيا
128696
784000
ليبيريا
45000
1750000
وتقول جريدة «الأوتوبري» الإيطالية أنه إذا قررت بريطانيا أن تغلق قناة السويس فلا ريب في أن حربا بين بريطانيا وإيطاليا تنشب على أثره؛ فليس إذن من قبيل الفكاهة أن نوازن بين قوى بريطانيا وإيطاليا في البحر المتوسط، وهو البحر الذي ينتظر أن يكون ميدانا للحرب بينهما. ويجدر بنا توصلا إلى هذه الموازنة أن نقسم البحر المتوسط إلى ثلاث مناطق، ففي المنطقة الغربية تفوق قوة إيطاليا قوة بريطانيا؛ لأن إيطاليا تستطيع أن تعتمد على قواعدها في سردينيا وصقلية وليجوريا، أما بريطانيا فلا قاعدة لها في هذه المنطقة إلا جبل طارق، وفي المنطقة المتوسطة إيطاليا متفوقة كذلك؛ لأن صقلية قريبة من ليبيا، حالة أن بريطانيا ليس لها إلا جزيرة مالطة، ولكن بريطانيا متفوقة في المنطقة الشرقية لأنها تستطيع أن تعتمد على قواعدها في مصر وفلسطين وقبرص حالة أن إيطاليا لا تستطيع أن تعتمد إلا على جزائر الدوديكانيز ورودوس، فإذا حاولت بريطانيا أن تغلق القنال فإيطاليا تستطيع بسهولة أن تغلق الطريق البحري بين صقلية وشمال أفريقيا وتبقى هي تستعمل بوغاز سيناء لمرور سفنها.
وللمستر همند اقتراح خاص بالمستعمرات الأفريقية وتوزيعها، وقاعدة هذا الاقتراح أن توضع جميع البلدان الأفريقية التي مقاليد حكمها في أيدي الأوروبيين تحت رعاية جامعة الأمم؛ فحكم هذه البلدان في رأي المثاليين من رجال السياسة يجب أن يكون وديعة في أيدي الشعوب التي تمرنت على الحكم ولها من ثقافتها ما يؤهلها لأن تحكم حكما آيته الاستئثار والعدل ومصلحة المحكومين. وتحقيق هذه الأغراض العليا لا يمكن أن يتم إلا بوضع مقاليد حكمها في أيدي جامعة الأمم.
هذا ما يقوله همند. ولسنا في حاجة إلى القول بأننا لا نوافق عليه ونرى الشعوب الشرقية جديرة بالاستقلال التام.
حادث ولوال ولجنة التحكيم
وقع على مقربة من الحدود في «ولوال» عدوان من قبائل حبشية على أراض تعدها إيطاليا تابعة لها، في ديسمبر سنة 1934، فاحتجت إيطاليا على الحبشة، وقالت الحبشة أن «ولوال» داخل حدودها، فلا اعتداء على أملاك إيطاليا، وأبى مندوب إيطاليا التسليم بأن «ولوال» في حدود الحبشة، وألفت لجنة تحكيم من مندوبي الحبشة وإيطاليا ولم تنجح في مهمتها.
فطلبت الحبشة تأليف لجنة التحكيم، وقررت عصبة الأمم تأليفها للفصل في حادث ولوال من اثنين عن إيطاليا، واثنين عن الحبشة والخامس مسيو بولينيس عن اليونان، ووضعت تقريرها وقدمته للعصبة في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر إلى مجلس العصبة في اجتماعه السنوي السادس عشر، وقررت اللجنة أن لا مسئولية على كل من الحبشة وإيطاليا.
جبل طارق
في رسالة واردة من جبل طارق نبأ وصول أسطول المياه الإنجليزية، وقد أحدث دهشة عظيمة في الدوائر السياسية؛ لأن هذه الدوائر كانت تظن أن هذا الأسطول سيذهب إلى شواطئ اسكتلندا لإجراء مناورات.
وتقول هذه الرسالة أن المدخل الجنوبي الذي يؤدي إلى الميناء البحرية سيغلق كما أغلق المدخل الشمالي، وأن طيارات القوة الجوية تحلق فوق المضايق باستمرار.
وقد نشر بلاغ رسمي ألصق بجدران جبل طارق فيه مناشدة للأهالي بإطفاء جميع الأنوار في تلك المنطقة للضرورة القاضية بذلك، ونصح للأهالي بالحصول على «الشمع» للإنارة، على أن هذا النور الضئيل يجب أن يستر أيضا بكل عناية، وكل من خالف هذه الأوامر يتعرض للعقاب الصارم.
المؤتمر الثلاثي في باريس
المؤتمر الثلاثي هو مؤتمر باريس بين فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، ومن اقتراحاته على عصبة الأمم منح إيطاليا امتيازات اقتصادية في الحبشة لا تمس استقلالها.
ثم جمع بعد ذلك مؤتمر باريس بين الدول الأوروبية الثلاث التي يهمها الموضوع إنجلترا وفرنسا وإيطاليا؛ لبحث المسألة والوصول إلى نتيجة سلمية ترضي الطرفين على أنه إذا لم تحل المسألة في هذه الاجتماعات ترجع المسألة إلى عصبة الأمم لتحل حلا نهائيا.
وقد اجتمع المجلس بعد فشل مؤتمر باريس لرفض إيطاليا قبول الامتيازات التي تقدمت بها إنجلترا وفرنسا.
وفي أثناء انعقاد الجمعية العمومية لمجلس العصبة تكلم مندوبو الدول عن وجوب الوصول إلى حل سلمي مع احترام ميثاق العصبة، وتوقيع العقوبات على المعتدي إذا تعذر الوصول إلى هذا الحل.
لجنة الخمسة في عصبة الأمم
ثم ألفت لجنة الخمسة من مندوبي إنجلترا وفرنسا وتركيا وبولونيا وإسبانيا، لعلها تصل إلى حل يرضي رغبات إيطاليا ويحفظ كرامة الحبشة واستقلالها هذا.
ولجنة الخمسة مؤلفة من مادرجا «مندوب إسبانيا»، ولافال عن فرنسا، وأيدن عن إنجلترا، وتوفيق رشدي أراس عن تركيا، وبيك عن بولونيا.
اقتراحات لجنة الخمسة
وجاء من جنيف في 19 سبتمبر سنة 1935 أن اقتراحات لجنة الخمسة تتألف من مقدمة وبروتوكول ومشروع للمساعدة.
وتشير المقدمة إلى تعهدات الحبشة في سنة 1923 في شأن النخاسة وتجارة السلاح، وإلى طلب الوفد الحبشي المساعدة على تحسين أحوال الحبشة المالية والاقتصادية والسياسية وترقيتها.
وينص البروتوكول على قبول الحبشة بوجه عام للاقتراحات، ويقضي مشروع المساعدة بإعادة تنظيم جميع المصالح والخدمات العامة تحت رعاية عصبة الأمم وبواسطة مستشارين أوروبيين.
أما مهمة البعثة الأجنبية وواجباتها، فتكون كما يلي: (1)
إبطال الرقيق، ووضع حد لفوضى الإتجار بالسلاح، وتأمين سلامة التجار والنزلاء الأجانب، ومنع الغزوات وتجارة الرقيق. (2)
تشجيع الاستثمار الاقتصادي لموارد الحبشة بمنح الأجانب امتيازات التعدين، وتوفير الفرص لاستغلال الأرض والتجارة وإنشاء المشروعات الصناعية وتحسين خدمة البريد والأشغال العامة، وإيجاد وسائل النقل والمواصلات بمساعدة الاختصاصيين الأجانب. (3)
وضع شئون البلاد المالية تحت رقابة شديدة وتعديل نظام الضرائب. (4)
تتخلى الحكومتان البريطانية والفرنسوية عن شقة من الأرض في الصومال البريطاني والصومال الفرنسوي لتسهيل تعديل الحدود الإيطالية الحبشية، وإعطاء الحبشة منفذا إلى البحر.
وفي تلغراف من لندن في 19 سبتمبر سنة 1935 أن «الديلي تلغراف» نشرت نصا للاقتراحات التي صاغتها لجنة الخمسة في مشروع الصلح الإيطالي الحبشي، وقد أرسل إليها بهذا النص مكاتبها بجنيف، وأكد لها أنه نص الوثيقة الرسمية.
ويظهر منه أن لجنة الخمسة تشير بإعادة تنظيم إثيوبيا بقدر ما يتسنى تنظيما كليا، وتوصلا لهذا الغرض تنصح بإنشاء قوة بوليسية خاصة للمحافظة على السلامة وعلى المصالح الأوروبية في الحبشة.
وهناك اقتراح ثان بشأن إنشاء فصائل من البوليس على الحدود لمقاومة تجارة الرقيق.
ويتضمن اقتراح ثالث اشتراك الرعايا الأجانب في توسيع البلاد الاقتصادي، وحق تملكهم للأراضي، وإنشائهم لأعمال صناعية.
والاقتراح الرابع خاص بمشروع معقد يتعلق بالأشغال العامة وبإعادة تنظيم خدمات البريد والتلغراف.
ويتضمن اقتراح خامس فرض رقابة شديدة على الميزانية.
والاقتراح السادس خاص بإعادة تنظيم المحاكم الأهلية والمختلطة.
والاقتراح السابع يختص بترقية الشئون الصحية والتعليم.
ويظهر أن إنجلترا وفرنسا وافقتا على سؤال الحبشة أن تنزل عن أراض لإيطاليا مقابل النزول للحبشة عن أراض في الصومال، مؤلفة على الأرجح من ممر بين الصومال الإنجليزي والصومال الفرنسوي تنتهي إلى «زيلع».
وتعترف فرنسا وإنجلترا في الوقت ذاته بحقوق إيطاليا في توسع اقتصادي في الحبشة.
وقد حددت اللجنة في ختام تقريرها صلاحية هذا المشروع لخمس سنين، وهي مدة يمكن تعديلها.
وقد قبلت الحبشة مقترحات لجنة الخمسة ورفضتها إيطاليا، والحرب على الأبواب.
فقد اجتمع مجلس الوزراء الإيطالي الذي انعقد برئاسة السنيور موسوليني «الدوتشي» - رئيس الحكومة وزعيم إيطاليا وزعيم الحركة الفاشستية - يوم السبت 21 سبتمبر سنة 1935، وأصدر البلاغ الآتي:
أخذ مجلس الوزراء علما بالمقترحات التي تضمنها تقرير لجنة الخمسة وبحثها بحثا دقيقا، وهو مع تقديره للمجهود الذي بذلته لجنة الخمسة يرى أن الشروط المعروضة غير مقبولة؛ لأن هذه المقترحات لا تعطي أساسا أدنى كافيا لتحقيق مصالح إيطاليا الحيوية وحقوقها.
وقد انتهى اجتماع مجلس الوزراء في الساعة الأولى بعد الظهر بعد سماع بيان موسوليني الذي استغرقت تلاوته ساعة كاملة، وعاد للاجتماع يوم 24 سبتمبر؛ انتظارا لتطورات الحالة السياسية وللبحث فيما بقي من برنامجه، وعقد اجتماعات تالية. وسنزيد هذا الأمر بيانا عند الكلام على عصبة الأمم.
البعثة الحبشية في اليمن
أرسلت الحكومة الحبشية بعثة إلى صنعاء «عاصمة اليمن» لتأكيد صلات التفاهم والصداقة القائمة بين البلدين، ورئيس هذه البعثة هو «بلاتا أيلا جيري» موفدا لمهمة مؤقتة، فمدة إقامته ببلاد اليمن لن تزيد على ثلاثة شهور.
ويعد «بلاتا أيلا» من أذكى الأحباش ومن أكثرهم ثقافة واطلاعا، علاوة على تضلعه في اللغات الأجنبية وإلمامه باللغة العربية، وقد أشيعت روايات كثيرة عن سفر هذه البعثة وعن أغراضها، وهي تدور حول اتفاقات سياسية تم التمهيد لها منذ مدة، ويرجو الأحباش أن يوفق «بلاتا أيلا» في مهمته، وأن تكون هذه البعثة بداية عهد تعاون وثيق بين اليمن والحبشة، بل بين دول الشرق جميعا.
الفاشستية والحرب
كثر الحديث حول جماعات الفاشست الإيطالية التي نظمها السنيور موسوليني، ولبس أفرادها القمصان السوداء.
وفكرة لبس القمصان سواء أكانت سوداء أو حمراء أو زرقاء أو غيرها قديمة، وقد اتخذ غاريبالدي القمصان الحمراء شعارا لجنوده في محاربة آل بوربون في نابولي.
وقد أنشأ موسوليني الحركة الفاشستية ونظمها في إيطاليا لمقاومة البلشفة التي اتصلت بإيطاليا سنة 1919 على أثر الاضطراب والاستياء اللذين تملكا النفوس بعد الحرب، واستولت على الحزب الاشتراكي. والاسم «فاشستي» مستمد من كلمة إيطالية معناها: رباط أو عصابة. وكانت تطلق من قبل على النقابة أو الجمعية.
وقد التف الأعضاء حول موسوليني من جميع أنحاء إيطاليا، وأخذ الشعب ينظر إلى الفاشستية كوسيلة للخلاص مما أحاق به من المحن. ويرجع الفضل في نمو الحركة السريع إلى حسن تنظيمها، وقد سلح كل رجل من أعضائها، وأخذت جموعهم تهاجم الاجتماعات الشيوعية، وتقاوم الاعتصابات وتشل حركات الإضراب ، ولم تلبث القمصان السوداء أن أصبحت رمز النظام وشعار القانون. وفي أكتوبر سنة 1922 تمكن موسوليني من تسلم مقاليد الشعب الإيطالي، ولا يزال نجمه منذ ذلك الحين في صعود وتألق. هذا وقد أفادت الحركة الفاشستية إيطاليا وأنقذتها من فوضى الأحزاب والحكومات وجعلتها وحدة، ومن سن 12 سنة ينتظم الصبية في جماعات «الباليلا» ويتعلمون حمل السلاح، وفي إيطاليا عشرة ملايين فاشست أصحاء، ومساحتها 310000كم وسكانها 43 مليونا.
الفاشستية في إنجلترا
وفي أواخر سنة 1932 أنشئت في إنجلترا هيئة سياسية مماثلة للفاشستية الإيطالية يرأسها السير أوزوالد موزلي، ويلبس أفرادها القمص السوداء ويحيون بيديهم على الطريقة الإيطالية. وزعيم هذه الحركة معروف في عالم السياسة؛ فقد كان عضوا في مجلس العموم عن المحافظين ست سنين، ثم انضم إلى حزب العمال، وانتخب عضوا برلمانيا مدة خمس سنين.
الفاشستية في ألمانيا
والقمص السمراء هي شعار جنود الهجوم النازية في ألمانيا، ويلخص تاريخ نشأتها أن أدولف هتلر الذي كان جنديا في الحرب العالمية برتبة «أونباشى» انضم إلى حزب العمال الألماني في ميونيخ في سنة 1919، واستطاع بشخصيته القوية المغناطيسية أن يصير زعيما له. وفي سنة 1920 أبدل الحزب اسمه إلى «حزب العمال الألمان الوطنيين الاشتراكيين»، وجعل شعاره صليبا معقوفا أسود اللون في دائرة بيضاء فوق علم أحمر، وكانت غاية الحزب سحق الشيوعية، وكان يحيط بزعيمه هتلر الاضطرابات وشعب الغوغاء. وفي سنة 1921 نظم «بوليس» هتلر فرقا واشتركت هذه الفرق في معارك دامية انتصارا لزعيمها، فأطلق عليها لقب «ستورم بتيلونج» أو ما معناه «جنود الهجوم»، ثم أخذت هذه القوة في النمو حتى أصبحت جيشا عسكريا منظما منفصلا تماما عن الجيش النظامي.
وكانت نية هتلر متجهة في سنة 1934 إلى إلغاء هذا الجيش، ولكن الثورة الأخيرة ضد النازي حملته على استبقائه.
القمصان الرمادية وغيرها
وفي إنجلترا هيئة منظمة يرتدي أفرادها القمصان الرمادية، وغايتها مقاومة الفاشستية البريطانية ومنع مظاهراتها.
8
ثم هناك أصحاب القمصان الحمراء وهم شبان حزب العمال المستقل.
وفي النمسا هيئة يلبس أفرادها القمصان الخضراء، وهي مؤلفة لمقاومة النازي، وتعرف باسم «هيموهر»، وزعيمها البرنس «فون ستار همبرج » أحد أقطاب رجال السياسة في النمسا ومن الوزراء الحاليين.
وفي النمسا أيضا هيئة أخرى يلبس أفرادها القمصان الرمادية .
بقي هناك قميص ملون آخر هو القميص الأزرق الذي يلبسه أفراد حزب التضامن الفرنسي، ويلبسه أيضا في أيرلندا أنصار الجنرال أودفي خصم المستر ديفاليرا؛ رئيس حكومة أيرلندا الحرة وأشد معارضي سياسته. (15) مصر والمسألة الحبشية
المصريون يعطفون على الحبشة ويودون بقاء استقلالها، وتتجه السياسة الإنجليزية ومصالحها إلى منع غزو إيطاليا للحبشة، وإن كانت توافق على منح امتيازات لإيطاليا في الحبشة، وقناة السويس في مصر قد تتخذ أداة لمعاقبة إيطاليا بإغلاق القناة في وجه سفنها، وإيطاليا تهدد بحرب أوروبية إذا أغلقت القناة وفرضت العقوبات، والقناة في مصر. وحشدت إيطاليا جنودا في طرابلس، ووصلت إلى مصر جنود بريطانية وهندية، ورابط الأسطول الإنجليزي في الإسكندرية وبورسعيد، وهو يحرس الشواطئ.
وتخشى مصر أن تكون ميدان حرب، وقد عقد الوفد المصري اجتماعات وعقدت الصحف فصولا ضافية في طلب أن يكون اشتراك مصر في الحرب، إذا استعرت ودخلت إنجلترا فيها وطلبت إلى مصر مساعدتها أو اضطرت مصر للدفاع عن حدودها ضد الإيطاليين وسواهم، أن يكون الاشتراك على قاعدة المحالفة الحرة.
ودارت محادثات بين صاحب الدولة توفيق نسيم باشا رئيس مجلس الوزراء وبين دار المندوب السامي، وأصدر المجلس مساء يوم الاثنين 16 سبتمبر سنة 1935 البلاغ التالي:
بلاغ مجلس الوزراء
منذ بدء الاضطراب الدولي الحالي، قام حضرة صاحب الدولة محمد توفيق نسيم باشا - تلبية لشعور الشعب المصري - بعدة محادثات ودية مع سعادة السير مايلز لامبسون المندوب السامي البريطاني بمصر، ثم مع سعادة المستر كلي المندوب السامي بالنيابة في صدد الأمور التي تشغل بال البلاد، سواء كان فيما يتعلق بالأثر الذي قد يحدثه تطور الموقف الدولي في مصالح مصر، أو بالوسائل التي قد تضطر مصر إلى اتخاذها للدفاع عن مصالحها.
وقد أسفرت تلك المحادثات عن البلاغ التالي الذي أرسله سعادة نائب المندوب السامي باسم حكومته إلى حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، وهو:
إن حكومة جلالة الملك تدرك مصالح مصر حق الإدراك وتعرف القلق الذي يساورها في الوقت الحاضر، فليثق دولة الرئيس بأنه إذا دعت الظروف فإن حكومة جلالته ستواصل إطلاع الحكومة المصرية ومشاورتها في شأن جميع تطورات الموقف الدولي التي قد تمس مصر عن قرب.
لجان الدفاع عن الحبشة
تألفت في أغسطس سنة 1935 في جمعية الشبان المسلمين لجنة عامة للدفاع عن استقلال الحبشة برياسة حضرة صاحب المجد النبيل إسماعيل داود وبرعاية حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون، وللجنة فروع.
ووصلت إلى اللجنة طلبات من ألوف المتطوعين للحرب في صفوف الجيش الحبشي وفي التمريض، وبلغ عددهم 13 ألفا.
ولم يسمح للنبيل إسماعيل داود بجواز سفر للسفر إلى الحبشة أولا، وسمح له ولحاشيته بعدئذ.
لجنة بطركخانة الأقباط:
وقام غبطة الأنبا يؤانس بطريرك الأقباط الأرثوذكس بتأليف لجنة من حضرات أصحاب النيافة المطارنة، ولفيف من حضرات أعضاء المجلس الملي العام برياسة غبطته؛ لإرسال بعثة طبية إلى الحبشة.
وقد قبل سمو الأمير عمر طوسون جعل هذه اللجنة أيضا تحت رعايته كما كانت لجنة جمعية الشبان المسلمين برعايته.
لجنة مالية متحدة:
وقد رئي تأليف لجنة مالية متحدة من اللجنتين برياسة سموه، وبعضوية خمسة عن اللجنة القبطية وخمسة عن اللجنة الإسلامية، واجتمعت اللجنة المالية المتحدة بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة يوم الأحد 29 سبتمبر سنة 1935 برياسة سموه وبحضور النبيل إسماعيل داود، وأصدرت قرارات منوعة فيما يتعلق بتأليفها النهائي والشروع في جمع الاكتتابات وإرسال بعثة طبية للحبشة.
رأي جمعية الاتحاد النسائي
عقدت جمعية الاتحاد النسائي برياسة حضرة صاحبة العصمة السيدة هدى هانم شعراوي، ووجهت النداءات التالية: (1)
نداء إلى الشعب الإيطالي بتاريخ 3 أغسطس سنة 1935 بمناشدته - باسم العدالة والإنسانية - أن يحمل حكومته على العدول عن خطتها العدوانية في غزو الحبشة، وعلى انتهاج خطة الاتفاق مع الحبشة تحت رعاية عصبة الأمم. (2)
نداء إلى عصبة الأمم بتاريخ 30 أغسطس سنة 1935: بلفت نظرها إلى أن مصر في حالة شاذة؛ فهي مستقلة ومحتلة بالأجنبي معا! وليست عضوا في عصبة الأمم، وتوشك أن تكون ميدانا من ميادين الحرب بسبب النزاع الحبشي الإيطالي وبسبب وجود قناة السويس في مصر، وأخيرا بمناشدة العصبة أن تظل أداة للعدالة وعاملا على السلام، وأن لا تكون أداة لتحقيق مطامع الاستعماريين. (3)
نداء إلى دولة توفيق نسيم باشا رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 3 سبتمبر سنة 1935: باطلاع دولته على نسخة من النداء الذي وجهه الاتحاد إلى عصبة الأمم، وبلفت نظر دولته إلى إعداد وسائل الدفاع عن مصر من الغارات الجوية والغازات السامة، وإلى أن اتخاذ الحكومة المصرية سياسة مماثلة للحكومة الإنجليزية في المسألة الحبشية، قد يجعل مصر دولة محاربة لإيطاليا، وبذا تخرج مصر عن حيادها، ولذا فإن الاتحاد يطلب إلى دولته بيان القواعد والشروط التي بمقتضاها تخرج مصر من حيادها ...
9 (16) بيانات منوعة عن الحبشة
منذ ظهر النزاع الحبشي الإيطالي، رحل إلى الحبشة وكتب عنها كثيرون من الصحفيين والسياسيين، وقد وصف حضرة الأستاذ خضر فضل الله الحبشة بعد رحلة قام بها، ومما كتبه عنها: «الحبشة في داخلها بلاد جبلية خصبة كثيرة المطر والأنهار، وقلما توجد فيها منطقة خالية من ماء، وليس فيها صحراء ولا «عتمور». وتؤلف مجاري الماء أنهرا صغيرة شديدة التيار؛ لأن الماء ينحدر فيها من أعالي الجبال فيسمع له هدير في سيره، ويصب معظم هذه الأنهار في بحيرة «تانا» حيث ينبع النيل الأزرق ويجري متجها إلى السودان، فمصر، إلى أن يصب في البحر المتوسط.
وتزرع في الحبشة جميع أنواع البقول والحبوب؛ كالقمح والشعير، والذرة الشامية والفول، والعدس والحمص، والحلبة والكمون، والكزبرة والفاصوليا والباسلة ... إلخ، والطيف والداقشا - وهما نوعان من الذرة يماثلان السمسم حجما ويستعملان للخبز أو «الكسرة»؛ فالطيف خبزه أبيض أو أسمر، والداقشا خبزها أحمر، وهما بمثابة الذرة الرفيعة عند أهل السودان، وتزرع كذلك الذرة الرفيعة ولكن في الأماكن المنخفضة الحارة.
ويستعمل أهل هذه البلاد القمح والشعير غالبا في صنع «البوظة»، كما أنهم يستعملون منها «قلوة» يتسلون بها مع شرب القهوة المرة.
هذا ويزرع البن بكثرة في أرض الحبشة، وخصوصا في جهات ولقا، وجمة، وسدامو، وزقي ... إلخ، أما البقول والخضر فجميعها تجود في أرض الحبشة.» (17) من عادات الحبشان وزواجهم
ننشر هنا بعض العادات مضافا إلى ما سبق لنا ذكره:
يكاد ألا يكون هناك اختلاف محسوس في طباع الأحباش يمكن تعيينه، ومن عادتهم أنه إذا حل ضيف دارا، فأول ما يعمله صاحب الدار هو أن يأمر عبده أو عبدته أو ابنه أو ابنته أو زوجته - إن لم يكن له خدم أو أولاد - أن يغسل رجلي الضيف، وعلى الغاسل بعد الفراغ من عمله أن يقبل الرجل المغسولة، أما إذا كان الضيف راهبا أو قسيسا فصاحب الدار هو الذي يغسل رجل ضيفه، كذلك لا يؤكل الطعام إلا بعد أن تذوقه الزوجة أو الخادمة التي أعدته.
ومن غريب عاداتهم أن أعظم ما يكرم به الضيف هو أن تطبخ له دجاجة، ولكن لهم في صنعها شأنا؛ ذلك أنهم يقطعونها قطعا معدودة، ولا يسمح للمرأة بأكل بعضها، كما أنه لا يجوز للرجل أن يأكل القطع التي للمرأة، وإذا نقصت قطعة واحدة فالويل للزوجة، وإما ترمى الدجاجة أو يؤتى بالقطعة الناقصة منها!
والزواج في الحبشة على أنواع كثيرة، فمنه زواج القربان؛ وهو ما يسميه المسيحيون بالإكليل، وهنا تختلف تقاليد الأحباش عن غيرهم من المسيحيين في أن البعض منهم يعاشر المرأة كزوجة سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، فإذا راقت له أخلاقها عقد عليها بالقربان؛ وهذا نهايته الموت.
والنوع الثاني ما يسمونه «القال كدان»؛ وهو زواج يبدأ باتفاق بين والدي الزوج والزوجة، فيدفع الزوج مهرا من الريالات لا يزيد على ثلاثين يضاف إليها عدد قليل من البقر والدواب من بغال وحمير ... إلخ. ويدفع والد الزوجة مثل هذا المهر ويعيش الزوجان في بيت منفصل عن والديهما، فإذا قام بينهما خلاف احتكما إلى الشيوخ يسعون جهدهم لإصلاح ذات البين، وإلا فطريقة فصلهما هو اقتسام المال وكل ما جددوه في بيتهما بالتساوي، ويحق للزوج في هذا النوع من الزواج أن يرد زوجته حتى للمرة العشرين فأكثر، كما أنه يجوز له أن يضم إليه خادمة أو اثنتين تكونان بمثابة سريتين، يسمون أولاهما «قرد» والأخرى «جن قرد»، وليس للزوجة حق ما في الاعتراض على الزوج. وهذا النوع من الزواج مثل الزواج المدني، وهو أكثر شيوعا من سواه.
ويوجد نوع ثالث؛ وهو الزواج بالماهية وهم يسمونه «قردنة»، وهو يتلخص في أن يتفق الرجل مع المرأة على أن يهبها مربوطا أو معاشا يتفاوت بين عشرة ريالات وعشرين ريالا في السنة مع كسائها وأكلها، وهذا النوع من الزواج كثير الشيوع أيضا.
وهذه الأنواع من الزواج شائعة بين المسيحيين واليهود واللادينيين.
أما الزواج الإسلامي فيكون بحسب النصوص الشرعية.
ومن شروط الزوجية المهمة عند الأحباش قاطبة أن لا ينام الزوج بعيدا عن زوجته، بل أن يحتضنها وأولادهما إلى قربهما حتى ولو كان معهم ضيف، وإذا اتفق أن نام الزوج منفردا كان ذلك دليلا على أنه لا يحب زوجته، فترفع أمرها إلى الشيوخ شاكية سوء فعلته.
وطعام الأحباش مؤلف بالأكثر من البقول الناشفة كالبسلة المطحونة ويسمونها «شرو»، والفول المدمس، والعدس، والحمص؛ لأنهم يصومون نحو ثلثي السنة، وهم يكثرون الشطة في طعامهم حتى يصير لونه محمرا ويصبح حارا، بحيث يتعذر أكله على أحد سواهم. وهم يفضلون أكل لحم ذكور المعز على سواه من لحوم المواشي مع أنهم لا يشربون لبن المعز مطلقا، ويحبون أكل اللحوم النيئة رغما من علمهم بأنها تولد الدود في أمعائهم ويستطيبون أكلها كثيرا، وهم يشربون في كل شهر شربة الدود ويسمونها «كوسو»، ولا يأكلون من الخضر إلا نوعا واحدا يسمونه «قرمن» وهو أشبه بورق الفجل وطعمه.
شرب الماء قليل جدا عند الأحباش، وشرابهم العادي هو «البوظة» أو ما يسمونه «تلا»؛ وهي تصنع من الشعير أو القمح؛ وذلك بأن يحمص القمح أو الشعير، ثم يطحن ويختلط بصفصاف شجر يسمونه «قيشو» أو أخرى يسمونها «صدو». وهاتان الشجرتان لا تنبتان إلا في الحبشة ويستعملان خميرة للشراب.
وهناك نوع آخر من الشراب يسمونه «طج»؛ وهو يصنع من العسل، وكيفية صنعه هو أن يحضر بالعسل ويمزج بالماء ويخلط بالقيشو أو بالصدو، وبعد أن يخمر يشرب. وكلا هذين النوعين من الشراب مسكر.
إن كل عطلة في أرض الحبشة هي عيد مقدس، وأهم هذه الأعياد هو «المستقل» أو عيد الصليب.
ويليه عيد رأس السنة ويسمونه «قديس يوهنس»؛ وفي هذا العيد تشعل النيران ويغنون فيه أغنية التهاني برأس السنة، ويلعبون بالأزهار، ويذبحون الذبائح في بيوتهم، ويشربون الشراب ... إلخ. وهناك أيضا «فلسنا» وهو عيد العذراء، وعيد الميلاد ويسمونه «لوتا»، إلى غير ذلك من أعياد القديسين والملائكة.
وتحتفل الحكومة والأهالي بعيد رأس السنة الهجرية، وقد وقع في 12 سبتمبر حيث أنيرت شوارع المدينة بالكهرباء، وانتشرت المشاعل في أحياء أديس أبابا المختلفة، وسارت غفيرة من الجماهير تتقدمها الطبول مخترقة أحياء المدينة، واستمرت كذلك إلى أواخر الليل، وفي الصباح أقيمت الصلوات في الكنائس، واستقبل جلالة الإمبراطور القواد والزعماء وأعيان الجاليات الأجنبية، وقد أقيم استعراض حربي في ساحة القصر الإمبراطوري بحضور ممثلي الصحف العالمية.
وعند الظهر مدت الموائد على الطريقة الحبشية لإطعام أكثر من خمسة آلاف شخص بالقصر الإمبراطوري، وهو ما يسميه الأحباش «جبر»؛ وفيه يجلس المدعوون من الجنود والأتباع على الأرض أمام موائد مرتفعة قليلا، ويتناولون خبزهم المصنوع من نوع خاص من الحبوب، وهم يسمونه «أنجرا»؛ وهو يقوم لديهم مقام «الصحون» عندنا ويسكبون فيها الأدم على الخبز، وعندما تؤكل طبقة من هذا الخبز يؤتى بنوع آخر من الطعام يوضع على طبقة أخرى منه، وهكذا. ويشرب الأحباش خلال ذلك كميات كبيرة من مشروبهم الوطني «التتج»؛ وهذا الشراب مصنوع من بعض النباتات ومخلوط بعسل النحل، وطعمه مستساغ وأثره المسكر شديد. •••
ومما يذكر عن السنة الحبشية أنها تتفق في بدئها ونهايتها مع السنة القبطية المصرية، والفرق بينها وبين السنة الإفرنجية سبع سنوات، وقد تنبأ الفلكيون الأحباش بأن سنة 1928 الحبشية ستكون بداية عصر جديد للحبشة تخرج فيه من عزلتها وتنتصر على أعدائها، ويتولى جلالة الإمبراطور الحالي قيادتها إلى مدارج الرقي والتقدم.
هذا ويتزاور الأحباش في هذا اليوم للتهنئة، ويحملون في زياراتهم باقات من الزهر والورود، وتحيتهم المألوفة لهذه المناسبة هي «انكوتاتاش»، وهي كما نظن كلمة عبرية ينسبونها إلى الملك سليمان عند تحيته لملكة سبأ، ومعناها «اللؤلؤ لك».
وقد انقضى يوم العيد دون أن يحدث ما يكدر الصفو أو يخل بالأمن العام .
والأحباش ميالون بطبيعتهم إلى اللهو والطرب، وإذا أقيم عرس اشتركوا فيه - رجالا ونساء صبيانا وبنات - وغنوا أغاني العشق والهيام، وزمروا وطبلوا ليلا ونهارا مدة سبعة أيام متوالية. ونوع آخر من الأفراح يقام للصيادين إذا صاد أحدهم فيلا أو أسدا أو وحشا من الوحوش الضارية، وهذه الأفراح لا تشترك فيها النساء بل تقتصر على الرجال والصبيان، فيتغنون بالأغاني الحماسية، ويلبسون المحتفل به جلد الوحش الذي قتله، ويطلقون الرصاص ويلعبون ألعاب الفروسية مدة ثلاثة أيام.
ونوع ثالث وهو يختص بالقسس فقط، وذلك في أعياد القديسين والملائكة؛ فإنهم يخرجون التابوت من الهيكل المقدس، ويضربون الطبول، ويزمرون ويرقصون أمام التابوت مهللين. (18) في القضاء
والقضاء في الحبشة يختلف تمام الاختلاف عن كل قضاء آخر في العالم؛ فهو قائم على أساس الرهان، فإذا اختلف شخصان على شيء ما احتكما إلى الشيوخ وراهن أحدهم الآخر على إن لم يكن الحكم كذا وكذا يعطيه بغلة أو مبلغا من المال ... إلخ. وعلى الآخر إما أن يسلم بحق الآخر عليه أو يقبل الرهان، وحينئذ يأتي كل منهم بشهوده ويكون الحكم على نسبة عدد الشهود، فالذي تكون شهوده أقل من شهود الآخر يدفع الرهان. (19) قبائل الحبشة وبيانات عنها
يتألف سكان الحبشة في الوقت الحاضر من 28 قبيلة مختلفة الأجناس والعقائد والطباع، ومتباينة في مراقي الارتقاء. وفي التالي بيان بأسماء هذه القبائل ولغاتها وعقائدها الدينية مع ملاحظات على بعضها؛ وهو:
قبيلة تفري:
لغتها التفرية؛ وهي أصل اللغة الحبشية، وثلاثة أرباع أفرادها مسيحيون والربع الباقي مسلمون. وهم الأحباش الأصليون، ومنهم الملكة بلقيس أم منليك الأول.
قبيلة قوندري:
لغتها الأمهرية، و
أفرادها مسيحيون و
مسلمون و
يهود، ومعظم ملوك الحبشة القدماء منهم.
قبيلة قوجام:
لغتها الأمهرية، و
أفرادها مسيحيون والربع الباقي مسلمون.
قبيلة مقز:
لغتها الأمهرية، وجميع أفرادها مسيحيون، ومنها نشأ منليك الثاني.
قبيلة أمهرا:
لغتها الأمهرية، وجميع أفرادها مسيحيون، وهم سادة البلاد الآن.
قبيلة القالا:
لغتها الأروموية، ونصف أفرادها مسيحيون والباقي نصفهم مسلمون والنصف الآخر لا دين لهم، وأصلهم من جنوب أفريقيا.
قبيلة قراقي :
لغتها القراقية، ونصف أفرادها مسيحيون والنصف الآخر مسلمون، وأصلهم من أريتريا الإيطالية.
قبيلة هررجي:
لغتها الهررية، وأفرادها كلهم مسلمون، وهم أكثر قبائل الحبشة حضارة ومدنية.
قبيلة كفا:
لغتها الكفاوية، ونصف أفرادها مسيحيون والنصف الباقي لا دين لهم.
قبيلة ولامو:
لغتها الولاموية، ونصف أفرادها مسيحيون والنصف الباقي لا دين لهم.
قبيلة قمرا:
لغتها القمراوية، وربع أفرادها مسيحيون، والباقون لا دين لهم.
قبيلة سدامو:
لغتها الأروموية، وثلاثة أرباع أفرادها مسيحيون، والباقون لا دين لهم.
قبيلة كنتا:
لغتها الكنتاوية، وربع أفرادها مسيحيون، والباقون لا دين لهم.
قبيلة ورجي:
لغتها الأروموية، وكل أفرادها مسلمون.
قبيلة قمانت:
لغتها الأقوية، وربع أفرادها مسيحيون والباقون لا دين لهم، ونساؤها أجمل نساء الحبشة.
قبيلة ولو:
لغتها الأمهرية، وربع أفرادها مسيحيون والباقون مسلمون.
قبيلة بجو:
لغتها الأمهرية، وربع أفرادها مسيحيون والباقون مسلمون.
قبيلة لاستا:
لغتها الأمهرية، وثلاثة أرباع أفرادها مسيحيون والباقون مسلمون.
قبيلة سقوطا:
لغتها السقطاوية، و
أفرادها مسيحيون والباقون مسلمون.
قبيلة أقو:
لغتها الأقوية، نصف أفرادها مسيحيون والنصف الآخر يهود.
قبيلة الصومال:
لغتها الصومالية، وجميع أفرادها مسلمون.
قبيلة دنكل:
لغتها الدنكلية، وأفرادها كلهم مسلمون.
قبيلة وطاوط:
لغتها البرتاوية، وأفرادها كلهم مسلمون وهم يرجعون في أصلهم إلى السودان.
قبيلة برتا:
لغتها البرتاوية، و
أفرادها مسلمون، والباقون لا دين لهم.
قبيلة برون:
لغتها البرونية، وأفرادها كلهم لا دين لهم.
قبيلة قمز:
لغتها القمزاوية، وأفرادها كلهم لا دين لهم.
قبيلة ماجبيه:
لغتها الماجية، و
أفرادها مسلمون والباقون لا دين لهم.
قبيلة قدلا:
لغتها القدلاوية، وأفرادها كلهم لا دين لهم. (20) كنيسة أكسيوم ورهبان الحبشة
كنيسة أكسيوم هي أول كنيسة في الحبشة «كنيسة سانت ماري الصهيونية»، وهي قائمة إلى اليوم، وأسسها «القديس فرومانتيس» يتبعها عشرة آلاف راهب قسيس، والقساوسة يسمح لهم بالزواج ما عدا المطران والاتشوجوا الذي مركزه جندار؛ وهو رئيس ديني حبشي بجانب مطران الحبشة.
وقد وصف شاهد عيان كنائس الحبشة، فقال: وحسبك أن ترى بناء كنيسة فتعجب من هندستها ونظامها، ومن القسيسين الذين لا يفترون عن تلاوة أناشيدهم أبان الصباح والعشي ، وفي غسق الليل وظهيرة النهار.
فالكنائس في بلاد الحبشة جميعها سداسية البناء، تحيط بها «الأفاريز» إحاطة السوار بالمعصم ، ويعلوها سقف هرمي الشكل ذو أضلاع ستة.
وما أدري لم اختار أبناء إثيوبيا الشكل السداسي لبناء معابدهم، وإن كنت أعرف أن الأمطار التي تهطل غزيرة على بلادهم قد تكون سببا في أن يختاروا الشكل الهرمي سقفا لمعابدهم ولبيوتهم، حتى التي يتخذونها من الحشائش والقصب.
فأما القسيسون فهم ألوف وألوف من الرجال والنساء، يحملون بأيديهم عصيا طويلة يعلوها صليب نحاسي أو فضي.
وترى فوق رءوس القسيسين العمائم البيضاء من «الشاش» الرقيق كتلك التي يتخذها الناس في مصر؛ لذلك كان الأحباش إذ يرون البعثة المصرية الدينية وعمائمها البيضاء يقولون: هؤلاء قسيسون مسلمون.
وترى الكنيسة والناس من حولها خاشعون ينظرون من طرف خفي، ويبلون ثرى جدرانها بالقبلات الحارة. (21) إمبراطور الحبشة صحفي ومدير مطبوعات
قال قنصل تركيا العام في أديس أبابا - وكان يقضي إجازته في تركيا - لرجال الصحافة في استانبول من حديث لهم معه إنهم يمكنهم أن يعدوا النجاشي زميلا من زملائهم.
وكان مما أخبرهم به أنه تظهر في أديس أبابا ست جرائد، اثنتان منها تحرر بالفرنسوية وواحدة باليونانية، وواحدة بالإيطالية، وواحدة بالحبشية. قال: والإمبراطور نفسه يشرف على الصحيفة الأخيرة المسماة «بهانينا» ويحرر يوميا مقالتها الافتتاحية.
والنجاشي يشرف مع هذا على مكتب الصحافة وأقلام النشر والدعوة الحكومية، وهو يحرص كل الحرص على أن يستقي مندوبو الصحافة الأجنبية ومراسلوها المعلومات التي من شأنها أن تعزز نفوذ الإمبراطورية وتعود عليها بالذكر الجميل. (22) من الملكة فكتوريا إلى النجاشي
كان الفونغراف في عهد الملكة فيكتوريا لا يزال في مهده وكانت الأسطوانات لا تزال تعمل من الشمع، ومع ذلك سمحت تلك الملكة العظيمة بأن يحفظ صوتها بأسطوانة وهي تلقي رسالة بعثت بها إلى نجاشي الحبشة حينئذ - وكان الإمبراطور يوحنا كاسا - تتمنى فيها الخير له ولبلاده.
وحفظت هذه الأسطوانة مدة ثم اختفى أثرها؛ فظن أنها أتلفت، ولكنه عثر عليها أخيرا في محفوظات شركة أديسون بك في لندن، ووجد أن فيها عطبا يسيرا فأصلحوه على أهون سبيل.
وقد طلب مجلس الإذاعة اللاسلكية البريطاني من جلالة الملك جورج الخامس أن يسمح لهم بإذاعة هذه الأسطوانة في أنحاء العالم، فإذا تفضل جلالته وسمح بذلك سمع العالم قريبا صوت الملكة فكتوريا يتردد على أسماعهم بعد أكثر من نصف قرن. (23) المحكمة التجارية وسوق الحبشة
سوق «الجباية»: وهو سوق أديس أبابا الذي يعقد كل يوم سبت محكمة تجارية تعقد فيه.
وسوق «الجباية» هو أهم سوق في الحبشة، والأسواق في الحبشة مجتمعات القبائل والعشائر والتجار والأسر. (24) جيش غريب في الحبشة
من الجيوش التي أخذت قبائل الجالا القاطنة في مناطق البحيرات بالحبشة تجندها لقتال الطليان جيش مزود بكل أنواع الوحوش الضواري التي روضها جنود تلك القبائل، وتقول إحدى الصحف الأمريكية نقلا عن مبشرة تقيم في تلك الأقطار أن منظر فرقة من فرق هذا الجيش تلقي الرعب والفزع في أقوى القلوب وأشدها جلدا، ومن رأيها أن غزو الحبشة من الأمور غير الممكنة وبخاصة مع وطنية أهالي البلاد. (25) بحيرة تانا
يخرج منها النيل الأزرق ويدعى عند خروجه نهر «الأباي»، ويتوقف عليها فيضان النيل. وخروج النيل الأزرق هو من الجنوب الغربي من الحبشة ومساحة تانا 11 ألف ميل مربع، وعمقها في بعض جهاتها 250 قدما؛ فهي أوسع من مديريتي القليوبية والمنوفية معا.
وفي بحيرة تانا جزر، ولها ديور وكنائس قديمة مقدسة، وهي مطمح أنظار إنجلترا؛ فهي ترجو من إنشاء خزان بها زيادة ماء الري في الجزيرة بالسودان، وتسعى لاشتراك مصر في إنشاء هذا الخزان، وقد أشيع منذ شهرين أنه عند إعلان إيطاليا الحرب على الحبشة تتقدم جنود إنجليزية ومصرية لاحتلال منطقة بحيرة تانا.
وطالما اجتمع
10
مجلس الوزراء المصري في عهد حكومات مختلفة للبحث في مسألة مشروع خزان تانا، وتعيين الاعتمادات الأولية والدائمة، وعقد الاتفاق مع حكومتي إنجلترا والسودان والحبشة في هذا الصدد. (26) لجنة دولية للدفاع عن الحبشة
اشتد عطف الكثيرين في أوروبا وأمريكا والشرق على الحبشة. وفي أنباء أوروبا أنه تألفت لجنة دولية من دعاة السلم وأنصار الشعوب المغلوبة على أمرها، غرضها الدفاع عن الحبشة في المحنة القاسية التي تتهددها الآن من وراء الاستعمار الإيطالي، وقد تألفت لجان عديدة في مختلف أنحاء العالم لتحقيق هذا الغرض، وكان الفرع الفرنسي برياسة مسيو كوت وزير الطيران السابق في وزارة دالاديه الأخيرة هو حلقة الاتصال الفعلية بين جميع اللجان والفروع.
وقد عقدت اللجنة الدولية مؤتمرا في اليوم الثالث من سبتمبر دعت إليه الكثيرين من مختلف الجهات والجنسيات، وقد لبى بعضهم الدعوة واعتذر الفريق الذي لم يهيأ له الاتصال بمقرها لبعض الأسباب.
ونحن ننشر فيما يلي تعريب نص البلاغ الذي أذاعته سكرتيرية اللجنة عن المؤتمر المذكور: في الثالث من سبتمبر انعقد المؤتمر الدولي للدفاع عن الحبشة والسلام، وهو المؤتمر الذي نظمته اللجنة الدولية للدفاع عن الشعب الحبشي، وقد ضم هذا المؤتمر مائة وثلاثين مندوبا يمثلون مائة وخمسين مؤسسة من جميع النحل والمشارب.
أما اللجنة التي أشرفت على هذا المؤتمر فقد تألفت من نورمان أنجيل حامل جائزة نوبل للسلام، وإدغار يونغ قائد البحرية الإنجليزية - عن بريطانيا العظمى.
ومن بيير كوت وزير الطيران سابقا، وجان بانلفه، ومارك سانغنيه، وفرانسيس جوردان - عن فرنسا.
ومن كامبولونغي، رئيس العصبة الإيطالية لحقوق الإنسان، وجيناردي النائب الطلياني سابقا عن - اللافاشستيين الطليان.
ومن ميسترس غارفي وميسالي - عن الشعوب المستعمرة والأقليات الوطنية.
وقد اتخذ هذا المؤتمر جملة قرارات هامة للدفاع عن الحق الدولي والمؤسسات التي تتولى هذا الدفاع، وللدفاع عن الشعب الحبشي في كيانه واستقلاله، وللدفاع عن السلام؛ الهدف الأسمى لجميع البشر.
وأعلن المؤتمر أن هذه الحقائق أصبحت من الآن فصاعدا وقفا على ضمير العالم بأسره، لقد أعلن ذلك أمام الممثلين المسئولين للدول الأعضاء في جامعة الأمم وأمام ممثلي أعظم الدول وأصغرها أيضا، وهي الدول التي سيكتب لها الهلاك المباشر في حال نشوب حرب.
ولقد أهاب المؤتمر إهابة أخيرة بالكتل الشعبية في العالم بأسره، والشباب المرهون لكوارث الحرب، والنساء الخائفات على أولادهن، والمثقفين المؤمنين بمبادئهم وأديانهم، وذراريهم، لقد أهاب بهؤلاء جميعا إلى الاتحاد العملي والتكاتف المناضل في سبيل السلام.
وحيا المؤتمر البحريين الذين يضربون عن شحن العتاد الحربي إلى إيطاليا، والعمال الذين لا يقابلون الأوامر التي يلقيها عليهم المعتدي بسوى كتف الذراعين، والجنود الطليان الذين يدركون أن عدوهم ليس في أفريقيا، وحيا جميع الذين يستهلون الحرب بإشهار الحرب على الحرب ويحولون دون إرسال الأسلحة والمدد المالي إلى الحكومة الإيطالية.
وقرر المؤتمر إنشاء مكتب دولي للاتحاد والتعاون في سبيل تنفيذ هذه القرارات.
وفي ليل 3 سبتمبر سافر وفد إلى جنيف، أعضاؤه: السير نورمان أنجيل، وبول بيران نائب باريس وأحد زعماء الحزب الاشتراكي الفرنسي، والحاج ميسالي نائبا عن أفريقيا الشمالية والعرب، والسيد دوليقي من أعضاء اللجنة العالمية لمقاومة الحرب والفاشستية، والسيدة فارين إحدى العاملات البارزات في الحزب الراديكالي؛ فقابلوا رئيس مجلس العصبة وبسطوا له الحالة الدولية ورأي المؤتمر في وجوب اجتناب الحرب ... إلخ. (27) في محطة جيبوتي وطرق الحبشة
جيبوتي ميناء فرنسية على البحر الأحمر، وهي الطريق للوصول إلى الحبشة، فيستقل المسافر من جيبوتي القطار إلى أديس أبابا، وفي جيبوتي عشرات الجنسيات، فتجد اليوناني والأرمني والإنجليزي والهندي والصومالي والإيطالي والأسود والأبيض من جيبوتي إلى أديس أبابا، وتكاليف السفر من جيبتوي إلى أديس أبابا 16 جنيها، ويكلف شحن الطن 42 جنيها.
كانت تجارة الحبشة تمر عن طريق زيلع في الصومال الإنجليزي أو الخرطوم من حدود السودان، وكانت التجارة بالقوافل التي يستغرق سفرها أسابيع.
والخط الحديدي خط مفرد تملكه شركة فرنسية أسهمها 40 ألفا، ودفعت مليون بندقية للإمبراطور منليك الثاني مقابل الامتياز، وافتتحت الشركة القسم الأول من جيبوتي إلى ديرداوي، وطوله 309كم سنة 1902. ثم وقفت عملها وعادت إليه سنة 1906 فأتمت باقي الخط سنة 1912، واستخدمت 10 آلاف عامل، ومدت 476كم، وتوقف الجمال القطارات.
وكانت الشركة على وشك الخراب، فأنقذها الإمبراطور هيلا سيلاسي، وهي تربح كثيرا.
ويقال إن مسيو لافال رئيس الوزارة الفرنسية عند زيارته روما أهدى إلى إيطاليا 3000 سهم، والقطارات والمركبات على الخط قديمة، وهناك مركبة للبيض لا يسمح للسود بدخولها، وفي الصومال الفرنسي - حيث يمر الخط - كثير من المتسولين، وطول الطرق الحديثة في الحبشة 65 ميلا فقط، والقديمة المعبدة 2500 ميل. (28) ضباط الحدود
جهلاء لا يعرفون اللغات الأجنبية ولا يميزون بين جوازات السفر الحقيقية والمزيفة، وإجراءاتهم بطيئة معطلة، ولا يعرفون أسماء العواصم الأجنبية ولا الجغرافيا.
ويخطف العمال الحقائب، ويهجم الحمالون على الركاب، الذين يضطرون لمتابعة الحمالين الخطافين. (29) بعثة فرنسية
وصلت بعثة فرنسية مؤلفة من ستة أشخاص إلى أديس أبابا، دعتهم الحكومة لحفظ الأمن العام بدلا من موظفين بلجيكيين آخرين. (30) واحة ولوال
ولوال واحة في الصومال الإيطالي، وقد تصادم فيها الإيطاليون والأحباش في ديسمبر سنة 1934، واتخذ الإيطاليون الحادث ذريعة لغزو الحبشة وإثارة النزاع الحالي وتمسكهم بالاستيلاء على الحبشة كلها. (31) إعلان التعبئة العامة
في أنباء الحبشة أن الإمبراطور أعلن التعبئة العامة للجيش، وأن هذا قد يعجل بالتحام الأحباش بالإيطاليين وبإعلان الحرب، وأن عواصم أوروبا قد قلقت لهذا النبأ.
وسنبين هذا بجلاء عند الكلام على عصبة الأمم. (32) مساحة الحبشة ومدنها ورقيقها
بما أن مساحة الحبشة 350 ألف ميل مربع؛ فهي تعادل مساحة فرنسا وإيطاليا وسويسرا وهولندا - ومساحة فرنسا 212500 وإيطاليا 110500 وسويسرا 16 ألفا وهولندا 12 ألفا.
وهي إمبراطورية إقطاعية، أهم ممالكها شوا في قلب الجبال، وهزمت الممالك الحبشية الأخرى.
وفي الحبشة حوالي مليون من الرقيق على الأقل، وقد تمكن الإمبراطور الحالي من إعتاق الكثيرين منهم. (33) صناعتها وتجارتها
وليس في الحبشة مصانع، وبها صناعات يدوية خفيفة، وصادراتها: البن، والعاج، والجلود غير المدبوغة، والفلفل، والذهب. ووارداتها: الأقمشة، والملح، والأرز. وتجارتها الخارجية مليون جنيه.
ومن معادنها الذهب والفضة والنحاس والبوتاس والبلاتين والحديد والفحم والبترول، وتنتج الشعير والبقول وقصب السكر والدخان والقطن والبن - وموطنه ولاية كافا - التي من اسمها اشتق اللفظ الإفرنجي
Café . ومن الحيوانات: الفيل، ووحيد القرن، والأسد، والنمر، والضبع، والذئب، والجاموس، والزرافة، والقرد، والتمساح، وفرس النهر. (34) كثرة القسس والرهبان
في الحبشة ألوف القسس والرهبان، وهم يعيشون عالة على الشعب المتدين الخاضع لنفوذهم المؤمن برسالتهم، وهم رجعيون، وقد قدر أحد الكتاب الأوروبيين عددهم بمليوني نفس، وهو عدد نحسب أنه مبالغ فيه، ولكن - على كل حال - يزيد عدد رجال الدين على كل نسبة معقولة.
ولرجال الكنائس أدوار يقومون بها في السياسة، وتقلب الملوك وخلعهم، وفي الدسائس والمنافسات، وتجريح الكبراء والمثقفين أوروبيا باسم الدين، وبإسناد الإلحاد إليهم!
والإمبراطور الحالي برم بكثرة القسس والرهبان، وفي حاجة إلى نصرتهم في هذه الظروف!
عصبة الأمم ووظيفتها
أثارت الحرب المحتملة بين الحبشة وإيطاليا البحث فيما على جمعية الأمم أن تفعله.
وعصبة الأمم هي جمعية دولية سياسية عامة تقرر تأليفها عقب شروط الدكتور ولسون لعقد الهدنة في 11 نوفمبر سنة 1918، وبمقتضى معاهدة فرساي التي أبرمت سنة 1919 بين الحلفاء وألمانيا، على أن تكون الجمعية لدول العالم جميعا، وأن يكون للدول ممثلون فيها، وأن تكون أداة للسلام ومنع الحروب والتعاون الدولي بأنواعه، ومركزها جنيف بسويسرا، ولغتها الرسمية الإنجليزية والفرنسية فقط.
ولجمعية الأمم دستور أو ميثاق ينقسم إلى ثلاثة أقسام: (1) مادة 1-7 تعالج موضوع التنظيم العالمي. (2) مادة 8-17 تعالج موضوع السلام العالمي. (3) مادة 18-26 تعالج موضوع التعاون العالمي.
وبمقتضى القسم الأول قسمت الدول المستقلة إلى ثلاثة أقسام: (1) الدول الموقعة لمعاهدات الصلح المنطبقة على دستور الجمعية. (2) ثلاث عشرة أمة طلب إليها الانضمام بغير قيد ولا شرط. (3) بقية الدول والمستعمرات؛ ومن الدول: ألمانيا وحلفاؤها النمسا وتركيا والبلغار، ومن المستعمرات: الهند وأستراليا والبلاد التي تحت الانتداب والحماية.
وللمندرجات تحت هذا القسم الثالث الانتظام في عضوية الجمعية إذا نالت كل منها ثلثي أصوات الجمعية العمومية، وقد انتظمت النمسا ثم تركيا وألمانيا ثم روسيا، وقد انسحبت اليابان وألمانيا من جمعية الأمم.
وقد رفض مجلس الشيوخ الأميركي عند تأسيس الجمعية - وإلى الآن - الانتظام في الجمعية، وينتظر انسحاب إيطاليا منها، والعصبة تجتاز أزمة كبيرة، وأكبر نفوذ فيها لبريطانيا ثم لفرنسا.
وللجمعية جمعية عمومية ومجلس، ولكل دولة في الجمعية صوت مساو لعضو آخر، أما المجلس فيضم الدول الكبرى وأعضاء محدودي العدد يمثلون الدول الأخرى جميعا، ولا بد في كل قرار في الجمعية العمومية أو في المجلس من إجماع أعضاء كل منهما، وملحق بالجمعية مكتب العمل الدولي. وللجمعية لجان كثيرة، ويمكن أن يقال أن الجمعية قد أخفقت في مهمتها الأصلية وهي صون السلام، وأنه ليس لها قوة تنفيذية في ذاتها، بالرغم من فوائد كثيرة قامت بها لمصلحة الإنسانية ولمنع منازعات صغيرة. (1) الحروب التعسفية والعقوبات
أثار النزاع القائم بين الحبشة وإيطاليا مسألة العقوبات التي يجوز لعصبة الأمم فرضها على إيطاليا إذا عمدت إلى تحقيق ما أعلنته وهددت به من غزو الحبشة بالقوة وأنف عصبة الأمم راغم، وقد بحث رجال القانون في هذه المسألة.
وقد قرأنا بحثا لحضرة الأستاذ الدكتور محمد توفيق يونس في صدد «الحروب غير المشروعة والعقوبات» المقررة ضد الدولة المعتدية، فقال:
تناولت الأنباء البرقية في الأيام الأخيرة مسألة العقوبات التي قد تلجأ إليها عصبة الأمم إذا عجزت عن حل المشكلة الحبشية الإيطالية واندلعت نيران الحرب بين الدولتين المتنازعتين؛ لذلك رأينا أن نتحدث - وقد أخذ مجلس العصبة ينظر في النزاع - عن ماهية هذه العقوبات ومداها وأثرها والحالات التي توقع فيها. •••
من بين الوسائل التي نص عليها ميثاق عصبة الأمم لمنع الحروب توقيع عقوبات معينة على الدول التي تخل بارتباطاتها الناشئة عن الميثاق وتلجأ إلى حروب غير مشروعة.
ونود قبل أن نتحدث عن هذه العقوبات أن نبين الحالات المختلفة للحروب التي يعتبرها ميثاق العصبة حروبا غير مشروعة.
تحيلنا المادة السادسة عشرة من الميثاق في ذلك على المواد 12 و13 و15 ناصة على أن أي عضو من أعضاء العصبة يلجأ إلى الحرب مخالفا في ذلك أحكام المواد المذكورة يعتبر أنه قام بعمل حربي ضد جميع أعضاء العصبة الآخرين، وتوقع عليه العقوبات التي فرضتها هذه المادة؛ أي: المادة 16.
وفيما يلي أحكام تلك المواد:
أولا: (أ) تنص المادة 12 على أنه إذا قام نزاع بين دول أعضاء في العصبة قد يؤدي إلى قطع العلائق بينها؛ فيجب أن تلجأ هذه الدول فيه إلى التحكيم أو تعرضه على مجلس العصبة للنظر فيه. (ب) كذلك تقضي المادة المذكورة بعدم الالتجاء إلى الحرب قبل انقضاء ثلاثة شهور تلي قرار المحكمين أو المجلس.
ثانيا:
وتنص المادة 13 - كما عدلت في 26 سبتمبر سنة 1924 - على وجوب التجاء الدول الأعضاء في العصبة إلى التحكيم في كل نزاع قابل له إذا لم يكن من المستطاع تسويته بالطرق الديبلوماتيكية تسوية مرضية «فقرة أ»، وبعد أن قدمت عدة أمثلة لهذا النوع من المنازعات، وتكلمت عن الهيئة المختصة بالحكم فيها «الفقرتان: 2 و3»؛ قضت بوجوب تنفيذ الدول لقرار المحكمين بحسن نية تامة عدم الالتجاء إلى الحرب ضد أي عضو في العصبة يمتثل له «فقرة 4».
ثالثا:
أما المادة 15 فتلزم الدول الأعضاء في العصبة بأن تعرض على المجلس كل نزاع قد يؤدي إلى قطع العلاقات بينها ولا يكون قد طرح للتحكيم وفقا للمادة 13 السالفة الذكر «فقرة 1»، كما تلزمها بعدم الدخول في حرب ضد طرف النزاع الذي يمتثل لقرارات المجلس إذا صدرت منه هذه القرارات باجتماع هذه الآراء دون أن تحسب في ذلك أصوات الدول المتنازعة «فقرة 6»، أما إذا لم يتحقق الإجماع فإن كل دولة تحتفظ لنفسها بحق إجراء ما تراه لازما لصون الحق والعدالة «فقرة 7».
رابعا:
وعلينا أن نضيف إلى هذه الحالات التي أشارت إليها المادة 16 حالة أخرى نصت عليها المادة 17؛ وهي حصول نزاع بين دولة عضو في العصبة ودولة غير عضو أو بين دول غير أعضاء؛ ففي هذه الحالة تدعى الدولة - أو الدول غير الأعضاء - إلى قبول الالتزامات السالفة الذكر حلا للنزاع «فقرة 1»، فإذا رفضت ودخلت في حرب ضد عضو في العصبة اعتبرت هذه الحرب غير مشروعة، وطبقت عليها أحكام المادة السادسة عشرة «مادة 17، فقرة 3».
عرفنا الآن الحروب التي يعدها ميثاق عصبة الأمم حروبا غير مشروعة، وبقي أن نعرف أنواع العقوبات التي يفرضها على الدول التي تقوم بهذه الحروب.
هذه العقوبات ثلاثة أنواع في الواقع: (1)
عقوبات اقتصادية. (2)
عقوبات حربية. (3)
عقوبات أدبية.
فالعقوبات الاقتصادية تتلخص فيما يلي «مادة 16، فقرة 1»:
أولا:
قطع جميع الدول الأعضاء في العصبة لكل ما لها من العلاقات التجارية أو المالية مع الدول المخالفة في الحال.
ثانيا:
منعها أية صلة بين أهاليها وأهالي تلك الدولة.
ثالثا:
وقف كل اتصال مالي أو تجاري أو شخصي بين أهالي الدولة المخالفة وأهالي جميع الدول الأخرى سواء أكانوا أعضاء في العصبة أو لم يكونوا.
ولما كان توقيع هذه العقوبات الاقتصادية من شأنه أن يلحق خسائر وإضرار الدولة التي تساهم فيه، فقد قضت المادة السادسة عشرة في فقرتها الثالثة على أعضاء العصبة بأن يعاون كل منهم الآخر معاونة متبادلة لإنقاص هذه الخسائر والأضرار إلى أدنى حد ممكن، وأن يتعاونوا كذلك على مقاومة كل إجراء خاص يوجه ضد أحدهم من الدولة الناقضة للعهد. •••
أما العقوبات الحربية، فعبارة عن اشتراك الدول الأعضاء في تقديم ما أوصى به مجلس عصبة الأمم من الإجراءات الحربية والبحرية والجوية اللازمة للعمل على احترام التزامات العصبة «مادة 16، فقرة 2».
وإذا أمعنا النظر في نص هذه الفقرة لألفينا أن المجلس في الواقع غير ملزم قانونا بالتوصية بتوقيع العقوبات الحربية كما أن الدول غير ملزمة التزاما قانونيا باتباع توصية المجلس في حالة صدورها منه، بعكس الحال في العقوبات الاقتصادية التي يتحتم توقيعها في الحال.
وتوقيع هذه العقوبات الاقتصادية وحده كفيل في الواقع بأن يحول مجرى الحرب بجعل الدولة المخالفة في عزلة اقتصادية تكون أجدى وأعم إذا اشتركت فيها الدول الكبرى غير الأعضاء في العصبة. •••
بقيت العقوبة الأدبية؛ وهي أن تطرد من العصبة الدولة التي تخل بأي التزام من التزاماتها «مادة 16، فقرة 4»، وإن كنا أصبحنا نرى الدول الكبرى هي التي تهدد عصبة الأمم بالخروج منها! (2) العقوبات وعصبة الأمم
المواد الآتية من عهد العصبة هي التي تعين ما تتبعه عصبة الأمم نحو الدولة المعتدية.
ننشر فيما يلي المواد التي يدور عليها بحث جامعة الأمم الآن لمناسبة المشكلة الحبشية:
المادة العاشرة:
تتعهد الدول الموقعة على هذا بأن تحترم سلامة أملاك الدول أعضاء هذه الجامعة واستقلالها السياسي الحالي، وأن تدافع عنها من كل اعتداء مثل هذا أو خيف من وقوعه؛ فإن المجلس التنفيذي يشير بالطرق التي ينجز بها هذا العهد.
المادة الحادية عشرة:
كل حرب أو تهديد بحرب يمس إحدى الدول الموقعة على هذا مباشرة أو لا يعد من المسائل التي تقتضي اهتمام الجامعة، والدول الموقعة على هذا تحفظ لأنفسهن حق عمل أي الأعمال التي تعد لازمة لحفظ سلام الأمم، ويحق لكل منهن أن تنبه مجمع المندوبين أو المجلس التنفيذي إلى جميع الأحوال التي تمس علاقات الأمم بعضها ببعض، وتهدد السلام الدولي وحسن التفاهم بين الأمم مما يتوقف السلام عليه.
المادة الثانية عشرة:
تتعهد الدول الموقعة لهذا بأنه إذا قامت بينهن أسباب للنزاع لا يمكن تسويتها بالطرق السياسية المعتادة لا يعمدن بوجه من الوجوه إلى الحرب قبلما يعرض مسائل النزاع للتحكيم أو ليحققها المجلس التنفيذي، وقبلما تمر ثلاثة أشهر على حكم المحكمين أو حكم المجلس التنفيذي، ومع هذا كله لا يعمدن إلى محاربة عضو من أعضاء جامعة الأمم يذعن لحكم المحكمين أو حكم المجلس التنفيذي. وفي كل الأحوال المنطوية تحت هذه المادة يجب أن يصدر حكم المحكمين في وقت معقول، وحكم المجلس التنفيذي في خلال ستة أشهر تمر من عرض مسألة الخلاف عليه.
المادة الثالثة عشرة:
تتعهد الدول الموقعة على هذا فإنه إذا قام بينهن نزاع أو مشكلة يرين أنهما قابلان للتحكيم وأنه لا يمكن حلهما بالطرق السياسية تعرض المسألة كلها للتحكيم؛ ولهذه الغاية يكون مجلس التحكيم الذي تعرض عليه المسألة هو المجلس الذي يتفق عليه الفريقان، أو المنصوص عليه في معاهدة من المعاهدات المعقودة بينهن، كذلك تتعهدن بتنفيذ كل حكم يصدر بإخلاص وحسن نية، وإذا لم ينفذن هذا الحكم ينظر المجلس التنفيذي في خير الطرق لتنفيذه.
المادة الرابعة عشرة:
يضع المجلس التنفيذي الخطط لإنشاء محكمة دائمة للقضاء الدولي يكون من اختصاصها النظر في المسائل التي يرى الفريقان المتخاصمان وجوب عرضها عليها للتحكيم بموجب البند السابق.
المادة الخامسة عشرة:
إذا قام بين الدول أعضاء الجمعية نزاع لا يعرض للتحكيم كالنزاع المذكور آنفا ويخشى أن يفضي إلى قطع العلاقات بين الدول المتنازعة؛ فإن الدول الموقعة على هذا تقبل أن تعرض المسألة على المجلس التنفيذي، وكل فريق من الفريقين المتنازعين له أن يبلغ السكرتير العام وجود هذا النزاع، والسكرتير يتخذ جميع التدابير اللازمة لتحقيقه تحقيقا تاما. ولهذه الغاية يتفق الفريقان المتنازعان على إبلاغ السكرتير العام بأسرع ما يمكن حججهما وجميع الوقائع والأوراق المتعلقة بالقضية، وللمجلس التنفيذي أن يأمر بنشرها كلها، فإذا أفضت مساعي المجلس إلى حل النزاع؛ فحينئذ ينشر بلاغ عن ماهية النزاع ووجوه حله والشروح اللازمة، وإذا لم يحل النزاع ينشر المجلس تقريرا يضمنه الإرشادات التي يراها عادلة ولازمة لحل الخلاف مع جميع الوقائع والشروح اللازمة ، فإذا وافق أعضاء المجلس من غير الدول المتنازعة على التقرير بالإجماع فإن الدول الموقعة على هذا تتفق أن لا تحارب الفريق الذي يذعن للإرشادات المشار إليها، أما الفريق الذي لا يذعن لها فإن المجلس يعين الوسائل اللازمة لتنفيذ تلك الإرشادات فيه، وإذا لم يجمعن عليه فمن واجب الأكثرية وحق الأقلية أن تصدرا بيانات تعربان فيها عن وقائع الحال كما تريانها وعن الإرشادات التي تحسبانها عادلة وموافقة. وللمجلس التنفيذي في أي حال تعرض وتدخل تحت هذه المادة أن يحيل النزاع على هيئة المندوبين بطلب أحد الفريقين المتنازعين، على شرط أن يعرض هذا الطلب في خلال أسبوعين بعد عرض النزاع، وفي كل نزاع يعرض على هيئة المندوبين تطبق جميع شروط هذه المادة والمادة الثانية عشرة الخاصة بعمل المجلس التنفيذي وسلطته على عمل مجمع المندوبين وسلطته.
المادة السادسة عشرة:
إذا نكثت إحدى الدول الموقعة على هذا عهودها المذكورة في المادة الثانية عشرة أو لم تكترث لها تعد في حكم المحاربة لسائر أعضاء الجامعة، وعليه تقطع الجامعة كل علاقة تجارية أو مالية بتلك الدولة وتمنع كل مواصلة بين رعاياها ورعايا سائر الدول سواء أكانوا من الدول الداخلة في الجامعة أم لا. وعلى المجلس التنفيذي والحالة هذه أن يبدي رأيه في مقدار القوة البحرية أو الحربية التي تقدمها كل من الدول أعضاء الجمعية للدفاع عن عهود الجمعية، وكذلك تتعهد الدول الموقعة على هذا بأن يساعد بعضها بعضا في التدابير المالية والاقتصادية التي يعمد إليها بموجب هذه المادة لتقليل الخسارة والمضايقة الناشئتين عن التدابير المشار إليها، وبأن يساعد بعضها بعضا أيضا في الدفاع عن إحداهن فيما إذا أرادت الدولة الناكثة للعهد أن توجه عليها معظم قوتها، وبأن تفتح طريقا في بلادها لجيوش أية دولة من الدول الموقعة في سبيل الدفاع عن عهود الجامعة.
العقوبات الاقتصادية
نشر خبير إنجليزي في جريدة الصنداي إكسبرس بلندن ما يلي:
إذا عدت إلى معجم أوكسفورد وجدت معنى تعريف
Sanction «أي العقوبات» هكذا: «العقاب الخاص الذي يفرض للإكراه على طاعة القانون.»
فما هو معنى هذا التعريف إذا طبق على العلاقات التي بين الدول ذوات السيادة؟
إن الغرض من العقوبات الاقتصادية هو منع أمة - بلا التجاء إلى القوة الطبيعية؛ من شهر حرب أو نقض معاهدة - بحرمانها المواد اللازمة للحرب أو الوسائل لنقل تلك المواد إلى ميدان القتال.
وليس في الأرض بلد - ما عدا روسيا - فيه جميع المواد الأولية اللازمة في الحروب الحديثة، وكثير من البلاد - والحبشة شاهد ظاهر منها - ليس فيها مصانع لتحويل مواردها الأولية أو المواد الأولية التي تستوردها من الخارج أدوات للنقل والدمار.
وأول لوازم الحرب السلاح، وعليه فإن أول أشكال العقوبات الاقتصادية حظر إصدار السلاح إلى أمة محاربة.
وفي العالم نحو اثنتي عشرة دولة يصنع فيها السلاح الحديث على قدر كبير، فإذا اتفقت هذه الدول على منع تلك المصانع من أن تبيع دولة معينة السلاح لم تستطع هذه الدولة حربا. •••
وقد استخدم هذا النوع من الضغط أخيرا لوقف حرب دامت ثلاث سنوات بين بوليفيا وبارجواي في أمريكا الجنوبية، ولكن هناك أمرين يجب ملاحظتهما في هذا النوع من العقوبة، وهما؛ أولا: إن جامعة الأمم لا تستطيع فرضها؛ لأن ثلاثة من أعظم البلدان إخراجا للسلاح ليست أعضاء في الجامعة وهي ألمانيا واليابان وأميركا. وثانيا: إن العقوبات لا قيمة لها في بلد فيه مصانع للذخيرة والميرة مثل إيطاليا. •••
أما النوع الآخر فأشد فعلا، وإذا أمكن تنفيذه كان ذا أثر في كل دولة يفرض عليها، وهو حظر إصدار المواد الأولية التي تستعمل لصنع السلاح والذخيرة إليها، وقد كان في وسع جمهورية شيلي الأمريكية منذ عشرين سنة أن تمنع كل دولة تقريبا من شهر حرب بحظر إصدار النترات منها، وقد كانت محتكرة لها، وهي لازمة لصنع المواد المفجرة، لكن النترات تستخرج الآن صناعيا من الهواء.
وهناك مواد أخرى - ولا سيما المعادن - لازمة للسلاح ولا وجود لها إلا في بعض البلدان، فتسعة أعشار نيكل العالم تجيء من كندا، وثلثا الأنتيمون من الصين، و90٪ من البوتاس من فرنسا وألمانيا، وثلاثة أرباع الحديد الخام تصهر في البلدان التي على ساحل الأتلنتيكي الشمالي، وهذه المواد كلها لازمة للحرب فلا تستطيع دولة تمنع عنها أن تشهر حربا، وفي وسع أميركا والإمبراطورية البريطانية معا أن تمنعا كل دولة من إشهار الحروب ما عدا روسيا.
وقد دلت الحرب العالمية على أن تنفيذ هذا الحظر متعذر إلا بإعلان حصار عام؛ إذ في وسع الدولة المحاربة أن تشتري ما يلزمها على أيدي سماسرة مختلفين، وقد بقيت ألمانيا تستورد المواد الأولية بواسطة دول محايدة مدة الحرب الماضية كلها بالرغم من حصار الحلفاء لها. •••
وهناك شكل ثالث من أشكال العقوبات، وهو في الواقع «امتداد» من الثاني وقابل للاعتراضات نفسها، ومآله حظر جميع الصادرات إلى الدولة المحاربة وفي جملتها مواد الطعام.
والمشروع كله خيالي إلا إذا اتفقت جميع الأمم على التعاون في تنفيذ الحظر تنفيذا فعليا، وهذا غير مرجح. •••
هذه الوسائل الثلاث مباشرة، ولكن هناك وسائل أخرى غير مباشرة والغاية منها شل الدولة المحاربة ماليا، بحيث لا تستطيع شراء شيء من الخارج نقدا أو وعدا، وهذه يمكن فرضها بلا مساعدة الحكومات على أيدي رجال المال والبنوك المركزية، وكثيرا ما تستعمل على قدر صغير لمضايقة الدولة أو الدول التي سياستها المالية مناقضة للعرف المالي في مراكز العالم المالية الكبرى، ولكن إذا وقعت حرب أو تهددت حرب، فلا غنى عن تأييد الحكومات في هذه الحال، وإذا كانت دولة لا تستطيع بيع بضائعها في الخارج فلا يمضي وقت قصير حتى تعجز عن الشراء. •••
ومن الطرق الفعالة غير المباشرة حظر التعامل في الأسواق المالية الكبرى بنقود الدولة المحاربة، فإذا منع الناس مثلا من شراء الماركات أو الكورونات أو الليرات لم يستطع أهل البلدان التي لها هذه النقود أن يستبدلوا بها نقود الدول التي اشتروا منها فيبطل الشراء لذلك. خذ بولونيا مثلا؛ فإنها إذا شاءت شراء ماكينات إنجليزية وجب أن تدفع ثمنها جنيهات، فإذا لم تستطع تحويل نقودها جنيهات فلا سبيل أمامها إلى دفع ثمن ما اشترته.
ومنها منع التعامل بسندات حكومة الدولة المحاربة أو حوالاتها المالية، فلا تجد في هذه الحالة تاجرا يستمر في تقديم البضائع إلى عميل لا يستطيع قطع تحاويله في السوق المالية.
ومنها منع الاعتمادات والقروض المالية عن الدولة المحاربة، وهذا غير لازم إذ لا يكاد أحد يجازف بإقراض حكومة أقدمت على حرب، ويكون غرضه استثمار ماله تجاريا. •••
وهناك وسيلة أخيرة؛ وهذه تتعلق بمنع نقل مواد الحرب إلى ساحة القتال، وفي الحالة الحاضرة هي إغلاق ترعة السويس؛ فتنقطع المئونة والذخيرة عن الجيش الإيطالي في شرق أفريقيا، ويتعذر نقلها إلا بالدوران حول أفريقيا.
وقد منعت إسبانيا من المرور في ترعة السويس مدة حربها مع أمريكا سنة 1898، ولكن هذه الطريقة أخطر العقوبات وأصعبها؛ فإن بريطانيا أكثر الدول امتلاكا لأسهم ترعة السويس، وهي مقيدة بفتحها في وجه كل دولة. ويمكنها التخلص من هذا القيد بعد موافقة سائر الدول الموقعة للمعاهدة، وهي: تركيا، وفرنسا، وألمانيا، والنمسا. ولا توافق إحداهن على ذلك مراعاة إيطاليا، وإذا أغلقت إنجلترا الترعة بلا موافقتهن كانت من ناقضي المعاهدات.
وأعتقد في الختام مع السير أوستن تشمبرلن أن لا فائدة من فرض العقوبات الاقتصادية إلا إذا دعمت بالقوة الحربية؛ فالعقوبات الناجعة هي الحرب نفسها. (3) بين بريطانيا وفرنسا بشأن الاعتداء في أواسط أوروبا
كانت الحكومة الفرنسوية قد أرسلت تسأل الحكومة البريطانية عن الخطة التي تنتهجها فيما إذا اعتدت دولة على أخرى في أواسط أوروبا، واشترطت الحكومة الفرنسوية لموافقتها على إنزال العقوبات بإيطاليا أن يكون جواب بريطانيا على سؤالها مرضيا لها؛ أي إن فرنسا أرادت أن تشترك مع إنجلترا في فرض العقوبات على إيطاليا مقابل تعهد إنجلترا بمساعدة فرنسا عند الاعتداء عليها. وهذا هو نص الجواب البريطاني:
نص الجواب
نشر في لندن في 29 سبتمبر 1935 صورة المذكرة التي سلمت إلى سفير فرنسا في لندن في 26 الجاري منه، بإمضاء السير صموئيل هور - وزير الخارجية البريطانية - وفيها نص الجواب. وهذه ترجمته:
في السؤال الذي تكرمتم بتوجيهه إلى السير روبرت فنسيتارت في 10 سبتمبر أعربتم عن رغبة حكومتكم بمناسبة النزاع الحاضر بين إيطاليا والحبشة في أن تعلموا إلى أي مدى يمكن أن تطمئن حكومتكم في المستقبل إلى مساعدة هذه البلاد في تنفيذ جميع العقوبات العاجلة والفعالة المنصوص عليها في المادة السادسة عشرة من عهد الجامعة فيما إذا نكث هذا العهد والتجئ إلى السلاح في أوروبا.
وأشرتم بوجه خاص إلى وقوع هذا الاعتداء على يد دولة هي عضو في الجامعة أو خارجة عنها.
فأتشرف الآن ردا على سؤالكم بأن أوجه أنظاركم إلى الكلمات التي فهت بها في خطبتي أمام اجتماع الجامعة يوم 11 سبتمبر الحالي.
فقد قلت يومئذ أن حكومة المملكة المتحدة «بريطانيا العظمى» لا تكون ثانية لدولة من الدول في عزمها على القيام على قدر استطاعتها بالواجبات التي يوجبها عهد الجامعة عليها، وأضفت إلى ذلك قولي أن الأفكار التي يتضمنها العهد - ولا سيما الأماني المعقودة على تأييد حكم القانون في الشئون الدولية - صادفت هوى شديدا في خلق الشعب البريطاني المطبوع على الاحتفاظ بالمبادئ؛ حتى صارت هذه المبادئ جزءا من الضمير الوطني.
وتذكرون كذلك أنني اغتنمت الفرصة في خطبتي لإنكار كل تقول فحواه أن الحكومة البريطانية مدفوعة بغير الإخلاص الثابت للجامعة وكل ما تمثله، ولفت النظر إلى الأدلة الأخيرة التي بدت على الرأي العام البريطاني، ودلت على عظم تأييد الأمة للحكومة في قبول تبعة الالتزامات التي تقيدت بها كعضو في الجامعة أتم قبول، حتى أعلنت مرارا أن هذه العضوية هي مفتاح سياستها الخارجية.
وأضفت إلى ذلك قولي أن الزعيم - تصريحا أو تلميحا - أن هذه السياسة خاصة بالنزاع الإيطالي الحبشي فيه من سوء التفاهم التام؛ إذ ليس هناك شيء أبعد عن الحقيقة منه.
وقلت إنني أرحب مخلصا بهذه الفرصة السانحة لأعيد القول وأنا أحتمل تبعته كاملة أن أهل هذه البلاد أظهروا تمسكهم بمبادئ الجامعة لا بظاهرة من ظواهرها، وكل رأي غير هذا فإنما هو انتقاص لصدق بريطانيا وإخلاصها.
وبناء على تلك العهود والواجبات الصريحة؛ قلت - وأشدد القول الآن - إن الجامعة ثابتة، وهذه البلاد ثابتة إلى جنبها في سبيل المحافظة الإجماعية على العهد بكامله، ولا سيما المقاومة الإجماعية لكل أعمال الاعتداء التي تقع بلا استفزاز.
وأوجه أنظاركم إلى هذه العبارة الأخيرة بنوع خاص، وأظن أنكم توافقونني إجمالا على أنه لم يبين عضو من أعضاء مجلس الجامعة هذه السياسة مقدما قبل حدوث حادثة معينة يحتمل أن تؤدي إلى النظر في تلك السياسة؛ لم يبين أحد هذه السياسة بجلاء وحزم يفوقان ما في هذه الكلمات منهما.
وتلاحظون أنني تكلمت حينئذ - كما أكتب الآن - عن جميع أعمال الاعتداء الذي لا استفزاز فيه، وكل كلمة في هذه العبارة يجب أن تكون لها قيمتها التامة.
فظاهر من هذا أن الإجراء الذي يتبع بمقتضى المادة السادسة عشرة من عهد الجامعة فيما يختص بالاعتداء الإيجابي الذي لا استفزاز فيه لا ينطبق على العمل السلبي أي التقصير في عدم إنجاز شروط المعاهدة.
وظاهر كذلك أنه في حالة الالتجاء إلى القوة قد تكون هناك درجات في الإجرام ودرجات في الاعتداء ... وعليه ففي الحالات التي تنطبق المادة السادسة عشرة عليها قد تتغير الأحوال الخاصة بكل حادثة.
وقد عرفت أن حكومتكم تعلم هذه الفروق، وأذكر بهذا الصدد أن المرونة جزء من السلامة - كما قلت في جنيف، وأنه يجب على كل عضو في الجامعة أن يدرك كما هو مبين في العهد أن العالم ليس واقفا ولا ماكثا على حال.
وإذا اعترض معترض بأن إعلان هذا التأييد لمبادئ العهد - كما بسطته في خطبة جنيف وأعدته في هذه المذكرة - إنما يمثل سياسة الحكومة الحاضرة ولا يمثل بالضرورة سياسة الحكومات التي تخلفها على مناصبها.
فأرد على ذلك بقولي أن الكلام الذي قلته في خطبة جنيف إنما قلته بالنيابة عن الحكومة الحاضرة، ولكنني قلته أيضا بتأييد أهل هذه البلاد وموافقتهم تأييدا ساحقا.
وقد قلت في جنيف قولا زاد إيضاحا بعد ذلك؛ وهو أن الرأي العام في هذه البلاد أبان أنه غير مدفوع بعاطفة متقلبة لا يعتمد عليها، بل بالمبدأ العام لآداب السلوك الدولي، وسيبقى محافظا على هذا المبدأ ما دامت الجامعة هيئة فعالة.
وتعتقد حكومة جلالة الملك أن تلك الهيئة التي تمثل رأي هذه الأمة وهي الرجاء الوحيد لتدارك أمثال الكوارث الطائشة التي نزلت بالعالم في الماضي وضمان سلم العالم بضمان السلامة الإجماعية في المستقبل؛ هذه الهيئة لن تجعل نفسها عاجزة ضعيفة بعدم إخلاصها في إنفاذ العمل الفعال تلبية لمبادئها.
ولكن ذلك الإخلاص وذلك العمل ينبغي أن يكونا إجماعيين كمبدأ السلامة، وهذه النقطة على غاية من عظم الشأن، حتى أراني في الختام مضطرا إلى إعادة العبارة التي قلتها في جنيف؛ وهي:
إذا كان لا بد من مواجهة أخطار السلام فالواجب أن يستهدف الجميع لها، وما دامت الجامعة تحافظ على نفسها بقدرتها فإن هذه الحكومة وهذه الأمة تتبعان مبادئها إلى الآخر. ا.ه.
واختلفت تعليقات الصحف الفرنسية على الجواب، وقد قوبل إجمالا في فرنسا بالارتياح. ومن جهة أخرى وجهت الحكومة الإنجليزية إلى فرنسا سؤالا عن هل يساعد الأسطول الفرنسي الأسطول الإنجليزي إذا تعرض لاعتداء. (4) حول تقرير لجنة الخمسة
أشرنا من قبل إلى تقرير لجنة الخمسة، ونذكر الآن بيانات أوفى فيما يلي: نشرت في 24 سبتمبر في جنيف صورة مشروع لجنة الخمسة للصلح بين إيطاليا والحبشة، وهو مقسوم خمسة أقسام؛ الأول: يبحث في الحالة بحثا إجماليا، ويذكر خلاصة أعمال اللجنة. والثاني: يحتوي على عدد من الاقتراحات لتنظيم الحبشة. والثالث: يتضمن تفاصيل هذا التنظيم. والرابع والخامس: يشتملان على اقتراحات واضحة الحدود لحل النزاع.
ومما جاء في الأول قول اللجنة أنها حاولت الاهتداء إلى قاعدة للمفاوضة يحافظ فيها أولا على استقلال الحبشة وسلامة أملاكها وأمان جميع أعضاء الجامعة، وثانيا على حفظ علاقات الصداقة بين أعضاء الجامعة.
ويلي ذلك خطبة مندوب الحبشة في اجتماع الجامعة؛ وهي التي أعرب فيها المندوب عن رغبة حكومة الحبشة في درس جميع الاقتراحات الخاصة بترقية البلاد اقتصاديا وماليا وسياسيا؛ طبقا لروح عهد الجامعة.
واقترحت في القسمين الثاني والثالث تنظيم الفروع التالية في الإدارة: البوليس، والتجارة، والصناعة، والمالية، والحقانية، والمعارف ... وغيرها. وأشارت بتعيين خبراء أجانب لتنظيم البوليس، وبأن يكون في مقدمة المهام التي تتولاها الحكومة تنفيذ القوانين الخاصة بإلغاء النخاسة، وتنظيم حمل السلاح، وضمان النظام والأمن على مقاطعات الحدود وسائر الأماكن التي يقطنها الأجانب.
وجاء في باب الترقية الاقتصادية بند يقول بمنح امتيازات في الزراعة، واستنباط المناجم، والإتجار، وتنظيم البريد والتلغراف.
ومن الاقتراحات المالية وضع الميزانية، وإنشاء الاحتكار المالي، ودرس مسألة عقد قروض أجنبية.
واقتراح لتنفيذ الإصلاحات التي يراد إدخالها بإنشاء سلطة مركزية تشتمل على رئيس كل فرع من فروع الإدارة، ويجب أن يكون هؤلاء الرؤساء أوروبيين كلهم، وأن يكون أحدهم ممثلا لجامعة الأمم، وأن يكونوا جميعا تابعين لرئيس يمثل الجامعة أمام الإمبراطور.
وقد جاء في الجزء الأخير من المشروع أنه يفرض على الممثل الخصوصي للجامعة أمام الإمبراطور أن يعرض على الجامعة تقريرا مرة واحدة في السنة على القليل، وأن يطلع الإمبراطور عليه قبل عرضه على الجامعة؛ لتضيف حكومة الحبشة إليه ما يعن لها من الآراء.
ويدوم تنفيذ المشروع مدة خمس سنين، وبعدها ينقح على ضوء الاختبارات في تلك المدة.
ومما جاء فيه أن مندوبي فرنسا وإنجلترا أبلغا اللجنة أن حكومتيهما تساعدان على حل النزاع سلميا بالاشتراك في تخطيط الأراضي بين إيطاليا والحبشة، والتضحية بشيء من أراضيهما في الصومال الفرنسوي والصومال البريطاني.
وفي أثناء هذه المفاوضات جربت فرنسا وإنجلترا الحصول على ضمانات تضمن إلغاء النخاسة في الحبشة والإتجار بالسلاح.
وقالت أنهما مستعدتان لأن تسلما بامتياز لإيطاليا يمكنها من ترقية البلاد اقتصاديا؛ فلذلك ترحبان بعقد اتفاق اقتصادي بين إيطاليا والحبشة بشرط أن تراعى فيه حقوق رعاياها، والحقوق التي منحتها إنجلترا وفرنسا بموجب المعاهدات الحاضرة. (5) ملاحظات المندوب الإيطالي على الاقتراحات
قال المندوب: إن الحبشة خالفت تعهداتها وفقدت بذلك مكانتها كعضو في عصبة الأمم.
وأشار تقرير المندوب إلى الملاحظات الشفهية التي أبديت يوم 22 سبتمبر، فقال إن المندوب الإيطالي احتج بأن اللجنة لم تأخذ بعين الاعتبار التهم المعينة التي وجهتها إيطاليا إلى الحبشة، والتي من شأنها أن تثبت أن الحبشة لم تبر بالعهود التي قطعتها على نفسها عند انضمامها إلى عصبة الأمم وقد خالفت غيرها من التعهدات علانية؛ ولذلك لم يعد في الإمكان عدها حائزة للمركز والمقام الذي يتمتع به العضو في العصبة.
لا يمكن إيجاد حل عن طريق العصبة:
وإن إيطاليا لا ترى أن بالإمكان إيجاد حل للنزاع عن طريق العصبة، ثم إن مشروع اللجنة لتنظيم الجيش ترك بدون رقابة على الإطلاق.
رفض ما تعرضه فرنسا وبريطانيا للتسوية:
أما ما أبداه مندوبا فرنسا وبريطانيا العظمى بشأن تعديل الحدود لمصلحة إيطاليا في مقابل التعويض على الحبشة في منطقة ساحل الصومال، فالحكومة الإيطالية ترى أنها مرغمة على معارضة هذا الاقتراح لأنها أظهرت مكررا الخطر الذي نجم عن حل كهذا يجعل الحبشة دولة بحرية ويزيد في خطرها على الممتلكات الإيطالية.
حقوق إيطاليا بمقتضى المعاهدة الثلاثية:
وتقول إيطاليا في ملاحظتها أيضا أنه كان يجب على اللجنة أن تأخذ بعين الاعتبار الحقوق الإقليمية الممنوحة لإيطاليا بمقتضى المعاهدة الثلاثية، وتلك الحقوق تنطوي على إيجاد الاتصال بين مستعمرة الأريتريا ومستعمرة الصومال الإيطالي إلى الغرب من أديس أبابا.
الحبشة غير جديرة بالدخول في اتفاقات دولية:
واختتم البارون الويزي - مندوب إيطاليا - ملاحظاته بالقول أن جميع الأسباب التي أدت إلى النزاع الإيطالي الحبشي تدل على استحالة الوصول إلى أي اتفاق حتى ما كان اقتصاديا منه مع الحبشة، وذلك بالنظر لعدم جدارتها بالدخول في الاتفاقات الدولية وعدم كفاءتها على احترامها.
رد الحبشة بقبول الاقتراحات أساسا للمفاوضة:
أما رد الحبشة فقد تضمن تصريحا منها باستعدادها التام للدخول فورا في مفاوضات على أساس اقتراحات اللجنة. (6) مذكرة إيطاليا إلى عصبة الأمم
ننشر فيما يلي نص مذكرة الحكومة الإيطالية إلى عصبة الأمم في سبتمبر 1935.
تعرض الحكومة الإيطالية على مجلس عصبة الأمم الموقف الخاص والقانوني لإيطاليا مع علاقاتها مع الحبشة.
فقد بدأت علاقات إيطاليا بالبلاد المكونة للإمبراطورية الحبشية منذ أواسط القرن الماضي، وتثبتت علاقاتها رسميا في معاهدة 1889.
وقد نصت المادة 17 من المعاهدة المذكورة على أفضلية النفوذ الإيطالي، وأبلغ فحواها إلى الدول.
وعلى أثر إمضاء الاتفاق بدأت الحبشة بأعمال عدائية ضد إيطاليا كانت نتيجتها مشكلة 1895-1896.
وبالرغم من هذه التجربة رجعت الحكومة الإيطالية إلى استئناف سياسة التعاون اللازمة للمستعمرات الإيطالية في الصومال والأريتريا، كما أنها أبرمت طائفة من المعاهدات.
وإن الدليل على حسن نية إيطاليا ظاهر في أنها قامت بتوريد أول مقطوعية للأسلحة في الحبشة، ومن بينها: 4000 بندقية، وألف موسكتون، ومليون خرطوشة، و24 متراليوزا بمبلغ 1900000 ليرة. بقي منها 846000 ليرة لم يسددها النجاشي بعد.
وفي هذه الأيام طلبت الحبشة أسلحة وردت إليها خلسة، والمفهوم أن هذه الأسلحة الغرض منها استخدامها ضد إيطاليا؛ إذ لا يعزب عن البال أن لإيطاليا أكثر من 2000 كيلومتر حدودا مشتركة بينها وبين الحبشة.
خرق المعاهدات:
وقد قامت العلاقات بين البلدين في الأربعين سنة الأخيرة على وقائع تدخل في أحد الأبواب الأربعة التالية: (1)
رفض الحبشة تحديد الحدود بينها وبين المستعمرات الإيطالية، وكذلك احتلال الجنود الحبشية لمناطق إيطالية. (2)
إهانات يومية موجهة إلى حصانة المعتمد الإيطالي. (3)
تعريض متواصل بحياة وأملاك الرعايا الإيطاليين في الحبشة، وقد رفضت الحكومة لهم كل مشروع أو عمل اقتصادي. (4)
التعريض بحياة وأملاك الإيطاليين في الأراضي الإيطالية.
مسألة الحدود:
كثيرا ما أعربت الحكومة الإيطالية عن رغبتها في تحديد الحدود بينما كانت الحكومة الحبشية ترفض أو تسوف.
ثم إن الحبشة رأت بعد ذلك أن تعتبر بعض القبائل مثل قبيلة كومانا تابعة لها بينما نصت المعاهدات على أنها تتبع إيطاليا.
ولما أرادت إيطاليا تحديد الحدود بين الأريتريا والتجر بناء على اتفاق سنة 1900 لم يستطع البدء فيه إلا في سنة 1907، وقد أوقف الأحباش المشروع في هذه الناحية وفي حدود الدنقالي.
كذلك تجددت العقبات من ناحية الحبشة فيما يختص بحدود الصومال، وقد جاء ذكرها في معاهدة 1908.
معاهدة الصداقة الإيطالية الحبشية: قدمت الحكومة الإيطالية أبلغ دليل على صداقتها وحسن نياتها بإبرام معاهدة سنة 1928 لمدة عشرين سنة، وهذا الاتفاق يؤكد سلامة النيات الإيطالية.
والمادة الأساسية لهذا الاتفاق قد أعطت للحبشة منفذا على البحر، ونصت على وجوب «تنشيط التجارة بين البلدين».
وقد كانت المعارضة الحبشية في هذا السبيل دائمة؛ إذ إن جميع المستشارين الأجانب الذين عينتهم الحكومة الحبشية لم يكن بينهم سوى إيطالي واحد.
وقد وكلت الحكومة إلى فرنسي وسويدي إدارة محطة الراديو، والتي قامت بإنشائها مصانع أنصالدو الإيطالية.
وبالرغم من افتقار الحبشة إلى الطرق لم تمهد إحداها نحو المستعمرات الإيطالية، ولم تقبل الحكومة إيطاليا من الفنيين أو الأطباء أو رجال الدين.
وقد رفضت الحكومة كذلك المعاونة الإيطالية للكفاح ضد الطاعون البقري الذي كان يهدد المستعمرات الإنجليزية والفرنسية أيضا.
ولم يتيسر السير في تنفيذ أحد المشاريع الإيطالية النادرة؛ وهي استغلال بوتاس ولوال على أثر عرقلة الحبشة ورفضها تمهيد الطريق للوصول إلى المنطقة.
كذلك عارضت الحكومة في كل نشاط إيطالي في الشئون الزراعية، كما رفضت البدء في تمهيد الطريق بين دسي وأديس أبابا الذي ينتهي إلى المنفذ البحري، ويرى من ذلك أن اتفاق سنة 1927 الذي كان يجب أن يؤدي إلى تمييز إيطاليا على سائر الدول في الحبشة جعلها أقل الدول امتيازا في هذه البلاد.
معاهدة كلوبوكوفسكي:
وقد خرقت الحبشة معاهدة أخرى هي معاهدة كلوبوكوفسكي التي نظمت حقوق الأوروبيين في الحبشة، وكل خرق لهذه المعاهدة يعتبر في نظر الإيطاليين خرقا لمعاهدة الصداقة المبرمة بين البلدين.
وقد حرم الأحباش على الإيطاليين امتلاك الأراضي واحتلالها بعقود ذات أمد طويل، وبالرغم من هذه المعاهدات فإنه لم يسمح للأجانب بحرية المرور في الأراضي الحبشية، ومثال ذلك أن قنصلي بريطانيا في ليجا ودنقلة لم يستطيعا القيام برحلات في داخل البلاد.
وقد نصت المعاهدة على حرية التجارة في البلاد، وبالرغم من ذلك أعطت الحكومة امتياز احتكار الكؤل لشركة بلجيكية سنة 1922، وامتياز احتكار الملح شركة فرنسية في سنة 1930، ولم يجد احتجاج السلك السياسي نفعا.
وقد أنشأت الحكومة ضرائب جمركية إضافية، وخصت البضائع الواردة من الصومال البريطاني دون البضائع الواردة من البلاد الأخرى بامتيازات خاصة.
وهناك خرق آخر للمعاهدات؛ وهو إيجاد هيئة سلبت اختصاصات القناصل القضائية المعترف بها في معاهدة كلوبوكوفسكي، وقد عارض السلك السياسي دون جدوى ضد إنشاء محاكم مختلطة للأجانب.
واضطر الممثلون الأوروبيون إلى الالتجاء إلى الإضراب القضائي ليصلوا إلى نتيجة ما.
وكثيرا ما قبض على رجال من البيض دون تسليمهم إلى السلطات المختصة.
التهديدات والاعتداءات:
وقد أغارت القوات الحبشية على الحدود الإيطالية في أحرج أوقات السياسة الإيطالية، وقد كانت مستعدة للهجوم بمناسبة اشتغال بريطانيا في حرب برقة، فقد تجمع 50000 مقاتل على حدود الأريتريا في مارس سنة 1914، وقبيل اشتراك إيطاليا في الحرب الكبرى جمع النجاشي ميكايل 150000 مقاتل ضد إيطاليا التي اضطرت إلى إرسال جنودها إلى الأريتريا.
وفي سنة 1916 كان ليج ياسو مسئولا عن حادث بولوبورتي كما أن الحبشة وردت أسلحة للثوريين الصوماليين في سنة 1925-1926.
الاعتداءات على أعضاء السلك السياسي: وقد حدث 26 اعتداء في بحر سبع سنوات في المدة الواقعة بين مايو 1928 وشهر أغسطس 1935، وحدث قبل ذلك في سنة 1916 أن أطلق الحبشيون رصاص بنادقهم على المفوضية الإيطالية، وقد سرقت رسائل قنصلية عدوة، ثم سرقت وثائق قنصلية جندور، ولم يقبض ولاة الأمور على المسئولين أو يعاقبوهم.
وكذلك جرت اعتداءات مسلحة ضد قنصلية هرر سنة 1930 ودسي في سنتي 1931 و1932، وقبض على مستشار المفوضية واعتقل مدة خمسة أيام كما قتل حامل رسائل منذارو وقبض على كثيرين من أتباع القناصل والمستشارين، وانتهكت حرمة رسائلهم.
الاعتداء على حياة الإيطاليين وأملاكهم: ولم يتمتع الرعايا الإيطاليون بالأمن الذي كفلته لهم المعاهدات، وقد حدث خمسة عشر حادثا اعتدي فيه على الإيطاليين اعتداء منكرا - وخاصة في سنة 1924؛ إذ هجم الأحباش على قافلة إيطالية من الأريتريا في بيارا، وفي 1929 هجموا على قافلة مكونة من 700 جمل وقتل ألفردو يلوزو في سنة 1932.
الفوضى في الحبشة:
إن الحبشة في حالة من الفوضى الداخلية والتأخر السياسي والاقتصادي والثقافي لا تستطيع معها أن تجري وحدها الإصلاحات العميقة المقتضى إجراؤها لكي لا تكون خطرا مستمرا على المستعمرات الإيطالية المتاخمة كما هو الحال الآن.
وفي الظروف الحالية لا تقدم الحبشة أي ضمان للقيام بالتعهدات التي أخذتها على نفسها كما أنه لا يمكنها أن تساهم في تطور النشاط الاقتصادي للمستعمرات الإيطالية.
ثم إن الحرب الداخلية تجعل السوق الحبشية في حاجة إلى الأمن؛ إذ إن تاريخ الحبشة في العشر السنوات الأخيرة حافل بالحرب الداخلية.
منطقة النفوذ الإيطالي في الحبشة:
اضطر اتساع نطاق الفوضى في الحبشة الدول المجاورة إلى المحافظة على مصالحها بواسطة المعاهدات؛ ولذلك قسمت البلاد إلى مناطق نفوذ، كان لإيطاليا القسم الأكبر منها.
ومن بين هذه الاتفاقات معاهدة سنة 1928 التي ضمنت المصالح الإيطالية والفرنسية والإنجليزية.
الحبشة وعصبة الأمم:
لم تقبل الحبشة في عصبة الأمم في سنة 1923 إلا بعد أن أخذت على نفسها تعهدات خاصة باتفاق سان جرمان إن لاي المبرم في سنة 1919.
ولما كانت الحبشة موضوع بروتوكول إيطالي إنجليزي في سنتي 1891 و1894، وبروتوكول إيطالي فرنسي إنجليزي بعد ذلك؛ فهي تعتبر في مركز قانوني تحت الوصاية.
ومن واجب عصبة الأمم أن تسأل نفسها كيف قابلت الحبشة منذ 12 سنة الثقة التي منحتها وكيف قامت بتنفيذ تعهداتها.
ميثاق عصبة الأمم:
نصت المادة الأولى لميثاق العصبة على أن عضو العصبة يجب أن يكون له من السلطان ما يلزم لبسط حكمه في كل أنحاء البلاد.
إلا أن الحبشة مكونة من قسمين: الدولة الحبشية المعروفة وخارجها إمارات؛ مثل: هرر، وتافا، وأولاما، وجيجا. وهي تختلف عن الحبشة في الدين، واللغة، والنظام السياسي والجنسي.
ثم إن أوامر الحكومة المركزية لا تصل إلى خارج حدود عواصم الإمبراطورية كما شهدت بذلك أبحاث وزارة إنجلترا في أديس أبابا، وكذلك لورد نوبل ولورد بولوارث.
ثم إن حالة الحبشة لا تتفق مع فحوى شروط المادة 23 من ميثاق العصبة الذي ينص على أن الحكومة يجب أن تضمن حياة إنسانية عادلة لجميع سكان البلاد، وتضمن أيضا الأمن على طول المواصلات.
الرق:
يظهر من المستندات الدبلوماسية أن الرق لا يزال جاريا في الحبشة، ثم إن قرار الإمبراطورية لم يغير شيئا؛ إذ إن علو مركز الكبراء لا يزال يقاس اليوم بعدد عبيدهم.
وحتى القضاة المكلفون بتحريم الرق يملكون عددا كبيرا من العبيد.
ويقوم الممولون بدفع العوائد بعدد من العبيد - نساء أو أطفال، وتجارة الرقيق كثيرة الانتشار في الحبشة كما تشهد بذلك أبحاث لورد نوكستن ولورد بولوارث ومذكرة فرنسية قدمت في أغسطس سنة 1923.
وكذلك لورد لوجارد مندوب عصبة الأمم ولم يمكن نشره لما احتواه من أشياء مروعة.
النتيجة: (1)
تعترف الحبشة بالشكل القانوني للرق. (2)
لا تزال وقائع الخطف وتجارة الرقيق جارية في أنحاء البلاد. (3)
تجارة الرقيق منتشرة. (4)
وتشترك الحكومة الحبشية في هذه التجارة بشكل غير مباشر. (5)
وبجانب العبيد يوجد الغجر الذين يسومون العبيد العذاب . (6)
لم ترع الحبشة حرمة التعهدات التي أخذتها على نفسها قبل عصبة الأمم.
وإن ظروف الحياة الداخلية للحبشة تجعل هذه البلاد غير جديرة بأن تكون عضوا في مجلس العصبة؛ إذ إنهم يوالون الاعتداء على الصغار والكبار لمقتضيات تجارة الأغوات، وكذلك عادات آكلي لحوم البشر وتعذيب البعض على يد السحرة، وكذلك إهمال حياة المصابين بالرصاص، ونظام قتل المحكوم عليهم بالإعدام.
ويظهر من ذلك أن الحبشة لم تظهر أنها جديرة بثقة جنيف ولم تعمل بها، ولما كانت بهذا السلوك أخرجت نفسها من العصبة لا يمكن أن تظل بها دون المساس بمركز أكبر هيئة للدول المتمدنة.
ويلزم العصبة أن تنظر إلى الخلاف على وجه أن إيطاليا أكثر الدول خسارة على أثر خرق الحبشة للتعهدات التي أخذتها على نفسها بصفتها عضوا في عصبة الأمم.
ولا يمكن لعضو الالتجاء إلى الميثاق إذا كان قد خرق هو حرمته ولم يقم بواجباته بينما أظهر أنه غير جدير بالثقة التي حباه بها المجلس.
ثم إنه من المخالف لأصول الحق أن يقال إن أعضاء العصبة مكلفون باحترام شروط الميثاق إزاء دولة خرجت على الميثاق بخرقها تعهداتها.
وإن قبول الحبشة في مجلس العصبة كان مفهوما باعتبار أن الحبشة ستنتهز فرصة جوار الدول المتمدنة كي ترفع نفسها إلى مركزها، ولكن هذه الآمال خابت.
وقد أظهرت الحبشة أن ليس في استطاعتها أن تجد في انتمائها إلى العصبة الدافع القوي الكافي لرفعها إلى مستوى باقي الدول المتمدنة.
وإذا لم تسجل العصبة نتيجة هذه التجربة والدرس الذي يستفاد منها؛ فإنها تكون أول من يهدم الأغراض السامية التي تعمل لها.
وقد انتهكت الحبشة جميع المعاهدات، وهي خطر داهم لإيطاليا؛ إذ هي تهدد مستعمراتها الأفريقية.
وقد جرت الحبشة بمسلكها إلى خروجها على العصبة وميثاقها، وأظهرت عدم جدارتها بثقة عصبة الأمم عند قبولها بين أعضائها، وإذا احتجت إيطاليا على مثل هذه الحالة فإنها تدافع عن كيانها ومركزها وكرامتها، وهي تدافع أيضا عن سمعة وكرامة عصبة الأمم.
حالة إيطاليا ومعاقبتها اقتصاديا
إن العقوبات الاقتصادية التي توشك إيطاليا أن تواجهها تكاد تطبق من الآن؛ لأن طبيعة الحالة الاقتصادية في إيطاليا تستدعيها، ففي الميزانية الإيطالية الحالية عجز يبلغ نحو 35 مليون جنيه وفاقا لتقدير الحكومة، ويقدر أدنى حد للنفقات التي تقتضيها الحملة العسكرية الإيطالية في أفريقيا الشرقية بنحو مائتي مليون جنيه، ولدى إيطاليا الآن بعض هذا المبلغ وهي تنفق منه على الحملة.
1
وقد جعلت استيراد الفحم والقصدير والنحاس والنيكل احتكارا للحكومة، وألفت عشر هيئات تجارية من الفاشستي لتنظيم استيراد المواد الأولية وتوزيعها، ووضعت يدها على ما يمتلكه الإيطاليون في الخارج من الاعتمادات الأجنبية وأعطتهم عملة إيطالية بدلا منها، وجعلت تستخدم تلك الاعتمادات في شراء المواد الأولية واللوازم الحربية، وحاولت أخيرا أن تبيع جزءا مما تملكه من سندات الحكومة الفرنسية في باريس؛ فخشيت الحكومة الفرنسية نزول هذه الأسهم، واضطر بنك فرنسا إلى عقد قرض صغير لإيطاليا مقابل تلك السندات لكي يصون سعرها.
وقد عمدت الحكومة أخيرا إلى الذهب الاحتياطي الموجود في بنك إيطاليا وجعلت تستخدمه في شراء المواد الأولية والمعاهدات الحربية من الخارج، وعندما نزل هذا الاحتياطي إلى الحد القانوني اللازم لغطاء العملة - وهو 40 في المائة - وضعت قانونا بإلغاء هذا الحد، ثم سحبت العملة الفضية الموجودة في التداول، وتبلغ قيمتها الاسمية 1635749000 ليرة إيطالية، وجعلتها غطاء لورق النقد، وأصدرت بدلا منها ورقا جديدا.
ومن المتوقع من الآن أنه إذا قامت إيطاليا بما يخل بميثاق العصبة فلا بد أن نشهد احتلالا بريطانيا للقسم الغربي الأقصى من الحبشة؛ أي من بحيرة رودلف جنوبا إلى بحيرة تانا شمالا، بحيث يتناول هذا الاحتلال المنطقة الغنية الوحيدة المتاخمة لكنيا، ويشمل مناجم الذهب والنحاس والبترول الهائلة. أما كل ما بقي من أراضي الحبشة فإنه يكون ميدانا للحرب مع إيطاليا، وهي باعتراف جميع الخبراء ستكون من أشق الحروب بالنسبة لإيطاليا.
وفي هذه الحالة تعرض مسألة على جانب عظيم من الأهمية؛ وهي مسألة الخط الحديدي بين جيبوتي وأديس أبابا، والمعروف أن هذا الخط من المشروعات الفرنسية، والطريق الوحيد الذي يجعل للحبشة منفذا إلى البحر. وهذه المسألة تعرض من نواح ثلاث: «الأولى» ناحية المصالح الفرنسية و«الثانية» ناحية مصلحة الدول والإنسانية، «والثالثة» ناحية العلاقات بين فرنسا وإيطاليا.
ومن الأمور التي ينتظر حدوثها أن ينزل الحبشيون في أنحاء «أساب» - وهي مركز المعسكر العام للجيش الإيطالي - وأن يعمد الإيطاليون بمجرد بدء الأعمال الحربية إلى استخدام الطيارات لقطع الخط الحديدي الذي يصل بين جيبوتي وأديس أبابا على مسافة سبعمائة كيلومتر تقريبا، وبذلك يدمر مشروع فرنسي عظيم؛ مما يؤدي إلى موقف دقيق.
بلاغ من مجلس الوزراء الإيطالي «في برقية من روما في 28 سبتمبر»: عقد الوزراء الإيطاليون اجتماعا جديدا برئاسة السنيور موسوليني، وجاء في البلاغ الرسمي الذي نشر على أثر هذا الاجتماع - وهو بمثابة تعليق على اقتراحات لجنة الأمم - أن أعضاء اللجنة لم يقيموا أي وزن لما تشعر به إيطاليا من ضرورة التوسع وطلب الأمن، وتجاهلوا أيضا تجاهلا تاما معاهدات 1889 و1906 و1925.
ويؤكد البلاغ أن إيطاليا لم تضع نصب عينيها - لا سرا ولا جهرا - معارضة مصالح إنجلترا ولا حاولت ذلك، ويقول أيضا أن الحكومة الإيطالية تعلن رسميا أنها ستتجنب كل عمل من شأنه أن يؤدي إلى توسيع نطاق الخلاف بينها وبين الحبشة.
ويقول البلاغ في الختام أن إيطاليا ستعبئ قريبا تعبئة مدنية لم يسبق لها مثيل في التاريخ.
ومما قرره مجلس الوزراء أيضا أن لا تنفصل إيطاليا عن جامعة الأمم ما دامت لم تتخذ تدابير ضدها.
ثمن فوز إيطاليا
كتب الدكتور «ويلفر بدا وزوحوود» الذي سبق أن طاف ألفي ميل في الحبشة والأخصائي في علم الحيوان بمتحف التاريخ الطبيعي بمدينة شيكاغو مقالا في إحدى المجالات الأمريكية تحت العنوان المتقدم، جاء فيه:
لا مندوحة للإيطاليين من المقاتلة وجها لوجه في محاربتهم الأحباش كما أنهم لا مناص لهم من أن يفعلوا ذلك خمس سنوات متتابعة إذا كانت غايتهم الانتصار على الحبشة!
ومن المحتمل جدا أن يقتحموا البلاد من «مصوع» في الحدود الشمالية الشرقية ، وسرعان ما يجدون أنفسهم في مهايع من الفضاء لا نهاية لأطرافها.
ومن المحتوم عليهم إنشاء الطرق قبل أن يتقدم الجيش في زحفه، ومثل هذا لا بد من إجلاء القبائل حتى يأمنوا مواصلة العمل لإنشاء تلك الطرق، والطيارات في هذه الحالة لا جدوى منها البتة لأولئك الغزاة اللهم إلا للاستكشاف والاستطلاع؛ إذ ليست هناك مدن أو شبه مدن تستحق إلقاء القنابل عليها. حينئذ تصبح الدبابات أيضا عديمة المنفعة!
وبديهي أن يواصل الإيطاليون زحفهم بينما الشهور تمر تباعا، حتى يقبل فصل الأمطار فيشلهم عن جميع حركاتهم ولا يبقى إلا المقاتلة وجها لوجه.
نعم؛ يستطيع الإيطاليون أن يستولوا على إثيوبيا، وتستطيع ذلك أية دولة عصرية، ولكن لا مناص للسنيور موسوليني من مواصلة الجهاد خمسة أعوام على الأقل يتولى خلالها «الشيطان» إنفاق مالية إيطاليا! (7) لجنة الثلاثة عشر لعصبة الأمم «في برقية من جنيف في 27 سبتمبر»: عقدت لجنة الثلاثة عشر المؤلفة من جميع أعضاء مجلس عصبة الأمم ما عدا العضو الإيطالي لوضع تقرير عن النزاع بين إيطاليا والحبشة اجتماعها الأول صباح اليوم.
وانتخب السنيور مدرياجا رئيس لجنة الخمسة رئيسا لها، وبعد أن أخذت علما بتلغراف إمبراطور الحبشة المؤرخ في 25 سبتمبر الذي طلب فيه إيفاد لجنة دولية إلى الحبشة لمراقبة أي من الفريقين يشرع في الاعتداء وضعت صيغة الرد الذي سينشر غدا، ثم قررت برنامج أعمالها.
وقد قررت أيضا أن ترسل برقية شكر إلى إمبراطور الحبشة بسحبه الجنود الحبشية مسافة 20 كيلومترا وراء الحدود رغبة منه في اجتناب الحوادث.
وقالت لجنة الثلاثة عشر في ردها على ما طلب إمبراطور الحبشة من تعيين لجنة من المراقبين إنها ستدرس هذا الطلب بكل عناية لترى إذا كانت الظروف القائمة تسمح للمراقبين بأن يقوموا بالمهمة المطلوبة منهم، وقد قررت في 2 أكتوبر عدم إمكان تلبية هذا الطلب.
ويقال إن اللجنة عهدت إلى ثلاثة من الخبراء في درس الموضوع، وهم: المسيو سان كانتان الفرنسوي، والمستر تومسون الإنجليزي، والسنيور لوبيز أوليفان الإسباني.
ويتضمن قرار المجلس الخاص بالعمل طبقا للفقرة الرابعة من المادة الخامسة عشرة من عهد العصبة، إعداد تقرير يشتمل على بيان بالحقائق الخاصة بالنزاع والتوصيات التي يراها عادلة وواجبة في هذا الصدد.
وليست هذه أول مرة قرر المجلس اتباع هذه الخطة، بل سبق له من قبل أن اتخذ مثل هذا الإجراء في حرب «جران شاكو» وفي النزاع الذي وقع بين اليابان والصين.
وستظل دورة انعقاد الجمعية العمومية لعصبة الأمم مستمرة إلى أن ينجلي الموقف بشأن النزاع الإيطالي الحبشي بعض الجلاء.
وقد قرر مكتب العصبة في اجتماعه بعد ظهر اليوم أن يقترح ذلك على هيئة الجمعية في جلستها غدا كي يكون في المستطاع دعوة الجمعية إلى الاجتماع في خلال 24 ساعة. (8) المادة الخامسة عشرة من عهد عصبة الأمم
قررت عصبة الأمم معالجة المشكلة الحبشية على أساس المادة 15 من العهد، وتحول مجلس العصبة إلى لجنة لهذا الغرض، فرأينا من المفيد أن نورد نص هذه المادة ليكون القراء على بينة من الأمر، وهي:
إذا وقع بين أعضاء العصبة خلاف يحتمل أن يؤدي إلى انشقاق، وإذا كان هذا الخلاف لم يعرض لإجراءات التحكيم أو التسوية القضائية وفاقا لأحكام المادة 13؛ فأعضاء العصبة يتفقون على عرضه على المجلس. وفي هذه الحالة يكفي أن يبلغ عضو منهم السكرتير العام أمر هذا الخلاف، فيأخذ جميع التدابير اللازمة لإجراء تحقيق وفحص كاملين.
ويجب على الفريقين المتنازعين أن يبسطا لسكرتيرية العصبة في أقصر وقت موضوع قضيتهما مع جميع الحوادث والمستندات، ويستطيع المجلس أن يأمر بالإذاعة المباشرة.
ويسعى المجلس لتسوية الخلاف، فإذا أفلح فإنه ينشر بالطريقة التي يراها مناسبة بيانا يوضح الوقائع مع نصوص هذه التسوية.
وإذا لم يكن من المستطاع تسوية هذا الخلاف فالمجلس يضع إنذارا يقترع عليه إما بالإجماع وإما بأكثرية الأصوات، ويبسط فيه ظروف الخلاف والحلول التي يوصي بها ويراها أقرب إلى الإنصاف.
وكل عضو من العصبة ممثل في المجلس يستطيع نشر بيان عن الخلاف يضمنه آراءه الخاصة.
وإذا قبل تقرير المجلس بالإجماع فلا يحسب لاقتراع مندوبي الدولتين المتنازعتين حساب في هذا الإجماع، ويتعهد أعضاء العصبة بألا يلجأوا إلى الحرب ضد أي فريق يمتثل لأحكام الاتفاق.
وفي حالة فشل المجلس في حمل جميع الأعضاء على قبول تقريره - ما عدا مندوبي الدولتين المتنازعتين - يحتفظ أعضاء العصبة بحق العمل كما يرونه ضروريا لضمان الحق والعدل.
وإذا ادعى فريق من المتنازعين وإذا تراءى للمجلس أن الخلاف يتناول مسألة يتركها الحق الدولي لاختصاص هذا الفريق وحده، فإن المجلس يثبت ذلك في تقريره ولكن بدون أن يوصي بأي حل.
يستطيع المجلس في جميع الحالات المنصوص عنها في هذه المادة أن يعرض الخلاف على هيئة العصبة، ويجب إبلاغ العصبة أيضا أمر الخلاف بطلب من أحد الفريقين المتنازعين، وهذا الطلب يجب أن يقدم في مدة 14 يوما تبتدئ من تاريخ عرض الخلاف على المجلس.
وفي كل قضية تعرض على العصبة تطبق أحكام هذه المادة والمادة 12 الخاصة بسلطة المجلس على سلطة هيئة العصبة، ومعلوم أن تقريرا تضعه الجمعية بموافقة مندوبي أعضاء العصبة الممثلين في المجلس وأكثرية أعضاء العصبة الآخرين - مع استثناء مندوبي الفريقين المتنازعين - يكون فعله كفعل تقرير يضعه المجلس ويوافق عليه بإجماع آراء أعضائه ما عدا مندوبي الدولتين المتنازعتين. (9) اتفاق سري بين إنجلترا وإيطاليا «في برقية بتاريخ 28 سبتمبر سنة 1935
2
من روما»: أن السنيور موسوليني صرح في حديث له مع مكاتب جريدة البتي جورنال الفرنسوية أنه وقع في عام 1925 مع سفير إنجلترا السير رونالد غرايهام عقدا يقضي بتقسيم الحبشة تقسيما فعليا.
وننشر فيما يلي نص مذكرة رفعها سفير بريطانيا في روما إلى الحكومة الإيطالية باسم حكومته فيها مقترحات مختلفة سياسية واقتصادية خاصة بموقف بريطانيا وإيطاليا في الحبشة، والمقترحات الاقتصادية هي الغالبة. وإليك نص المذكرة نقلا عن مجلة الشئون الدولية؛ وهي مجلة ربعية أمريكية عالية المقام:
لذلك لي الشرف بناء على تعليمات وزير خارجية جلالة الملك أن أطلب إلى سعادتكم تأييدكم ومساعدتكم في أديس أبابا قبل الحكومة الحبشية للحصول على امتيازكم لحكومة جلالته - الحكومة البريطانية - ببناء سد على بحيرة تانا مع حق بناء طريق للسيارات لنقل العمال والموظفين ومئونتهم من حدود السودان إلى السد.
يقابل ذلك أن حكومة جلالته مستعدة أن تؤيد الحكومة الإيطالية في الحصول من الحكومة الحبشية على امتياز ببناء سكة حديدية من حدود الأريتريا إلى حدود الصومال الإيطالية، ويكون من المفهوم بيننا أن سكة الحديد هذه وكل ما يلزم لها من الأعمال لبنائها وتسييرها يكون لها حق مطلق في اجتياز طريق السيارات التي أشير إليها في الفقرة السابقة.
فتحقيقا لهذين الغرضين يصبح من الضروري أن يبعث بتعليمات متماثلة لممثلي بريطانيا وإيطاليا في الحبشة؛ ليعملا مشتركين أمام الحكومة الحبشية للحصول على الامتيازات التي ترغب فيها حكومتا بريطانيا وإيطاليا في بحيرة تانا، وبناء سكة الحديد التي تصل الأريتريا بالصومال الإيطالي، ولكي يكون منح هذين الامتيازين في وقت واحد. فإذا فازت إحدى الحكومتين بامتيازها الخاص الذي تسعى إليه وأخفقت الأخرى يتعين على الحكومة التي فازت بما تطلب أن لا تتهاون في سعيها الحثيث لتحقيق ما تطلبه الحكومة الأخرى.
فإذا تم لحكومة جلالة الملك - بريطانيا - بمساعدة حكومة إيطاليا القيمة الحصول على الامتياز الخاص ببحيرة تانا من الحكومة الحبشية، فهي - أي حكومة بريطانيا - مستعدة أن تعترف بإنشاء منطقة نفوذ اقتصادي إيطالية في غرب الحبشة خاصة بها وفي كل المنطقة التي تجتازها سكة الحديد المذكورة آنفا، ثم إنها تتعهد بأن تؤيد طلب حكومة إيطاليا لامتيازات اقتصادية في تلك المنطقة أمام حكومة الحبشة. ا.ه.
وقد قبل السنيور موسوليني القواعد التي ذكرت في هذه الوثيقة الرسمية ولكن فرنسا عارضت فيها؛ لأن معاهدة 1906 الثلاثية تنص على منع أي اتفاق ثنائي خاص بالحبشة، ولما كان هذا الاتفاق أو مشروعه تم بين إيطاليا وبريطانيا من دون علم فرنسا، فقد عارضت فرنسا فيه وبوجه خاص لأنها لم تكن صديقة لإيطاليا حينئذ. (10) المفاوضات خارج العصبة «وفي برقية من لندن في 30 سبتمبر»: أن المكاتب الخاص في جنيف لجريدة الديلي هرالد علم أن الحكومة البريطانية لا توافق على ما تقدم به السنيور موسوليني في بيانه الذي أفضى به يوم السبت ودعاها إليه؛ وهو الدخول في مفاوضات مستقلة عن العصبة.
وقد أيدت جرائد الصباح الأخرى هذا الرأي، وصرحت بأن بريطانيا ستظل تؤيد العصبة ما بقيت أداة ناجعة وما دام الجميع يتحملون المخاطرة في سبيل السلم. (11) ما تقبله الحبشة للتسوية «وفي برقية من لندن في 23 سبتمبر»: ذكر النجاشي في حديث له مع مكاتب التيمس الامتيازات التي يمكن للحبشة أن تنزل عنها لإيطاليا؛ وهي تتفق مع مقترحات لجنة الخمسة التي قبلتها الحبشة مبدئيا، وتتلخص فيما يلي:
أولا:
النزول عن جزء من مقاطعة أوجادن في مقابل منفذ إلى البحر.
ثانيا:
النزول لإيطاليا عن جزء من مقاطعة تيجرة في مقابل دفعة مالية.
ثالثا:
فتح الحبشة أمام الدول جميعا للاستغلال الاقتصادي على قاعدة المساواة المطلقة في الحقوق.
رابعا:
إصلاح الإدارة بمساعدة المستشارين الأجانب الذين يعينهم النجاشي نفسه.
خامسا:
إعادة تنظيم البوليس وقانون العقوبات.
سادسا:
تحديد الحدود الحبشية تحديدا نهائيا وضمانها فيما بعد بواسطة إنجلترا وفرنسا وإيطاليا.
سابعا:
إعلان حياد الحبشة الذي يجب أيضا أن تضمنه الدول الثلاث.
ثامنا:
عقد قرض دولي تتولى رقابته عصبة الأمم لتيسير التقدم الاقتصادي. (12) إعلان التعبئة الحبشية وعصبة الأمم
في الأسبوع الأخير من سبتمبر سنة 1935 وزع الإمبراطور منشورات التعبئة العامة في طول البلاد وعرضها، وأعدت الطبول الكبيرة في القصر الإمبراطوري القديم - ومحيط أضخم تلك الطبول سبعة أمتار - وقد نشر عليه جلد أسد، وقد قرعه الإمبراطور بنفسه ويسمع إلى مدى 7 كيلومترات ويتردد صداه وصدى الطبول الأخرى في جوانب البلاد، وقد أعلنت التعبئة عند الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس 3 أكتوبر سنة 1935.
في جنيف
وينتظر أن يزيد عدد الجيش الحبشي بهذه التعبئة نصف مليون، ويقال إن الإمبراطور وافق على أمر التعبئة على كره منه؛ فقد عارض رءوس الحبشة في ذلك إلى الآن، ولم يوافق عليه إلا بعد مشاورة وفده في جنيف.
وفيما كان أهل أديس أبابا يعيدون عيد انقضاء فصل الأمطار أمس هطلت عليهم الأمطار.
وتتوقع دوائر الوفد الإيطالي في جنيف أن تشهر الحرب هذا الأسبوع، وقد صدر الأمر إلى قنصل إيطاليا في هرر بالسفر إلى جيبوتي حالا.
وفي تلغراف من أديس أبابا في 30 سبتمبر أن المسيو أفينول - السكرتير العام لعصبة الأمم - أبلغ التلغراف الذي ورد من النجاشي عن إعلان التعبئة العامة في الحبشة إلى جميع أعضاء مجلس العصبة الذي يحتمل أن يجتمع اليوم للنظر فيه.
وتلاحظ دوائر العصبة أن هذا التطور يزيد الضرورة القاضية بإرسال مراقبين من قبل عصبة الأمم لتحديد المسئولية في الأعمال العدائية التي ستحدث.
صورة إعلان التعبئة
أما برقية الحبشة، فقد جاء فيها ما يأتي:
لا تزال الحبشة متمسكة بحزم وثبات بأسباب السلام، وستستمر على تعاونها مع مجلس الجامعة في محاولة الوصول إلى تسوية سلمية للنزاع القائم على مقتضى ميثاق الجامعة، ولكننا مضطرون إلى لفت نظر المجلس إلى تزايد الدلائل التي تنبئ عن خطة إيطاليا العدائية بما تدأب على نقله من الجيوش والذخائر، وهذا على الرغم من ظواهر السلام الطبيعية التي توجد في الحبشة؛ ولذا فنحن نلح على مجلس الجامعة في أن يتتبع جميع الإجراءات الاحتياطية في أقرب وقت ممكن لمنع إيطاليا من الهجوم، وقد وصلت الحالة إلى حد أننا نعد مقصرين إذا أخرنا إعلان التعبئة العامة اللازمة للدفاع عن بلادنا، وإعلان التعبئة لا يؤثر في التعليمات التي أصدرناها إلى جيوشنا بالابتعاد عن الحدود مسافة معينة، ونعود فنؤكد تصميمنا على التعاون مع أعضاء الجامعة مهما كانت الظروف.
وفي تلغراف من جنيف في 29 سبتمبر، أذاعت سكرتارية الجامعة بعد ظهر أمس برقية جاءتها من الحبشة عن عدم إمكان الحكومة الحبشية إرجاء التعبئة العامة وقد وقعت هذه البرقية كالقنبلة المنفجرة في دوائر جنيف التي كانت في عطلة آخر الأسبوع؛ فألهبت أعضاء الجامعة أو موظفيها بنشاط زائد. ويبدو من هذه الظواهر أن خطة العداء بدأت في شرق أفريقيا؛ ولذا فإن مجلس الجامعة سيعقد جلسته مبكرا عن الموعد الذي حدده قبلا وهو يوم الخميس لإعداد تقريره وتوصياته، ويفهم من هذا أيضا أن جلسة الجمعية العمومية للجامعة ستعد قبل الموعد الذي كان منتظرا انعقادها فيه.
وفي تلغراف من روما في 30 سبتمبر: لم يثر النبأ القائل بإعلان التعبئة العامة في الحبشة دهشة ولم يقابل باهتمام زائد؛ فقد تحدثت عنه الصحف من أيام وأعادت وأيدت فيه.
ويمكن القول بأن هذا القرار لم يحدث أي اضطراب في الحياة العادية، أما الدوائر السياسية فتحاول ألا تعلق عليه أي أهمية، وتتسلى بقولها إن التعبئة تمت من قبل.
ومع ذلك فهم يقولون بوجه عام أن ما جرى يقرب أجل إعلان الحرب. (13) القوات العسكرية والبحرية
لمناسبة الحرب القائمة بين الحبشة وإيطاليا وترجيح مناصرة عصبة الأمم للحبشة على إيطاليا اهتم الناس بإحصاء قوات الدول. وهذا الإحصاء تقريبي؛ لأن كل دولة تحاول إخفاء حقيقة استعداداتها. ويقال إن إيطاليا تستطيع أن تجند جيشا إلى عشرة ملايين بما فيهم من تجاوزوا الخمسين ومن سن 14 و15 سنة، وإن الحبشة تستطيع أن تجند مليونا وأكثر.
وننشر فيما يلي جدولا عن الأساطيل البحرية:
بوارج وطرادات كبيرة
طرادات
مدمرات وزوارق طوربيد
جامعات الألغام
حاملات الطائرات وقائدات الفلوبتلا
غواصات
سفن صغيرة منوعة
بريطانيا 15
60
154
32
27
62
61
الولايات المتحدة 15
26
256
43
4
85
20
اليابان 10
38
120
12
4
73
15
فرنسا 9
27
65
26
32
110
90
إيطاليا 4
27
111
48
21
76
10
روسيا الشرقية 3
4
17
6
16
4
ألمانيا 6
4
26
29
4 (14) مصانع السلاح وباسيل زخاروف
راجت مصانع الأسلحة في أوروبا وأمريكا، وستقرر إنجلترا منع حظر تصدير السلاح إلى الحبشة. وقد تحدثت الصحف عن اسم «باسيل زخاروف» اليوناني المثري صاحب كازينو مونت كارلو بأنه أكبر تجار الأسلحة في أوروبا وأخطرهم، وليس يعرف له مكان، وهو يتخذ جنسيات مختلفة، وهو اسم مرعب ومتصل بأعظم الشخصيات في أوروبا، ومؤثر في البرلمانات والحكومات بذكائه وأمواله. (15) التعبئة العامة للإيطاليين
قرر الدوتشي في منتصف الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الخميس 2 أكتوبر سنة 1935 في إيطاليا تعبئة ذوي القمصان السوداء الفاشست، وقيل إن الذين تركوا مصانعهم ومكاتبهم في إيطاليا ولبوا نداء التعبئة يبلغ عددهم عشرين مليونا. وعند الساعة الخامسة والدقيقة 35 صدر النداء من مضخات ضخمة، وألقى السنيور موسوليني خطابه من شرفة قصر البندقية في روما، وكان حوله 300 ألف إيطالي. (16) خطاب السنيور موسوليني
يا رجال الثورة من أصحاب القمصان السوداء، يا رجال إيطاليا قاطبة ونساءها، يا أبناء إيطاليا فيما وراء البحار، أنصتوا؛ لقد أوشكت ساعة خطيرة في تاريخ الوطن أن تدق، إن عشرين مليون إيطالي متحدون الآن في جميع البلاد الإيطالية، وهذه أكبر مظاهرة شهدها تاريخ روما، عشرون مليون رجل إرادتهم واحدة وقرارهم واحد.
هذه المظاهر تدل على أن التجانس كامل شامل خالد بين إيطاليا والفاشية.
ولا يستطيع أن يتصور العكس في إيطاليا سنة 1935 الفاشستية غير ذوي العقول العقيمة، إن عجلة الفوز تدور منذ شهور عديدة، ولا سبيل إلى الوقوف في سبيل عزيمتنا الحازمة الهادئة؛ فليس الأمر يقف عند حد جيش يتقدم نحو غايته فحسب، بل إن الإيطاليين جميعا يتقدمون متحدين متكاتفين ما داموا في الخارج يريدون أن يوقعوا عليهم أفدح الظلم، يمنعوهم أن يفوزوا بشق من الأرض.
حين سنة 1915 ضمت إيطاليا قواتها إلى الحلفاء، وردد الجو هتاف الإعجاب، وردد في نفس الوقت وعودا عريضة، ولكن حين تم النصر الذي بذلت إيطاليا في سبيله 600 ألف قتيل ومليون جريح، وجلست إيطاليا إلى مائدة الصلح، أنكروا عليها حقها في المستعمرات، ولقد صبرنا مدى ثلاثة عشر عاما، ولقد صبرنا بالنسبة للحبشة أربعين عاما، وفي هذا الكفاية.
وقال إن القوم في عصبة الأمم بدلا من التسليم بحقوق إيطاليا يجرءون على الكلام في الجزاءات، وقال: لا أستطيع أن أسلم بأن الشعب الفرنسي سيشترك في هذه الأعمال ضد إيطاليا. وقال: إنني لا أستطيع أن أفهم لماذا تصر بريطانيا على الدفاع عن بلاد أفريقية ينعقد الإجماع على أنها خاضعة لنظام أشد ما يكون همجية، وعلى أنها غير جديرة بأن تشغل مكانا بين الدول المتمدينة، على أننا على كل حال لا نحاول أن نتجاهل المخاطر والاحتمالات التي نستهدف لها، وأود أن أقول إننا سنرد على الجزاءات الاقتصادية بالنظام والحزم والصبر، وسنرد على الجزاءات الحربية بمثيلها، ونقابل أعمال الحرب بأعمال حرب تماثلها، وعلى الدول أن لا تخدع نفسها؛ فإن الشعب يدافع عن شرفه ويذود عن مستقبله وفي مقدوره أن يصمد وسيصمد.
أيها الإيطاليون، هذا عهد مقدس - أقطعه الآن أمامكم - على أننا سنعمل جهدنا لنحصر النزاع في المستعمرات فلا ينقلب نزاعا أوروبيا.
وإنني لأضحك من الذين يتوقعون نكبة عامة، وإن كل القرائن لتدل على أن لهم أغراضا غير شريفة، ولسنا منهم.
أيها الشعب الإيطالي، لقد أثبت شجاعتك وبرهنت على قوة أخلاقك ... وضد هذا الشعب الذي يرجع له فضل الانتصارات الهامة التي فازت بها البشرية، هذا الشعب الذي أنجب كثيرين من أبطال العلوم والآداب والملاحة، ضد هذا الشعب يجرءون اليوم على الكلام في تطبيق الجزاءات ضده!
أي إيطاليا - إيطاليا الثورة الفاشستية - اسمعي صوت قرارك الحازم لجنودنا في أفريقيا الشرقية، وليسمع الجميع - أعداء وأصدقاء - صوت إيطاليا اليوم، إنه هتاف العدل! هتاف النصر. (17) بعد التعبئة الحبشية
أعلنت التعبئة عند الساعة 11 من صباح يوم الخميس 3 أكتوبر سنة 1935، واجتازت الجنود الإيطالية الحدود وألقت القنابل الجوية على عدوة، وأصدرت الحكومة الحبشية في 3 أكتوبر بلاغا قالت فيه: بدأت الحرب، وأطلقت القنابل الإيطالية على عدوة وأدجرات في شمالي مقاطعة تفري، وسقط مئات من القتلى.
والحبشان عند سفح جبل لولو، وكل حبشي لا يحارب يشنق، وبالرغم من الزحف الإيطالي فإيطاليا تزعم أنه تحوط واستيلاء على بعض المواقع! (18) ضرب عدوة
منذ يوم الأربعاء 3 أكتوبر سنة 1935 أخذ الإيطاليون يضربون «عدوة» بالمدافع، ودار القتال بينهم وبين الأحباش الذين أجسامهم قوية، والشيخوخة لا تسرع إليهم، وأبصارهم حادة، وحاسة الشم عندهم قوية، ويلبسون السراويل الضيقة كسراويل راكبي الخيل، وبلا أزرار. ويساعدهم نساؤهم، اللواتي يلبسن القميص الأبيض الطويل وقد لففن شعورهن على هيئة قبة، وهن قويات الأجسام.
والجنرال اللواء وهيب باشا القائد الألباني الأصل التركي، والي الحجاز سابقا، ومعسكر في مدينة «جيجيدا» على بعد 80كم من الصومال الإنجليزي، ويصرح بأن الحبشة مقبرة «الفاشست». (19) مقترحات منوعة لحل النزاع
كثرت الآراء والمقترحات لحل النزاع إرضاء لإيطاليا والحبشة معا، ومن ذلك أن تنزل إثيوبيا عن بعض الولايات في الأوجادين والدناكل، والأوجادين خصبة زراعية جيدة المراعي، فيها الإبل والأبقار والأغنام، وعاصمتها «أجقجقة» في آخر المقاطعة. ومن مدنها «دحج بور» وتكثر فيها السبع والنمر والفهد و«دجح هدو» و«مدد». وبالمقاطعة نهر الويبي شبالي الذي يروي الصومال الإيطالي، وسكان الأوجادين من قبائل «دارود».
والدناكل قسمان: (1) التهايم إلى الساحل وثغرها «عصب» أو «إيساب» و(2) النجود واسمها «عوصا» تشتهر بالمسلي البيلولي، و«عصب» مصحنة تحصينا قويا، على بعد 120كم من صحاري الدناكل.
ولكل من الأوجادين والدناكل صحار واسعة.
واقترحت إنجلترا أن تنزل للحبشة عن ميناء زيلع، وهي ميناء غير صالحة، فعند الجزر لا يكون ممكنا القيام بحركة ما حتى يتكامل المد، ولا بد من ردم البحر وتقديم الرصيف وإنفاق الملايين، وإذا فتحت زيلع قضي على جيبوتي وبربرة.
ويلحق بير «زيلع» مدينة «بورما»
3
عاصمة أرضي الجد أبو مرسي والعيسي، خصبة وذات مراع وبها مناجم فحم وذهب، وتقع «أوبرة» بالقرب من «بورما» وتزرع البن الأصفر الشفاف، وبها العسل واللبن، وهي باردة الهواء، وسكانها ألفان. (20) من رجال الحبشة
قنصل الحبشة ببورسعيد هو: الدكتور بلما، الدكتور مارتن، والسير تكلا هواريات. (21) اهتمام عصبة الأمم بالحرب القائمة
تلقت عصبة الأمم برقيات من إمبراطور الحبشة ومن الحكومة الإيطالية عن بدء القتال، وأهمت هذه الأخبار دوائر العصبة، فوالت اجتماعاتها.
ومعروف أن العصبة تحاول اجتناب الحرب أو وقفها، وأن معاهدة فرساي قد بدأ تنفيذها في 10 يناير سنة 1920، بعد أن وضعت في سنة 1919 للصلح بين الحلفاء وألمانيا عن حرب 1914-1918 الحرب الكبرى. (22) أسماء الدول الأعضاء في العصبة
وعدد الدول أو الحكومات المشتركة في عضوية العصبة 59 دولة أو حكومة، وهي: بريطانيا العظمى، وفرنسا، وإيطاليا، وروسيا، وألمانيا، وتركيا، وبلجيكا، والنمسا، والمجر، والدنمارك، وهولندا، وبلغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، وفنلاندا، واليونان، وأيرلندا الحرة، ولاتافيا، ولتوانيا، ونروج، وبولندا، والبرتغال، ورومانيا، وأسوج، ودوقية لكسمبرج، وألبانيا، وسويسرا، والحبشة، وأفغانستان، والعراق، والأرجنتين، وأستراليا، وبوليفيا، وكندا، وشيلي، والصين، وكولومبيا، وكوبا، وأكوادر، وأستونيا، وجواتيمالا، وهايتي، وهوندوراس، ونيكاراجوا، وباناما، وباراجواي، وإيران، وبيرو، وسانتو دومنيكو، وسان سلفادور، وسيام، وجنوب أفريقيا، وأروجواي، وفنزويلا.
وقد أعلنت بعض الدول رغبتها في الانسحاب من العصبة، وهي: البرازيل في 12 يونيو سنة 1926، وإسبانيا في 8 سبتمبر سنة 1926، واليابان في 27 مارس سنة 1933، وألمانيا في 21 أكتوبر سنة 1932، وباراجواي في 24 فبراير سنة 1935. وتقضي الفقرة الثالثة من المادة الأولى من الميثاق بأن لا يعتبر الانسحاب نافذا إلا بعد مرور سنتين من تاريخ إعلانه، وقد قررت إسبانيا العودة إلى العضوية في 22 مارس 1928، وأصبح انسحاب البرازيل نهائيا في 12 يونيو سنة 1928 واليابان في 27 مارس سنة 1935.
أما ألمانيا فبالرغم من انسحابها تظل معدودة عضوا في العصبة إلى يوم 20 أكتوبر 1935.
دوائر العصبة؛ ودوائر العصبة الرئيسية هي: (1) مجلس العصبة. (2) جمعية العصبة العمومية. (3) سكرتيرية العصبة. (4) محكمة العدل الدولية الدائمة ومقرها مدينة لاهاي. (1)
مجلس العصبة:
كان مجلس العصبة في الأصل مؤلفا من أربعة أعضاء دائمين، وهي: الإمبراطورية البريطانية، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان. وأربعة أعضاء غير دائمين ينتخبون كل سنة بأغلبية أصوات الجمعية العمومية.
ثم قررت الجمعية العمومية بأكثرية الأصوات زيادة عدد الأعضاء الدائمين وغير الدائمين في المجلس، فأصبح مجلس هذا العام مؤلفا من 14 عضوا؛ كالآتي:
أعضاء دائمون: (1) بريطانيا العظمى: ويمثلها السير صموئيل هور وزير الخارجية، أو المستر أنتوني أيدن. (2) فرنسا: ويمثلها المسيو لافال. (3) إيطاليا: ويمثلها البارون الويزي. (4) روسيا: ويمثلها الرفيق لنفنوف.
أعضاء غير دائمين: (1) الأرجنتين: ويمثلها السنيور جونيازو، وقد انتخب رئيسا للمجلس في دورته الأخيرة. (2) أستراليا: ويمثلها المستر بروس. (3) شيلي: ويمثلها المسيو ريفاس فيكونا. (4) المكسيك: ويمثلها الدكتور كاستلونا جيرا. (5) تركيا: ويمثلها توثيق روستواراس. (6) الدنمارك: ويمثلها الدكتور مونك. (7) بولندا: ويمثلها الكولونل بيك. (8) البرتغال: ويمثلها المسيو فاسكونسيللو. (9) إسبانيا: ويمثلها المسيو دي ماراياجا. (10) تشكيوسلوفاكيا: ويمثلها الدكتور أدوردنيس.
ويجتمع المجلس في ثلاث دورات في السنة؛ الأولى: في يوم الاثنين الثالث من شهر يناير، والثانية: يوم الاثنين الثاني من شهر مايو، والثالثة: في شهر سبتمبر قبل انعقاد الجمعية العمومية وبعده. (2)
الجمعية العمومية:
ويحق لكل دولة أن تمثل في الجمعية العمومية بوفد يؤلف من ثلاثة أعضاء إلى جانبهم ثلاثة أعضاء احتياطيين، ولكن يكون لها صوت واحد.
وتنعقد الجمعية يوم الاثنين الأول من شهر سبتمبر في كل عام، ويجوز لها أن تجتمع في غير جنيف، ولكنها لم تفعل ذلك حتى الآن.
وينتخب الرئيس في الجلسة الأولى، ويحتفظ بالرياسة إلى نهاية الدورة.
وتنقسم الجمعية في داخلها إلى ست لجان رئيسية، ويحق لكل دولة أن تمثل بعضو واحد في كل منها؛ وهي: (1) اللجنة التشريعية. (2) لجنة التنظيمات الفنية. (3) لجنة نزع السلاح. (4) لجنة الميزانية والموظفين. (5) لجنة الشئون الاجتماعية. (6) لجنة المسائل السياسية وقبول الأعضاء المستجدين.
ويجب أن تكون قرارات الجمعية بالإجماع إلا في الحالات التي ينص الميثاق أو معاهدات الصلح على غير ذلك. (3)
السكرتيرية:
وسكرتيرية العصبة هي هيئة دائمة، وتؤلف من السكرتير العام وعدد من الموظفين ينتخبون من رعايا الدول المشتركة في عضوية العصبة، ومن رعايا الولايات المتحدة الأمريكية وإن تكن ليست عضوا .
والسكرتير العام الحالي هو المسيو جوزيف أفينول، وقد تولى منصبه هذا في يوليو سنة 1933، وهو يعين باقي الموظفين بموافقة المجلس. (4)
محكمة العدل الدولية الدائمة:
تؤلف هذه المحكمة من 15 قاضيا، وينص نظامها بأن تظل عاملة إلا في الإجازات السنوية التي تقررها، وينتخب أعضاؤها لمدة 9 سنين من قبل الجمعية العمومية للعصبة.
ومن اختصاص العصبة منح انتداب أو وصاية للدول الأعضاء على غيرهن.
قناة السويس، وهل تغلق؟
منذ قديم الزمان فكر المصريون ومن حكموا مصر في وصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر بترعة، وكان من رأي أسرتسن الثالث من ملوك الأسرة الثانية عشرة حفر خليج يستمد ماءه من فرع النيل الشرقي «فرع دمياط»، وقد أنشأ هذا الخليج. ولكن كانت الرمال التي يجري فيها تطمره، وأعاده سيتي الأول ونخاو الثاني وبطليموس الثاني ودارا الأول، ثم أعاده عمرو بن العاص وسماه خليج «أمير المؤمنين»، ولما ولي أبو جعفر المنصور الخلافة ردم الخليج حتى لا تجري فيه المياه إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المتمرد عليه في الحجاز.
وفكر نابليون الأول وهو في مصر في إنشاء قناة تستمد ماءها من البحرين لا من النيل، وأخفق المهندس الفرنسي لابير في تحقيق الغرض بحجة أن سطح البحر الأحمر يعلو سطح البحر الأبيض المتوسط بتسعة أمتار أو عشرة. وعرضت بعثة فرنسية على «محمد علي الكبير» تحقيق المشروع؛ فأبى قائلا: «لا أريد أن أخلق في مصر بسفورا آخر.» مشيرا إلى ما أثاره بسفور تركيا من متاعب لها.
وتمكن المهندس فردناند ماتييه ديلسبس
1
نائب قنصل فرنسا في مصر من إقناع محمد سعيد باشا بتحقيق المشروع؛ فصدر ديكريتو «أمر عال» في 20 نوفمبر سنة 1854، ثم ديكريتو آخر في 5 يناير سنة 1856، ثم لائحة في 20 يوليو سنة 1856 بالمضي في المشروع وشروطه. ومن مواد الامتياز:
أن تتألف شركة مدة امتيازها 99 سنة تبدأ من افتتاح القناة، وبعد المدة تصبح ملكا للحكومة المصرية، وتحفر الشركة ترعة عذبة تخرج من النيل عند القاهرة، ولها فرعان عند الإسماعيلية: فرع إلى الشمال إلى بورسعيد، وفرع إلى الجنوب إلى السويس. وتكون الترعة ملكا للشركة، وتمنح الحكومة للشركة - بدون مقابل - الأراضي البور التي تحتاج إليها الشركة لمهمتها في حفر القناة وإقامة المباني، وأن يكون أربعة أخماس عمال الحفر من المصريين، وتعطي الشركة لهم أجرا: قرشان لمن دون الثانية عشرة، وقرشان ونصف أو ثلاثة للأكبر سنا. وتلزم الحكومة بتقديم العمال «20 ألفا» وإلا لزمها التعويض، وتكون الشركة مصرية تخضع لقوانين البلاد، وتقسم أرباحها: 15 في المائة للحكومة المصرية بعد خصم فوائد أموال المساهمين بنسبة 5 في المائة لمؤسسي الشركة، و75 في المائة للمساهمين والمديرين والعمال، وتكون القناة حرة لنقل أية سفينة تجارية بغير استثناء بشرط دفع الرسوم المقررة، وكان الباب العالي معارضا في المشروع، وكذلك عارض الإنجليز بشدة بحجة أن القناة ستكون خطرا على الهند وتعطي نفوذا لفرنسا.
وفتح ديلسبس باب الاكتتاب في أسهم الشركة - وقدرها 400000 سهم - ثمن السهم 500 فرنك، والثمن كله 200 مليون فرنك. اشترت فرنسا الجزء الأكبر واشترى سعيد الجزء الباقي.
ووضع الفأس الأول ديلسبس في بورسعيد، وفتح باسم «شركة قناة السويس البحرية العامة». وقد ساعد سعيد باشا ديلسبس، فنزل عن حقوق الحكومة في القناة، وأرسل العمال مسخرين لا مأجورين.
سعيد باشا الذي منح امتياز قناة السويس.
إسماعيل باشا الذي افتتح القناة.
ولما ولي الخديو إسماعيل باشا قال: «أريد أن تكون القناة لمصر، لا مصر للقناة.» وأصلح كثيرا من الأخطاء والنزول الذي فعله سعيد باشا، فقام نزاع بين ديلسبس والشركة من جهة وبين الخديو إسماعيل، وقبل الخديو تحكيم صديقه الإمبراطور نابليون الثالث؛ فقضى نابليون لمصلحة الشركة على حساب مصر، قضى لها بتعويض 3360000 جنيه ثمنا للأراضي التي كانت بين الشركة وصارت للحكومة، وثمنا لنزول الشركة عن حق حفر الترعة العذبة، وعن إلزام الحكومة بتقديم العمال.
وصدر فرمان سلطاني في مارس سنة 1866 بناء على كتاب إسماعيل في فبراير سنة 1866 بقبول المشروع.
واحتفل إسماعيل بافتتاح القناة في 17 نوفمبر 1869، وبلغت نفقات الاحتفال 1400000، وتكلفت مصر 16 مليون جنيه في سبيل القناة.
ومجلس الإدارة في باريس، وأعضاؤه: 21 فرنسيا، و10 إنجليز، وهولندي واحد. وليس به مصري واحد.
وباعت الحكومة سنة 1875 أسهمها في شركة القناة لإنجلترا بأربعة ملايين جنيه، وأصبح ثمنها 52 مليون جنيه إنجليزي سنة 1932.
وربحت إنجلترا 43 مليون جنيه إنجليزي من تاريخ الشراء إلى سنة 1932، وأصبح ما تملكه إنجلترا يعادل 44٪.
وكان دزرائيلي - رئيس الوزارة الإنجليزية - هو صاحب فكرة شراء الأسهم من إسماعيل باشا، وتم الشراء بمساعدة بنك روتشيلد سنة 1875، وكانت العملية رابحة ماليا وسياسيا، وقد نص قانون الشركة على أنه: «يجب أن تظل القناة مفتوحة في جميع الأوقات وكل الظروف.»
واحتفل بافتتاح القناة في 17 نوفمبر سنة 1869، ومدة الامتياز 99 سنة، وينتهي في 17 فبراير سنة 1968. وقد جرت محاولات قبل الحرب الكبرى في عهد وزارة بطرس غالي باشا، وفي عهد خلفه محمد سعيد باشا لإطالة أمد الامتياز لمدة أربعين سنة أخرى، وجرت محاولات أخرى عقب الحرب في سنة 1922، وفي عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا سنة 1931، ولكنها لم تفلح، والرأي العام في مصر يعارض المعارضة كلها في إطالة أجل الامتياز.
ولم تقل الأرباح حتى في سني الأزمة في أثناء الحرب؛ حيث قل عدد السفن التي كانت تجتاز القناة عن 13 في المائة. وفي سنة 1927 بلغت الأرباح 37 في المائة. •••
وقد نصت اتفاقية استانبول سنة 1888 على أن كل عمل حربي محظور في ماء القناة، بل يجب أن تظل القناة ممرا لجميع البواخر مهما كانت جنسيتها، وليس للشركة حق منع حرية مرور أي سفينة حربية أو تجارية ولو استخدمت لنقل الجيوش والأسلحة والمهمات. على أن قانون الشركة قد نص على «أن الشركة تحتفظ بحق منع استخدام القناة بالنسبة لكل سفينة من شأنها أن تسبب خطرا للملاحة.» ولكن الشركة لم تلجأ إلى تطبيق هذا النص، حتى إنه في الحرب الروسية اليابانية سنة 1904 استطاع قسم من الأسطول الروسي المرور من القناة والذهاب إلى الشرق الأقصى، واستطاعت إيطاليا أن ترسل جنودها لتأديب الثائرين في أريتريا والصومال، وأن تنقلهم سفن اجتازت القناة.
وقد ظلت القناة في خلال الحرب الكبرى بين سنة 1914 وسنة 1918 مفتوحة أمام السفن الألمانية وفي وجه المتحاربين والمحايدين على السواء، ولكن الشركة قد منعت بعض السفن الألمانية التي أرادت الالتجاء إلى القناة في أوائل الحرب أن ترسو فيها، وحرمت بقاء السفن في مراسيها أكثر من المدة المنصوص عليها.
حيدة القناة واتفاق سنة 1888
أثار التهديد بإغلاق القناة في وجه سفن إيطاليا البحث في حيدة القناة المقررة باتفاقية سنة 1888، وقد عهد مجلس الوزراء المصري إلى حضرة صاحب السعادة الدكتور عبد الحميد بدوي باشا رئيس قضايا الحكومة ببحث هذه المعاهدة، وعقد مجلس الوزراء في شهر سبتمبر واستمع لمذكرة وضعها بدوي باشا في هذا الصدد؛ لتعيين مركز مصر بمقتضى المعاهدة.
شركة القناة وسلطتها
وقد نشرت مجلة الإيكونومست الإنجليزية بحثا عن قناة السويس ومسألة إغلاقها، ننشره فيما يلي بمناسبة الضجة القائمة الآن حول إغلاق القناة:
2
في سنة 1856 منح والي مصر امتيازا مدته 99 عاما يبتدئ من تاريخ انتهاء بناء القناة:
Société Univérsélle du canal Maritime de Suez .
التي أنشأها فردنان ديلسبس، وهذه الشركة مصرية مركزها الرئيسي في باريس، فهي تخضع للقوانين الفرنسية والمصرية، ويديرها مجلس إدارة مكون من 32 عضوا منهم 21 فرنسيا و10 بريطانيين - منهم 3 تعينهم الحكومة البريطانية - وواحد هولندي.
ويبلغ عدد الأسهم الصادرة 800000 سهم، يمتلك البريطانيون منها 353204 سهم؛ أي ما يزيد بقليل على 44 في المائة نتيجة لشراء الحكومة البريطانية للأسهم التي خصصت للحكومة المصرية طبقا لعقد الامتياز، وعدد هذه الأسهم 176602 سهم، وعلى ذلك تكون أكبر وحدة هي التي تملكها بريطانيا والباقي موزع بين أفراد أكثرهم فرنسيون.
وليست لهذه الشركة حقوق سياسية؛ فالقناة جزء من الأراضي المصرية، وقد اعترفت الشركة في سنة 1866 بحق الحكومة المصرية في حراستها والدفاع عنها بشرط أن لا يتعارض ما يتخذ من إجراءات في هذا السبيل مع حرية الملاحة، وقد فرض على الشركة بمقتضى المادتين 14 و15 من امتياز سنة 1856 أن تبقى القناة مفتوحة بصفة ممر محايد لأي سفينة تجارية، على أن امتياز سنة 1856 هذا لم يكن إلا اتفاقا بين مصر والشركة، فكان من الممكن لأي دولة تدخل في حرب مع الإمبراطورية العثمانية أن تهاجم القناة، وقد تقدمت عدة اقتراحات من دول مختلفة ترمي إلى وضع نظام دولي لضمان حريتها، واجتهدت الحكومة البريطانية في سنة 1882 - في أثناء الثورة العرابية - في الحصول على تدخل مشترك من الدول لشد أزر الحكومة المصرية، ولكن فرنسا ترددت؛ فأنزل البريطانيون في سنة 1881 جيوشهم وأرسلوها عن طريق القناة ضد عرابي، وظلت القناة مقفلة عدة أيام.
اتفاقية سنة 1888
وبعد ذلك عقدت بريطانيا، وألمانيا، والنمسا، والمجر، وإسبانيا، وفرنسا، وهولاندا، وروسيا، وتركيا بمؤتمر القسطنطينية اتفاقية في 29 أكتوبر سنة 1888.
المادة الأولى: «إن قناة السويس البحرية تظل دائما حرة ومفتوحة، وقت الحرب أو السلم، لكل سفينة تجارية أو حربية بدون تمييز بين الجنسيات؛ ولذلك اتفقت الدول المتعاقدة على عدم التدخل في حرية استعمال القناة في زمن الحرب أو السلم على السواء كما أنها لن تكون عرضة لاستعمال حق الحصر.»
وجاء في المادة الرابعة: «بما أن القناة ستظل مفتوحة في وقت الحرب كممر حر حتى للسفن الحربية المملوكة للمتحاربين؛ فإن الدول المتعاقدة قد اتفقت على ألا يمارس «حق الحرب» ولا يقام «بعمل عدائي» لا في القناة ولا في دائرة قطرها ثلاثة أميال من موانئ الدخول؛ وذلك ولو كانت الإمبراطورية العثمانية أحد المتحاربين.»
وأخيرا، قضت هذه الاتفاقية بأن يعهد إلى موقعيها من وكلاء الدول المقيمين في مصر، ملاحظة ضمانات حرية الملاحة في القناة، كما قضت بأن مصر تتولى الدفاع عن القناة. فإذا لم يتيسر لها الوسائل اللازمة فلها أن تلتجئ إلى تركيا التي «عليها أن تشاور الدول في هذا الصدد إذا لزم الأمر».
على أن بريطانيا وضعت تحفظا عاما فيما يختص بفقرات الاتفاقية التي تشير إلى الملاحظة الدولية، فقررت أنها توافق «بشرط أن الملاحظة الدولية لا تتعارض مع حالة مصر الراهنة المؤقتة والاستثنائية»، وبشرط ألا تتدخل في المصالح البريطانية في ذلك القطر. ومنذ ذلك الوقت ووفق من حيث المبدأ على حق السفن الحربية الأمريكية والإسبانية في استعمال القناة، كما سمحت بريطانيا في سنة 1904 وسنة 1905 للسفن الحربية الروسية باستعمال القناة في طريقها لمحاربة اليابان، وكذلك استعملتها السفن الحربية الإيطالية في الحرب الإيطالية العثمانية سنة 1911 على الرغم من أن مصر كانت وقتئذ جزءا من الدولة العثمانية.
الحرب وما تلاها
في 15 أغسطس سنة 1914 أعلنت الحكومة المصرية أنها رخصت للسلطات الحربية البريطانية بممارسة حق الحرب في الموانئ والأراضي المصرية، وأصدر القائد العام للجيوش البريطانية أمرا بمنع أية سفينة من سفن الأعداء من الدخول في القناة، على أن الحرب بين تركيا - التي كانت صاحبة السيادة على مصر وقتذاك - وبين بريطانيا المحتلة لمصر لم تبدأ إلا من 5 نوفمبر سنة 1914. وفي ديسمبر سنة 1914 أعلنت بريطانيا الحماية على مصر «نظرا إلى حالة الفتن الناشئة من عمل تركيا»، وحصنت القناة ودافعت عنها، وفضلا عن ذاك فإن البحرية البريطانية مارست العمل في الأميال الثلاثة بحجة أن السفن التي تسير في القناة قد تكون حاملة لمواد هدمها، وكان يمكن نقل المواد المهربة التي يحتمل العثور عليها أثناء هذا التفتيش عن طريق القناة بدون معارضة غير أن السفن البريطانية كانت تصادرها في الحال خارج حدود ثلاثة الأميال.
ومهما كان من اختلاف وجهات النظر بالنسبة لحق مصر وبريطانيا في تغيير اتفاقية سنة 1888 بهذا الشكل أبان الحرب، فإن معاهدات الصلح بعد الحرب اعترفت بهذه الاتفاقية، كما وقعتها ألمانيا وتركيا والنمسا والمجر - ولا تزال سارية المفعول - ووافقت الدول المنهزمة على نقل السلطات الخاصة التي منحت للسلطان بمقتضى هذه الاتفاقية إلى بريطانيا، كما اعترفت المعاهدات بالحماية البريطانية التي فرضت على مصر. على أنه في معاهدة لوزان سنة 1923 تنازلت تركيا فقط عن «جميع الحقوق والسيادة أية كانت، على المناطق الواقعة خارج الحدود». المبينة في المعاهدة، وتركت تسوية المسائل التي قد تثار من جراء الاعتراف بالحماية البريطانية على مصر إلى «مفاوضات تجري بعد ذلك بطريقة تبين فيما بعد بين الدول التي يهمها الأمر».
فالمسألة حينئذ هي: هل بريطانيا ومصر هما فقط الدولتان اللتان يهمهما الأمر أو كل الدول التي وقعت اتفاقية سنة 1888؟
وقد أنهت الحكومة البريطانية في سنة 1922 الحماية على مصر، وأعلنت أن مصر «دولة مستقلة ذات سيادة» على أنها احتفظت احتفاظا مطلقا بما يأتي: (أ)
تأمين المواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر. (ب)
الدفاع عن مصر ضد كل تدخل أجنبي، أو اعتداء مباشر أو غير مباشر. (ج)
حماية المصالح الأجنبية والأقليات في مصر. (د)
السودان.
ولم تقبل الحكومة المصرية هذه التحفظات، ولكن من الواضح أن هذه التحفظات تشمل حماية قناة السويس بواسطة بريطانيا.
إذن فمصر من وجهة إقليمية ذات سيادة على القناة، ولكنها ليست طرفا في اتفاقية سنة 1888 لضبط الملاحة في القناة، وليست عضوا في جمعية الأمم، وقد احتفظت بريطانيا - تصريحا في سنة 1922 وضمنا في عدة مناسبات منذ ذلك الوقت - بحق الدفاع عن القناة الذي نالته بعد الحرب؛ نتيجة للاعتراف بالحماية البريطانية على مصر.
عهد الجامعة واتفاقية سنة 1888
هل يحل عهد العصبة محل اتفاقية سنة 1888 إذا وجد خلاف بينهما؟
طبقا لنص المادة ال 20 من عهد الجامعة اتفق الأعضاء على إلغاء كل التعهدات أو التفاهم الذي بينهم إذا كان لا يتفق مع نصوص العهد، كما تعهد الأعضاء في المادة نفسها باتخاذ إجراءات عاجلة بإبراء ذممهم من كافة التعهدات السابقة التي لا تتفق مع نصوص العهد.
ويدافع عدد كبير ذو خطر من المحامين الدوليين عن وجهة النظر القاضية بأن نصوص عهد العصبة يجب أن تنفذ إذا ما وجدت اختلافات، الأمر المنتظر حدوثه إذا بدئ في توقيع «العقوبات» تطبيقا لنص المادة 16 من العهد واستلزم ذلك إقفال قناة السويس ضد دولة معتدية مخالفة بذلك لنصوص اتفاقية سنة 1888. وفضلا عن ذلك فإن كل الدول التي وقعت اتفاقية سنة 1888 هي أعضاء في جامعة الأمم، وتعطيل تنفيذ «العقوبات» بالاستناد إلى اتفاقية سابقة بين هؤلاء الأعضاء هي في الوقت نفسه مخالفة لنصوص عهد الجامعة، فيه عبث بأغراضها وإضاعة للقصد الذي أنشئت من أجله، غير أن إيطاليا من ناحية أخرى يمكنها أن ترفع مسألة إقفال القناة إلى محكمة العدل الدولية الدائمة، وفي هذه الحالة يحتمل أن تبحث هذه المحكمة في الوضع القانوني الدقيق للعلاقات بين بريطانيا ومصر، وبالرغم من أن بريطانيا أعلنت في سنة 1922 احتفاظها بحق اعتبار علاقاتها مع مصر مسألة لا يمكن أنه تطرقها أية دولة أجنبية.
هل إغلاق القناة ضروري؟
تلخص نشرة الأخبار الدولية المسألة العملية - بالمقارنة مع المسألة القانونية - التي تنشأ عن إغلاق القناة، فتقول: إن إقفال القناة معناه وجود القدرة على تنفيذ الإقفال، وبما أن الإقفال سيقرر على الأرجح من الجامعة ضد الدولة المعتدية؛ فإن تنفيذه معناه الاستعداد للحرب في البحرين الأحمر والأبيض المتوسط. •••
ونشرت جريدة الصندي تيمس المقال التالي في صدد مسألة إغلاق القناة: قال السير إدوارد جراي في يوليو سنة 1910 - أي منذ 25 سنة - في مجلس النواب البريطاني: «إن امتياز ترعة السويس مسألة معقدة كل التعقد ويجب بسطها.» وفي مدة الخمس والعشرين سنة التي مرت منذ ما قيل هذا القول حدثت حوادث كثيرة للشركة ولمساهميها ولعملائها، وبعض تلك الحوادث بسطت الموقف وبعضها زادته غموضا وإبهاما. وغرض هذه المقالة بيان الموقف بلا تعليق ولا محاجة.
الشركة من الوجهة التجارية
شركة ترعة السويس شركة دولية قامت على امتياز منحته السلطة العثمانية القديمة مدة 99 سنة بعد فتح الترعة، وقد افتتحت رسميا في 17 نوفمبر سنة 1869، فينتهي الامتياز لذلك في 17 نوفمبر سنة 1968، وبذلت المساعي قبل الحرب لمد الامتياز 40 سنة أخرى - أي إلى سنة 2008 - فلم تنجح؛ فمقام الشركة لا يزال إلى الآن مركز مستأجرة لاحتكار تدنو نهايته.
وقد كان هذا الاحتكار - فعلا - عظيم الربح إلى درجة تفوق المعتاد؛ ففي السنتين الأولى والثانية أو في السنوات الثلاثة الأولى من تأليف الشركة لقيت أمامها بعض المصاعب، ولكنها ما فتئت بعد ذلك توزع ربحا منتظما على المساهمين كل سنة.
وكان هذا الربح 28 في المائة سنة 1904 و33 سنة 1913، ثم هبط إلى 13 في المائة سنة 1917 التي كانت أعظم سني الحرب، ثم عاد فارتفع على التوالي بعد الحرب حتى بلغ 37 في المائة سنة 1927.
وبلغ من عظم ربح هذا العمل أن أصحاب البواخر - وهم المصدر الوحيد لذلك الربح - احتجوا على فداحة رسوم الترعة وعززوا حجتهم هذه بقولهم أن أزمة الملاحة لم تؤثر في نجاح الشركة.
ومما يجدر ذكره هنا أن الحكومة البريطانية التي اشترت 44 في المائة من الأسهم مدة رياسة دزرايلي - اللورد بيكنسفيلد فيما بعد - سنة 1876 بمال قدره أربعة ملايين جنيه قدرت سعر السوق لتلك الأسهم سنة 1932 بمبلغ 52 مليون جنيه، وكانت في خلال 56 سنة (1876-1932) قد تناولت 43 مليون جنيه ربحا وفوائد.
الشركة من الوجهة السياسية
3
حدد موقف الشركة السياسي بمعاهدة استانبول سنة 1888، فحرمت بموجبها «أعمال العداء» في مياه الترعة، وقضت بجعل الترعة ممرا لجميع المحاربين، فيلوح من ذلك أن الشركة بوصف كونها شركة، مقيدة بقبول نقل الجنود والنقالات والسفن الحربية في الترعة. وقد تستطيع الاعتراض - طبقا لقوانين الملاحة التي لها - على نقل بعض أصناف الميرة والذخيرة بحجة «أن الشركة تحتفظ بحق منع السفن التي قد تعد خطرا على الملاحة عامة من المرور في الترعة». ولكنها لم تعمل بهذا الحق إلى الآن.
وشاهدنا على ذلك مرور جزء من الأسطول الروسي في حرب روسيا واليابان سنة 1904 في الترعة ذاهبا إلى الشرق الأقصى.
وعملت إيطاليا بهذه السابقة في حملتها الحاضرة إلى أريتريا والصومال، ولم يتغير الموقف تغيرا جوهريا حتى إن الحرب العالمية لم تغيره. •••
ولما كانت الترعة حلقة حيوية في الإمبراطورية البريطانية تولى الجيش البريطاني والبحرية البريطانية حمايتها وأقيمت بعض الحصون على ضفتيها، وقد تعد هذه الحصون من الوجهة الفنية مخالفة للمعاهدة لأنها عدت الترعة بقعة غير محصنة، ولكن هذه الحصون وجدت لازمة فعلا لحماية الترعة من هجوم المعتدين.
ولم تقفل الترع في وجه السفن الألمانية في الحرب، بل إن هذه السفن لجأت إليها محتمية سنة 1914 فلم تحجزها القوات الإنجليزية التي كانت تحمي الترع ولا هاجمتها، ولكنها أنذرت بأنه ليس في الترعة «حق ملجأ» وأن المرور الحر فيها هو مرور حر لا أكثر من ذلك، وما يحدث للسفينة الألمانية عند خروجها من الترعة ليس من شئون الشركة.
وقد رأى الإنجليز أنك ما دمت في الترعة فإنك لا تصاب بأذى، وحالما تخرج منها يجب عليك ألا تعمل ضررا. •••
ولم يكن في ذلك الزمان جامعة أمم ولا عهد جامعة ولا نهي جامعة
Interdict
وهذا الأخير هو المادة السادسة عشرة المشهورة، وهذا نصها:
إذا عمد أحد أعضاء الجامعة إلى حرب غير عابئ بعهدها وبالمواد 12 و13 و15 منه عد لذلك مرتكبا لعمل حربي ضد سائر أعضاء الجامعة، وفي هذه الحالة يتعهد هؤلاء الأعضاء بأن يعرضوه لقطع كل تجارة معه أو أي علاقة مالية، ومنع كل أخذ وعطاء بين رعاياهم ورعاياه، وكل معاملة مالية أو تجارية أو شخصية بين رعاياه ورعايا أي دولة سواء كانت عضوا في الجامعة أم لم تكن.
ويلوح أن هذا التحديد الشامل جدا يتناول ترعة السويس، صحيح أن الشركة ليست عضوا في الجامعة ولا دولة ولا تابعة لدولة
National
بل شركة تعمل للربح من النقل؛ فهي تشبه لذلك جسرا تمر الناس عليه ويدفعون رسم مرور، ولكن مستخدميها رعايا دول مختلفة
Subjects
وليسوا رعايا الترعة
Citizens .
أما المادة 16 من عهد الجامعة فنهي أو حرم بمعنى الحرم البابوي - بكسر الحاء وسكون الراء - في القرون الوسطى لأنها كما هي الآن تحرم على قسيس فرنسوي في بورسعيد أن يعرف - بتشديد الراء - بحارا إيطاليا بعد إعلان تنفيذها؛ لأن المادة لم تفرق بين التعامل الزمني والروحي، ولا ريب أن «الاعتراف والحل» معاملة شخصية كما ورد في المادة.
وغني عن البيان أن كون الحكومة البريطانية مالكة لمقدار 44 في المائة من أسهم الشركة لا يؤثر من الوجهة العملية في الشركة تأثير تصريح 28 فبراير سنة 1922 في مصر؛ فإن ذلك التصريح جاء بعد سعي جديد من وزارة الخارجية البريطانية لمد أجل امتياز الترعة 40 سنة، ولما لم يتفق على ذلك صرحت الحكومة البريطانية بأن علائقها بمصر «حيوية للإمبراطورية البريطانية» وتحفظت ببعض المسائل والتحفظات الأربعة المعروفة.
وأول هذه التحفظات «سلامة المواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر» وهذه الجملة تشير إشارة واضحة إلى ترعة السويس وتتناولها.
وبناء على ما تقدم أعلنت الحكومة البريطانية رسميا - والحكومة البريطانية وحدها - مصلحتها الخصوصية في الترعة بوصف كونها أمينة على الإمبراطورية، ولما كانت عضوا في جامعة الأمم فإنها تستطيع أن تدنو من هذا الموضوع من زاوية أخرى، ولكنها لا تستطيع أن تشرح مبادئ ونظريات أخرى.
لذلك يلوح أن لا مفر من هذه النتيجة، وهي أنه إذا أريد إنفاذ المادة 16 وفرض عقوبات؛ فإن معاهدة ترعة السويس تعلق ويحل محلها العمل الذي تشير جامعة الأمم به، فيقع تنفيذ الحكم بالضرورة على الحكومة البريطانية بموجب القانون الدولي.
كيف أغلقت بريطانيا القناة سنة 1882
اشتدت الثورة العرابية المشئومة على مصر في سنة 1882 حتى تدخلت إنجلترا وفرنسا بالقول أولا، ولما تخلت فرنسا لإنجلترا بانسحاب أسطولها من ميناء الإسكندرية انتهزت إنجلترا الفرصة للعمل على تنفيذ نياتها المشتهاة من مائة سنة - كما قال اللورد ملنر للمرحوم سعد باشا في المفاوضات الأولى - فضربت حصون الإسكندرية بقنابل مدافعها لغير سبب ظاهر، واستعدت للهجوم على جيش العرابيين، وكل ذلك بدعوى حماية الخديو توفيق وإرجاعه إلى عرشه.
فكانت الوقائع الأولى عند خط كفر الدوار، وكان قد أقام فيه الحصون المنيعة المهندس الكبير المرحوم محمود باشا فهمي، وقد ألجأته أحوال العرابيين فيما بعد إلى التخلي عن العمل معهم، ثم توالى الهجوم الإنجليزي على هذا الخط من دون أن ينال منه شيئا، وتسربت الأخبار وقتئذ بأن الدول العظمى استعجلت إنجلترا بسبب تعطيل مصالحها في مصر فعينت يوم 14 سبتمبر من تلك السنة لانتهاء الحملة؛ بناء على رأي قائدها الجنرال «جارنت ولسلي». ولتعيين يوم 14 سبتمبر بالذات قصة سأذكرها فيما بعد على سبيل الاستطراد.
ثم رأت القيادة الإنجليزية العليا أن مهاجمة جيش العرابيين من جهة كفر الدوار سيطول أمده؛ فعولت على مهاجمته من الجهة الشرقية لمصر ابتداء من الإسماعيلية؛ لأنها أقرب إلى القاهرة من سواها وأدنى إلى المفاجآت.
4
ولما علم بذلك المسيو ديلسبس عمد إلى السعي لدى عرابي ليقنعه بحياد قنال السويس، فتوجه إلى بورسعيد وقابله في هذا الشأن وتقرر بينهم احترام حرية الملاحة في القنال؛ وبذلك نجح مؤقتا في الحيلولة دون نزول الجنود الإنجليز على ضفة القنال. عند ذلك رأت إنجلترا أن هذا العمل مما يشجع الثوار على التمادي في المقاومة ولا يمكن جيشها من الالتفاف بمواقعهم، فعمد الجنرال ولسلي إلى إنزال جيشه في يوم 20 أغسطس سنة 1882 ببورسعيد، واحتل مكاتب شركة القنال، وأقفل هذا القنال عدة أيام دون الملاحة فيه فاشتد ساعد الجيش الإنجليزي، وحدثت معارك مع جيش العرابيين في الصالحية والقصاصين. وفي هذه لقي الجيش الإنجليزي مقاومة شديدة من الطوبجية المصرية.
ثم كانت خاتمة المعارك في التل الكبير، ولم يكتب فيها النصر للعرابيين؛ فقد فاجأتهم الفرق الإنجليزية نحو الساعة الرابعة بعد نصف ليل 14 سبتمبر سنة 82 «يوم الخميس 2 ذي القعدة سنة 1299ه»، وكانت هزيمة كبيرة للعرابيين. وكذلك انتهت الثورة العرابية واحتل الإنجليز مصر.
ولا أتولى هنا بيان العوامل الداخلية والخارجية التي عملت عملها في هذه الكارثة بل المجزرة التي قضت على جيش العرابيين في دقائق معدودة، لم يصمد فيها لهجوم الجيش الإنجليزي المفاجئ سوى الأورط السودانية، وقد فنيت على آخرها في الدفاع ومعها قائدها المرحوم عبيد بك؛ فهذا قد تكفلت به الكتب التاريخية في تلك الحوادث، ولا سيما كتاب «تاريخ الاحتلال الإنجليزي في مصر» لمؤلفه «هنس زرنر الألماني»؛ فقد أيد ما رواه فيه بالوثائق الرسمية.
ومن مدهشات السياسة الإنجليزية أن إنجلترا لم تكتف بما تم لها وبإقفال قناة السويس - كما تقدم - بل وجهت همها إلى مناهضة شركة القنال في سنة 1883 التالية، فقامت فيها حملة شديدة منظمة عمادها الصحافة وشركات الملاحة البريطانية على شركة القنال، حتى أنكروا عليها اختصاصها بالحق في إنشاء القنال بين البحرين، وطعنوا في تلك الحيدة التي اعتزمتها فرنسا في الشئون المصرية، وهددوا المساهمين في القنال في ملكيتهم للأسهم بأن اقترحوا إنشاء قنال آخر بجانب قنال السويس يكون خالصا للإنجليز.
ولما رأى مسيو ديلسبس ذلك قصد لندن وجاهد في تسكين ثورة الإنجليز، ولما كانت الحكومة الإنجليزية قد اشترت من الخديو إسماعيل في سنة 1876 ما كان لمصر من أسهم القنال - وقدرها 177642 - تدخلت في الموضوع وبحثت مع مديري شركة القنال في إيجاد تسوية بين حقوق المساهمين ومصالح التجار الإنجليز، حتى لقد اتفق المسيو ديلسبس مع المستر غلادستون رئيس الوزارة الإنجليزية وقتئذ على إنشاء قنال آخر «كذا» بواسطة الشركة وتخفيض الرسوم. ومع ما كان في هذا العمل من عظيم المصلحة لأصحاب السفن الإنجليزية وصموه بالخيانة؛ فاضطر رئيس الوزراء إلى سحب المشروع الذي قدمه في هذا الموضوع إلى البرلمان الإنجليزي في يوليو سنة 1883.
وفي شهر ديسمبر من تلك السنة نجح رئيس شركة القنال بعد مفاوضات طويلة شاقة في أن يعقد مع أصحاب السفن البريطانية تسوية، كان في ضمن موادها أن تتعهد الشركة بإجراء الأعمال اللازمة لضمان سرعة مرور السفن؛ بناء على بحث تبحثه لجنة من المهندسين وأصحاب السفن يكون نصف أعضائها على الأقل من الإنجليز، وأن تتنازل الشركة عن رسوم قيادة السفن «القبطانية» في القنال، وأن تنقص رسوم المرور بمقدار نصف فرنك عن كل طن من أول يناير سنة 1885، ثم تنقصها نسبيا كلما تجاوزت إيردات الشركة 18 في المائة ... إلى غير ذلك من الشروط، حتى أصبحت في تلك السنة 9 فرنكات ونصف فرنك عن صافي الطن الواحد.
وعلى الرغم من هذه الامتيازات العظيمة لم يسكن غضب الإنجليز مع ما ترتب على ذلك من نزول سعر أسهم الشركة في فرنسا؛ فقد ظن القوم فيها أن قنال السويس ومصر سيكونان لقمة سائغة لبريطانيا العظمى، وبذلك انتهت تلك المناورة السياسية الإنجليزية.
والآن أعود لأوافي القراء بما وعدتهم آنفا من أني أذكر لهم السبب التاريخي - من طريق الاستنتاج - الذي حدا بإنجلترا أن تعين يوم 14 سبتمبر لإنهاء مهمتها في إخماد الثورة العرابية ودخول مصر؛ فأقول:
يذكر المطلع على تاريخ مصر الحديثة أن محمد علي باشا لما صدر له فرمان السلطنة العثمانية بولايته على مصر بتاريخ 9 يوليو سنة 1805 على أن يدفع جزية سنوية قدرها 4000 كيس «5 ملايين فرنك». اطمأن لذلك بعض الاطمئنان، ومع ذلك لم يكن مطلق الأمر إلا في الوجه البحري من مصر، أما في الإسكندرية فقد كان يدير شئونها ضابط مندوب من السلطان، وبقي الأمر في الوجه القبلي لأمراء المماليك، وأصبحت السلطة لهم في الصعيد، واستمر محمد بك الألفي يناهض محمد علي باشا مستعينا عليه بإنجلترا، حتى وعدها إن عادت إليه السلطة في مصر أن يسلم إليها أهم الثغور المصرية، وعاونهم في ذلك سفير إنجلترا في الأستانة، ولكنهم أخفقوا في سعيهم بسبب معاونة مسيو «دروفتي» قنصل فرنسا بالإسكندرية لمحمد علي باشا؛ فقد استمال رجال عثمان البرديسي من المماليك إلى جانب محمد علي للقضاء على محمد بك الألفي عدوهما المشترك.
وأخيرا كتب النجاح التام لمحمد علي باشا بأن توفي البرديسي في نوفمبر سنة 1806، ثم الألفي في يناير سنة 1807، وصفا له الجو بعدهما.
غير أن إنجلترا كان قد ساءها فشل مساعيها في الأستانة لمعاونة الألفي كما ذكرنا، فأنزلت بمصر في 17 مارس سنة 1807 نحو سبعة آلاف إلى ثمانية آلاف من الجنود الإنجليزية لتبعث الحمية في نفوس المماليك ومد يد المساعدة إليهم؛ فاستولت على مدينة الإسكندرية بقيادة الجنرال «فرازر»، ومكثت ستة أشهر من دون أن تتمكن من الإقدام على عمل آخر، وتوجهت شرذمة من ذلك الجند إلى رشيد، وهناك التقت بالعساكر الألبانية التي أسرع بجمعها محمد علي باشا، فانهزمت الشرذمة الإنجليزية، ووقع عدد كبير منها في الأسر، أرسلوا إلى القاهرة ثم أطلق محمد علي باشا سراحهم بدون فدية؛ مما عدته إنجلترا شهامة منه. ولما رأت إنجلترا فشل هذه الحملة اضطرت إلى الجلاء عن مصر في يوم 14 سبتمبر سنة 1807.
كتابة اللغة الأمهرية (اللغة الرسمية الحبشية).
الغازات والأسلحة الجهنمية
أثار تهديد إيطاليا بغزو الحبشة، احتمال استخدام إيطاليا لمختلف الاختراعات الجهنمية الحديثة، كتسليط الضوء على الآلات بأنواعها فتقف في التو واللحظة، وكنشر الغازات الخانقة، وقد استحضرت جمعية الشبان المسلمين وغيرها كمامات، وبحثت وزارة الحربية والجمعية الطبية ومصلحة الصحة العمومية في الغازات والوقاية منها.
كمامة واقية من الغازات ومعها أجزاؤها: القناع، الأنبوبة، ومرشح الهواء، والكيس.
رجل بكمامته الواقية من الغازات.
وقد نشرت جريدة «الأهرام» في عددها الصادر في 17 سبتمبر سنة 1935 مقالا لحضرة الدكتور عبد الواحد الوكيل عن الغازات السامة في الحرب الجوية، كان مما ورد به ما يلي: الغازات السامة: كنهها وخطرها وطرق الإغارة بها.
يمكن تقسيم الغازات السامة المعروفة إلى الآن إلى أربعة أنواع حسب مفعولها في الإنسان: (1)
غازات خانقة. (2)
غازات مهيجة للأنف. (3)
غازات مسيلة للدموع. (4)
غازات كاوية أو حراقة.
ويجب أن نعلم مبدئيا أن هذه الأنواع لا تصل جميعا إلى الأرض بشكل غاز، بل إن بعضها يلقى من الجو بشكل سائل أو مادة صلبة، ومن ثم تتبخر رويدا إلى غاز، وأن هذه الأنواع السائلة أو الصلبة كالغازات الكاوية والمسيلة للدموع، يظل خطرها قائما ساعات طوالا بل أياما بعد الهجوم الجوي، ولكنها لحسن الحظ أقل خطرا على الحياة من الغازات الخانقة ، وإن كانت هذه - وكذلك الغازات المهيجة للأنف - أسرع تبددا بفعل الرياح عند هبوبها؛ إذ تحملها كسحاب منتشر مخففة تكاثفها تدريجيا حتى تفرقها شذر مذر: (1)
الغازات الخانقة:
أهم هذه الغازات وأكثرها استعمالا في الحرب نوعان، هما غاز الكلور
Chlorine
وغاز الفوسجين
، وكلاهما يسبب الموت إذا استنشق الإنسان منه مقدارا كافيا، بل هما أخطر غازات الحرب قاطبة.
أما الكلور فهو من العناصر الكيمائية المعروفة، لونه أصفر ضارب إلى الخضرة، ورائحته خانقة كريهة. وهو في الأحوال الجوية المعتادة غاز كغيره من الغازات، ولكنه يعرض صناعيا بضغط مرتفع؛ فينقلب إلى سائل أقل حجما من الغاز، ويخزن بهذه الصفة في أسطوانات أو قنابل إذا فتحت صماماتها أو انفجرت تصاعدت منها في الجو أبخرة كثيفة من الكلور بشكله الغازي المعتاد.
وللكلور تأثير مهيج شديد، فيسبب حرقانا شديدا بالعينين والأنف والحلق، ويدخل في الجهاز التنفسي فيسبب التهابا في القصبة الهوائية وفروعها، بل في حويصلات الهواء في الرئة ذاتها؛ أي ينتج التهاب شعبي رئوي خطير سرعان ما يودي بحياة الإنسان.
ومن سخرية القدر أو العلم أن هذا الغاز الخانق القتال، الذي يستعمله الإنسان للفتك بعدوه الإنسان، قد أمكن من سبب تذليله لفائدة البشرية عامة؛ إذ إنه مطهر قوي لمياه الشرب. فكمية طفيفة منه لا تتجاوز جزءا من واحد في المليون تكفي لقتل الميكروبات الضارة في الماء؛ كالتيفود والكوليرا والدوسنطاريا وسواها، في وقت قصير. وربما لا يعلم الكثيرون أن سكان المدن في مصر وسواها من الممالك يشربون شيئا منه فيما يتناولونه من الماء، وأن أسطوانات الكلور وأجهزته تؤدي ليل نهار هذا الواجب الصحي العظيم في عمليات المياه بالقاهرة والجيزة وإسكندرية وسواها.
أما «الفوسجين» فهو «كلورور أوكسيد الكربون»، وهو في الأحوال الطبيعية غاز لا لون له، وإن يأخذ أحيانا شكل سحابة بيضاء اللون إذا كان الجو حوله رطبا. وإذا عرض هذا الغاز للتبريد فإنه يتحول كذلك إلى سائل، ويخزن كأخيه بهذه الصفة.
أما رائحته فمهيجه للصدر، بل إنه كذلك يهيج العين فتسيل دموعها. واستنشاقه يؤدي إلى التهاب حويصلات الرئة التهابا شديدا مع ارتشاح فيها أكثر مما يفعل الكلور، فتمتلئ الحويصلات بدلا من الهواء بالبلغم والسائل الناتج من التهابها، ويعوق ذلك وصول أوكسجين الهواء إلى الدم أي يربك وظيفة التنفس كلها؛ فيصير مستنشقه من الفناء قاب قوسين بل أدنى.
وعند حدوث إغارة حربية بأحد هذين الغازين يكون أول ما ينتاب الإنسان هو شعور باختناق، مع سعال شديد، قد يصحبه تهوع أو قيء، كما تتهيج العينان. فإذا لم يسرع المرء بالهرب إلى مكان مأمون أو إلى وضع الكمامة الواقية، واستمر مدة في استنشاق الهواء الملوث بهما، تلفت الرئتان أي تلف، فيصير التنفس عسيرا، مصحوبا بنوبات مؤلمة من السعال قد يبصق فيها المصاب سائلا غزيرا. ويتغير لون الإنسان لقلة وصول الأوكسجين إلى دمه، فإما يصير الوجه محتقنا أزرق، أو أصفر المحيا، باهت الأطراف، أبيض الشفتين والأذنين. وهذا اللون الأخير أكثر دلالة على استفحال الأمر وشدة الخطر على الحياة.
ولا تظهر هذه الأعراض الرئوية في الحال بل بعد مدة لا تتجاوز 12-24 ساعة من استنشاق الغاز الخانق. أما إذا مضت 24-48 ساعة بدون ظهورها أو اشتدادها كان للإنسان أن يحسب نفسه من عداد الناجين بجلدهم.
ويجدر أن نعلم أن قيام الإنسان بحركة أو عمل بعد استنشاق الفوسجين بصفة خاصة يجعل الأعراض أشد وأمضى أثرا؛ أي إن ذلك يقرب المسافة إلى القبر؛ ولذا يجب السكون والراحة يوما كاملا أو يومين بعد استنشاقهما. (2)
الغازات المهيجة للأنف:
يشمل هذا النوع عددا كبيرا من الغازات المركبة التي اخترعتها أدمغة جهابذة الكيمائيين؛ وهي غازات يدخل الزرنيخ في تركيبها، ومنها مثلا «ثاني فينيل كلور أرسين» يسمى
D. A.
اختصارا. وتنشر هذه الغازات في الجو عند إلقاء قنابلها بشكل ذرات متناهية في الصغر بحيث قد لا تراها العين، ويشعر المستنشق لها بتهيج في الأنف والحلق يصحبه العطش أحيانا وآلام في لثة الأسنان. ويزداد التهيج في هذه المواضع ويمتد إلى المجاري الهوائية كالحنجرة والقصبة الهوائية؛ فيسبب ذلك ألما شديدا وضيقا في الصدر مع سعال وقيء أحيانا وصداع شديد؛ بحيث تضيق الدنيا بالإنسان ويود لو يفارقها فيستريح من تباريح آلامه.
ولكن هذا النوع من الغازات هو - لحسن الحظ - حميد النتائج لا يسبب الموت أو التهاب الرئتين كالغازات الخانقة، وأنه هو سبب الآلام المضنية والضيق الشديد. أما من الوجهة الحربية فيقصد من استعمالها «وكذلك الغازات المسيلة للدموع» أن تؤذي الإنسان بصفة مؤقتة؛ فيصير غير صالح للكر والفر في الهجوم والدفاع إذا كان جنديا في الميدان، أو تدخل في قلبه الرعب والجزع والاضطراب إذا كان من غير المحاربين. (3)
الغازات المسيلة للدموع:
وهي كثيرة، وأهمها ثلاثة:
أولها:
المسمى «كلورو أسيتو فينون» ويرمز له بحرف
C. E. P
وهو مادة صلبة بيضاء اللون، تتبخر بفعل الحرارة الجوية. ويسبب البخار المتصاعد منها تهيجا شديدا في العين فتسيل دموعها مدرارا، بل إن هذا البخار إذا تكاثف في مكان ما يسبب تهيجا لجلد الوجه واليدين؛ أي للأجزاء العارية من الجسم.
وثانيها:
ما يسمى «أثيل يودواسيتات» ويرمز له بحروف
K. S. K
وهو مركب سائل، قوامه كالزيت أو الجليسرين، وله رائحة نفاذة، ولا لون له إذا كان نقيا، ولكن استعماله في الحرب لا يقتضي أن يكون في نقاوة كيميائية كاملة؛ ولذا فإن لونه كما تنفجر عنه قنابله أو يلقى من الجو لون غامق. ويتبخر هذا السائل رويدا رويدا بفعل حرارة الجو، فيتصاعد منه لمدة طويلة بخار أو غاز شديد الإدرار للدموع، وقد يهيج الرئة والمسالك التنفسية أيضا.
وثالثها:
مركب يسمى «بروموبنزيل سيانيد»
B. B. C
وهو سائل بني اللون، ذو رائحة قوية تظل منتشرة أمدا طويلا في مكان سقوطه، ولكنه أقل فعلا من المركب السابق.
ومن الحظ الحسن كذلك أن هذه الغازات لا تسبب تلفا في العين، وخاصة إذا أسرع الإنسان في الهرب من الجو الملوث بها أو استعمل الكمامة الواقية، أما ضررها فناشئ من كثرة هطول الدموع كثرة تؤدي إلى إعاقة البصر، ومن ثم تعوق حركات الإنسان ونشاطه، ولكنها قد تعرضه للهلاك بقنابل أو غازات أخرى.
وقد يتذكر القراء أن هذه الغازات يستعملها رجال البوليس في بعض الممالك لتفريق المتجمهرين في المظاهرات؛ أي يطفئون حماستهم بماء مآقيهم. (4)
الغازات الكاوية الحراقة:
هي الثانية في ترتيب الخطورة بين هذه المركبات الكيمائية الجهنمية؛ إذ إنها أكثر ضررا وإيذاء من النوعين السابقين، ولكنها أقل خطرا من الغازات الخانقة كالكلور والفوسجين، وإن كانت أحيانا تودي بالإنسان إلى الموت الزؤام.
وهي فوق ذلك من النوع الذي تبقى غازاته متبخرة في الجو وقتا طويلا؛ بحيث قد يضطر سكان أحياء برمتها إلى هجرها إلى أن تطهرها لهم فرق مكافحة الغازات السامة.
وأهم هذه «الغازات» اثنان: أحدهما يسمى «غاز الخردل».
والثاني يسمى «لويسايت».
أما «غاز الخردل»؛ وهو «ثاني كلور أشيل سلفيد» فيصل إلى الأرض بشكل سائل يشبه الزيت، وله رائحة خاصة به تشبه لدى بعض الناس رائحة الخردل، ولكن البعض يشبهونها برائحة الثوم أو البصل. ولكن الاعتماد على الأنف في اكتشافه لدى الإغارات الحربية غير مأمون تماما؛ إذ إن حاسة الشم سرعان ما تتأثر منه بحيث يعسر اكتشافه بعد ذلك، بل إن بعض الناس لا يشعرون برائحة مطلقا ما لم يكن بكميات وافرة.
وهذا الغاز سهل الذوبان في البنزين والكحول والمواد الذهنية والقار «الزفت» وغيرها من الوسائل. ونظرا لسهولة ذوبانه في المواد الدهنية؛ فإن جلد الإنسان يمتصه بسهولة فيدخل من المجاري التنفسية، ويسبب أضرارا بالغة للإنسان تؤدي أحيانا إلى الموت.
أما قابليته للذوبان في القار «الزفت» فلها أهمية كبرى؛ إذ إن سطح الشوارع المغطاة بهذا الطلاء تمتصه، فيبقى فيها خطرا كامنا مدة طويلة.
ولدى سقوط سائل الخردل هذا في مكان فإنه يتبخر بكل بطء، فيبقى بخاره وغازه في الجو أمدا طويلا بحيث يدوم الخطر أياما. وسواء أكان ... فإنه مركب شديد التهيج، والسائل أكثر مفعولا بطبيعة الحال.
ويختلف هذا المركب الخطير عن جميع الغازات السابقة نظرا لتنوع الطرق التي يؤذي بها الإنسان وتعدد أشكالها؛ فنجد مثلا أنه إذا سقط على الأرض أو تلطخت به الحيطان فإن الغاز المتصاعد منه يؤذي العينين والرئتين والأجزاء العارية من الجسم. بل قد وجد أن الملابس قد تمتص هذا الغاز، ناهيك عن السائل، فيخترقها تدريجيا إلى الجلد المغطى ويسبب حروقا شديدة به، وإن يكن المصاب مع ذلك قد حمل إلى خارج المنطقة الملوثة به.
ونجد كذلك أن مجرد لمس الأرض أو المواد الأخرى المبللة بسائله يسبب بعد وقت قليل حروقا في اليد أو الأقدام كما حدث لبقية الجسم إذا وصل السائل إلى ملابس بأي سبيل كان.
ومن كل ذلك نرى أن الشخص الذي يلوثه سائل الخردل هذا أو غازه لا يحمل الخطر لنفسه فحسب، بل يصير خطرا على سواه. بل إن مجرد تلوث حذاءه من الشارع مثلا قبل دخوله على أقاربه في المنزل يكفي أن يصيبهم الغاز المتصاعد من ذلك الحذاء الملوث.
وتصور فوق ذلك ما يمكن أن يحدث إذا أمطرت إحدى الطيارات هذا السائل على السكان الآمنين تحتها بشكل رذاذ بدلا من إلقاء قنابله، فتنشره على الرءوس والوجوه والملابس والأجسام وفي كل مكان.
ومن حسن الحظ أو من سوء الحظ أيضا أن الأعراض التي يحدثها سائل الخردل، أو غاز الخردل - كما تشاء أن تسميه - لا تظهر عادة إلا بعد مضي مدة تتراوح بين ساعتين إلى ثمان ساعات، وإذ ذاك لا يمكن لقدرة بشرية أن تمنع الأذى الذي يلحق الجسم. ومن ذلك نرى مقدار الأهمية العظمى والفائدة الكبرى في سرعة تطهير كل شخص يتعرض لذلك المركب الشيطاني سائلا كان أو غازا؛ إذ إن السرعة قد تمنع ظهور أعراضه بتاتا أو على الأقل تخففها.
أما سوء الحظ في هذا الأمر فناشئ من أن عدم ظهور الأعراض بسرعة قد تجعل المصاب غافلا عن تلوثه، فينقل الأذى إلى سواه.
أما الأعراض فكثيرة متنوعة، وتشمل بصفة خاصة التهاب العينين وتورمهما بشكل حاد شديد يمنع الرؤية مع هطول الدموع وتوتر الجفون والآلام الشديدة بالعين والرأس، والتهاب المسالك الهوائية - أي: الحنجرة والقصبة الهوائية والشعب - مع زكام وسعال جاف خشن، وألم بالمعدة مع قيء أحيانا، وكذلك حروق كاوية للجسم تبدأ كاحمرار أو التهاب يصحبه أكلان شديد في الجلد، ويستمر الحال عادة بظهور فقاقيع وحويصلات وتسلخ به كما يحدث من سقوط الماء الساخن، بل قد ينتهي الحال بظهور قروح مزمنة لا تشفى سريعا.
ومن حسن الحظ أن نسبة الوفيات من هذا المركب المزعج المؤلم قليلة جدا، وأن العلاج ممكن لمن يصاب بأعراضه ما لم تتلوث إصاباته بالميكروبات، فيصيبه القضاء المحتوم.
هذا هو غاز الخردل الشهير، أما صنوه المسمى «لويسايت» فيشبهه كثيرا في خواصه وأعراضه مع بعض الاختلاف في تركيبه إذ يحتوي على الزرنيخ؛ ولذا يؤثر على الأنف. كما يختلف في أن له رائحة خاصة تشبه «عطر الجناين»، وأن أعراضه في العين والأنف تظهر في الحال فيسهل العلم بوجوده، وعلى العموم فهو أسرع تأثيرا على الإنسان من أخيه، فتظهر أعراضه في ثلث ساعة بدلا من ساعتين أو ثماني ساعات.
هذه هي أهم الغازات السامة وأنواعها من حيث تأثيرها على الإنسان، ولكنها وأخواتها ليست كل ما قد يصادف أثناء الحرب، فهناك مثلا غاز «أول أوكسيد الكربون» السام الذي قد يستنشقه الإنسان داخل المنازل المحترقة لقلة الهواء داخلها، كذلك «غازات أوكسيد الأزوت» تنشأ من انفجار الديناميت وغيرها.
طرق الإغارة بالغازات السامة: إن معظم الغازات التي أشرنا إليها يمكن ملؤها في قنابل المدافع كالقنابل المعتادة تماما، وهذه بطبيعة الحال هي إحدى الطرق التي تستعملها الجيوش المتحاربة؛ إذ توجه فوهات مدفعياتها إلى العدو في ميدان الوغى حاملة الأذى والموت على كل لون من مفرقعات وسوائل وغازات.
أما في المدن أي داخلية البلاد، فرسل هذا الهلاك أو الأذى هي الطيارات التي تستطيع أن تحوم كطير أبابيل تقذف بحجارة من سجيل.
ومهمة الطيارات في هذا الجرم الفظيع أخف كثيرا من مهمة المدفعية؛ لأن كل عملها هو أن تلقي القنابل على ما تحتها بغير داع إلى مدفع بماسورة وفوهة، يقتضي قنبلة سميكة ثقيلة تتحمل شدة الضغط والدفع في انطلاقها؛ ولهذا نرى قنابل الغازات التي تلقى من الجو ذات جسم رقيق سهلة الانفجار لدى ارتطامها بالأرض .
بل إن خفتها تجعلها تنفجر على سطح الأرض، وخاصة أرض الشوارع الصلبة، وليس في باطنها كما يحدث لقنابل المدافع السميكة التي تغوص أحيانا في مكان سقوطها؛ فتدفن محتوياتها ويقل خطرها.
ولدى سقوط قنبلة كهذه من الجو وانفجارها على الأرض تخرج الغازات التي فيها مكونة لسحابة كثيفة فوقها، فإذا كان الغاز كالكلور أو الفوسجين أو غازات الأنف؛ فإنه يبقى قيد الريح ومهبها، فتحمله من هنا إلى هناك خانقا أو مؤذيا كل من يصادفه إلى أن يخففه الهواء ويفرقه أيدي سبأ. وقد يدفعه إلى داخل المباني والمساكن إذا أهمل أصحابها إحكام غلق نوافذها وأبوابها عند الإغارات الجوية، وهناك تبقى الغازات كامنة كالموت في الظلام، وإذا كان الهواء ساكنا فيبقى الغاز مكانه فوق قنبلته إلى أن يرحم الله الناس بهبة من النسيم.
أما إذا كانت القنبلة مملوءة بالسوائل كسائل الخردل وسوائل الدموع مثلا؛ فإن انفجارها يرش السائل في كل جهة فيبلل الأرض ويلطخ الحيطان وسواها، بل قد يتطاير منها رذاذ مع الريح مسافات طويلة، وتستمر هذه المواد مع التبخر طويلا؛ ولذا فإن هبوب الرياح لا ينظف الحي منها إلا بعد زوال كل آثارها.
ومن ذلك نرى أن الطيارات تقذف الغازات السامة بشكل قنابل مملوءة بها، ولكنها تستطيع كذلك أن تمطر بعضها كسائل الخردل وسواه بشكل رذاذ كالمطر يلهب العيون ويشوي الأيدي والوجوه ويلوث الملابس، وقد يكون الرذاذ من الضآلة بحيث لا يشعر به الإنسان؛ ولهذا فإن الإسراع إلى الاختفاء داخل المنازل أو تحت الأمكنة المسقوفة هو أكثر أمنا من الوجود في العراء.
من النظم المقررة لدى السلطات العسكرية في أثناء الحرب أنه قبيل حدوث هجوم جوي من طيارات الأعداء أو لدى حدوثه تقوم تلك السلطات بإعطاء إشارة خاصة متفق عليها ومعروفة للجمهور لاتقاء شر هذا الهجوم. وقد تكون تلك الإشارة دق النواقيس أو إطلاق الصواريخ أو الأبواق أو المدافع أو إضاءة بعض الأنوار أو غير ذلك، كما أنه بعد انتهاء إغارة العدو تعطي إشارة أخرى برحيلها.
ومن المفهوم بطبيعة الحال أن إشارة رحيل هؤلاء الضيوف المكروهين لا تعني زوال الخطر؛ إذ لا شك أن شبح الموت أو الأذى من الغازات السامة يبقى ماثلا أمدا قصيرا أو طويلا في المدينة بعد تلك الزيارة المزعجة.
أما الطرق التي يجب على الجمهور العلم بها وسرعة اتباعها في مثل تلك الأحوال، فيمكن حصرها في النقط الرئيسية الآتية: (1)
ما يجب اتباعه إذا كان الإنسان في العراء. (2)
الاحتياطات اللازم اتباعها داخل المباني. (3)
الكمامات والملابس الواقية. (1)
ما يجب اتباعه إذا كان الإنسان في العراء: إذا أعطيت إشارة الخطر بينما الإنسان سائر أو واقف في العراء؛ أي خارج المباني في الشوارع أو الميادين، فيجب أن يسرع في الحال إلى أقرب منزل أو ملجأ غير مكشوف ليحتمي به إلى أن يزول الخطر. (2)
الاحتياطات في المباني: إن هذه الاحتياطات هي من أهم الأمور للوقاية من الغازات السامة وسواها، وقد بلغ من أهميتها أن كثيرا من الحكومات قد شرعت في بناء ملاجئ محكمة مستوفاة فيها طرق الوقاية؛ ليلجأ إليها عابرو السبيل وسواهم عند حدوث إغارات من الجو على المدن الآمنة. بل إن المباني الحديثة صار يلحظ عند تأسيسها إيجاد طابق تحت الأرض يلجأ إليه السكان في تلك الأحوال الطارئة. من ذلك ما اطلع عليه قراء الصحف هذه الأيام في صورة: فتسد جيدا بالخشب، وكذلك تسد المداخن إن وجدت.
ويحسن أن تعد الحجرة لتستعمل في أي وقت، فيوجد بها نور كهربائي، أو بطاريات الجيب، أو شمع للإضاءة، ومقاعد للجلوس، وبطانيات للتدفئة، وجردل مغطى للتبرز والتبول، وماء للشرب والنظافة، ومأكولات باردة للغذاء، ومعدات للطعام، بل كتب للتسلية. ويمنع فيها التدخين، أو التدفئة بالفحم، أو الإضاءة بالبترول أو الغاز بتاتا حتى لا يفسد جوها.
ويجب عدم السماح لأحد بدخولها من الشارع إلا أن يخلع ملابسه الخارجية ونعليه؛ مخافة أن تكون تلوثت بالسوائل أو الغازات الكاوية.
فإذا دعا الداعي للالتجاء إلى غرفة الوقاية أي لدى إعطاء إشارة الخطر وجب على كل المقيمين في المنزل الإسراع إليها وإغلاقها عليهم حتى يسمعوا إشارة زوال الخطر جميعا من طيارات وإغارات.
احتياطات أخرى في المنزل عامة: بالرغم من إعداد الملجأ يحسن كذلك لدى إعلان الحرب أن يعد السكان منازلهم - مهما كان الطابق الذي يسكنونه - لمنع دخول الغازات إليها عند حدوث إغارات جوية، وبينما يكونون مختفين في وكرهم.
فعليهم أن يلصقوا شرائط الورق السميك على زجاج نوافذها جميعا، فإذا أعطيت إشارة الخطر وجب أن يقوم أحدهم بإغلاق جميع النوافذ والأبواب بما فيها الباب الخارجي، وإخفاء الطعام في دواليب مغلقة جيدا - وليس في النمليات العادية، وبعد ذلك يسرع هو أيضا إلى الوكر المكنون. (3)
الكمامات والملابس الواقية: تستعمل الكمامات لوقاية العينين والرئتين، أما الملابس الواقية فتستعمل لوقاية الجسم من السوائل الكاوية وغازاتها، ولرجال الإسعاف وفرق مكافحة الغازات الذين تضطرهم مهام واجباتهم للعمل في العراء أثناء الإغارات الجوية أو بعدها لنقل المصابين أو تطهير الأحياء الملوثة.
ولكنها - وخاصة الكمامات الواقية - قد تكون لازمة كذلك لسكان المدن جميعا «ويلاحظ أن سكان الأرياف لا تختارهم الطيارات إلا نادرا» ليستعملوها إذا تهدمت المنازل أو اضطروا لهجرها أو الوجود في العراء لأي سبب كان.
الكمامات الواقية من الغازات تشمل الكمامة الواقية ثلاثة أجزاء رئيسية هي:
أولا: «قناع للوجه» يثبت على الرأس بشرائط من المطاط، والقناع مصنوع من المطاط، وبه ثقبان للعينين عليهما زجاج من النوع غير القابل للكسر، وثقب آخر أمام الفم يتصل من ناحية بصمام ينفتح للخارج لتصريف هواء الزفير عند التنفس، ومن ناحية أخرى بأنبوبة لدخول الهواء الخارج متصلة بمرشح للهواء.
ثانيا: «مرشح للهواء» وهو عبارة عن علبة من المعدن مقفلة تحتوي على «كربون منشط» لامتصاص الغازات السامة كالكلور وغاز الخردل مثلا، وكذلك تحتوي على قرص من «السليولوز» أو سواه يمنع دخول ذرات الغازات الزرنيخية التي تؤثر على الأنف. وهذه المواد كافية لمنع جميع الغازات السامة المعروفة إلى الآن.
ثالثا: «الأنبوبة السابق ذكرها» وهي تصل ما بين القناع ومرشح الهواء، وتصنع من المطاط. وفي بعض الكمامات لا توجد أنبوبة مطلقا، بل يتصل القناع بالمرشح مباشرة أمام الفم.
ويفهم من ذلك أنه لدى الشهيق في التنفس يسحب الإنسان الهواء من المرشح الذي ينقيه مما يحمله من الغازات السامة، أما لدى الزفير فالهواء يتسرب من الصمام الذي ينفتح من الخارج.
وللكمامة كيس من نسيج عازل للمطر، وهو يعلق في العنق عند الاستعمال، ويخبأ به مرشح الهواء لوقايته من البلل.
وعلى مشتري الكمامة أن يستعملها في الحال لتجربتها والتمرن على وضعها، وكذلك للتأكد من أن القناع يلتصق جيدا بوجهه ورأسه، فلا يترك فراغا قد تتسرب الغازات منه، وتوجد أحجام مختلفة من الأقنعة لاختيار المناسب منها عند الشراء.
ونظرا لأن تبخر العرق تحت القناع كثيرا ما يدعو إلى تكاثف البخار على الزجاج فيعوق رؤية الإنسان لما حوله؛ فإنه يحسن شراء أحد المستحضرات التي توضع بخفة على الزجاج فتمنع عتامته، وهي تطلب عادة مع الكمامة.
وعلى العموم يجب على الإنسان أن يستعمل الكمامة ما بين آن وآخر لتجربتها والوثوق من قيامها لدى الخطر بما ينتظره منها.
الملابس الواقية من السوائل والغازات الكاوية.
إن الكمامات التي سبق وصفها تقي العينين والجهاز التنفسي وجزءا من جلد الوجه فقط؛ ولذا فهي كافية للوقاية من الغازات الخانقة والغازات المهيجة للأنف والمسيلة للدموع فقط، بخلاف السوائل والغازات الكاوية أو الحراقة؛ كغاز الخردل وسواه.
ولهذا السبب تتضح ضرورة استعمال ملابس واقية للجسم عامة عند حدوث إغارات جوية بهذا النوع من المواد الكيميائية، وأشد الناس احتياجا لها هم الجنود المحاربون ورجال الإسعاف وفرق التطهير، أما الأهلون عامة فالمفهوم أنهم يكونون في أماكنهم المأمونة فلا يحتاجون إليها.
والملابس الواقية من الغازات الكاوية تصنع من نسيج خاص
Oil-skin
يعالج ببعض الزيوت في الصناعة كزيت بذر الكتان، وهي تشبه - نوعا - الملابس المعروفة في المعاطف العازلة للمطر، ولا شك أن ارتداء هذه الملابس يقي زمنا، ولكنها من الجهة الأخرى متعبة للجسم؛ تكتم حرارة الجسم وتدعو لغزارة العرق، وخاصة لدى القيام بالحركة والأعمال الجسمانية؛ ولذا يجب ألا يطول استعمالها، بل ألا تستعمل بتاتا إلا إذا تأكد وجود ذلك النوع الكاوي من الغازات أو السوائل.
وتشمل الملابس جاكتة وبنطلونا وغطاء للرأس وقفازا وحذاء من المطاط يصل إلى الركبة غير الكمامة السابق ذكرها.
هذه هي طرق الوقاية، ولا شك أن العاقل يتدبرها جيدا ويعمل بها إذا حدث خطر حقيقي على البلاد.
ونشر الأستاذ حبيب إسكندر مقالا في مجلة المقتطف عن الغازات السامة، فكان مما جاء في مقاله:
شروط الغاز الحربي
وقع اختيار الألمان في سنة 1915 على غاز الكلور في الحملة الأولى التي استعمل فيها الغاز في الحرب؛ لأن فيه تتوافر جميع الشروط اللازمة للغاز الحربي السام، وأهمها:
أولا:
يجب أن يكون الغاز أو المادة سامة جدا إذا وجدت في الهواء بمقادير قليلة.
ثانيا:
أن تكون رخيصة يمكن صنع مقادير كبيرة منها بعمليات سهلة.
ثالثا:
أن تكون سهلة الانضغاط والتحويل إلى سائل، وإذا خفف الضغط عنها تحولت إلى بخار أو غاز.
رابعا:
أن تكون ثابتة لا تتأثر برطوبة الهواء أو بالمواد الكيماوية الأخرى حتى يصعب تغييرها وإفساد فعلها.
خامسا:
أن تكون أثقل من الهواء حتى لا تتبدد بسهولة في طبقات الهواء العليا.
غاز الكلور
ومعظم هذه الخواص تتوافر في غاز الكلور الذي وقع عليه الخيار أولا؛ فهو غاز سام جدا، فإذا عرض حيوان «كلب» للهواء الذي يحتوي اللتر منه على 6,5 مللجرام من الكلور مات بعد 30 دقيقة، ثم إن مقادير وافرة منه تحضر بعمليات سهلة؛ وذلك بحل محلول ملح الطعام بالكهربائية. وقد كان يباع قبل الحرب لأغراض صناعية في أسطوانات حديدية بسعر قرش واحد للرطل، ثم إنه سهل الإسالة، يكفي لإسالته ضغط يساوي 16,5 جو عند الدرجة 98م، وإذا برد أسيل بضغط أقل، وإذا خفف عنه الضغط تبخر واستحال غازا أكثف من الهواء مرتين ونصف مرة.
غاز الفوسجين
الغاز الثاني الجديد استعمل في ديسمبر سنة 1915 ويسمى الفوسجين؛ وهو مركب كيماوي كان معروفا قبل الحرب لأنه كان يستخدم في الصناعة لتجهيز بعض الأصباغ. والفوسجين سائل يغلي عند الدرجة 8°، وهو أشد سما من الكلور، فبينما يموت الكلب في الهواء الذي يحتوي اللتر منه على 2,5 ملليجرام من الكلور بعد تعرضه له 30 دقيقة، إذا به يموت في الهواء الذي يحتوي اللتر منه على 0,3 ملليجرام بعد تعرضه له الزمن نفسه؛ أي إنه أثقل من الكلور ثماني مرات.
الكلوروبكربن
في ربيع سنة 1917 استعمل الألمان غازا جديدا غير سام كثيرا، لكنه يسبب دوارا وقيئا ويثير في العيون دموعا؛ فيضطر الجندي إلى رفع كمامة الغاز، وعندئذ يعرض نفسه لفعل غاز آخر كالفوسجين يطلقه العدو في نفس الوقت، وهذا الغاز الجديد يصعب حجزه كلية بكمامات الغاز السام، واسمه كلوروبكربن؛ وهو مركب كان معروفا قبل الحرب؛ مثل الكلور والفوسجين، وأول من حضره كيماوي إنجليزي يدعى ستن هوس سنة 1848 من تفاعل الحامض البكريك ومسحوق إزالة الألوان.
ويحضر الكلوروبكربن في الصناعة بإمرار البخار في مخلوط من الحامض البكريك ومسحوق إزالة الألوان؛ فيتكون الكلوروبكربن ويخرج مع البخار، وهو سائل عديم اللون كالزيت لا يذوب في الماء، يغلي عند الدرجة 112°، وهو مركب ثابت لا يتحلل بالماء أو الحوامض أو القلويات المخففة، ومن حسن الحظ قد وجد أن الفحم المستعمل في كمامات الغاز السام يمتص هذا الغاز.
والعين حساسة جدا تدرك وجود هذا الغاز في الهواء بسرعة فائقة مهما كان مقداره قليلا؛ فالهواء الذي يحتوي على 2,5 جزء من الغاز في كل مليون جزء من الهواء، يجعل العين تغمض مضطرة بعد 18 ثانية، والذي يحتوي على 29 جزءا من المليون يجعلها تغمض بعد 4 ثوان فقط.
غاز الخردل
ننتقل الآن إلى سيد الغازات السامة، وهو مادة جديدة لها أسماء كثيرة، يسميها الإنجليز غاز الخردل أو الغاز المحرق لشدة تأثيره في الجلد، ويسميها الفرنسيون الأيبريت لأنها استعملت أولا في منطقة الأيبر، ويسميها الألمان الصليب الأصفر لأنهم كانوا يفرغونها في قنابل عليها علامة الصليب الأصفر تمييزا لها عن القنابل الأخرى، ويسميها الكيميائيون
Dichlorethyl Sulphide . اكتشف هذا المركب كيمياوي إنجليزي سنة 1860، ثم كيمياوي ألماني يدعى فيكتور ماير سنة 1886، ولكنه وجد أن دراسته لا تخلو من خطر فأهمله، ومن ذلك الوقت أهمل هذا المركب في قواميس الكيمياء، وظل في زوايا الإهمال حتى استخدمه الألمان في الحرب العظمى. وفي يوليو سنة 1917 أمطروه على الإنجليز ففتك بهم فتكا ذريعا، ومن ثم جعل الألمان يعتمدون عليه في الحرب وحذا الحلفاء حذوهم، ويقال إن في هجمة واحدة دامت عشرة أيام أطلق الألمان مليون قنبلة تحتوي على 2500 طن من هذه المادة.
وغاز الخردل ليس بغاز، ثم إنه لا يصنع من الخردل، بل هو مركب كيماوي يجهز من الكحول والكلور والكبريت، وهو سائل يغلي عند الدرجة 216° ويتبخر ببطء، ويبقى في الخنادق ويختفي في التراب والملابس أياما طويلة. وكمامات الغاز الخانق لا تقي المرء منه وقاية كافية؛ لأن الجندي لا بد له أن يخلع الكمامة وقتا من الأوقات فيهاجمه الغاز الذي لا يزال منتظرا. وفي بعض الحالات تضطر الجنود إلى لبس الكمامات 12 يوما متتالية ليل نهار، وقد يظهر المكان خاليا من هذا الغاز، ولكن عندما تطلع الشمس وتسخن الأرض يتبخر منها هذا السائل ويعلق بملابس الجنود وكماماتهم. وهو سام جدا كغيره من الغازات السابقة، ويمتاز عنها بأنه يلسع الجلد كالبخار ويحرق الجسم من الداخل والخارج؛ فيحدث حروقا مؤلمة إذا أهملت تحولت إلى جروح خبيثة تسمم الجسم وتحدث الوفاة، فضلا عن أنه يؤثر في الأجزاء الطرية كالعين والأنف والحنجرة والرئتين.
وأهم مميزاته أنه يبقى طويلا وأنه لا يحدث أضرارا في الحال بل يحدث ضرره فيما بعد، فقد يتأخر فعله يومين أو ثلاثة أيام في الطقس الدافئ، وفي الطقس البارد لا يبدو خطره إلا بعد مرور أسبوع أو عشرة أيام، وقد يتأخر شهرا أو أكثر حتى يدفأ الجو ويتبخر السائل، ويصعب جدا إزالته من الأرض والأمكنة التي يسقط فيها؛ فيبقى خطره مدة أسابيع أو شهر، وفي بعض الحالات سنة أو أكثر.
وقد استعمل الألمان مقادير هائلة منه - كما أسلفنا - لإيقاع الرعب في نفوس الحلفاء وإضعاف الروح المعنوية، ثم لإخلاء المواقع الحربية وتأجيل الهجوم، ويقال إن الألمان في أبريل سنة 1918 قذفوا بهذا الغاز بلدة فرنسوية تدعى أرمانتيير، حتى سال السائل في المدينة.
الوقاية من الغازات
أصدرت وزارة الشئون الداخلية البريطانية كتابا يباع بستة بنسات تحت عنوان «كتاب الاحتياط من الغزوات الجوية»، ويجدر بالذين يشغل بالهم حرب الغازات والطائرات أن يقرأوه.
وحرب الغازات هي قسم من الحرب الجوية؛ لأن الذي يلقي قنابل الغازات هو الطائرات. وهذا على الأقل هو ما يقوله هذا الكتاب، ولكنا نعتقد أنه في مصر يمكن لبارجة حربية أن ترسل إلينا الغازات من عرض البحر في أي نقطة شمال البلاد؛ لأن انتظام الرياح الشمالية يكفل سيرها إلى الجنوب نحو السكان بلا أي خطر على البارجة.
ولكن خطر الطائرة أكبر لأنها تختار المدن دون الريف وتلقي قنابلها التي تنفجر في الشوارع أو المنازل وتتفشى الغازات منها، وفي الوقت نفسه تحبسها الجدران القائمة فلا تنبسط وتتبدد كما هو الحال في الريف؛ لأن الغاز حين يقع لا يصيب غير عدد صغير من السكان.
والقارئ لهذا الكتاب يشعر أن جهنما قد انتقلت من العالم الآخر إلى هذا العالم، حتى إن إحدى المجلات وهي تعرض الكتاب اقترحت على وزارة الشئون الداخلية أن تخزن مقدارا من المورفين «خلاصة الأفيون» وتوزعه على السكان؛ لكي تعطى جرع منه لمن تصيبه الغازات حتى يموت ويطيق موته فلا يتألم بما تتجاوز الطاقة الإنسانية تحمله.
والكتاب يؤيد الرأي القائل بأن مكافحة الغازات المكافحة التامة غير ممكنة، حتى إن المستر بولدوين رئيس الوزارة يقول: «إن المكافحة المجدية هي الهجوم على مدن العدو وضرب السكان هناك قبل أن يضربوهم.»
ويرى الكتاب أن الوقاية الحقة في بريطانيا تكلف الحكومة مبلغا يتراوح بين 1000 و1500 مليون جنيه، تنشأ به إلى جنب كل مدينة أماكن خاصة لها جدران عالية ويمكن إقفالها إقفالا محكما؛ بحيث يدخل فيها جميع السكان ويبقون إلى أن تنزاح الغازات. ولما كان هذا الاقتراح لا يمكن العمل به فإن الكتاب يشرح طرقا أخرى للوقاية يمكن الفرد والمجالس المحلية أن يقوموا بها، ولما كانت حرب الغازات هي «في بريطانيا» حربا جوية فلا بد من الوقاية من شيئين؛ هما: قنابل التدمير، وقنابل الغازات.
فقنابل التدمير تدمر المنزل وتصيب الطبقات العليا، وقنابل الغازات تصيب الطبقات السفلى لأن الغازات ثقيلة أثقل من الهواء، وهي لذلك تلبث أياما بل أسابيع، وأحيانا تنفجر القنبلة الغازية سائلا يتبخر غازات قاتلة، فتبقى مدة طويلة وهو يؤدي هذه المهمة الوبيلة، وأنت وحظك في إحدى الغزوات الجوية، فإذا كنت تخشى القنابل المدمرة فاسكن أسفل الطبقات وحتى البدروم، وإذا كنت تخشى الغازات فاسكن أعلاها.
ولذلك يكون الريف آمن مكانا من المدن في مثل هذه الأحوال، والأمن هنا نسبي وليس مطلقا.
ولكن الكتاب ينصح بأن يختار كل إنسان في منزله غرفة رحبة تكفي جميع الأسرة، ثم يهيئ لها النوافذ والأبواب بحيث لا يمكن أن ينفد منها الهواء، فإذا تفشى الغاز حوله أمكنه أن يسد جميع النوافذ ويبقى بالغرفة يوما أو أكثر حتى يتبدد الغاز ويزول الخطر. ويرى الكتاب أن الكمامات لن تكفي بأي حال جميع السكان، وهو يصرح بأن البذلة أو السترة الكاملة التي يمكن أن يلبسها الإنسان مرهقة كثيرة التكاليف.
والغازات ألوان وأنواع لا تحصى، وعند بعض الدول أسرار عنها لا تفشيها لأنها تريد أن تفاجئ بها الأعداء عندما تحين الفرصة، وبعض هذه الغازات إذا سال بعد الانفجار ولوث الشارع يجب أن ترفع عن الأرض الطبقة التي لوثها حتى لا تتبخر وتعود سائلا قاتلا.
ومع أن «اتفاق جنيف» الذي عقد بين الدول سنة 1925 يمنع استعمال الغازات السامة مدة الحرب، فإن كل دولة تعرف أن عدوها لن يتراجع عن استعمالها إذا خشي على كيانه من الهزيمة، وهي مضطرة لهذا السبب إلى أن تتخذ عدتها للدفاع. وطريقة الدفاع الوحيدة - كما قال المستر بولدوين - هي الهجوم؛ حتى يقتل النساء والأطفال في الأمة المهاجمة قبل أن تترك لطياريها الفرصة في قتل النساء والأطفال.
وبديهي أن حرب الغازات لن تقصر على المدن بل ستتناول الجيش أيضا، ولكنها ستوجه معظم قوتها إلى المدن لتفكك الأمة وإلقاء الرعب؛ حتى يصرخ السكان في طلب الصلح.
بحث آخر في الغازات الجوية
وقد بحث حضرة الدكتور عبد الخالق سليم عضو مجلس النواب سابقا في مسألة الغازات الجوية وإلقاء القنابل المحشوة بالغازات على المدن، فذكر أنه كانت المناطيد الضخمة المسماة «تسبلن» هي البادئة، وكانت تقوم بمهمتها الجهنمية بعد الغروب بساعات، ولما كانت الاحتياطات الكافية قد اتخذت لتجعل أنوار الشوارع والمنازل والمتاجر غير ظاهرة من الجو، فكان قادة تلك المناطيد يعتمدون على أي ضوء ينعكس إليها من نهر التيمس في الليالي الظلماء بواسطة النجوم أو من بريق الكهرباء فوق قضبان الترام كلما سارت العربات فوقها، وكانت هذه العوارض أهم مرشد للطائرات لتعرف مواقع المدينة بشيء من الدقة.
فكانت هذه المناطيد تتلمس طريقها فوق المدينة وتمطرها بما تحمل من تلك المهلكات.
وحمولة كل منطاد تتفاوت بين ثلاثة وخمسة أطنان.
أما الغارة بالطائرات فلم تكن ذات بال ولم تبدأ باستعمالها إلا سنة 1918؛ حيث زار لوندرة أسطول مكون من خمس عشرة طائرة.
أنواع القنابل
أما أنواع تلك القنابل فلم تتعد اثنين:
النوع الأول:
تملأ هذه القنابل بمادة اسمها ثرمت
Thirmit ، فإذا سقطت إحداها فوق شيء صلب اختلطت المواد الموجودة داخل غلافها مع الثرمت، فتنفجر وتسيل منه المادة وقد بلغت حرارتها بتفاعل المواد الأخرى معها 5000 بميزان فهرنهايت أو 2700 بميزان سنتجراد؛ أي تكون حرارتها 27 ضعفا بالنسبة لدرجة غليان الماء.
فإذا التقت هذه المادة بأي معدن من المعادن أذابته فورا من هول حرارتها.
وكان الغرض منها إشعال النار في المدينة، ولكنها إن أصابت مستودعا للذخائر يكون الخطر بالغا منتهى الشدة.
وقد تبين للألمان أن تأثير هذا النوع ليس بذي بال في لوندرة.
النوع الثاني:
كانت قنابله محشوة بالمفرقعات والغرض منها التدمير، وقد انفردت سنة 1918 بهذا النوع من القنابل.
وقد شاهدت آثار انفجار هذا النوع في حالات متعددة.
سقطت قنبلة في منتصف الساعة الثانية عشرة مساء في حديقة كبيرة لمنزلين متلاصقين يحيط بهما سور مبني على ارتفاع مترين، وكان هذان المنزلان مدرسة للأطفال.
أما السور فقد أصبح الصباح وليس له أثر بالمرة.
أما موضع الانفجار، فكان حفرة عميقة قطرها أربعة أمتار تكسرت من حولها بعض الأشجار الضخمة من الجذوع.
أما المنزلان فلم يبق بهما سقف ولا باب ولا نافذة! تطاير الكل إلى مسافات بعيدة من شدة الانفجار!
كذلك لم يبق لوح زجاجي سليم في جميع المنازل الموجودة في دائرة قطرها ستون مترا، مع العلم بأن زجاج النوافذ في إنجلترا من النوع المتين الذي يستعمل للمرايا الخفيفة.
لم أسمع غارة جوية واحدة استعملت فيها هذه القنابل.
ومع أنها هي التي يخشى الناس خطرها وهي التي تشغل الرأي العام الأوروبي؛ فإني أقرر أنه من المستحيل حتى الآن الوقاية منها.
ومن هذه القنابل ما يحتوي على الفوسجين أو اللوسيت، وهما شديدا الأذى للمجاري الهوائية، وقل من شفي منها شفاء تاما.
وهذا النوع من الغازات السامة هو الذي يمكن درء خطره بواسطة الكمامات، ولكن ليس بواسطة هذه الكمامات الغالية والتي يبلغ ثمن الواحدة 150 قرشا، بل بواسطة كمامات بسيطة وخفيفة لا يتجاوز ثمن الواحدة بضعة قروش، وكانت توزع علينا في المستشفيات.
أما القنابل المحتوية على غاز الكلورين - وكانت تسمى قنابل الخردل - فالوقاية منها محال؛ وذلك لأن الغاز المنبعث منها يمكث فوق الأمكنة القليلة التهوية أو الحفر وما شابهها مددا طويلة قد تكون يوما أو بعض يوم، أما في الخلاء الخالي من الحفر فيمكث الغاز بضع ساعات تقل أو تكثر بمقدار كثرة الرياح أو قلتها.
والتعرض المباشر لهذا الغاز يسبب اكتواء للجلد لو مس هذا بحامض الكبريتيك «ماء النار».
ويعشعش هذا الغاز في الملابس منفوشة الخيوط كالأصواف الرخيصة أو القطنية المشابهة للكستور مددا طويلة، وتصبح هذه الملابس نفسها معدية للسليم؛ فكثيرا ما كان المصابون من هذا الغاز يخلعون ملابسهم في مكان ما مثلا، فلا يسلم المقترب منها من التهاب جلدي بعد ساعتين قد يستلزم أياما للعلاج.
فأين تلك الكمامات التي تقي الجسم من هذا النوع؟
ولقد استقر رأي كثير من الأخصائيين على أن خير الوسائل للوقاية من سموم هذه الغازات الجوية في مكان محكم الغلق مدة كافية تسمح بتهوية الجهة التي حصلت الغارة عليها؛ فالرياح هي العامل الوحيد في طردها.
أما الكمامات فلم تستعمل في المستشفى الذي كنت أشتغل فيه - وكان به 1950 سريرا للمرضى - مرة واحدة، بل ولم تقض الحاجة باستعمالها في لوندرة على ما أعلم.
الإمبراطورة زوديتو التي توفيت سنة 1930، وقيل ماتت مسمومة وخلفها الإمبراطور هيلا سيلاسي.
ويحسن هنا أن ألفت نظر الرأي العام بأن هذه الغازات بدئ باستعمالها في الميدان الغربي سنة 1917، ولم يعلم المدافعون بما هم فيه من خطر إلا بعد ساعتين حيث بدأت أعراض التسمم منها بالظهور، فيا ترى ما هو التحسين الذي طرأ على هذه الغازات ليجعلها أشد هولا وأعظم فتكا بعد تلك السنين الطوال؟
ومن الغريب أن المشتغلين بهذه الأنواع لم يسلموا من أذاها، وإذا علمنا أنه لغاية سنة 1920 لم يتمكن العلماء من حبس هذه الغازات حبسا تاما داخل أسطواناتها المصنوعة من الصلب تبين لنا خطرها الذريع.
وقد دلت الإحصاءات على أن عشر العمال الذين كلفوا بتعبئتها في صناديقها أو تعليقها أسفل الطائرات أصيبوا من ويلاتها، حتى العلماء أنفسهم لم يسلموا منها.
وقد فهمت من الخبراء بأن القنبلة إذا سقطت مثلا فوق عمارة سقوفها من الأسمنت المسلح من ارتفاع 20000 قدم مثلا، فإنها تخترق ثلاثة سقوف فقط قبل أن تنفجر، وأن انفجار القنابل يكون دائما إلى أعلى.
ولو كان في الأمر عزاء، فهذا في حيرة جميع الدول في إيجاد نظام كاف ومعقول للوقاية من هذه الغازات، ولا عبرة مطلقا بأية تعليمات صدرت للآن؛ فجميع إرشاداتها ناقصة للاعتبارات السابقة، وإنها وإن لم يقصد بها التضليل طبعا إلا أن الفائدة المرجوة منها ضئيلة تستلزم المجهود الجدي لجعلها ذات قيمة.
وكيف يتصور إنسان أن أي أمة تستطيع تدريب أفرادها على لبس كمامات يتحمل أصحابها دفع 150 قرشا عن كل واحد؟!
وإذا أمكن هذا المستحيل، فما الرأي في مصر والفلاح مثلا يقدر ماشيته بما قد علمنا والحوذي والعربي يقدر جواده وجمله بما هو معروف، وربما كان لهم العذر.
وهل نحن في مصر على استعداد للمجازفة بقدر كبير من المال دون التأكد من صلاحية هذه الكمامات؟!
لقد كان الخطر عظيما ومحققا في حالة الإغارات بالغازات السامة على الجنود في الخنادق.
فقد كانت هذه السموم تتخللها وتمكث فيها زمنا طويلا لعمقها ولعدم نهوضها، فكان لا بد من استعمال الكمامات لدرء خطر السموم التي تصيب المسالك الهوائية بأبلغ ضرر.
ومع كثرة الغارات الجوية على لوندرة كان ضررها على المدينة تافها في سني الحرب، وربما كان الألمان يرمون إلى إضعاف الروح المعنوية عند الشعب وإذلاله، فيضطر الحكومة إلى إنهاء الحرب بأي ثمن.
لمقاومة الغارات الجوية والغازات
وقد جهدت الأمم والمفكرون فيها خاصة في استنباط الوسائل لمكافحة خطر الغارات الجوية وإحباط الغازات السامة أو اتقاء أخطارها، وتفحص الآن وزارة الطيران بإنجلترا اختراعا جديدا يجعل من المستحيل إغارة الجوية على الجزر البريطانية. وصاحب هذا الاختراع هو المستر «مارتن» أحد المهندسين في مدينة «برستون» بمقاطعة لانكشير.
وقد قال في حديث له مع مندوب إحدى الصحف: «إن الجهاز الذي اخترعته ينسف أية طيارة تحلق في جو إنجلترا، لا بتأثير أشعة تصدر عنه، ولكن الاختراع قائم على قاعدة بسيطة من مبادئ الكهربائية المغناطيسية.»
ومعنى هذا أن طيارات الأعداء لا تستطيع التملص من هذا الجهاز أو الإفلات من تأثيره مهما حاولت ذلك بمختلف حركات الطيران.
وجهاز واحد من هذا الاختراع في استطاعته أن يحمي مساحة كبيرة من الجو فوق أية مدينة.
ومما يذكر في هذا الصدد أن وزارة الحربية الإنجليزية قد ابتاعت منذ سنوات قليلة من المستر «مارتن» نفسه امتياز اختراع هو عبارة عن جهاز تتمكن به المدافع الرشاشة من إطلاق مقذوفاتها ليلا.
وقد جاء في تاريخ الحرب العالمية الأخيرة أن الألمان قذفوا بغازاتهم السامة للمرة الأولى على الجنود البريطانيين والفرنسيين والبلجيكيين المرابطين على ضفاف قناة الأيزر، وذلك في الساعة الخامسة بعد ظهر 22 أبريل 1915.
وقد كان تأثير هذه الغازات شديدا في جنود الحلفاء، فاضطرت جبهتهم إلى التقهقر ستة كيلومترات في بدء الأمر، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى مركزها بعد قليل من الحين، ونشر في البلاغ الرسمي الفرنسي بتاريخ 14 أبريل 1915 ما يأتي:
تمكن الألمان في مساء أول من أمس من إرجاع خطوط جبهتنا عند شمال إيبر بين قناة الأيزر وطريق بولكابل، فقد خرج من خنادق الألمان دخان كثيف أصفر دفعته الريح الشمالية علينا، فجر اختناقا تاما على جنودنا، وشعرت به أيضا الجنود المرابطة في الخط الثاني بعد الجبهة.
وجاء في البلاغ الرسمي البريطاني ما يلي :
إن مقدار الغاز المقذوف علينا يدل على تصميم وتعمد، وقد استعمل ذلك خلافا للاتفاق المعقود في لاهاي ووقعته ألمانيا.
الفواكه ونوى الخوخ والوقاية من الغازات
تبتاع ألمانيا من أشهر من فرنسا مقادير كبيرة من الخوخ والبندق واللوز وقشور الثمار الجافة، فقد رأى علماؤها أن قشور البندق واللوز ونوى الخوخ تحوي مادة خاصة يمكن معالجتها كيماويا حتى تصير صالحة للوقاية من الغازات الخانقة.
ويذهبون كذلك إلى أن قشور هذه الأثمار التي هي من أفضل الغذاء يمكن استخدامها في صناعة غاز خانق فعله ذريع.
وقد ثبت أن قشور اللوز إذا حولت إلى فحم كانت خير واق من تصاعد الغازات والروائح الفاسدة.
المخابئ
فضلا عن استعمال الكمامات فاستعمال المخابئ أوفى وأوقى، والمخابئ تكون بإغلاق غرف إغلاقا محكما يمنع منها الجو الخارجي وتسد النوافذ والأبواب.
وعلى الحكومة إعداد فرق للإسعاف، وفرق للتطهير، وإنشاء مستشفيات وملاجئ.
حرب الحبشة وجوها وفصولها
إقليم الحبشة حار رطب في السهول، معتدل في النجود، بارد جاف في الجبال. وقلما ترتفع درجة الحرارة في النجود على 80 درجة بميزان فرنهيت؛ أي نحو 27 بميزان سنتجراد.
حضرة صاحب المجد النبيل إسماعيل داود رئيس اللجنة العامة للدفاع عن الحبشة والمتطوع للحرب معها ضد الإيطاليين، وقد سافر يوم الثلاثاء 15 أكتوبر سنة 1935 من بورسعيد إلى أديس أبابا.
نشر بروس أرصاده الجوية فيها سنة 1770 في كتابه المطبوع سنة 1790، فكان أعلى درجات الحرارة 91 بميزان فرنهيت؛ أي نحو 33 بميزان سنتجراد، وكان ذلك في 12 أبريل عند الظهر، وكان أخفها 32 أي صفرا بميزان سنتجراد، وذلك في 14 يناير الساعة السادسة صباحا.
فإقليم النجود معتدل كإقليم سوريا ولبنان.
والسنة هناك ثلاثة فصول: فصل الشتاء من أكتوبر إلى فبراير وهو أشد الفصول بردا، ويتبعه فصل حار جاف، ثم فصل المطر من يونيو إلى أكتوبر. ويشتد هطول المطر في يوليو وأغسطس، وقد يدوم إلى أواسط سبتمبر أو أواخره، والغالب أنه لا يمر شهر من غير أن يقع مطر، أما فصل المطر الحقيقي فمن يونيو إلى أواسط سبتمبر، وبانتهائه بدأ القتال في الحبشة هذا العام.
كلمة أخيرة وبيانات
أنجزنا الآن الكتاب - والمعارك ناشبة - فسقطت أديجرات، وسقطت عدوة يوم الأحد 6 أكتوبر سنة 1935، واحتفل الإيطاليون بدخولها بعد قتال ثلاثة أيام بالمدافع والطائرات، ومات الألوف من الفريقين، وانسحب الرأس سيوم لأن خطة الحبشة التقهقر إلى الداخل واستغلال الجبال في قمع الطليان، وعمل نصب تذكاري في روما ذكر فيه «مارس سنة 1896-6 أكتوبر سنة 1935» للانتصار في عدوة.
والمقول أن موسوليني يجنح إلى الاتفاق بعد الاستيلاء على «عدوة» وغسل الإهانة التي لحقت إيطاليا منذ 40 سنة لهزيمتها في عدوة سنة 1896.
ولا تزال الإشاعات في مصر كثيرة، والاستعدادات البريطانية بالغة، والناس يعطفون على الحبشة، وقررت لجنة الستة مسئولية إيطاليا في قتالها وعدوانها.
الألقاب الحبشية
نجوسانجوست: إمبراطور أو ملك الملوك. نجوس: ملك. رأس بيوديث: وزير. أساجي: كبير الأمناء. رأس ترك باشا: قائد مشاة برتبة جنرال. رأس: حاكم مقاطعة أو بلاد. أدجاتز ماتش أودجاتش: أمير. أزماتش: قائد فرقة. كنز ماتش: قائد الميمنة. جراز ماتش: قائد الميسرة. فتيواري: قائد المقدمة. بارامباراس: حارس الحدود. بلاتا: رئيس أركان حرب. بيجرند: رئيس مصلحة أو صناعة. صحافي تيزاز: كبير السكرتيريين. باشا: رئيس الجمارك أو مديرها. تشوم: رئيس مقاطعة أو مجموعة قرى أو قرية واحدة. تشيكا: رئيس قرية صغيرة.
المعارك الحبشية السابقة
كانت أهم المعارك التي خاض الأحباش غمارها مع جيوش أجنبية في القرن الماضي المعارك التالية:
1
معركة مجدلة:
في أبريل سنة 1868 مع الإنجليز، وكان الفوز فيها للإنجليز.
معركة جوندت:
في نوفمبر سنة 1875 مع الجيش المصري، وكان الفوز فيها للأحباش.
معركة جورا:
في مارس سنة 1876 مع الجيش المصري، وكان الفوز فيها للأحباش.
معركة كوفيت:
في سبتمبر سنة 1885 مع الدراويش، وكان الفوز فيها للأحباش.
معركة دوجالي:
في يناير سنة 1887 مع الإيطاليين، وكان الفوز فيها للأحباش.
معركة جوندار:
في خريف سنة 1887 مع الدراويش، وكان الفوز فيها للدراويش.
ومعركة وجرا:
في أغسطس سنة 1888 مع الدراويش، وكان الفوز فيها للأحباش.
معركة القلابات:
في مارس سنة 1889 مع الدراويش، وكان الفوز فيها للأحباش.
معركة كواثيت:
في يناير سنة 1895 مع الإيطاليين، وكان الفوز فيها للإيطاليين.
معركة سنافي:
في يناير سنة 1895 مع الإيطاليين، وكان الفوز فيها للإيطاليين.
معركة إمبا ألاجي:
في ديسمبر سنة 1896 مع الإيطاليين، وكان الفوز فيها للأحباش.
معركة مكال:
في ديسمبر سنة 1895 ويناير سنة 1896 مع الإيطاليين، وكان الفوز فيها للأحباش.
معركة عدوة:
في مارس سنة 1896 مع الإيطاليين، وكان الفوز فيها للأحباش .
الأمير أصفاوصين ولي عهد الحبشة وحاكم الوالو إحدى الولايات الحبشية، وهو مقيم الآن بمدينة دسي.
مجلس العصبة
اجتمع مجلس العصبة في 7 أكتوبر وسمع خطاب البارون ألوازي مندوب إيطاليا، الذي قال إن تقرير لجنة الثلاثة عشر قد أغفل أن الاعتداء المستمر من الحبشة هو الذي اضطر إيطاليا إلى العمل، فهي في موقف دفاع مشروع، وخطب مندوب الحبشة مستر تكلا هواريات، فقال إن الحبشة ترفض أي نوع من الحماية والانتداب، ووافق المجلس على تقرير لجنة الثلاثة عشر وتقرير لجنة الستة.
لجنة الستة
أما لجنة الستة المشار إليها فهي اللجنة التي قرر مجلس العصبة في اجتماعه في 6 أكتوبر 1935 تأليفها على أثر ورود الأنباء بزحف الإيطاليين على الأراضي الحبشية، واللجنة مؤلفة من مندوبي بريطانيا وفرنسا والبرتغال ورومانيا والدنمارك، وقد حققت في معرفة المعتدي في الحرب القائمة، وقدمت تقريرها يوم الاثنين 7 أكتوبر، وقررت بالإجماع أن إيطاليا هي البادئة بالقتال، وهي الدولة المعتدية التي يجب توقيع العقوبات عليها، وأنها خالفت المادة 12.
في الصومال الفرنسي
حصنت فرنسا ميناء «جيبوتي»، وأرسلت الجنود والسفن الحربية إلى الصومال الفرنسي لحمايته.
عطف أهالي الصومال على الحبشة
قد تألفت فرق المتطوعين في الصومال الفرنسي والإنجليزي لمساعدة الحبشة، وفر كثير من أهالي الصومال الإيطالي إليها للقتال في صفوفها، وفر كثير من الأريتريين للقتال مع الحبشة.
الاستعمار الإيطالي
الأمير ما كونن الابن الأصغر للإمبراطور هيلا سيلاسي، ويلقب بدوق هرر.
الاستعمار أنواع: استعمار للسكنى، واستعمار لصون المواصلات، واستعمار للاستغلال، واستعمار لإيجاد مراس بحرية. وإيطاليا تبغي استعمار الحبشة ليسكنها ملايين الإيطاليين ويعملوا فيها كما يعملون في بلادهم التي أصبحت تضيق بهم. وأكثر الاستعمار الإنجليزي للاستغلال والمواصلات والمراكز الحربية والمحطات لتوريد الفحم للبواخر، ولكن بريطانيا استعمرت أستراليا وكندا ونيوزيلندا لإسكان المهاجرين الإنجليز، الذين أصبحوا سكانها .
الرأي العام العالمي
وقد أصبح هناك رأي عام عالمي ضد إيطاليا، وزاد نفوذ إنجلترا لأنها تتزعم العصبة وتحمل لواء الدفاع عنها وتشايعها الدول الأخرى.
من قواد الحبشة
الرأس سيوم قائد جيوش الشمال، وحاكم مقاطعة التيجري، وحفيد الإمبراطور يوحنا كاسا وابن الرأس منجاشا خصم منليك سنة 1895، الرأس كاسا، الدجاز ماشي هايتي ميخاييل، الجنرال ناسيب و«قائد جيوش الجنوب»، الجنرال التركي محمد وهيب باشا، ولي العهد أصفاوصن قائد جيوش أوجادن ومعه 200 ألف مقاتل، والسيدة دترورو جابي ابنة زعيم حبشي وأغنى نساء الحبشة وتقود 15000 مقاتل.
الجنرال دي بوتو وقواد إيطاليا
هو القائد العام للجيوش الإيطالية في أفريقيا الشرقية وواضع خطط الحرب الحبشية، وهو شيخ في التاسعة والستين من عمره، حضر - شابا - حرب إيطاليا في «عدوة». ومن القواد: رودلفو كرسياني، سانتيني، مارافيجنا، برتسيورلي. وسافر المارشال بادوليو رئيس أركان الحرب إلى الحبشة للتفتيش.
إيطاليا تخرج من العصبة
قررت الحكومة الإيطالية الخروج من العصبة إذا وقعت العصبة عقوبات تعد «محاصرة» لإيطاليا.
رأي المتشرعين الفرنسيين في إقفال القناة
كتب بعض كبار المتشرعين الفرنسيين إلى إدارة شركة ترعة السويس في باريس رسالة في 6 أكتوبر سنة 1935 يقولون فيها إن جامعة الأمم لا تستطيع أن تأمر الشركة بإقفال الترعة في وجه الملاحة الإيطالية؛ فإن اتفاق ترعة السويس الذي وقعته تسع حكومات سنة 1888 وأبرمته معاهدة فرساي قد نص فيه بصراحة على أنه لا يجوز حصر الترعة ولا إقفالها في وجه أي أمة.
والمقول أن مجلس إدارة الشركة قد أخذ بهذا الرأي، ولكن لن يستطيع تنفيذه إذا شاءت العصبة وبريطانيا.
شريط عن الحبشة
شركة أوفا الألمانية وضعت شريطا سينمائيا عن الحبشة، تمثل حياتها وإمبراطورها.
عرض عسكري بريطاني مصري
عند الساحة العاشرة من صباح الجمعة 11 أكتوبر سنة 1935 شهدت الإسكندرية لأول مرة عرضا عسكريا اشتركت فيه جميع القوات البريطانية والجيش المصري والبوليس، بحضور المندوب السامي السير مايلز لامبسون ودولة توفيق نسيم باشا رئيس مجلس الوزراء وتوفيق عبد الله باشا وزير الحربية والبحرية وقواد القوات البريطانية والجيش المصري، وبدأ العرض في ميدان محمد علي، ثم مر من الشوارع الأخرى. وانتقدت الصحف المصرية هذا العرض الغريب غير المألوف وقد حصنت طوابي الإسكندرية، وبثت الألغام حوالي الشواطئ.
الأنبا كيرلس مطران الحبشة وصديق الإمبراطور ومستشارها.
قرار الجمعية العمومية لعصبة الأمم
اجتمعت يوم الأربعاء 9 أكتوبر سنة 1935 الجمعية العمومية لعصبة الأمم، واشترك فيها 56 دولة، ووافقت بالإجماع ما عدا النمسا والمجر وإيطاليا على معاقبة إيطاليا، وقررت تأليف «لجنة التوفيق» من مندوبي: اتحاد جنوب أفريقيا، إيران، شيكوسلوفاكيا، بلجيكا، فنزويلا، هولاندا، أستراليا، يوغوسلافيا، السويد، سويسرا، اليونان. وستدرس لجنة التنفيذ المؤلفة من أعضاء العصبة جميعا العقوبات وتنفيذها. وقررت اللجنة تأليف لجان أخرى، ورفع الحظر عن تصدير السلاح إلى الحبشة وبقاءه بالنسبة لإيطاليا، والموافقة على تقرير لجنة الثلاثة عشر واللجان الأخرى في أن إيطاليا هي الدولة المعتدية المخالفة لنص المادة 12، والواجب توقيع العقوبات عليها.
آخر أنباء القتال والعصبة
أنباء الحرب في الحبشة من يوم الأربعاء 9 أكتوبر سنة 1935 حتى يوم السبت 12 منه كما يلي: (1)
عبر الإيطاليون نهر مأرب، واستولوا على مقاطعة تيجري، واحتلوا جبل موسى علي والمدن التالية - وهي على خط حربي واحد: أديجرات، عدوة، منطقة أكسيوم المعروفة باسم «المدينة المقدسة» عند الحبشان وعاصمة الحبشة سابقا. وينوي الإيطاليون الاستيلاء على مكالي ووادي تكازي، والتريث أياما لإقامة المعسكرات، وتثبيت المراكز، وتعبيد الطرق، وحفر الآبار قبل الهجوم الثاني، الذي يقال إنه متجه للاستيلاء على «أديس أبابا»، ولكن الحبشان أعادوا الكرة على أكسيوم وعدوة وأديجرات لاستردادها. (2)
انسحبت جيوش الرأس سيوم من تيجري، ولكنها أعادت الكرة، والإمبراطور نفسه يقود الجيش لاسترداد مقاطعة تيجري وعدوة. (3)
استعمل الإيطاليون الطائرات والدبابات والمدافع والغازات السامة، وألقوا المنشورات، واستخدموا الجواسيس، في سبيل الاستيلاء على هذه البلاد. (4)
استولى الحبشان على واحة ولوال في الصومال الإيطالي، ويتقدمون في حدود الأريتريا شمالا بقيادة بعض رجال الرأس كاسا - قائد الحبشة في هذه المنطقة.
وقد هاجم الرأس الدجاز ماشي هايتي ميخائيل الإيطاليين في أوجادن. (5)
خطة الحبشان في المقاومة بالعصابات وانسحاب الجيش النظامي إلى الداخل عند الجبال والغابات هي خطة مدبرة. (6)
يستدل من الأنباء الواردة من أديس أبابا أن القتال دائر في أربعة ميادين: ميدان عدوة حيث واجه الرأس سيوم جيوش الزاحفين، وميدان يمتد من أكسوم إلى حدود السودان حيث بدأ الأحباش بالهجوم على أمل الوصول إلى حدود الأريتريا شمالا، في حين أن جيشا آخر من جيوشهم يحاول تطويق الجناح الإيطالي الأيسر، وقد انضم الرأس كاسا إلى الرأس سيوم لوقف زحف الإيطاليين هناك ومعه جيش كبير قاعدته مدينة غندار.
والميدان الثالث في الجنوب حيث اجتاز الإيطاليون الحدود قادمين من الصومال الإيطالي وزحفوا شمالا عن طريق دولو، في حين أن الأحباش يسيرون على خطة الهجوم في الميدان الرابع بطريق ولوال.
فالإيطاليون يزحفون إذن من ناحيتين وهدفهم حدود الأريتريا شمالا وحدود الصومال الإيطالي جنوبا، والميدانان الشماليان واقعان في حدود ولاية تيجري والميدانان الجنوبيان واقعان في حدود ولاية أوغادن.
وتسير الأمور على خلاف ما كان العارفون يعتقدون؛ أي إن الأحباش لم ينسحبوا أمام الغزاة بل قاوموهم مقاومة عنيفة، وزادوا على ذلك بأن سلكوا من ناحيتهم خطة الهجوم في ميدانين مختلفين.
ومما يسترعي النظر، أن الأحباش عمدوا إلى حرب العصابات في الوقت الذي تواجه فيه جيوشهم المنظمة أو شبه المنظمة جيوش الإيطاليين الزاحفة. (7)
قطعت العلاقات السياسية بين الحبشة وإيطاليا، وعاد ممثل كل منهما إلى وطنه، ووزير الحبشة في روما هو أفيفورك جيفريس، ووزير إيطاليا في أديس أبابا هو الكونت فينسي. (8)
هجم الأحباش على عدوة في 11 أكتوبر، ويقال إنهم استردوا عدوة وإن ثورة في أريتريا قد نشبت ضد إيطاليا.
من نتائج المسألة الحبشية
ننشر فيما يلي ما أنتجته المسألة الحبشية في دورها الحاضر - من أغسطس إلى أكتوبر سنة 1935: (1)
وقوع عصبة الأمم في أزمة؛ لمخالفة إيطاليا للعهد ضد دولة الحبشة عضو العصبة. (2)
صعود نفوذ بريطانيا الأدبي بقيامها بحمل لواء الدفاع عن العصبة. (3)
حرص الدول الصغرى على بقاء العصبة؛ حماية من مطامع الدول الكبرى. (4)
توكيد صداقة تركيا واليونان لبريطانيا. (5)
ظهور اسم الحبشة في العالم كله. (6)
إيجاد رأي عام عالمي لمصلحة الحبشة وضد إيطاليا، مع أن الحبشة دولة شرقية معدودة متأخرة عند الأوروبيين. (7)
الحبشة - بالرغم من تأخرها - أمة نامية الروح الاستقلالية إلى أبعد حد، وتنفرد في أفريقيا بهذه الروح العسكرية الاستقلالية المتفانية. (8)
توحيد الحبشة مسلمين ومسيحيين وقبائل ورءوسا. (9)
ظهور نهضة اجتماعية في الحبشة سيكون لها نتائج مفيدة وبعيدة. (10)
قلق مصر، ثم يقظتها نحو استقلالها ودستورها واحتمال صيرورتها ميدانا من ميادين الحرب واقتراب العالم من الحرب العالمية، والاستعداد الهائل للحرب الكبرى المنتظرة. (11)
استعمال الأسلحة الحديثة الحربية. (12)
العودة إلى البحث في الاستعمار وفوائده ومضاره. (13)
ألمانيا - التي لا تزال تشعر بأنها غبنت في معاهدة الصلح وحرمت من مستعمراتها الأفريقية الغنية - ترى في الحوادث الجارية فرصة لاستعادة نفوذها ومستعمراتها، ولكنها تعمل في صمت وسكون ولم تعلن خطتها بعد. (14)
العالم مفعم بالمفاجآت، وقد تؤدي الحوادث الجارية إلى انقلاب في خريطة العالم لا مثيل له في التاريخ.
Unknown page