ولعمري ماذا تكون الحياة، بل كيف تكون؟ أليس يعلم الإنسان أنه سائر إلى الموت، ويعلم كذلك أنه طالب ما لا يموت؟ فلا جرم كان شعوره بهذا التناقض مؤلما، وكان هذا الألم هو منشأة الهموم التي لا تدعه لنفسه ولا تدع نفسه له، وكانت حقيقة هذه الهموم التي يجمعها كلها هي شعور الإنسان شعورا فطريا جرى منه مجرى العادة بالمنازعاة بين ما يطلب هو في الحياة وبين الحقيقة التي تطلبه هو من الحياة، أي الموت، ومن ثم يضطرب كيانه العقلي. فيؤثر كل شيء في نفس هذا الإنسان تأثيرا أكبر من حقيقته، لأن حقيقة هذا الإنسان لم تعد في نفسه، بل في مطامعه، فهو يا بني كالوعاء المثقوب: تصب فيه البحر ولا يزال فارغًا! والحياة عنده هي طلب الحياة، وكفى بهذا عبثًا! ولا تحسبن أنه لا يبالي بما مضى من عمره، بل هو يستشعر فوق ذلك الخوف من أن يكون الذي مضى هو أكثر العمر وأطيبه، ولذلك لا يبرح شقيا بما يحاول، إذ يحاول أن يجمع طيبات الحياة ويستحوذ عليها في القليل من عمره، ليستمتع بها فيما وراء ذلك، كأن الحياة التي قوامها من الغذاء لا تفارق الإنسان ما دام الغذاء في بيته، وكأن الله يبيع المستقبل لمن اجتمع له من الدنيا ما يتوهم أنه يقوم ثمنا للمستقبل.....
لا يبرح هذا الإنسان شقيا، وهو أبدا من الهم والغيظ والتوقد واشتعال الأمل والاضطراب في أسباب الحياة كالسكة المحماة: يحسب ذلك من نفسه قوة وفضلا وسعة في الحيلة، ولا يدري أن هذه النار المشبوبة في صدره تقطع منه أكثر مما تقطع به، وأنها كما تعطيه قوة المضي في هنات الحياة وهيناتها، تعطي الأقدار الصلبة مثل هذه القوة عليه، فلا تكاد تصدمه من أي قطاره حتى يتثلم ويتفلل.
وهل تحسب مثل هذا يكون عداده في أهل السعادة، وهو من الحرص على الحياة يكاد يشم تراب قبره في كل حادثة تلم به، ولا يزال يصلب على كل باب من أبواب الأيام حتى يفتحها الصباح وحين يغلقها الليل، ويرمي بالنبل المسموم من فضوح الدنيا وشهوات النفس الدنيئة، ويقتل ضميره كل يوم قتلة الكذب والغدر والإثم، لأن ذلك من وسائل الحياة التي تبسط عليه الدنيا؟ وما ظنك بسعادة أولها حب النفس وآخرها بغض الناس، ومن مقدمتها منازعة الفرد للمجموع، ومن نتائجها منازعة المجموع للفرد، ومن مبدئها درس الشر علما، ومن غايتها مزاولة الخبث عملا، ولها اسم السعادة وفيها معنى الشقاء، ومن شروطها على صاحبها أنها لا تمتعه إلا بما يمله، ولا تتبرج فيه إلا فيما لا يناله، ولا تظهر للناس أبدا إلا ليروا فيه رذيلة من الرذائل، ثم لا تكون مع ذلك كالفقر في موضعها: هذا توازن بين نعم السماء التي تنزل على الضمير وبين هموم الأرض، وتلك توازن بين هموم السماء التي تنزل على الضمير وبين نعم الأرض، وآخر أمرها أن لا يعرفها صاحبها إلا على الضد مما يعرفها الناس: فهم يسمعون لها الأصوات العالية من الأمر والنهي والجاه وما إليها، وهو يعلم أن هذه الأصوات لم تخرج منها إلا لأنها كبيرة فارغة.....
قال "الشيخ علي": وبذلك يا بني خسر الناس لذة الحياة، فلا أدري أهم بشر أم آلهة، لأني أرى كل حي كأنما يريد أن يردم صدعا في الكون، وأن يصلح من هذه الدنيا ونظامه ما لم يصلح له، ولماذا؟ ... لأن الدينار الواحد نواة ذهبية، ولكن هذه النواة لا تخرج لكل إنسان نخلة من الذهب....
ولماذا أيضا؟ ... ولأن هذه النخلة حين تؤتي أكلها لا يكون إلا مرًا! ولكن أليس في الأرض غبر المال ما يمكن أن يستلذ وأن يسمى نعمة؟ وأين هي تلك السوق التي تعرض فبها النعم الهنيئة ويقف إلى جانبيها ملائكة الله يبيعون بالدرهم والدينار، ويبيعون المريض من تلك الأغنياء عافية، والضعيف قوة، والحزين مسرة، والخائف أمنا، والفزع اطمئنانا، والهرم شبابًا، والمهزول جسمًا رويًا، والميت رجعة أخرى ...؟
1 / 28