242

Masabih Satica

المصابيح الساطعة الأنوار

وما ذكر الله من مجيئه: فهو مجيء أمره ونقمته وظهور ما يظهر يوم القيامة من عظيم آياته، وما يكون يومئذ من عقابه لأهل معصيته، فلما بدا من آيات الله العظام في يوم القيامة ما كان لا يعاين ولا يرى من فعله في دار الدنيا فرأى الخلق يومئذ من أخذ الله بانتقامه للعاصين، وشدة زلزال بطش عقاب الله بالظالمين، ما لم يكونوا في دار الدنيا يرون جاز أن يسمي الله -تبارك وتعالى كما يسمعون إتيان أمره وآياته عند أخذه لأهل معصيته لشدة بأسه وعقابه وما يصير إليه من أطاعه من كريم ثوابه -إتيانا منه، إذ كان ما ظهر في ذلك كله من الآيات العظام إنما كان بقدرته وعنه، وذلك مفهوم في لسان العرب عند من كان ذا لب قد يقولون اليوم في مفهوم اللسان بينهم عندما يكون من سطوات ملوكهم فيهم، وعند حلول جنود ملوكهم بمن يعصيه: جاء القوم مالا يطيقون. حين سطا جنود ملكهم بهم في الدنيا، ويقولون: جاءهم الملك والخليفة، وإنما جاءتهم جنوده المبعوثة، فلما كان يبدو للخلق في يوم القيامة من الزلزال والآيات العظيمة، بما يكور من الشمس والقمر، وينثر من النجوم وما يبدي الله _ ملك الملوك وربهم الحي القيوم_ من الآيات العظام التي يظهرها في ذلك اليوم، وكأن العصاة الظلمة من الآدميين عنها وعن الحذر بها في دار الدنيا غافلين، وعما أنذرهم الله ورسله منها معرضين كان معقولا عند من فهم عن الله من ذوي العقول والأفهام قول الله ذي الجلال والإكرام: ((وجاء ربك)) و((هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)) [البقرة:210] لما جاءهم يوم القيامة أمر الله، وبدا لهم ما لم يكن يبدو من انتقام الله، وحكم تبارك وتعالى بينهم بالحق والفصل، ووضعت موازين القسط التي معناها ما يكون يومئذ من العدل الذي لا يغادر معه صغيرة ولا كبيرة من الإساءة إلا أحصيت، ولا حسنة من الحسنات تدق ولا تجل إلا أحصي ثوابها وحصرت، وأحاط بالظالمين يومئذ من بأس الله ما كانوا يحذرون، ورأوا حينئذ كل ما كانوا به ينذرون، وحكم بين الخلق فيما كانوا يختلفون، وبدا لهم في ذلك اليوم الأعظم ما كانوا به من جهنم يوعدون، قال الله سبحانه: ((وجيء يومئذ بجهنم)) والمجيء بها فهو حضورها، وإبداء الله لها فرأوها وسمعوا شهيقها وزفيرها، وأبصروا تغيضها ولهيبها وسعيرها، وأخذتهم الأغلال والسلاسل وأحاطت بهم الكروب والزلازل، وصف الروح والملائكة صفا صفا، وامتلأت قلوب العاصين رعبا وخوفا كان حضور أمر الله في ذلك كله مجيئه جائز به مفهوم فيه ومعه أن يقال: جاء ربك، حين جاءت البطشة الكبرى، وبدا من الله في ذلك ما لم يكن يعاين الكفار في دار الدنيا، وجاء يومئذ ثواب الله لأهل الطاعة والتقوى من جنات النعيم التي يخلدون فيها فلا يفنون، ولا يفنى ولا يتوهم الخبر _في المجيء من الله سبحانه والإتيان_ انتقال ولا زوال من مكان إلي مكان جل عن ذلك وتبارك وتعالى إذ ليس كمثله شيء، ولم يكن له شيء مثلا، ليس بزائل سبحانه ولا منتقل، ولا يوصف بهبوط من علو إلي سفل، وليس يمثل سبحانه في شيء من أموره كلها بمثل ولا ند، ولا مثل له ولا نظير ولا كفؤ ولا شبيه ولا عديل، له الأسماء الحسنى والأمثال العلى، نعوذ بالله من سخطه ومعصيته، ونسأله أن يؤمن روعنا يوم القيامة بعفوه ومغفرته، ويسعدنا بإيثار تقواه وطاعته لنا يوم الفزع الأكبر باتباع مرضاته، ولا حول ولا قوة ألا بالله العلي العظيم، عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم.

ثم قال ذو العزة والعظمة والقدرة فيما ذكر من الخبر الصادق عن يوم القيامة والحسرة: ((يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى)) وتفسير ذلك أن الإنسان سيذكر بما فرط فيه من الطاعة والتقوى، فيندم حيث لا ينفعه الندم عندما يعاين ويرى من عظيم الآيات في يوم البطشة الكبرى، فيندم ويفكر ويتذكر وأنى له التذكر وعند ذلك ما يقول : ((يا ليتني قدمت لحياتي(24))) يعني في أيام دنياه، وقيل: ما كان من وفاته تذكر أو ندامة على ما فاته من تقوى الله وطاعته، وألا يكون قدم ذلك قبل حضور أجله وموته ليوم بعثه ونشوره وخلده فيصير بطاعة الله لو كان أطاعه واتقاه إلي الثواب الذي أعده الله لمن يتقيه ويطيعه ويخشاه.

قال الله سبحانه : ((يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى(23))) وتأويل ذلك: أن الإنسان فرط في الذكرى حتى انقطعت عنه أيام حياة الدنيا التي جعلها الله دار المهل والبلوى، فترك الطاعة والتقوى حتى صار إلي الدار الآخرة التي ليست بدار مهل ولا بلوى، وإنما هي دار ثواب وعقاب وجزاء يجزى فيها كما قال سبحانه تبارك وتعالى: ((ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوابالحسنى)) [النجم:31].

Page 256