خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
«الحمد لله ولي الحمد وأهله وصلى الله على محمد نبي الرحمة وآله.
هذا كتاب يذكر فيه ميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسبه، وآباؤه وأمهاته، وعمومته، وأزواجه، وذكر حليته، وآدابه إلى وفاته وأسماء أولاده والأئمة السابقين من ولد علي أمير المؤمنين عليه السلام في سائر ما عرض وازدوج إلى ذلك.
عمله أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني، يستذكربه المستهدي، ويستهدي به المبتدي، وإلى الله الرغبة في التيسير، وبه العصمة في كل الأمور».
Page 96
[(1)الرسول الأعظم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم] (53ق ه - 11ه /571 - 633م) - أبو الطيب والطاهر -
Page 97
[اصطفاؤه صلى الله عليه وآله وسلم]
[1] «أخبرنا أحمد بن سعيد بن عثمان الثقفي قال: حدثنا أحمد بن أبي روح البغدادي، قال: حدثنا محمد بن مصعب القرقساني، قال: حدثنا الأوزاعي» عن أبي عمار عن «واثلة بن الأسقع»، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفىمن بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش (بني هاشم) واصطفاني من بني هاشم)).
[2] أخبرنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي قال: حدثنا بهلول بن مورق أبو غسان قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن عمر بن عبد العزى بن نوفل بن عدي، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة عن عائشة أن رسول الله قال: ((قال لي جبريل عليه السلام:قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم)).
Page 98
[تزويج والده صلى الله عليه وآله وسلم]
[3] أخبرنا عمر بن أبي سلمة الخزاعي قال: حدثنا بدر بن الهيثم قال: حدثنا علي بن حرب قال حدثنا محمد بن عمارة القرشي، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس قال:لما خرج عبد المطلب بن هاشم بابنه عبد الله ليزوجه، مر به على كاهنة من أهل تبالة قد قرأت الكتب كلها متهودة، يقال لها: فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت له: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟
فقال شعرا:
أما الحرام فالممات دونه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
والحل لاحل فأستبينه
«يحمي الكريم عرضه ودينه»
ثم مضى مع أبيه، فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فأقام عندها ثلاثا، فلما مر بالكاهنة قالت له: يافتى ما صنعت بعدي؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب فأقمت عندها ثلاثا، فهل لك فيما قلت لي؟، فقالت لا
قالت: قد كان ذلك مرة فاليوم لا، إني والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكن رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في فأبى الله إلا أن يصيره حيث أراد، ثم أنشأت تقول:
إني رأيت مخيلة لمعت .... فتلألأت بحناتم القطر
فلمأتها نورا يضيء له .... ما حوله كإضاءة البدر
ورجوتها فخرا أبوء به .... ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهرية سلبت .... ثوبيك«ما استلبت»وما تدري
فانطلق عبد الله على وجهه، فنادته وقالت:
آلآن وقد ضيعت ما كان ظاهرا .... عليك وفارقت الضياء المباركا
غدوت إلي خاليا قد بذلته .... لغيري فاذهب فالحقن بشانكا
ولا تحسبن اليوم أمس وليتني .... رزقت غلاما منك في مثل حالكا
Page 99
ولكن ذاكم صار في آل زهرة .... به يختم الله النبوة ناسكا [4] أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوسقي قال: حدثني أبو محمد الأنصاري قال: حدثني عمارة بن زيد قال: حدثني إبراهيم بن سعد الزهري، عن محمد بن إسحاق ويزيد بن رومان وصالح بن كيسان ويحيى بن عروة، وغيرهم: أن أبرهة لما صار على مسيرة يوم من مكة دعا برجل يقال له: الأسود بن مقصود، وأمره أن لا يترك لأهل مكة ثاغية ولا راغية إلا استاقها.
فأقبل الأسود واستاق في ذلك مائتي بعير لعبد المطلب، فبلغ عبد المطلب فخرج مع ابنه عبد الله ودخل عسكر أبرهة فلقي رجلا يقال له ذو نفر، فاستعان به.
فقال له :ما أقدر على شيء غير أن سائس الفيل الأعظم صديق لي، فأنا أسأله تسهيل الإذن لك.
فقال: افعل.
فذهب إلى أنيس الحاجب، فقال له: إن هذا القادم من مكة سيد أهلها، ومطعم الناس بالسهل والوحش في قلال الجبال.
فدخل أنيس على أبرهة، فأذن لعبد المطلب في الدخول، فأقبل مع ابنه والفيل الأعظم واقف على الباب، فلما جاز عبد الله نظر الفيل إلى وجهه فخر ساجدا، فعجب من ذلك أنيس ومن على الباب.
فقال قس: لا تعجبوا من سجوده فإنه لم يسجد له، ولكن «سجد» للنور الذي في وجهه، وهو نور نبي عرفناه في الإنجيل.
ودخل عبد المطلب وابنه، فلما رآه أبرهه، نزل عن سريره، وجلس على بساط وأجلسهما معه.
وكان عبد المطلب وسيما جسيما، يهابه من رآه فكره أن تراه الحبشة على سرير ملكه.
ثم كلم أبرهة فيما استاقوا له، فتبسم أبرهة وقال للترجمان:أخبره أنه لما دخل ملأ قلبي من هيبته، وظننته ذا عقل، إني إنما سرت لتخريب هذا البيت الذي هو شرفه ويكلمني في أباعره!
فقال: إن هذا البيت بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام وقد كاده غيره في الزمن الأول فكفى الله كيدهم، وله رب، وأما الإبل فأنا ربها.
فردها عليه، فرجع بها.
Page 100
[قصة أصحاب الفيل]
وسار أبرهة، فكان من أمره ما قص الله تعالى في قوله: ?ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل...? إلى قوله: ?ترميهم بحجارة من سجيل?[الفيل:1-5].
فكان ابن عباس يحدث أنه رأى في منزل أم هانئ بنت أبي طالب من تلك الحجارة نحو قفيز، وإذا هي مثل بعر الغنم أو أصغر، مخططة بحمرة كمثل الجزع اليماني.
Page 101
[مولده صلى الله عليه وآله وسلم]
[5] أخبرنا عبد الله بن محمد بن المبارك الجوزجاني قال: حدثنا الحسن بن العلاء قال: حدثنا ابن نمير، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه عن جده قال: ولدت أنا ورسول الله عام الفيل فكنا لدين.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام عكاظ ابن عشرين سنة.
[6] «أخبرنا عبد الله قال: حدثنا ابن أيوب قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا شبابة عن شعبة عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني» عن أبي قتادة الأنصاري قال: قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن صوم يوم الإثنين فقال: ((يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه، ويوم أنزل علي فيه)).
Page 102
[رؤيا عبد المطلب]
[7] [أخبرنا أبو زيد عيسى بن محمد العلوي قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا يحيى الحمائي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمر الأنصاري، عن أبيه عن كعب]: أن عبد المطلب نام يوما في الحجر فانتبه مكحولا مدهونا، قد كسي حلة البهاء والجمال، فبقي متحيرا لا يدري من فعل به ذلك، فأخذ أبوه بيده فانطلق به إلى كهنة قريش.
فقالوا له: إن إله السماء قد أذن لهذا الغلام في التزويج.
فزوجه قيلة بنت عمرو بن عامر، فولدت له الحارث، ثم ماتت فزوجه بعدها هند بنت عمرو.
Page 103
[وصية هاشم للمطلب بسقاية الحج]
وحضرت هاشما الوفاة فدعا بعبد المطلب وهو يومئذ غلام ابن خمس وعشرين سنة.
قال أبو العباس: وهذا غلط كان صبيا بعد موت هاشم، يسطع من دائرة غرة جبينه نور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال هاشم: يامعاشر قريش، أنتم مخ ولد إسماعيل، اختاركم الله لنفسه وجعلكم سكان حرمه وسدنة بيته، وأنا اليوم سيدكم وهذا لواء نزار وقوس إسماعيل وسقاية الحاج قد سلمتها إلى ابني عبد المطلب فاسمعوا له وأطيعوا.
فوثبت قريش فقبلت رأس عبد المطلب ونثروا عليه النثور، فسادهم.
Page 104
[من دلائل نبوته صلى الله عليه وآله وسلم]
[أولا: رؤيا عبد المطلب]
ثم نام يوما في الحجرة فانتبه فزعا مذعورا.
قال العباس: فاتبعته نحو داره، وأنا يومئذ غلام أعقل، فقالوا: يا أبا الحارث مالك اليوم كالخائف؟
قال: رأيت وأنا نائم عند الحجرة كأنما أخرج من ظهري سلسلة بيضاء لها أربعة أطراف طرف بلغ مشارق الأرض، وطرف بلغ مغاربها، وطرف بلغ أعنان السماء، وطرف قدجاوز الثرى، فبين أنا أنظر إليها إذ صارت أسرع من طرفة عين شجرة خضراء، لم ير الراؤون أنور منها، وإذا بشخصين بهيين قد وقفا علي، فقلت لأحدهما:من أنت؟
قال: أما تعرفني، أنا نوح نبي رب العالمين.
فقلت للآخر:من أنت؟
قال: أنا إبراهيم خليل رب العالمين.
فقالوا له: إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات «وأهل» الأرض.
فبقي عبد المطلب زمانا، فلما كان يوما رجع من قنصه في الظهيرة عطشان يلهث، فرأى في الحجر ماء معينا فشرب «منه» ثم دخل على فاطمة فواقعها، فحملت بعبد الله، وواقع عبد الله آمنة فحملت برسول الله .
Page 105
[ثانيا: صفة حمله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر مولده]
فكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آت حين مر لي من حملي ستة أشهر فوكزني في المنام برجله، وقال لي: يا آمنة إنك قد حملت بخير العالمين، فإذا ولدتيه فسميه محمدا واكتمي شأنك.
فكانت تقول: لقد أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من قومي ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل.
قال: فبقي في بطن أمه صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أشهر لا تشكو وجعا ولا ريحا ولا ما يعرض للنساء ذوات الحمل.
قالت آمنة: فسمعت وجبة عظيمة وأمرا شديدا، فهالني -وذلك يوم الإثنين- فرأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي، فذهب عني الرعب وكل وجع، ثم رأيت نسوة كالنخل طولا كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بي؛ فبينا أنا أعجب وأقول: واغوثاه من أين علمن بي هؤلاء، فاشتد بي الأمر فأخذني المخاض فولدت محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فلما خرج من بطني درت فنظرت إليه، فإذا أنا به ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل.
Page 106
[ثالثا: اضطراب الأصنام ونداء الذئب]
قال: وكان عبد المطلب ليلة إذ في جوف الكعبة يرم منها شيئا، إذ سمع تكبيرا عاليا: الله أكبر الله أكبر رب محمد المصطفى وإبراهيم المجتبى، ألا إن ابن آمنة الغراء قد ولد وقد انكشفت عنا سحائب الغمة إلى الرحمة، ثم اضطربت الأصنام وخرت على وجوهها.
فقال عبد المطلب: فدهشت، ثم خرجت من الكعبة في ليلة مقمرة فإذا أنا بذئب قد وقف بأعلى مكة وهو ينادي بصوت له رفيع عربي فصيح:
يا آل غالب ألا فاسمعوا قد جاءكم النور الثاقب الذي به تستبهج الدنيا، فاتبعوه قبل أن تدنوا وتخذلوا، ثم مضى الذئب، وإذا بصوت رفيع من الجبل جبل أبي قبيس: يا آل غالب ألا فاسمعوا لهذا المولود فإنه خيرة المعبود، فطوبى لمن آزره وتبعه ونصره.
فأسرع عبد المطلب نحو منزل آمنة فإذا هو بطيور ساقطة على حيطان الدار وسحابة بيضاء قد أظلت الدار بأجمعها، فلما دنا من الباب لم يطق الدخول من لمعان النور، فقرع الباب قرعا خفيفا.
فقالت آمنة بخفي من صوتها: من هذا؟
قال: أنا عبد المطلب، افتحي واعجلي قبل أن تتفقأ مرارتي وتتصدع كبدي.
فوثبت آمنة وفتحت ودخل عبد المطلب فنظر إلى وجهها ففقد النور الذي بين عينيها فضرب بيده إلى ثوبه ليشقه، وقال:ويحك يا آمنة أنائم أنا أم يقضان؟
Page 107
قالت: بل يقضان، فما قصتك؟
قال: ويحك يا آمنة أنا منذ الليلة في خوف ورعب فخبريني ما حال النور؟
قالت: قد وضعت غلاما.
قال: وأين وضعتيه، ولست أرى عليك أثر النفاس ؟
قالت: إن هذه الطيور التي ترى قد أطلت الدار لتنازعنيه منذ وضعته.
قال عبد المطلب: ويحك فهلميه حتى أنظر إليه.
قالت: إنه حيل بينك وبينه.
فاشتد على عبد المطلب وقال: لئن لم تخرجيه لأقتلن نفسي، أتمنعيني من ولدي وولد ولدي.
قالت: هو في ذلك المخدع فشأنك به.
فوثب عبد المطلب ليدخل فصاح به صائح بصوت هائل: ارجع لا سبيل لك، ولا لأحد من الآدميين إلى هذا المولود حتى تنقضي عنه زيارة الملائكة.
[8] «أخبرنا ابن جعفر الأنماطي، قال: حدثنا فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة»
قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان أول بدء أمرك؟
قال: ((دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام)).
Page 108
[رابعا: حديث الرضاع]
[9] أخبرنا عبد الرزاق بن محمد عن أبيه، عن ابن إسحاق يرفعه بإسناده، عن عبد الله بن جعفر، قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدمت حليمة بنت [أبي ذويب- عبد الله بن] الحارث في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضاع بمكة.
قالت حليمة: فخرجت في أولئك النسوة على أتان لي قمراء، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى أحد بني سعد بن بكر، قد أرزمت أتاننا بالركب، ومعي شارف والله ماتبض بقطرة من لبن، «ونحن» في سنة شهباء، قد جاع الناس فيها حتى خلص النهم الجهد، ومعي ابن لي والله ما ينام ليلنا، ولا أجد في ثديي شيئا أعلله به، إلا أنا نرجوا الغيث، وكانت لنا غنم فنحن نرجوها، فلما قدمنا مكة ما بقي منا أحد إلا عرض عليها رسول الله فكرهناه وقلنا: إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر، ويحسن الوالد، فقلنا: ما عسى أن تصنع لنا أمه أو عمه أو جده فكل صواحبي أخذت رضيعا، ولم أجد شيئا.
فقلت لصاحبي: إني والله آخذ هذا اليتيم من بني عبد المطلب فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي لا آخذ شيئا.
قال: أصبت، فأخذته.
قال ابن إسحاق في حديث غيره: فجاءني عبد المطلب بن هاشم يخطر في حلته، فقال: معاشر المراضع هل بقي منكن أحد «من الركب لم تأخذ رضيعا»؟
فقلت: أنا.
Page 109
«فقال: تأخذي ولدي هذا»!
فقلت: نعم، فأخذته، فوالله ما هو إلا أن حملته على تلك الأتان الرزوم، فلقد كنت لا أقدر على لزمها من النهوض حتى أن النسوة ليقلن: أمسكي علينا، هذه أتانك التي خرجت عليها؟
فقلت: نعم.
فقلن: إنها كانت أرزمت حين أقبلنا فما شأنها ؟
فقلت: حملت عليها غلاما مباركا.
فخرجنا، فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيرا حتى قدمنا والبلاد سنهة، فلقد كان رعاؤنا يسرحون ثم يروحون فتروح أغنام بني سعد جياعا، وتروح غنمي شباعا حفلا، فنحتلب ونشرب، فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى وغنم حليمة تروح شباعا بطانا حقلا، وتروح غنمكم بشر جياعا؟! ويلكم اسرحوا حيث تسرح رعاتهم فيسرحون معهم فما ترجع إلا جياعا كما كانت.
قالت: وكان «رسول الله» صلى الله عليه وآله وسلم يشب شبابا ما يشبهه أحد من الغلمان، يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر وفي الشهر شبابه في السنة.
فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة أنا وأبوه وكنا والله لا نفارقه أبدا ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه قلت لها: إني ظئر، والله ما رأينا صبيا قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه وباء مكة وأسقامها فدعينا نرجع به حتى ترين من رأيك.
Page 110
[خامسا: خبر شق الصدر]
فلم نزل بها حتى أذنت، فرجعنا به فأقمنا أشهرا ثلاثة أو أربعة، فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بهم لهم إذ أتى أخوه يشد.
قال ابن إسحاق: أخوه ضمرة.
قالت: وأنا وأبوه في البيت فقال: إن أخي القرشي أتاه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشد، فوجدناه قائما قد انتقع لونه، فلما رأيناه جهش إلينا وبكى.
قالت: فالتزمته أنا وأبوه وضميناه إلينا وقلنا له: ما بالك بأبي أنت؟
قال: أتاني رجلان فأضجعاني وشقا بطني وصنعا بي شيئا ثم رداه كما هو.
فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا قد أصيب، ألحقيه بنا بأهله فنؤديه إليهم قبل أن يظهر ما نتخوف. فاحتملناه فقدمنا به إلى أمه، فلما رأتنا أنكرت شأننا، وقالت: ما أرجعكما به قبل أن أسألكما وقد كنتما حريصين على حبسه؟
قلنا: لا شيء إلا أن الله قد قضى الرضاعة، وسرنا ما نرى، فقلنا نؤديه كما تحبون أحب إلينا.
قالت: إن لكما شأنا فأخبراني ما هو.
فلم تدعنا حتى أخبرناها، فقالت: كلا والله لا يصنع الله ذلك به، إن لابني شأنا، أفلا أخبركما خبره؟ إني حملت به فوالله ما حملت حملا قط كان أخف منه علي ولا أيسر، ثم رأيت حين حملته أنه خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى، أو قالت: قصور بصرى، ثم وضعته حين وضعت فوالله ما وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمدا بيده على الأرض رافعا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما، فقبضته وانصرفنا.
Page 111
[سادسا: تبشير أهل الزبور بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم]
[10] أخبرنا إسحاق بن يعقوب [بن إبراهيم قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سالم المكي، عن عبد الله بن محمد القرشي، قال: حدثنا الحسن بن شادان الواسطي، قال: حدثنا يعقوب بن محمد النهري، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن جعفر المخزومي، عن عون مولى مسور بن مخرمة] عن مسور عن ابن عباس عن أبيه، قال عبد المطلب: قدمت الشام فنزلت على رجل من اليهود، فبصرني رجل من «أهل الديور» فجاءني، فقال:أتأذن لي أن أنظر إلى مكان منك؟
فقلت:إن لم يكن عورة فانظر.
فنظر في إحدى منخري ثم في الأخرى فقال:أرى في إحداهما نبوة وفي الأخرى ملكا، وإنا نجد ذلك في زهرة، فما هذا؟
قلت: لا أدري.
قال: ألك شاعة ؟
قلت: ما الشاعة؟
قال: زوجة.
قلت: لا.
قال: فإذا قدمت بلدك فتزوج إلى زهرة.
قال: فعمد عبد المطلب فتزوج بهالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت له حمزة، وصفية، ثم زوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة.
قالت قريش: فولج عبد الله على آمنة فولدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قيضت له حليمة بنت أبي ذؤيب وذلك على عامة الناس.
Page 112
[سابعا: حديث حليمة وما رأت في اليقظة والمنام]
فكانت حليمة تحدث بأن الناس كانوا زمن «مولد» رسول الله في شدة شديدة، وكنت أطوف البراري والجبال أطلب النبات وحشيش الأرض فكنت أقتنع وأصبر، فبينا أنا كذلك وقد خرجت إلى بطحان مكة جعلت لا أمر على شيء من الحشيش والنبات إلا استطال لي فأقمت أياما، فبينا أنا ذات ليلة راقدة إذ أتاني آت في المنام فحملني فقذف بي في نهر من ماء أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأذكى من الزعفران.
فقال: أكثري من شربه ليكثر لبنك، فشربت.
فقال: ازدادي.
فازددت فرويت.
فانتبهت من المنام وأنا أحفل نساء بني سعد لا أطيق، «أن» أقل ثديي كأنه الجر العظيم، ومن حولي من رجال بني سعد ونسائهم بطونهم لاصقة بالظهور وألوانهم متغيرة.
ثم صعدنا يوما إلى بطحاء مكة نطلب النبات كعادتنا، فسمعنا مناديا ينادي: إن الله تبارك وتعالى ليخرج مولودا من قريش هذه السنة هو شمس النهار وقمر الليل، طوبى لثدي أرضعته ألا فبادرن إليه يا نساء بني سعد.
قالت: وعزم الناس على الخروج إلى مكة فخرجت على أتان لي تمشى على المجهود منا، فكنت لا أمر بشيء إلا استطال لي، ونوديت: هنيئا لك يا حليمة.
Page 113
فبينا أنا كذلك إذ برز إلي من الشعب «من بين الجبلين» من الشعب رجل كالنخلة الباسقة، وبيده حربة تلوح لمعانا، فرفع يده اليمنى فضرب بطن الحمارة، وقال:يا حليمة مري فقد أمرني الرحمن أن أدفع عنك اليوم، فجعلت أسير حتى نزلنا على فرسخين من مكة، فلما أصبحت دخلت فإذا بعبد المطلب وجمته تضرب منكبيه، فقال لي:من أنت؟
فقلت: امرأة من بني سعد.
قال: ما اسمك؟
قلت: حليمة.
فضحك، وقال: بخ بخ حلم وسعد، وقال: هل لك أن ترضعي غلاما صغيرا يتيما تسعدين به؟
وكأن الله قذف في قلبي أن قولي نعم.
فأخذته حتى ركبت أتاني، وحملت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يدي، وكنت أنظر إلى الأتان فسجدت ثلاث سجدات نحو الكعبة، ورفعت رأسها إلى السماء، ومرت تشق دواب القوم، فلم أكن أنزل منزلا إلا أنبت الله فيه عشبا، وأثمر الله لنا ولمواشينا وأغنامنا.
فما زلنا نغرف البركات عندنا وفي بيتنا حتى كنا نفيض على قومنا ويعيشون في أكنافنا، فلما ترعرع كان يخرج وينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم.
فقال لي يوما: مالي لا أرى إخوتي بالنهار؟
قلت: فدتك نفسي يرعون أغنامنا.
فقال: ابعثي بي غدا معهم.
فلما أصبح دهنته وكحلته وقمصته، وعمدت إلى جزعة يمانية علقتها في عنقه من العين، وخرج مع إخوته.
Page 114
[رواية أخرى في شق صدره صلى الله عليه وآله وسلم]
فلما كان يوما آخر إذ أنا بابني ضمرة يعدو باكيا ينادي: أدركا.. أدركا محمدا.
قالت: قلت: وما قصته؟
قال: ما أراكما تلحقانه إلا ميتا.
فأقبلت أنا وأبوه نسعى، فإذا به على ذروة الجبل شاخصا بعينيه نحو السماء.
فقلت:فدتك نفسي مالذي دهاك؟
فقال: يا أماه خير، بينا أنا قائم مع أخوتي إذ أتاني رهط ثلاثة في يد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الثاني طشت من زمردة خضراء، فانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فشقوا من صدري إلى عانتي فلم أجد ألما ولا حسا، وأخرجوا أحشائي وقلبي وغسلوها ثم أعادوها مكانها ثم جاء أحدهم فأمر يده من مفرقي إلى منتهى عانتي فالتأم، وانكبوا علي يقبلوني ويقبلون رأسي وما بين عيني.
«قالت حليمة»: فاحتملته إلى كاهن، فنظر إلى كفه وقال بأعلى صوته: يا للعرب ياللعرب أبشروا بشر قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فإنه إن أدرك ليسفهن أحلامكم وليكذبن أديانكم. فانتزعته من يده وأتيت به إلى منزلي. فقال الناس: رديه إلى عبد المطلب.
فعزمت عليه، فسمعت مناديا ينادي: هنيئا لك يا بطحاء مكة وردك نور الأرض وبهاؤها وزينتها، فركبت وحملت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يدي حتى أتيت باب مكة، فوضعته لأقضي حاجة، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره فقلت: معاشر الناس أين صبيي، فواللات والعزى لئن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق هذا الجبل.
فقالوا: ما رأينا شيئا.
فقال لي شيخ: لا تبكي أنا أدلك على من يعلم علمه، ادخلي على هبل فاطلبي إليه.
قلت: ثكلتك أمك كأنك لم تر مانزل باللات والعزى ليلة ميلاده.
قالت: فدخل على هبل وأنا أنظر إليه، فطاف بهبل أسبوعا ثم رفعت حاجتي، فما كان إلا أن انكب هبل على وجهه وتساقطت الأصنام، وسمع صوتات: هلكت الأصنام ومن يعبدها.
Page 115