واتفق عند دخول الوليد أن كانت أمه تقرأ قوله تعالى:
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم . فانكب على يديها يقبلهما في حزن وخشوع، وهو يجهش بالبكاء ويغمغم: نعم يا أماه، إنه هو الغفور الرحيم، ولكن عذابه هو العذاب الأليم، فأين أكون من هذين؟ وهل تتسع رحمته لمثلي؟ إنه كريم يقبل التوب، ويغفر الذنب، ولكن أين غفرانه مني وأنا أشرد منه شراد البعير؟ اسأليه عني يا أماه أن يرد عني كيد الشيطان، فإني أخجل من دعائه، والابتهال إليه، خذيني إليك يا أماه، وضميني إلى صدرك، فلعلي أعود كما كنت طفلا نقي الذيل، طاهر النقيبة، فقد استعبدتني نفسي، وأثقلتني همومي؛ فأقبلت عليه أمه تمسح على رأسه في حنان ورفق، وتملأ وجهه بقبلاتها، ثم قالت: خفف عن نفسك يا ولدي، فإن الدموع تغسل الذنوب، والخوف من الله أول مراتب التوبة النصوح، ثم ابتسمت وأخذت تربت كتفه وتقول: ولكنك يا بني لا تكاد تعري أفراس الصبا حتى تسرجها، وتركض بها غير مبال ولا هياب، ولا تكاد تحطب كأسا من اللهو حتى يسبك لك الشيطان كاسات، إن قلبك يا بني قلب مؤمن، إذا تيقظ كشف لك وجه الحق، فدعه دائما متيقظا. - ليتني أستطيع يا أماه! إن ابن إبليس تمنى على أبيه لعبة يلهو بها، فلم يجد له اللعين لعبة سواي، إنني أفيق كما يفيق المحموم، ثم أعود إلى الخمود، ويلتمع في نفسي نور من الحق كما يلتمع السراج في آخر الليل ثم يخبو، أرأيت هذا المجنون أبا رقية ...؟ فصاح أبو رقية في استنكار: لست مجنونا، ولكني أشعر بالجنون أحيانا حينما أراني مدفوعا إلى حب أمثالك يا أبا العباس، وإلى بذل ذات نفسي لدفع الشر عنهم. - أتحبني يا أبا رقية؟ - نعم، وأركب كل صعب للوصول إلى ما يرضيك. - أتقول حقا أيها الأبله؟ - لست بأبله؛ لأنني لا أشرب إلا إذا ظمئت، أما غيري فيشرب وهو ريان. - وكثيرا ما صفروا لك لتشرب. - خير لي أن أشرب مع الحمير من أن أشرب مع قرناء السوء. - أما ذقت الخمر يا أبا رقية؟ - ذقتها بعيني عندما رأيت عربدة المخمورين. - تبا لك من معتوه، والله ما رأيت لك مثلا. - إنك ترى كثيرا من أمثالي في مجالس الشراب.
فابتسمت أم الوليد، وأشارت إلى ابنها أن يكف، ثم سألت: ما شأن هؤلاء القوم الذين جاءوا اليوم؟ لقد أخبرتني صدوف بكل شيء. - صدوف؟ إنني لا أحب هذه الجارية يا أمي على جمالها وكمال أدبها، لا أدري لماذا؟ ولكنها نفرة أشعر بها كلما مددت إليها عينا. - إن صدوف من خير جواريك خلقا وخلقا، ولقد شكت لي منذ أيام صدودك عنها، وانصرافك إلى غيرها. - إن الحب والبغض شيئان نحسهما، ولا نعرف أسبابهما. - هذا حق، ولكن الكريم يجامل إذا لم يحب. - بم أخبرتك صدوف؟ - أخبرتني بكل ما قال لك رسل هشام، وبكل ما قلته لهم. إنها خدعة الصبي عن اللبن يا بني، فلا تركن إليهم. إن هشاما يريد أن يتخلص منك، فإياك أن تمكنه من مأربه، وإن ولاية العهد لأمانة لله في يديك، فمت دونها كريما، ولا تفرج عنها أصابعك، لقد مات أبوك بين سحري ونحري وهو ينظر إليك محزونا مكمودا، ويقول: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبين ولدي! فقد كانت ولاية العهد لك بعد أبيك يا بني، ولكن عمك مسلمة أدخل على أبيك الشبهة، وقد كنت صغيرا، فحمله على أن يعهد بها إلى هشام على أن تكون لك من بعده، والآن وقد استمرأ هشام مرعاها، واستحلى أفاويقها، يهم بأن يخلعك ليخص بها ابنه من بعده، إن ذلك أبعد إليه من السماكين، وأنأى من الفرقدين، إن بقصر هشام أحابيل تنصب لك، ومكايد تدبر لهلاكك، فكن منها على حذر، وامش يا بني كمن يمشي في مسبعة لا يرد الطرف عن ناحية حتى يصوبه إلى أخرى، وخير سلاح ترد به كيد أعدائك أن تتخلى عما أنت فيه من لهو، فإنهم يجعلون التشهير بك ذريعة إلى نيل ما يؤملون. - ليتني أستطيع أن أتخلى. - كن قوي العزم يا بني، وغالب نفسك بالصبر والجلد. ألا تزال تحن إلى سلمى؟ - حنين النيب إلى إفالتها، لقد قابلت أباها منذ أيام أمام باب الفراديس فسألته عن سلمى، وتذللت له، وألحفت في المسألة، فما كان منه إلا أن نأى بجانبه في أنفة وكبرياء، فأمسكت بذراعيه، وقد اشتد بي الغيظ، وقلت: سحقا لك من رجل منخوب الفؤاد، الآن تردني عنها، وكأني بك وقد وليت الخلافة تتملقني وتخطبني لابنتك فلا أجيبك، فما كان منه إلا أن نتر ذراعيه من يدي، وقال: إن امرءا يجعل كريمته عند مثلك لحقيق بأكثر مما قلت، فلم أملك إلا أن أجبهه بما يكره من شتائم، وتركته مغضبا. - لقد انقلبت الأوضاع يا بني في هذه الدولة، واضطربت الموازين، ولقد عشت حتى أرى سعيد بن خالد يأنف مصاهرة الوليد بن يزيد، كنت أزور اليوم أم عثمان زوج هشام، فسمعت منها أن يزيد بن عنبسة يلح في خطبة أختها سلمى، وأن هشاما يميل إلى تزويجه بها، فوثب الوليد كأنما انقضت عليه صاعقة ثم صاح: ويل للفاجر، يزيد بن عنبسة يخطب سلمى! إنه أقل من أن يشرف بنيل إحدى وصائفها، ألهذا جاء إلي اليوم في صورة الأمين الناصح، وجعل من نفسه صنيعة لهشام ليشهر بي، ويملأ الآفاق بمذمتي؟ - أخشى أن يكون تزويجه بسلمى جزءا من المكيدة التي تدبر لك. - لو نال منها شعرة لرويت منه سيفي .
وبينما هما في الحديث إذ سمعت ضجة في القصر، ودخل سبرة مذعورا وهو يلهث ويقول: قدم يا مولاي خالد بن القعقاع رئيس شرطة هشام، ومعه كثير من أعوانه، فوثبوا على القصر وقبضوا على ابن سهيل، وعياض، وعبد الصمد، وكبلوهم بالأغلال، ثم ساقوهم إلى سجن الخلافة، وكان أبو رقية ينصت دهشا، وقد اتسعت حدقتاه حتى كادتا تملآن وجهه، وتمتم بكلمات زادها الجنون إبهاما؛ وسقط الوليد لهول الخبر، ثم أخذ يئن أنين المجروح ويقول: أصدقائي! أحبائي! ندمائي! اللهم أجرني منه! اللهم أجرني منه!
أنا النذير لمسدي نعمة أبدا
إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرا
وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا
أتشمخون ومنا رأس نعمتكم؟
ستعلمون إذا أبصرتم الدولا
Unknown page