نصح وعناد
رشد وغي
سجن وإطلاق
هجرة ولقاء
نار ورماد
موت وحياة
ضحك وبكاء
قتل ودمار
نصح وعناد
رشد وغي
سجن وإطلاق
هجرة ولقاء
نار ورماد
موت وحياة
ضحك وبكاء
قتل ودمار
مرح الوليد
مرح الوليد
تأليف
علي الجارم
نصح وعناد
قصر راسخ القواعد، شامخ الذرا، رسا أصله فوق شرف عال من الأرض، وارتفعت قبابه في الجو كأنها تطلب شيئا في السماء، وقد موهت بالنضار، وسطع عليها الأصيل، فأرسلت شعاعا كان أجمل من الأصيل، وأبهى من خالص النضار، وامتدت حول القصر البساتين الفيح تجري بها الجداول بطيئة متعثرة، كأنها تخشى أن تلتقي بنهر بردى، فيلتقمها زخاره الخضم، ويدور بها كالمذعور فيقتحم كل دار، وينفذ من كل حائط، ورفت بها الأزهار رائعة الألوان، مسكية الشذا، وقد عبث بها النسيم فراحت تختبئ في أكمامها كأنها الغيد الحسان خافت خائنة الأعين، وفضول العاشقين، وماست أشجار الحور كأنما شجاها تغريد الطير فوقها، فأخذت تسارق الأنغام، وتساير رنين الإيقاع.
ذلك مشهد يجب أن يرى حتى يعرف، ويجب أن تراه عين فنان لتدرك بعض ما به من جمال وروعة. أما القلم، وأما اللسان، فأعجز من أن يصلا فيه إلى صورة، أو شبه صورة، تقر بها العيون، أو تطمئن لها النفوس، يقولون: إن اللغة أداة البيان، ويقولون: إن اللغة بريد العقول، فهل هي أداة البيان حقا؟ وهل هي بريد صادق يحمل ما في نفسك إلى نفس غيرك؟ إن من ضروب الأحاسيس ما يدق عن متناول اللسان، ويستعصي على سنان القلم، وإن من الصور الغريبة الألوان الغريبة التركيب ما يعجز الوصف، ويخرس البيان، ولن يملك المرء إذا رآها إلا أن يصيح: هذا باهر! هذا جميل! هذا فاتن! وكأنه يريد أن يقول شيئا آخر فلا يستطيع. وستبقى الإنسانية هكذا عجماء حتى توفق إلى وضع كلمات جديدة تترجم عن كل ما تراه العين، ويجيش به الوجدان. ويكفي أن أقول: إن هذا المنظر كان بربوة الوادي بالجانب الغربي من دمشق، وإن هذه الربوة تزدان بأبدع ما طرزته يد القدرة على هذه الأرض من حلل، وإنها إلى جنة الخلد أشبه بالمطلع إلى القصيدة، أو بالمقدمة إلى الكتاب، وهي التي حينما رآها عمر بن الخطاب عند قدومه إلى الشام قرأ قوله تعالى
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين .
هذه هي ربوة دمشق، وهذا هو قصر الوليد بن يزيد، وكان يسمى قصر «حبابة»، بناه يزيد بن عبد الملك الخليفة الأموي لجاريته «حبابة»، وأنفق فيه كثيرا من كنوز الدولة، وقام على بنائه وزخرفته كبار مهندسي الروم، فجاء صورة للفن الرائع، ومظهرا لفخامة الملك، وصولة السلطان.
وفي أحد أيام شوال من سنة ثلاث وعشرين ومائة جلس ببعض أبهاء هذا القصر يزيد بن الوليد، ويزيد بن عنبسة، ومحمد بن شهاب الزهري، ويزيد السلمي، وقد طال بهم الإطراق، ودلت أسارير وجوههم على ما تنطوي عليه أنفسهم من أمر عظيم، وهم دفين، وبعد لأي رفع الزهري رأسه، وكان من كبار المحدثين، وأعلام التابعين، عظيم المنزلة في الدولة لعلمه وورعه، وقال: لست أدري لم بعثنا الخليفة هشام إلى هذا الرجل، وهو يعلم أن انتقال جبل «قايسون» من مكانه أهون وأيسر في إدراك العقول من هدايته، وزحزحته عما هو فيه من عبث؟ لقد حدثته مرارا، وسقت إليه كثيرا من أقوال الرسول الكريم، ووعظته فأطلت الوعظ، فما كان يزيده كل هذا إلا تماديا، حتى كأنني كنت أغريه بلومي، وأثير فيه شيطان الغرور بمواعظي،
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ، صدق الله العظيم.
فرفع إليه يزيد بن الوليد بصره، وقد نم وجهه عن ضجر واشمئزاز، وقال: إن الأمر يا أبا بكر لو اقتصر على فتى سادر لهان وقلت نوازله، وخفت أوزاره، ولكنه أمر أسرة كريمة المنبت في الجاهلية والإسلام، وشأن دولة تحمل أعباء الخلافة، وتحمي صخرة الدين أن تنهار، بعد أن بذلت جهود وعقول في إرسائها، وحطمت سيوف في توطيد أركانها. والشيخ يرى ما تنهض به دولة بني أمية كل يوم من أعباء، وما تشهد من عزائم، فجيوشها لا تكاد تقفل من العراق وخراسان، حتى تسير إلى أرمينية وأرض الروم، فهي أبدا صائفة شاتية. وسيوفها لا تكاد تقر في أغمادها، حتى تستل من جديد، ولا تكاد تجف دماؤها من قهر خارجي، حتى ينبع لها خارجي من أقاصي الأرض، كأن الأرض أجدبت من كل نبات إلا من هؤلاء المناكيد. وإذا أسكتنا زئير أهل خراسان، أطلت علينا ثورة في المدينة، ومدت رأسها فتنة بالعراق، فإذا لم تكن أزمة الدولة في يد جريئة حازمة، ولم يصرف شئونها رجل داهية باقعة لم تستعبده الدنيا، ضاعت الدولة بددا، وكانت حرضا، وهذا الوليد بن يزيد الذي بعثنا اليوم هشام لنصحه ودعوته إلى الكف عن لهوه، لو كان فتى من فتيان بني أمية لا يرتبط بالخلافة، ولا يتصل بسياسة الحكم بسبب، لصرفنا عنه وجوهنا آسفين محزونين، ولقلنا: شاب أطغاه المال، والشباب، والحسب، فراح ينتهب لذات الحياة، وإن له لغاية هو مدركها، وأجلا هو موفيه، ولحظة ندم يهم أن يعتصم فيها بالتوبة، فلا تنفعه التوبة، ولكن يأبى القدر إلا أن يكون الوليد هذا ولي عهد الخلافة، وتأبى الأيام السود إلا أن تعده ليجلس حيث كان يجلس عبد الملك ابن مروان، وعمر بن عبد العزيز. يا ويل الخلافة، ويا ويل الإسلام إذا ألقيت مقاليد الحكم في يد هذا الرجل! وإننا إذا جئنا اليوم لنكفه عن شهواته، أو لنصلح من نفسه - إن كان ذلك الإصلاح مستطاعا - فإنما إلى صون الخلافة نقصد، وحماية الملك نريد.
فتحرك يزيد بن عنبسة في قلق المغيظ المحنق، وقد كان قبل ذلك يعتمد برأسه على قائم سيفه حزينا واجما، وقال: إن الله يريد لهذا الملك أمرا هو قاضيه، فإننا ما كدنا نبتهج بموت أبيه يزيد بن عبد الملك، وقيام خلافة هشام بعده، حتى دهمتنا المقادير فحتمت علينا أن يكون هذا الفتى ولي عهد هشام. لقد كان يزيد مسرفا على نفسه، قسم أيامه وأمواله بين سلامة القس المغنية، وحبابة اللعوب، وبنى لحبابة هذا القصر الشامخ الذي نجلس فيه اليوم، وأنفق عليه من الأموال ما كان يكفي لغزو الصين، وكل ما وراء البحر الأخضر من ممالك، ولكنا نحمد الله على أن عهده لم يطل، وأن هلاكه كان وشيكا، وكثيرا ما يكون الموت علاجا إذا أعضل الداء، وعز الدواء. كانت خلافته أربع سنين كادت تهوى فيها الدولة إلى الحضيض، لولا قوة فيها كامنة من عزمات صلاب وطدت أساسها من عهد قديم، وكأنه أراد أن يصل حباله بحبال ابنه فلم يمت حتى عهد بالخلافة بعده إلى هشام، ثم من بعد هشام إلى هذا الفتى، وإن أخشى ما نخشاه بعد أن أعاد هشام إلى الخلافة عظمتها، وغرس في القلوب الرهبة منها، وأقام عمودها، وحرص على جمع الأموال لسد مفاقرها أن يأتي بعده هذا الوليد فيمحو آثارها، ويبدد قوتها، ويمكن منها أعداءها القاعدين لها كل مرصد، والمتربصين لها الدوائر، والمتحرقين إلى فرصة يمزقونها فيها أشلاء، ويأتون على بنيانها من القواعد، وليس لدينا من الرجال اليوم ما كان لنا والدولة في عنفوانها، والملك في قوة اكتماله، فليس لنا مثل مسلم بن عقبة، وليس لنا مثل الحجاج بن يوسف، وليس لنا مثل قرة بن شريك، فإذا وقعت الواقعة، وحلت الفادحة، وتركت الدولة في أيد خائرة لم تجد بين الدافعين عنها إلا بنانا مخضبا، ومعصما أدماه السوار، وويل لدولة تحميها النساء!
فأسرع الزهري يقول: لقد حاول يزيد بن عبد الملك أن يخلع هشاما من ولاية العهد، وأن يقدم ابنه عليه لولا أن أدركه الموت من حيث لم يكن يتوقع، ولو أنه فعل لكان للمسلمين اليوم حال غير تلك الحال. وهنا اتجه يزيد بن عنبسة إلى السلمي وقال: مالك لا تنازعنا الحديث أبا مساحق؟ إن أكبر الظن أن كلامنا يثقل عليك، فلقد رأيت سحابة غيظ تركد على وجهك منذ دخولنا، ولعلك لم تكن تتوقع أن يزور صاحبك اليوم قوم غلاظ شداد يصارحونه القول، ويدعونه في عنف إلى تقوى الله، ومخالفة نفسه. فقال الزهري: إن السلمي كان معلم الوليد ونصيحه، وكان الأجدر به، وقد قضى في الإشراف على تهذيبه سنوات، أن يقوم قناته، وأن يصرف عنه شياطين الفتنة، فإنه لو فعل لأغنانا اليوم عن لقاء هذا الفتى، وجبهه بما يكره، ووالله لولا أن ألح علي الحقيقة، وألحف في وجوب القيام بنصحه، ما نقلت إلى داره قدما.
فقال يزيد بن الوليد: ومن لهذا الأمر سواك يا ابن شهاب، وأنت اليوم مناط هذه الأمة في أمور دينها؟ ولقد كان عمر بن عبد العزيز ناصحا للمسلمين حين كتب إلى عماله في الآفاق يدعوهم إلى الأخذ بآرائك في الدين، ويقول لهم: إنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية من ابن شهاب؛ فمد الزهري يده إلى يزيد كالمتوسل إليه أن يكف عن هذا المديح، ثم قال: أرسل إلي الخليفة إبراهيم المخزومي بعد أن انفتلت من صلاة الغداة، فقال: إن أمير المؤمنين يدعوك إليه الساعة، فذهبت معه على تثاقل وكره، فلما حضرت مجلسه أقبل علي كاسف النفس حزينا، وكان ولداه مسلمة والعباس واقفين في خدمته، ثم قال: اقرب مني قليلا يا أبا بكر. فقربت وسادتي من وسادته، فاتجه إلي وقال: إني نظرت يا ابن شهاب في أمري، وأمر هذا الملك الذي أسوسه، والأمة التي أرعاها، فرأيت أني أسير إلى الفناء وثبا، وأعدو نحو الموت عدوا، فإن هذه الذبحة ما زالت تعتادني بين الحين والحين، وقد استطعت حتى الساعة أن أنجو منها بذلك الدواء الذي أتجرعه، ولكن نوباتها أخذت تتقارب وتطول، وأخشى أن أكون مائتا بعد أيام أو أشهر، وقد بذلت كل ما في قدرة رجل مثلي لإنهاض الدولة، وتمكين سلطانها، ولو كنت أعلم أن الذي يلي هذا الأمر من بعدي رجل حمال للأعباء، شديد على اللأواء، كامل الرجولة، طاهر النفس، نقي الجيب، يخاف ربه، ويخافه عدوه، لهان علي الأمر واستقبلت الموت سعيدا رضيا، ولكن الخلافة ستنتقل إلى ابن أخي الوليد، وهو - كما علمت، وعلم أهل الحضر والمدر - قد نسي نفسه، ونسي حسبه، وانصرف إلى جلساء السوء، فماذا يكون من أمر هذه الأمة إذا وليها هذا الفتى؟ وماذا يكون من أمر أطراف الدولة، والثورات فيها لا تنطفئ نيرانها، ولا يركد قتامها؟ وماذا يكون من أمر ملك بقي إلى اليوم أكثر من ثمانين عاما تؤثله جبابرة الأمويين بآرائهم وسيوفهم؟ لن يبقى من ذلك شيء، وستتمزق فلول بني أمية في البلاد حيارى مطاردين، يحسدون رعاة الإبل في الصحاري الجرد على ما هم فيه من رخاء ونعمة. لقد بذلت كل ما في وسع البشر لإصلاح هذا الرجل، فلم ألق نجحا؛ وكان من آخر أمري أن وليته الحج بالناس لأصلح من سيرته، وأغريه بتقوى الله إغراء، فكان منه ما علمت وعلم الناس، والآن وقد ضاقت بي الحيلة، أدعوك لتذهب إليه أنت ويزيد بن الوليد وابن عنبسة؛ لتبصروه بما يجب عليه إزاء الله، وإزاء الخلافة، وإزاء نفسه، ولتخبروه بأن صلاحه لن يكون له وحده، بل لهذه الأمة التي نخشى أن تذهب ضياعا، وتصبح نهبا مقسما، هذا يا أبا بكر آخر سهم في كنانتي، فإن أجاب وأطاع هدأت نفسي، وإلا فلله أمر هو فاعله، اذهب الآن مباركا موفقا، وقد أمرت يزيد بن الوليد وابن عنبسة أن ينتظراك لدى الباب.
وكأن طول الحديث قد أجهد الزهري، فأخذ يرسل أنفاسا قصارا متلاحقة، ثم قال وهو ينظر إلى السلمي: وهكذا جئنا أبا مساحق لنروض هذا المهر الحرون؛ حتى يسلس قياده، وإني أرى في ملامحك ما يدل على الاستنكار والمخالفة، فهل لديك من شيء يقال؟ - لقد أطلتم الحديث، وسلكتم فيه فنونا، ولكنكم اتجهتم اتجاها واحدا، ونظرتم إلى الرجل من ناحية واحدة، فصورتموه كما شاءت نفوسكم لاهيا مرحا، تسلب من صفات الرجولة، وقطع كل صلة بينه وبين الخلق الكريم، وهذا تصوير مائن أيها البررة الأتقياء، إني خالطت الوليد منذ كان غلاما في الحادية عشرة، وهو الآن يجاوز الثلاثين، خالطته خلاط معاشرة واختبار، وسبرت غور نفسه، وعرفت ظاهر أمره وباطنه، فرأيت أنه سر آبائه جميعا، ففيه دهاء مروان بن الحكم وشغفه بالانتقام، وفيه تيه عبد الملك وكبرياؤه، وصدق عزيمته، وفيه عناد أبيه، وضعف نفسه، ثم إن به عرقا من أخواله بني هاشم أمده بالبلاغة، وإجادة الشعر، وذلل له سبيل التمكن من اللغة، ومعرفة الأخبار ، إنه ابن آبائه حقا، ورثهم في الجاه والمال والخلافة، كما ورثهم في الجبلة والخلق، وفيما يزين وفيما يشين، إنه حقيبة من وراثات مختلفة متباينة: فيها الخير، وفيها الشر، وفيها ما يسوء، وفيها ما يسر، وأشهد إني ما رأيته يقرأ القرآن، أو يدرس أحاديث النبي الكريم إلا متطهرا متطيبا جالسا على ركبتيه في خشوع ورهبة، وأشهد أنه طالما حدثني عن نفسه، وما ينساق إليه من هفوات الشباب، والدموع تنهمر من عينيه، والحزن يملأ جوانب نفسه، وكثيرا ما كان يقول وهو في تلك الحال: وماذا أفعل وقد خلقت ريشة في مهب الأهواء، وقصبة جوفاء في بحر مائج بالفتنة والإغراء؟ ثم يرفع رأسه إلى السماء في رعب وضراعة وهو يردد: اللهم إنك إنما سميت الغفور لأنك تغفر لمثلي. وسمعته مرة وقد اجتمع بفتية من بني أمية وهو يقول لهم: يا بني أمية، إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، ويثور ثورة الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء رقية الشيطان، إني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة، وأشهى إلي من الماء البارد إلى ذي الغلة، ولكن الحق أحق أن يقال.
فأسرع ابن عنبسة يقول: أخشى يا أبا مساحق إذا طال بنا المجلس أن تزعم أن صاحبك من الملائكة الأطهار. - لا يا ابن أخي، إنه ليس من الملائكة الأطهار، إنه قد يكون أحيانا عبد نفسه، إذا جمحت به أرخى لها العنان، وتركها تسير به إلى حيث تريد، ولكني أقول: إنه رجل له جانبان: جانب للخير، يظهر فيه نبله، وكرم عنصره، وطهارة عرقه، وجانب للشر يرحل فيه العقل، وتنحل العزيمة، ويختفي الوليد الشريف الكريم، ويأتي الوليد الظريف المرح، وربما كان في انقياده إلى وازع نفسه لا يزيد عن أمثاله من الفتيان الذين خلقوا على غرار فطرته، ولكن الوليد أضاف إلى ما فيه من ضعف العزيمة ما طبع عليه من العناد، والتحدي، والتباهي بازدراء آراء الناس، وعدم المبالاة بلوم اللائمين، فلم يراء كما يراءون، ولم يخف الرقباء كما يخافون، بل قال ما يقول في علانية وسخرية، وكشف ذات نفسه لأعدائه وأصدقائه في غير خوف أو حذر، ومما أكثر فيه القالة شغف الناس بالأقاصيص، وغرائب الأخبار، فهم إذا نقل إليهم كاذب أنه شرب كأسا لم يرقهم أن ينقلوا الخبر كما هو، وأي طرافة في أن يشرب شاب كأسا محرمة بعد أن فسد الزمان؟ فراحوا يقولون: إنه شرب باطيتين حتى انتفخ بطنه، وهنا ابتدره ابن عنبسة فقال: إن الناس لا ينقلون إلا ما يسمعون من غلمان القصر وجواريه، وقد بلغني أنه اصطنع بركة في هذا القصر، وملأها خمرا، وأنه إذا استخفه الطرب ألقى فيها نفسه، وأخذ يكرع؛ حتى يبين النقص في أطرافها. - هذا اختلاق مائن، وإفك كاذب، فالوليد أبغض الناس للقذر، أو ما فيه احتمال القذر، وهو لحرصه على النظافة لا يشرب من إناء شرب منه غيره، ثم كيف يستساغ في العقل أن يشرب من البركة حتى يظهر النقص فيها؟ إنه لو فعل لكان اليوم من الهالكين، واسترحنا من الجدل في شأنه؛ وهذه الفرية البلقاء لا تقل في بشاعة كذبها عما يتناقله الناس من أنه أراد يوما أن يتفاءل، ففتح القرآن، فكانت أول آية تقع تحت عينيه قوله تعالى:
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . فقد قالوا إنه غضب عند ذلك وعربد، ومزق المصحف، وقال:
أتوعد كل جبار عنيد؟
فها أنا ذاك جبار عنيد!
إذا ما جئت ربك يوم الحشر
فقل يا رب مزقني الوليد
ويكفي لتفنيد هذا الهراء أني أعلم، وأنكم تعلمون أن العرب على ولوعها بالتفاؤل لا تتفاءل بالمصاحف، ولا بما يدون في الكتب، فإن ذلك لم يكن من عاداتها منذ خلق الله الصحراء والجمل.
وأكبر الظن عندي أن هناك ثلاث طوائف تعمل على الكيد لبني أمية كلهم لا للوليد وحده، وأنها تبذل الجهد ناشطة لإسقاط الدولة ومحو آثارها، وهذه الطوائف هي: طائفة الناقمين من غير العرب بعد أن أذلهم بني أمية، وقضوا على عزمهم ومجدهم، وأنزلوهم بدار الهوان والإتعاس، وطائفة بني العباس الذين يدعون «لمحمد بن علي»، والذين ربضوا بخراسان متربصين، يتحينون الفرصة للوثبة، وينشرون جواسيسهم وعمالهم في البلاد؛ ليبثوا في الناس كراهية الخلافة ورجال الدولة، ويذيعوا عنهم خروجهم عن الدين، واحتجانهم الأموال وتبديدها في اللهو والنعيم، وهناك شيعة علي بن أبي طالب الذين يجتذبون الناس بزهدهم، ويستدرون عطفهم بما أوقع بهم بنو أمية من القتل والتشريد، هؤلاء جميعا يعملون كادحين لإسقاط عرش الأمويين، وقد وجدوا في الوليد منبعا فياضا لإشاعة الأكاذيب، وابتداع الأخاليق، وراحوا يهولون من كل ما يبدو منه من لهو، فإذا لم يصدر عنه شيء رسم خيالهم أبشع الصور، ولفق لهم أسوأ الأحاديث، وهنا التفت إليه الزهري وقال: عجيب أمرك يا ابن مساحق، تعترف بعبث صاحبك، ثم تدفع عنه، وحينما ترى أن حجتك لا تنهض بجناح تحاول أن تنقل الأمر من الوليد إلى بني أمية عامة، ثم ما يحيط بهم من أحداث وأعداء. - لا يا أبا بكر إنني إنما أنكر على الناس تعصبهم عليه، وتألبهم للكيد له، وأخشى أن يكون من أسباب ذلك أنه ولي العهد، وأنه يسد الطريق على أبناء هشام، ولعله لو تخلى عن هذه الولاية لارتدت عنه سهامهم، ولعاش كما يعيش غيره، ولسكتت عنه ألسن السوء.
وبينما هم في الحديث إذ بدت لهم من النافذة عن بعد جماعة من الفرسان، تثب الكلاب من حولهم ومن خلفهم، وقد سار في المقدمة فارس معتدل القامة، كأنه عامل الرمح، وهو يعبث بسوطه في الهواء، فقال السلمي: هذا هو الوليد ومعه فتيانه، وقد قدموا من الصيد، وسيكونون بيننا بعد قليل.
فتمكن الزهري في مجلسه، وتمتم بكلمات ربما كانت تسبيحا، وربما كانت استنكارا، وومضت عينا ابن عنبسة بالشر، وتنحنح يزيد بن الوليد وقال في حزن وأسى: وهكذا تدور حياة هذا الشاب بين مرح ولهو، وغناء وطرب! يا لضيعة بني أمية!
ويصل الوليد إلى القصر، ومعه من ندمائه كاتبه عياض بن مسلم، وابن سهيل، والمنذر بن أبي عمر، وعبد الصمد بن عبد الأعلى، فيسرع إليه غلامه رستم الفارسي، وخادمه سبرة، فيخبرانه بكل ما دار بين القوم من أحاديث، فيعبس وجهه قليلا، ثم ينبسط عن ابتسامة ماكرة، فيها عناد، وفيها تشف، وفيها انتقام وعبث، ثم يقول: أبعثهم إلي هشام لينصحوني، أم يمهدوا السبيل إلى خلعي من ولاية العهد وتولية ابنه مسلمة؟ والله لن أخلع ما وضعه الله في عنقي، أو أموت دونه! يقولون: إني لاه عابث، سأريهم يا سبرة كيف أعبث بهم، وكيف ألهو بأشياخهم، وسأريهم أني لا أبالي بما يذيعون عني من كذب وبهتان، ادع عمر الوادي وأبا كامل، وادع جميع المغنين، فسوف يعرفون اليوم من هو الوليد بن يزيد؟ وانطلق سبرة يطيع أمر مولاه، وما هي إلا لحظات حتى سمع رنين العيدان، ونقر الدفوف، وأقبل المغنون، ومشى أمامهم الوليد نحو زواره، فلما دخل عليهم كان أبو كامل يغني:
عللاني واسقياني
من شراب أصفهاني
من شراب الشيخ كسرى
أو شراب الهرمزان
إن بالكأس لمسكا
أو بكفي من سقاني
إنما الكأس ربيع
يتعاطى بالبنان
وكانت القيان تدق بالكفوف والدفوف، ويمشين في خفة ومرح، كأنهن الحمائم ترف رفيفا، ثم اتجه الوليد إلى عمر الوادي صائحا: يا جامع لذتي ومحيي طربي، غنني من خفيف الرمل بالبنصر، فانطلق يغني:
أصدع نجي الهموم بالطرب
وانعم علي الدهر بابنة العنب
واستقبل العيش في غضارته
لا تقف منه آثار معتقب
من قهوة زانها تقادمها
فهي عجوز تعلو على الحقب
أشهى إلى الشرب يوم جلوتها
من الفتاة الكريمة النسب
فقد تجلت ورق جوهرها
حتى تبدت في منظر عجب
فهي بغير المزاج من شرر
وهي لدى المزج سائل الذهب
في فتية من بني أمية أه
ل المجد والمأثرات والحسب
ما في الورى مثلهم، ولا بهم
مثلي، ولا منتم لمثل أبي
وما كاد ينتهي من غنائه حتى هجم عليه الوليد، وأخذ يقبله ويخلع من عقود الجوهر التي يتحلى بها، ويضعها في عنقه.
وهنا لم يطق الزهري الصبر، فهم بالوقوف، ودعا صاحبيه إلى الخروج، ولكن يزيد بن الوليد اجتذبه من كمه وهو يقول: إننا لا نستطيع أن نغادر القصر من غير أن نقضي حاجة هشام، فإنك تعرف ثورة غضبه على من يتهاون في تأدية ما يطلبه منه، ولمح الوليد ما يدور بين القوم فصرف المغنين، ثم أقبل على الزهري في أدب وخشوع، وكثير من الوقار، كأن لم يكن شيء، وكأن ما ملأ البهو من لهو وطرب منذ لحظة لم يكن منه شيء، أقبل على الزهري فحياه ورحب به، ثم نظر إلى يزيد بن الوليد، وإلى ابن عنبسة نظرة صلف، أتبعها بتحية، فيها تيه، وفيها اعتزاز، ثم أخذ يسأل الزهري عن مسائل في الحديث، وغريب اللغة، والقرآن، والقوم في دهش جارف ملك عليهم ألسنتهم، وأذهل عقولهم، فلما هدأت نفس الزهري قال: إننا جئنا إليك يا بني من قبل الخليفة لنسدي إليك النصح، وندعوك إلى ترك ما أنت فيه من لهو يقضي على المروءة، ويعبث بالشرف، وقد ضاق الخليفة ذرعا بما يسمعه عنك، وما ينقل إليه من أمرك، ثم إنه الآن - وقد تقدمت به السن - يخشى أن يترك الخلافة في يد من لا يصونها، أو يستطيع النفح دونها، وهؤلاء المسودة - كما يسمونهم - أو دعاة بني العباس قد ظهروا بخراسان، وأصبح لهم عديد وعدة، وأشياع وأنصار، فإذا لم يحم الخلافة رأي نافذ، وعزم باطش ضاع الملك الذي أثلتموه، ولاقى بنو أمية من أعدائهم شر ما يلاقي الذليل المقهور، فالخليفة ينذرك ويدعوك إلى التوبة، ونبذ ما أنت فيه، ويطلب إليك أن تسرح ندماءك وأصفياءك، وأن تبتدئ حياة جديدة كلها جد وصلاح، وابتعاد عن الدنيا، واهتمام بشئون الدولة؛ حتى تكون أهلا لولاية العهد.
كان الوليد ينصت عابسا مفكرا يعبث بأصابعه في شعرات لحيته، وما كاد ينتهي الزهري حتى أرسل قهقهة طويلة اهتزت لها جوانح صدره، ثم نظر إلى القوم وقال: ألأجل ذلك جئتم؟ ومن أجل هذا أتعبتم دوابكم حتى بلغتم قصري؟ لقد سخر منكم هشام وغرر بكم، إن ما يجري في قصري من اللهو العفيف لا يزيد عما يجري في قصور فتيان بني أمية، ثم التفت إلى ابن عنبسة ويزيد، وقال: وعما يجري في دار ابن عنبسة، وفي قصر يزيد، وإن أبناء هشام أنفسهم يتمتعون بالحياة طولا وعرضا وعمقا، ولكن هشاما يريد شيئا آخر، يريد أن يسخركم من حيث لا تشعرون في مأرب هو أقصى أمانيه ومنتهى آماله، يريد أن يهدم هذا السد الذي يحول بين ابنه مسلمة والخلافة، يريد أن يخلع عني ولاية العهد بعد أن أقسم عليها أمام أبي أغلظ الأيمان، وأعطى أوثق العهود، ليقدمها إلى «أبي شاكر» هدية غالية ثمينة تبقى في أولاده وأحفاده أبد الدهر، ولم ير للوصول إلى ذلك من سبيل إلا أن يثلب عرضي، ويكثر في قالة السوء، ويبعث حولي جواسيسه وعيونه ليجعلوا من الفأرة جملا، ومن بيت النملة قصرا، وليملئوا الدنيا بأخبار زندقتي، حتى لقد أصبحت حديث السمار، ومثلا شرودا في اللهو وحب الطرب، وإني أسخر منه ومن أعوانه، وأزيد في نكايته بإصراري على ما أحب، وتمسكي بما يكره، ثم إنه أراد أن يخطو خطوته الأخيرة فبعثك يا ابن شهاب، وأنت من أنت في رأي العامة والخاصة علما ودينا ونسكا؛ ليستشهد بك لدى الناس إذا خلعني، وليقول لهم: لقد صبرت عليه كثيرا فلم يزدجر، ونصحت له كثيرا فلم يرعو، وهذا الزهري على ما أقول شهيد؛ لقد حرمني العطاء منذ عدت من الحج، وضيق علي وعلى ندمائي، ولكني لم أبال به، ولم آبه له، وإن لي من ميراث أبي ومن أموال أخوالي ما يزيد عن حاجتي، وإن في نفسي يقينا لا يزعزعه إرهاب هشام، ولا تنقص منه صولة هشام؛ ذلك أني سأكون خليفة على رغم أنوف بني أمية جميعا، وإن هشاما سيموت ويزول ملكه، ويذهب معه نهمه، وتدفن مطامعه، وسأكون من بعده الخليفة الأموي الفتي، وسوف أثيب أصدقائي أجزل الثواب، وأذيق أعدائي مر العذاب، فلقد أعددت في سرداب القصر مائة قيد من حديد كتبت على كل قيد اسم صاحبه، ثم التفت إلى ثلاثتهم وقال: وأكبر ظني أن أسماءكم بين ما كتب من أسماء، وسوف يقول الناس: إن الوليد لم يكن غرا مائقا، ولم يكن مغفلا ماجنا؛ لأنه عرف أعداءه فمحقهم، وعرف أحباءه فأجزل عطاءهم.
أنا ابن أبي العاصي وعثمان والدي
ومروان جدي ذو الفعال وعامر
أنا ابن عظيم القريتين وعزها
ثقيف وفهر والعصاة الأكابر
نبي الهدى خالي، ومن يك خاله
نبي الهدى يقهر به من يفاخر
ثم وقف ومد يده إلى الزهري وهو يقول: إذا لقيت هشاما فقل له عني:
كفرت يدا من منعم لو شكرتها
جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن
رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي
ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
أراك على الباقين تجني ضغينة
فيا ويحهم إن مت من شر ما تجني
كأني بهم يوما وأكثر قولهم
ألا ليت أنا، حين «يا ليت» لا تغني
ثم ترك البهو فسار خلفه غلاماه، وترك القوم مشدوهين حائرين، فأخذ الزهري يجمع ثيابه ويتهيأ للخروج، وهو يقول: صدق رسول الله: «إن لكل دين خلقا، وإن خلق الإسلام الحياء».
رشد وغي
كان الوليد من أصبح الناس وجها، وأشدهم قوة، وأرقهم طبعا، وأظرفهم حديثا، وكان فارعا متين البناء، يكاد يتفجر منه ماء الشباب، وكان أعظم ما يجتذب إليه النظر عيناه السوداوان الواسعتان اللتان يلتمع منهما وميض وهاج، فيه القوة والعزيمة والشراسة، ثم لا يكاد يظهر هذا الوميض حتى يختفي، وتأخذ مكانه نظرات ذابلة ناعسة ذاهلة، فيها شعر، وفيها خيال، وفيها ما يشبه الذهول. وكان يلبس حلة خضراء من الحرير الدبيقي فوقها جبة بيضاء طرزت حواشيها بالذهب، وتغطي رأسه عمامة من الخز الأحمر، حليت أطرافها بالدر الثمين، ويتقلد عقودا من نفيس الجواهر المتلألئة الباهرة الألوان، كان يغير هذه العقود في اليوم مرارا كما يغير حلله وأثوابه.
قصد الوليد بعد أن ترك من جاءوا لنصحه إلى حجرة فسيحة كان بها جماعة من ندمائه وإخوانه، وكان بينهم أشعب بن جبير مضحكه ومندره ومسليه، وكان أشعب آية زمانه في سرعة البديهة، وتوقد الذكاء، وحسن الحيلة، وإجادة النادرة، وإثارة الضحك من غريب ما يقول، وعجيب ما يفعل.
وكان لا يحب أن يزاحمه أحد في فنونه وألاعيبه، فقد زعموا أن رجلا بالمدينة حاول أن يسلك مسلكه، وأخذ يحاكيه في مذهبه ونوادره، حتى استطابه الناس، وأعجبوا به، وعلم أشعب بخبره فرقبه حتى عرف أنه يختلف إلى مجلس لبعض فتيان قريش يحادثهم ويضحكهم، فسار إليه، ثم قال له: بلغني أنك قد نحوت نحوي، وشغلت عني من كان يألفني، فإن كنت مثلي فافعل كما أفعل، ثم غضن من وجهه، وعرضه، وشنجه حتى صار عرضه أكثر من طوله، وصار في هيئة لم يعرفه بها أحد، ثم أرسل وجهه وقال: ثم أفعل هكذا، وطول وجهه حتى كاد ذقنه يتجاوز صدره، وصار كأنه وجه الناظر في سيف لامع، ثم نزع ثيابه وتحادب فصار في ظهره حدبة كسنام البعير، وأصبح طوله مقدار شبر أو أكثر، ثم قام فتمدد حتى صار أطول ما يكون من الرجال؛ فضحك القوم حتى أغمي عليهم، وبهت الرجل فما تكلم بنادرة، ولا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء، على الله عهد ألا أعاود ما تكره، وإنما أنا تلميذك وخريجك.
وكان أشعب في ذلك الحين قد جاوز التسعين، ولكنه بقي مستكملا قوته، حافظا لفنه ودعابته، وكان دقيق الجسم ناحله، أزرق العينين أحولهما، أصلع الرأس حتى كأن رأسه كرة من الشمع اللامع، وحينما ورد على الوليد حظي عنده فأمر خدمه أن يلبسوه سروالا من جلد قرد له ذنب طويل، وأن يشدوا في رجليه أجراسا، وفي عنقه جلاجل.
دخل الوليد على ندمائه باشا مبتهجا كأن وفد هشام لم يثر في نفسه هما، ولم يكدر له صفوا، فشرع ابن سهيل يقول: لقد أحسنت إجابتهم يا مولاي، وكشفت خديعتهم، ولكني أخشى ألا يقف هشام عند هذه الغاية، وأخشى أن يكون ما فعله اليوم إنما هو تحفيز لهجوم، وطليعة لمكيدة جديدة.
فقال عياض: إن هشاما لا يستطيع أن يمس الوليد، ولكنه سيصب غضبه علي وعليك يا أبا وهب، فقد بلغني من مولاه يعقوب - وهو جاسوس لي عليه - أن حديثا جرى منذ يومين بشأن الوليد وندمائه، وأن جواسيسه نقلوا إليه بعض شعرك الذي تمدح به الأمير، وتذكر ما يرجى منه إذا ولي الخلافة، وترمي فيه هشاما بأقبح الصفات ؛ فغضب حتى كاد يعود حوله عمى، ثم صاح: والله لأقصن جناحيه، ولأفرقن عنه قرناء السوء الذين يمالئونه علي! والرجل بطاش منتقم، يقتنص العصفور من بين براثن النسور، ولا يترك أعداءه للمقادير، وهنا قال عبد الصمد ابن عبد الأعلى: وكل حقده علي أني لم أخضع لأمره، ولم أقنع الوليد بالتخلي عن ولاية العهد، فأسرع عياض وقال: إن لي ولك عنده ذنوبا لا يحصيها العد، ولكنا لن نبالي به، ولن نأبه لوعيده، وسنكون ألصق بالوليد من جلده، وأقرب إليه من عقوده، ولو لقينا في سبيل ذلك الموت، ولله غيب هو مظهره، ولعلها غمرات ثم ينجلين، وظلمة يتبعها سفور الصباح، إن الرجل مضطرب مصاب بمرض يسمى ولاية العهد، ووجوب انتقالها إلى ابنه مسلمة.
فصرخ الوليد: دون هذا وتسيل الدماء، إن ولاية العهد قد كتبت في سجل القدر، ولن يستطيع هشام أن يمحو مداها، ولو استعان بأمواج البحار، ثم قام في اختلاج واضطراب إلى ندمائه، فأخذ يقبلهم واحدا واحدا، والدموع تنهمر من عينيه، وهو يقول: أنا أعلم أن المكروه سيصيبكم من أجلي، ويل لي! وويل لكم مني، أليس مما يمزق القلب أسفا أني لا أقدر أن أدفع عن أصدقائي وخلصائي؟ إنني إزاء بطش هذا الرجل أضعف من ذات خمار، ولقد عرف كيف ينتقم مني فيكم، وعرف كيف يحرمني بفقدكم طيب الحياة، إنني أعلم أن كلمة واحدة من فمي تنقذكم جميعا، ذلك بأن أذهب إلى هشام وأقول له: إني تخليت راضيا عن ولاية العهد، ولكني لن أفعل شيئا من هذا؛ لأني أعلم أني أحب إليكم من أنفسكم، وأنكم تفدونني بأرواحكم، وأن أكبر آمالكم أن أصبح خليفة، وأن أشفي نفسي بدماء أعدائي، ثم ضحك طويلا حتى كادت تسقط عمامته، وقال: موتوا مطمئنين أيها الأوفياء، ثم التفت إلى ابن سهيل وقال: ما أجملك مصلوبا يا أبا وهب، وقد امتدت ذراعاك في الهواء كأنك لا تزال تذكر عناق الحسان، لا تجزع يا حبيبي، ومت آمنا فسأقتل بك عشرين فتى من فتيان بني أمية، أما أنت يا ابن مسلم فمما تطيب له نفسك أن تعلم أن سيفا منذ طبعت السيوف لم يقطع عنقا أشرف ولا أكرم من عنقك، فلا تبتئس أيها الصديق، وسر إلى الموت كريما، فسأقتل بك خمسين فتى من فتيان بني أمية، وهنا صاح أشعب بصوت يشبه نقيق الضفادع قائلا: أما أنا أيها الأمير فسوف أموت فرحا مسرورا؛ لأنك ستقتل بي مائة عجل من عجول بني أمية! فأغرق القوم في الضحك، وقام الوليد يعدو وراءه، ففر منه وهو يقفز أحيانا، ويمشي على رأسه أحيانا، ولجلاجله صليل ورنين، ثم صاح به الوليد: ماذا كان جواب الرسالة التي بعثتك بها يا قرد السوء؟ ولم لم تخبرني بما تم فيها بالأمس؟ - انتظرتك حتى تفرغ من مجالسك يا أبا العباس، وكنت أظن أن ذلك لن يكون إلا في العام المقبل. - سأكون في العام المقبل خليفة؛ فلا أحتاج إلى الاستشفاع بك. - ولكنك ستكون بطبائعك الوليد بن يزيد الذي نعرفه جميعا، فلا تستغني عن شفاعتي؛ فضحك القوم، وقال ابن سهيل: ما تلك الرسالة أيها الأمير؟
فتأوه الوليد وغشيت وجهه سحابة من الحزن، وقال: رسالة إلى سعدة. - ألا تزال تذكرها؟ - دعني بالله يا ابن سهيل، ولا تثر لواعج نفسي، فإنني كلما ذكرت عهدها طار بي الشوق إليها، وهزني نحوها الحنين، إنني رجل منكود الحظ، شقي الطالع، لا أكاد أصل في سلم السعادة إلى درجة أشرف منها على الحياة حتى يسقط بي السلم في هوة لا ينادى وليدها، ولا يرجى فقيدها، لقد كان حبنا سماويا لم ينعم بمثله زوجان فوق الأرض الفانية، ولقد مرت بنا سنوات كأنها بسمات الروض لأشعة الصباح، عشنا فيها تظلنا دوحة الحب سعيدين هانئين. - إلى أن رأيت أختها سلمى. - إلى أن رأيت أختها سلمى يا ابن سهيل، ويلاه؛ ليت هذا اليوم لم يكن؛ ذلك كان يوم أن ذهبت لأعود أباها سعيد بن خالد، وإنه ليوم بالغ الأثر، شديد الخطر، تبدلت فيه حياتي، واضطربت من بعده أيامي، لمحت فيه سلمى، وقد برزت بوجه لم تشرق الشمس على أجمل منه، وقامت حولها جواريها ليسترنها عني ففرعتهن طولا، فاهتز لها قلبي، وخفقت جوانحي، ورحت بها صبا متبولا، لا يستقر لي قرار، ولا ينطفئ أوار. - لذلك طلقت سعدة لتفوز بأختها. - نعم طلقتها في لحظة جنون، وكنت أظن أن الوصول إلى سلمى بعد ذلك من أهون الأمور، وأنه ليس علي إلا أن أخطبها من أبيها، فيجيب شاكرا مسرورا. - ولكن هشام وقف بينك وبينه، وحال بين الثمرة اليانعة وجانيها. - نعم يا أبا وهب فرجعت صفر اليدين، أندب محبوبتين، وأعاني آلام غرامين، فلا على سعدة حصلت، ولا بسلمى ظفرت. - والآن تريد أن تعود إلى مودة سعدة بعد أن هجرتها وهجرتك، وبعد أن أصبحت ذات بعل؟ - إن غرامي بها يكاد يصل إلى حد الجنون، وإن لي أملا في أن ينفصم عقدة زواجها، فأعود إليها كما كنت زوجا وافر الحظ سعيدا. - عجيب كل أمرك أيها الأمير، وأعجب ما فيه أنك بعد أن عاودك الهيام بسعدة لا تزال تحب سلمى. - لا أزال أحبها؟ إنني أحبها كما يقول ابن أبي ربيعة: «عدد الرمل والحصى والتراب»، إن لي في الحب يا ابن سهيل مذهبا لا تعرفه.
ثم اتجه إلى أشعب وصاح: ماذا كان جواب الرسالة أيها القرد الأحمق؟ فتقدم منه أشعب وهو يتصنع الخوف، وقال: ذهبت إليها بالأمس يا سيدي فلما أذن لي عليها، رأيت صورة رائعة الحسن ما وقعت على مثلها عيناي، فملكتني الدهشة، وتعثر بي لساني، فلما اطمأنت نفسي، واستقر بي مجلسي، وقفت أقول وأنا أرتعد رعبا: يا سيدتي، هذه رسالة مولاي إليك، وهو يقول لك فيها:
أسعدة هل إليك لنا سبيل؟
وهل حتى القيامة من تلاقي؟
بلى، ولعل دهرا أن يواتي
بموت من حليلك أو طلاق
فأصبح شامتا وتقر عيني
ويجمع شملنا بعد افتراق
وما كدت أتم البيت الثالث حتى صرخت في وجهي، وأخذت تصيح بخدمها: خذوا عني هذا الفاسق الفاجر، جروه من رجليه، ثم اقتلوه في بستان القصر، ولا تدنسوا بدمه بساطي، فلم أملك نفسي من الرعب والوهل، وتعلقت بطرف ثوبها في ذلة وتوسل، وأنا أقول: ارحميني يا مولاتي ، ارحميني بحق جدك عثمان بن عفان، لقد والله كنت أعرف أني مقدم على مثل هذا، ولكن ماذا أصنع وأنا أشعب، وقد أغراني ثمن هذه الرسالة المشئومة؟ إن ثمنها يا مولاتي عشرة آلاف درهم! عشرة آلاف درهم! فابتسمت قليلا وقالت: والله لأقتلنك، أو تبلغه كما بلغتني؛ فهدأت نفسي وقالت: وماذا تهبين لي من أجر على رسالتك؟ قالت: بساطي الذي تحتي. قلت: قومي عنه إذا؛ فإني لا أحب بيع النسيئة، فقامت عنه وطويته تحت إبطي، ثم قلت: هاتي رسالتك جعلت فداك، قالت: قل له:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها؟
فقد ذهبت لبنى، فما أنت صانع؟!
وما كاد ينتهي حتى وثب عليه الوليد كأنه الجمل الصائل، ولكن أشعب استطاع أن يفر منه قبل أن يلثمه بسوطه، فصرخ الوليد: إنها تقول: فما أنت صانع؟ الذي أصنعه يا ابن أم الخلندج أن أدليك منكسا في بئر، أو أن أقذف بك من قمة القصر، أو أن أضرب رأسك بسيفي ضربة أطيح بها رأسك، هذا هو الذي أنا صانع؛ فوقف أشعب في ثبات وثقة وقال: والله ما كنت لتفعل شيئا من هذا. - ولم يا ابن المجلودة؟ - لأنك لم تكن لتعذب عينين نظرتا إلى سعدة، فارتد الوليد عنه وهو يتأوه ويقول: نجوت يا ابن الورهاء، اغرب عني أيها الأزرق المشئوم.
وأذن مؤذن المغرب فانتفض الوليد كمن يرفع رأسه من لجة غامرة، وتبدلت حاله، ولبسته صورة رائعة من الخشوع والتبتل، ونظر إلى السماء في ذلة وخشية، وأسرع غلامه سبرة فأحضر إبريقا، وطستا فتوضأ، وقام القوم فتوضئوا، ثم صاح بصوت هز أرجاء القصر: الصلاة الصلاة، ونهض فأم من بالقصر، فلما فرغ من الصلاة أخذ يجاذب ندماءه طرائف الأحاديث والأخبار، حتى إذا مر طرف من الليل صاح: أين النوار؟ أين النوار؟ أين سعاد الكوفية؟ أين جامع لذتي ومحيي طربي؟ أين عمر الوادي؟ وكأنهم جميعا كانوا يترقبون هذا الأمر، فما مرت لحظات حتى أقبل الجواري والمغنون، فطلب إلى عمر الوادي أن يغنيه بشعره في سلمى، فعزفت العيدان، وارتفع صوت الناي، ودقت الدفوف ، وأخذ عمر يغني هزجا بالبنصر:
يا سليمى يا سليمى
كنت للقلب عذابا
يا سليمى ابنة عمي
برد الليل وطابا
أيما واش وشى بي
فاملئي فاه ترابا
ريقها في الصبح مسك
باشر العذب الرضابا
فطار عقل ابن الوليد من الطرب، وخلع جبته، وقذف بها في وجه عمر، وهو يقول: خذها لا بارك الله لك فيها، ثم زدني بالله زدني، فانطلق يغني رملا بالبنصر:
يا من لقلب في الهوى متشعب؟
بل من لقلب بالحبيب عميد؟
سلمى هواه ليس يعرف غيرها
دون الطريف ودون كل تليد؟
إن القرابة والسعادة ألفا
بين الوليد وبين بنت سعيد
فما أتم غناءه حتى قام الوليد فاختطف الدف من جاريته صدوف غاضبا، وقال: أنت لا تحسنين الإيقاع يا جارية! دق عليه أنت يا ابن عائشة، وغننا بالله يا أبا كامل، فأسرع يغني:
ويح سلمى لو تراني
لعناها ما عناني
متلفا في اللهو مالي
عاشقا حور القيان
إنما أحزن قلبي
قول سلمى إذ أتاني
ولقد كنت زمانا
خالي الذرع لشاني
شاق قلبي وعناني
حب سلمى وبراني
ولكم لام نصيح
في سليمى ونهاني
فكاد يخرج من ثيابه لشدة الطرب، فلما هدأت نفسه وثب مسرعا إلى الجناح الذي تسكنه أمه، وهو يصيح: يا سبرة، اطرد المغنين، واصرف الجواري، فقد سئمت هذا العبث، أخرجهم من القصر إن شئت؛ فإنهم جنود إبليس في هذه الأرض.
دخل الوليد على أمه حزينا مطرقا، يكاد يطفر الدمع من عينيه، وكانت أمه بنت محمد بن يوسف بن الحكم الثقفي أخي الحجاج بن يوسف، في نحو السادسة والأربعين، وهي على تجاوزها ريعان الشباب، لا تزال تزهى بلمحات جمال بارع، لم تذهب بنضارته السنون، وكانت مولعة بالوليد، كثيرة التدليل له، والرفق به، والإغضاء عن هفواته.
دخل عليها فرآها جالسة على أريكة نجدت بالحرير، وطرزت ستائرها بالقصب، وقد لفت رأسها بخمار من الحرير الأسود، فبدا منه وجهها كما يبدو البدر في حلك الظلام، وكانت تقرأ القرآن، وأبو رقية أمامها ممسك بالمصحف يستمع لتلاوتها.
وكان أبو رقية هذا في طليعة شبابه شديد الذكاء متوقد القريحة، تجرد لطلب علوم الدين والقرآن، فأوغل في الدرس، وواصل فيه ليله بنهاره، فغلبت عليه المرة السوداء، فاختلط عقله، وأصابته لوثة، وانتابه البله في أكثر أحواله، ولكنه كان يفيق أحيانا فيثوب إليه عقله، ويعاوده ذكاؤه، ويصدر عنه من الدهاء والمكر ما يعز على أكثر العقلاء، وقد يرى في أثناء إفاقته أن من الخير له أن يتباله، فلا يكاد يفرق من يراه بين بلاهته المطبوعة، وبلاهته المصنوعة، ومما يؤثر من نوادره في إحدى نوبات جنونه، أنه كان يحمل مرة في طوف ثوبه بيض دجاج، فأحرده الصبيان، وهموا برجمه بالحجارة، فخاف على البيض منهم، فوضعه على الأرض، وجلس عليه حتى لا يراه منهم أحد.
واتفق عند دخول الوليد أن كانت أمه تقرأ قوله تعالى:
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم . فانكب على يديها يقبلهما في حزن وخشوع، وهو يجهش بالبكاء ويغمغم: نعم يا أماه، إنه هو الغفور الرحيم، ولكن عذابه هو العذاب الأليم، فأين أكون من هذين؟ وهل تتسع رحمته لمثلي؟ إنه كريم يقبل التوب، ويغفر الذنب، ولكن أين غفرانه مني وأنا أشرد منه شراد البعير؟ اسأليه عني يا أماه أن يرد عني كيد الشيطان، فإني أخجل من دعائه، والابتهال إليه، خذيني إليك يا أماه، وضميني إلى صدرك، فلعلي أعود كما كنت طفلا نقي الذيل، طاهر النقيبة، فقد استعبدتني نفسي، وأثقلتني همومي؛ فأقبلت عليه أمه تمسح على رأسه في حنان ورفق، وتملأ وجهه بقبلاتها، ثم قالت: خفف عن نفسك يا ولدي، فإن الدموع تغسل الذنوب، والخوف من الله أول مراتب التوبة النصوح، ثم ابتسمت وأخذت تربت كتفه وتقول: ولكنك يا بني لا تكاد تعري أفراس الصبا حتى تسرجها، وتركض بها غير مبال ولا هياب، ولا تكاد تحطب كأسا من اللهو حتى يسبك لك الشيطان كاسات، إن قلبك يا بني قلب مؤمن، إذا تيقظ كشف لك وجه الحق، فدعه دائما متيقظا. - ليتني أستطيع يا أماه! إن ابن إبليس تمنى على أبيه لعبة يلهو بها، فلم يجد له اللعين لعبة سواي، إنني أفيق كما يفيق المحموم، ثم أعود إلى الخمود، ويلتمع في نفسي نور من الحق كما يلتمع السراج في آخر الليل ثم يخبو، أرأيت هذا المجنون أبا رقية ...؟ فصاح أبو رقية في استنكار: لست مجنونا، ولكني أشعر بالجنون أحيانا حينما أراني مدفوعا إلى حب أمثالك يا أبا العباس، وإلى بذل ذات نفسي لدفع الشر عنهم. - أتحبني يا أبا رقية؟ - نعم، وأركب كل صعب للوصول إلى ما يرضيك. - أتقول حقا أيها الأبله؟ - لست بأبله؛ لأنني لا أشرب إلا إذا ظمئت، أما غيري فيشرب وهو ريان. - وكثيرا ما صفروا لك لتشرب. - خير لي أن أشرب مع الحمير من أن أشرب مع قرناء السوء. - أما ذقت الخمر يا أبا رقية؟ - ذقتها بعيني عندما رأيت عربدة المخمورين. - تبا لك من معتوه، والله ما رأيت لك مثلا. - إنك ترى كثيرا من أمثالي في مجالس الشراب.
فابتسمت أم الوليد، وأشارت إلى ابنها أن يكف، ثم سألت: ما شأن هؤلاء القوم الذين جاءوا اليوم؟ لقد أخبرتني صدوف بكل شيء. - صدوف؟ إنني لا أحب هذه الجارية يا أمي على جمالها وكمال أدبها، لا أدري لماذا؟ ولكنها نفرة أشعر بها كلما مددت إليها عينا. - إن صدوف من خير جواريك خلقا وخلقا، ولقد شكت لي منذ أيام صدودك عنها، وانصرافك إلى غيرها. - إن الحب والبغض شيئان نحسهما، ولا نعرف أسبابهما. - هذا حق، ولكن الكريم يجامل إذا لم يحب. - بم أخبرتك صدوف؟ - أخبرتني بكل ما قال لك رسل هشام، وبكل ما قلته لهم. إنها خدعة الصبي عن اللبن يا بني، فلا تركن إليهم. إن هشاما يريد أن يتخلص منك، فإياك أن تمكنه من مأربه، وإن ولاية العهد لأمانة لله في يديك، فمت دونها كريما، ولا تفرج عنها أصابعك، لقد مات أبوك بين سحري ونحري وهو ينظر إليك محزونا مكمودا، ويقول: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبين ولدي! فقد كانت ولاية العهد لك بعد أبيك يا بني، ولكن عمك مسلمة أدخل على أبيك الشبهة، وقد كنت صغيرا، فحمله على أن يعهد بها إلى هشام على أن تكون لك من بعده، والآن وقد استمرأ هشام مرعاها، واستحلى أفاويقها، يهم بأن يخلعك ليخص بها ابنه من بعده، إن ذلك أبعد إليه من السماكين، وأنأى من الفرقدين، إن بقصر هشام أحابيل تنصب لك، ومكايد تدبر لهلاكك، فكن منها على حذر، وامش يا بني كمن يمشي في مسبعة لا يرد الطرف عن ناحية حتى يصوبه إلى أخرى، وخير سلاح ترد به كيد أعدائك أن تتخلى عما أنت فيه من لهو، فإنهم يجعلون التشهير بك ذريعة إلى نيل ما يؤملون. - ليتني أستطيع أن أتخلى. - كن قوي العزم يا بني، وغالب نفسك بالصبر والجلد. ألا تزال تحن إلى سلمى؟ - حنين النيب إلى إفالتها، لقد قابلت أباها منذ أيام أمام باب الفراديس فسألته عن سلمى، وتذللت له، وألحفت في المسألة، فما كان منه إلا أن نأى بجانبه في أنفة وكبرياء، فأمسكت بذراعيه، وقد اشتد بي الغيظ، وقلت: سحقا لك من رجل منخوب الفؤاد، الآن تردني عنها، وكأني بك وقد وليت الخلافة تتملقني وتخطبني لابنتك فلا أجيبك، فما كان منه إلا أن نتر ذراعيه من يدي، وقال: إن امرءا يجعل كريمته عند مثلك لحقيق بأكثر مما قلت، فلم أملك إلا أن أجبهه بما يكره من شتائم، وتركته مغضبا. - لقد انقلبت الأوضاع يا بني في هذه الدولة، واضطربت الموازين، ولقد عشت حتى أرى سعيد بن خالد يأنف مصاهرة الوليد بن يزيد، كنت أزور اليوم أم عثمان زوج هشام، فسمعت منها أن يزيد بن عنبسة يلح في خطبة أختها سلمى، وأن هشاما يميل إلى تزويجه بها، فوثب الوليد كأنما انقضت عليه صاعقة ثم صاح: ويل للفاجر، يزيد بن عنبسة يخطب سلمى! إنه أقل من أن يشرف بنيل إحدى وصائفها، ألهذا جاء إلي اليوم في صورة الأمين الناصح، وجعل من نفسه صنيعة لهشام ليشهر بي، ويملأ الآفاق بمذمتي؟ - أخشى أن يكون تزويجه بسلمى جزءا من المكيدة التي تدبر لك. - لو نال منها شعرة لرويت منه سيفي .
وبينما هما في الحديث إذ سمعت ضجة في القصر، ودخل سبرة مذعورا وهو يلهث ويقول: قدم يا مولاي خالد بن القعقاع رئيس شرطة هشام، ومعه كثير من أعوانه، فوثبوا على القصر وقبضوا على ابن سهيل، وعياض، وعبد الصمد، وكبلوهم بالأغلال، ثم ساقوهم إلى سجن الخلافة، وكان أبو رقية ينصت دهشا، وقد اتسعت حدقتاه حتى كادتا تملآن وجهه، وتمتم بكلمات زادها الجنون إبهاما؛ وسقط الوليد لهول الخبر، ثم أخذ يئن أنين المجروح ويقول: أصدقائي! أحبائي! ندمائي! اللهم أجرني منه! اللهم أجرني منه!
أنا النذير لمسدي نعمة أبدا
إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرا
وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا
أتشمخون ومنا رأس نعمتكم؟
ستعلمون إذا أبصرتم الدولا
انظر فإن أنت لم تقدر على مثل
لهم سوى الكلب، فاضربه لهم مثلا
ثم وثب فجأة، وأمر سبرة أن يدعو المغنين، وانطلق من باب الحجرة كما ينطلق السهم، وهو يصيح: إلى مطلع الفجر! إلى مطلع الفجر.
سجن وإطلاق
كان هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي في نحو الخمسين من عمره، وسيم الوجه، أبيض البشرة بادنا، عريض الجبهة، حسن اللحية، يخضب بالسواد، في عينيه حول، وكان حازما ذا رأي ودهاء، من رآه رأى رجلا محشوا عقلا، وكان بخيلا، جماعا للأموال، وكان يجلس في هذا الصباح بدار الخلافة، وقد وقف أمامه كاتبه سالم أبو العلاء، وجلس إلى يمينه ابناه مسلمة وسعيد، وإلى يساره جمع من رجال بني أمية، منهم يزيد بن الوليد، وإبراهيم المخزومي، ويزيد بن عنبسة، وأخذ سالم يقرأ عليه ما حمله البريد من أخبار الأطراف، وما بعث به الولاة والقواد من رسائل، وما ورد من العيون والجواسيس الذين كان يبثهم الأمويون في أقطار الدولة.
وقرأ سالم أول ما قرأ رسالة من حسان النبطي، يذكر فيها: أن خالد بن عبد الله القسري عسف بأهل العراق، وسلب أموالهم بالقهر، حتى لقد بلغت غلته عشرين ألف ألف درهم؛ فزمجر هشام وصاح: بمثل هؤلاء الولاة تزول الدولة، وتنهار الممالك، والله لأردنه إلى بغلته وطيلسانه الفيروزي ؟ اكتب إلى يوسف بن عمر عامل اليمن بولاية العراق، ومره أن يسجن ابن النصرانية وعماله، وأن يحتجز كل ما لهم من صامت وناطق، لن يشرب ماء الفرات بعد اليوم، وأنا ابن عبد الملك؛ إن الدولة بولاتها، فإذا فسدوا فسد فيها كل شيء، هل من حدث آخر يا أبا العلاء؟ - وهذا يا أمير المؤمنين كتاب من خراسان بعث به عذافر بن يزيد يقول فيه: إن خراسان أصبحت عشا للفتن، ووكرا لشيعة بني العباس، ينشرون فيها دعوتهم، ويبعثون منها رسلهم، ويعدون فيها ما استطاعوا من قوة، ويتلقون بالطاعة ما يأمر به محمد بن علي بن العباس المقيم بالحميمة. وقد كتب عذافر يقول: إن سليمان بن كثير، وبكير بن ماهان يعملان جاهدين في خفية وحذر؛ لدعوة الناس إلى بني العباس، وصرفهم عن بني أمية، ويقول: إن شابا نشأ بأصفهان يكنى بأبي مسلم، سيكون له شأن وخطر، وإنه دولة في شخص، وجيش في رجل، وإنه ألد الخصام، واسع الحيلة، وإذا لم يقض عليه من أول نشأته عظم أمره، وأثارها شعواء لا تبقي ولا تذر. - إن خراسان مكمن الداء في هذه الدولة، وهي حصن أعدائنا الناقمين علينا، وهذا بكير بن ماهان يعمل منذ أن وليت الخلافة على الانتفاض عليها، وإيغار الصدور على ولاتها، أليس في مملكتي رجل كريم العم والخال، عربي الأرومة يوجر رمحه في أحشاء هذا الكلب العقور؟ ... ويل للخلافة من نصرائها، إنها تتلهف إلى حجاج ثان يثبت ما اهتز من أركانها، ثم إني حرت في أمر محمد بن علي هذا، إنك حيثما قلبته لا تجد إلا زهدا وصلاحا، وانصرافا إلى الله وتبتلا، إن اليد لترتعد إذا امتدت إليه بسوء، وإن السيف ليتحطم في غمده قبل أن يسل في وجهه، ولكني أخشى أن يكون لابسا غير ثوبه، وأن يكون ساترا وراء هذا الزهد خبثا وخديعة وفتكا، وكلما ذكرت خبر أبي معه تملكني الخوف، واعتصمت بالحذر؛ ذلك أن محمدا هذا ورد مع أبيه على أبي، وكان بالمجلس قائف يلمح ما غاب عن الناس من أحكام القدر، فلما انصرف التفت أبي إلى القائف وسأله: أتعرف هذا؟ قال: لا، ولكني أعرف من أمره واحدة. قال: وما هي؟ قال: إن كان الفتى الذي معه ابنه فإنه يخرج من عقبه فراعنة يملكون الأرض، ولا يناوئهم مناوئ إلا قتلوه، فالتفت إليه يزيد بن الوليد وقال: هون عليك يا أمير المؤمنين، فذلك حديث خرافة، والله لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، وأنصار العباسيين بخراسان حفنة متخاذلة يكفي أن يسوقها أحد عبيدك بالسوط إلى طاعتك. - لا تستهينوا بصغار الأمور يا بني أمية، فإنها إحدى علائم زوال الدولة. - إن الدولة بخير يا أمير المؤمنين، وقد قمت بالأمر فيها ثماني عشرة سنة، فثبت دعائمها، وشددت أركانها. - أتستكثر علي ثماني عشرة سنة في الخلافة؟ ويل لكم من بعدي! والله ما تشبثت بأهدابها إلا لأصون ملكا ضيعه أهله، وعبث به فتيانه، ولقد أعلم أن كثيرا منكم يعيبني بأني حفي بالخلافة، أكاد أعض عليها بالنواجذ. نعم، إنني عليها حريص، وبها ضنين، ولكني أرى بعين بصيرتي مجدا يترنح، وعرشا تكاد تسقط قوائمه، فأود لو امتدت حياتي، وتنفس لي العمر حتى أعيد إلى الخلافة مجدها القديم. عجيب شأن الإنسان، لا يكاد يكتمل حتى يذبل ويدركه الموت، وإن في الحياة ومطالبها وغاياتها ما يضيق به عمره القصير الأمد، أليس من أعجب العجب أن تعيش السلحفاة، وهي من أحقر المخلوقات مائتي عام، وأن تضن الحياة على الإنسان المسكين بأكثر من ستين أو سبعين عاما؟ ولو أنه عاش عمر السلحفاة لصنع العجائب، وأتى بالمعجزات. وماذا نعمل بالحياة إذا كنا نموت كلما أوشكنا أن نفهم حقيقتها؟ ثم زفر زفرة طويلة، واتجه إلى كاتبه سائلا: أعندك شيء آخر؟ - نعم يا أمير المؤمنين، قبض الشرط بالأمس على رجل بالقرب من الباب الشرقي كان بداره قيان وخمر وطرب، وقد أحضرناه ومعه البربط الذي كان يعزف به.
ودخل الرجل فوثب هشام من مجلسه واختطف البربط من يده، وهو يصيح مهددا: والله لأكسرن هذا الطنبور على رأسك أيها الفاجر؟ فبكى الرجل وأغرق في البكاء ، فسأله هشام عن سبب بكائه، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أبكي من خوف الضرب، وإنما الذي أبكاني أنك تهين البربط، وتسميه طنبورا.
ولم ينفع الرجل بكاؤه ولا توسله، فضرب وكسر بربطه أو طنبوره على رأسه، وبعد انصرافه اتجه هشام إلى كاتبه يسأله عمن قبض عليهم بالأمس من ندماء الوليد، وعما فعل بهم. - قذفنا بهم في سجن الظلام مكبلين يا أمير المؤمنين. - إن هؤلاء شياطين الشر، وأس البلاء، ولولاهم ما ركب الوليد رأسه، ولا أطاع هوى نفسه، ولقد بعثت الزهري إليه بالأمس لينصح له فلم يلق منه إلا نكرا، وإن من الخيانة لعهد الله ورسوله أن تترك الخلافة في يد هذا الفتى، يقولون: إنني أريد أن أصرفها إلى ولدي مسلمة، وأقسم إنني لو رأيت في ابن أخي خيرا ما جال هذا الأمر لي بخاطر، إنني أريد أن أرقد في قبري هانئا مستريحا، وأن أترك خلق الله في رعاية من يخاف الله، ولو حال ابن أخي بيني وبين ما أحب لهذه الأمة لرويت منه سيفي غير مستحقب إثما.
وبينما هو منساق في حديثه إذ دخل الوليد وهو يمشي في بخترة وعجب، شامخ الأنف، أصيد العنق، فحيا أمير المؤمنين، ثم جلس بجانبه حتى التصقت ركبته بركبته، وكاد يزحمه في مجلسه، ونظر إليه هشام نظرة المغيظ المحنق، ثم أسرع فبسط له وجهه كأنما طافت برأسه فكرة خاطفة صرفته عن نيته، وشرع الوليد يقول: لقد بعث أمير المؤمنين إلي نفرا من جماعته بالأمس ليثلبوا عرضي، ويحطوا ما رفع الله من كرامتي، في أثواب ناصحين مشفقين، وما كنت لعمر الله لأصبر على هذا الضيم، لولا أنهم رسل أمير المؤمنين. إن أبناء عبد شمس - وهم سادة الجاهلية، وخلفاء الإسلام - أقوى شكيمة، وأحمى أنوفا من أن يطأطئوا رءوسهم لناصح متطفل، ثم ما هذا الذي فعلته يا أمير المؤمنين مما أقض مضجعك، وجعلك تترك شئون الخلافة لتفرغ لي ولأخداني؟ أأحدثت في الدين حدثا؟ أم هدمت من الخلافة ركنا؟ أم جردت للفتنة جيشا؟ إنني أعيش في قصري بعيدا عنك وعن حاشيتك وبطانتك، ولكني لا أسلم من رقبة جواسيسك وتطلع عيونك، حتى أصبحت هدفا لكل رام، ثم لم يكفك هذا فعملت كادحا على الانتقام مني، فقطعت عني عطاءك لأذل لك وأستكين، وأستجدي جدواك، وأقسم بمن خلق للحق ميزانا، وأعد للطاغين نيرانا، إني ما سررت بعطائك، ولا حزنت لانقطاعه، فقد سبب الله لي من العهد، وكتب لي من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد دون الله على قطع شيء منه دون مدته، ولا صرف شيء منه عن مواقعه، ولعل من الخير لك يا أمير المؤمنين أن ترعى في أواصر القربى، وأن تذكر أبي الذي آثرك بها على ولده.
فإن تك قد مللت القرب مني
فسوف ترى مجانبتي وبعدي
وسوف تلوم نفسك إن بقينا
وتبلو الناس والأحوال بعدي
إني جئت اليوم يا أمير المؤمنين لا لأطلب شيئا لنفسي، وإنما جئت لأسألك في فكاك أصحابي الذين ألقيت بهم في السجن، وليس لهم من جرم، إلا أنهم بي حفيون، ولعهدي مخلصون، وإذا كان لا بد لغضب أمير المؤمنين من متنفس فليصبه علي وحدي، فأنا به أوسع صدرا، وأكثر احتمالا.
فاربد وجه هشام، وانتفخت خياشيمه من الغضب، وصاح في وجهه: إني لن أترك الخلافة بين زق وعود، ولن أتركها لندمائك يبيعونها للأعداء، أما ما ذكرت من قطعي ما كنت أجريه فإني أستغفر الله من سبق إجرائه عليك، وأرجو أن يعفو الله عني بعد أن تداركت الأمر، وأسرعت بقطع مال كان ينفق في غير وجهه، وأما ندماؤك فهم عندي جذور الشر ومعاول الفساد، وهل زاد ابن سهيل - لله أبوك - عن أن يكون مغنيا زفانا، قد بلغ في السفه غايته؟ وهو مع ذلك ليس بشر ممن تستصحبهم في الأمور التي أكرم نفسي عن ذكرها، وهل عياض بن مسلم إلا وسيط سوء بيني وبينك، ومزور أخبار يستثيرك بها عن أهلك وقومك؟ وهل عبد الصمد إلا رجل احتال للوصول إليك ليكون لك معلما ومؤدبا، ثم انقلب فاجرا معربدا، وشيطانا مغويا؟ إن سجن الظلام منذ أن بناه الروم في عهودهم السحيقة لم تضم جدرانه، ولم يظل سقفه، أكثر إجراما، ولا أخبث أنفسا، ولا أجرأ على الشر من ندمائك الملاعين، لن يفك لهم إسار، ولن يروا نور الحياة مادام في نفس يتردد، وأقسم لولا صلة القربى التي ذكرتها، ولولا أن يشمت الأعداء ببني مروان لألحقتك بهم. يا حرسي، سر أمامنا إلى السجن لنري الوليد أحباءه، فلعله يرى فيهم عظة ومعتبرا. - لن أذهب معك يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن ينقض علينا غضب من الله ونحن في السجن. - إن غضب الله لا ينقض إلا على الغاوين. - إن كثيرا من الناس لا يعرفون أنفسهم. - ولو عرفوها ما هزوا أعواد الخلافة باستهتارهم، ولكفى الله المؤمنين شرهم. - وأي شر في مجالسة صديق، وسماع لحن من الثقيل الأول؟ - زوال الإسلام يا فتى، وذهاب ريح المسلمين، هلم إلى السجن لتمتع النظر بأصدقائك المخلصين.
فسار الوليد خلفه في تثاقل واستكراه كأنما يقاد بالسلاسل، ووصل الخليفة والحاشية إلى السجن بعد قليل.
وهو سجن روماني قديم نحت في باطن الأرض، ينزل إليه النازل بدرجات تبلغ الست والثلاثين، وهو متسع الرقعة، لا يزيد ارتفاعه عن قامة الرجل، وقد قسم بالبناء حجرات صغيرة يقيم بها المسجونون، وبه بئر عظيمة، بعيدة الغور تسمى «بئر الموت»، تلقى بها جثث من أنقذهم الموت من ويلات هذا الجحيم، وقد تراكمت به الأقذار، حتى أصبحت أرضا فوق أرضه، واشتد به الظلام حين حرم ضوء الشمس، وركدت به روائح العفن والقذر حين حرم نسمات الرياح، ولم يكن يفرق بينه وبين القبور إلا أن سكانه أحياء يشعرون فيتألمون، وسكانها أموات لا يشعرون، ظلمة لا تسمع فيها إلا شكاة الشاكين، ولا ترى فيها إلا أشباحا هزيلة تروح وتجيء في ضوء خافت من المشاعل تخفق في اضطراب وضعف، كما يخفق قلب الطائر الجريح أقصدته السهام، وسجانون شداد غلاظ كأنهم زبانية السعير، وأنات وزفرات تتلهف إلى قسوة الموت بعد أن يئست من رفق الحياة.
دخل هشام وقد وضع يدع على أنفه كراهية أن تصل إليه ريحه، ومشى أمامه كبير السجن حتى وصل إلى حجرة ابن سهيل؛ فرآه ملقى على الأرض في مسح خلق، والسوط ينصب عليه من سجان عنيف صخري القلب مفتول العضل، وهو يئن أنين المحتضر، ويستغيث فلا يجد مغيثا؛ فأسرع الوليد وأمسك بيد السجان، ثم وكزه بمرفقه في غضب ونكر حتى ابتعد عنه، واتجه إلي هشام فقال: يا أمير المؤمنين، اجعلني مكانه، أو مر هذا الجبار الأحمق أن يكف عنه، إن الموت يا أمير المؤمنين أروح له من هذا العذاب، فلوى عنه هشام وجهه، وأشار إلى السجان أن يمضي في عمله، وجذب الوليد من كمه، وسار وتبعته الحاشية فشهدوا من عذاب عياض، وعبد الصمد ما تقشعر له الجلود، وكان الوليد حزينا مطرقا يذرف الدمع مدرارا، وترسل أنفاسه حسرات إثر حسرات، حتى إذا بلغوا إحدى حجرات السجن رأوا شيخا في الثمانين، وقد طال شعره، وامتدت أظفاره، ولم يبق منه السجن إلا عينين ذاهلتين، ونفسا قصيرا متلاحقا، وجسما كادت تبرز منه العظام، فسأل هشام كبير السجن عنه فقال: هذا يا أمير المؤمنين «مجاهد بن حبيب» كان من أصحاب «سعيد بن جبير» الذي خلع «الحجاج بن يوسف» وخرج عليه، فلما تمكن الحجاج من سعيد وقبض على أصحابه كان هذا منهم، فألقي في هذا السجن ونسي ذكره، فبقي هنا إلى اليوم. - هذا كان من سنة أربع وتسعين! - نعم يا أمير المؤمنين. - ونحن الآن في سنة ثلاث وعشرين ومائة، أبقي الرجل منسيا في هذا السجن تسعا وعشرين سنة؟ - نعم يا أمير المؤمنين.
وقرب الخليفة من الشيخ وصاح في أذنه: قم أيها الشيخ؛ فأجاب في صوت خافت: وهل أبقى في السجن والهرم ساقين أقف عليهما؟ - خبرنا بحديثك. - نسيته. - من أنت؟ - كنت رجلا فيما مضى، ولكني أصبحت اليوم جثة بها نفس يطيل في عذابها. - أتحب أن نطلق سراحك؟ - ماتت في الرغبة والرهبة منذ زمن بعيد، فأصبحت لا أريد ولا أخشى. - أنا هشام بن عبد الملك الخليفة. -
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الدماء
صدق الله العظيم.
فاتجه هشام إلى كبير السجن وقال: أطلقوا الرجل، ثم التفت إلى كاتبه وأمره أن يمنحه ما يكفيه في أيامه الباقية، وما كاد يخرج من السجن حتى رأى خادمه يعقوب يقبل إليه مسرعا، وقد تملكه الاضطراب والفزع، وهو يصيح: مولاي مسلمة يا أمير المؤمنين! - ما شأنه؟ - اختطفه اللصوص يا أمير المؤمنين! فبهت هشام وصرخ: اللصوص؟ أي لصوص ويلك؟ - نعم يا أمير المؤمنين، اختطفه اللصوص. - كيف ثكلتك أمك؟ - لقد خرج في الصباح كعادته على برذونه الطخاري، وصحبته إلى الغوطة، حتى إذا عزمنا على الرجوع بدا لنا من بعد رجل يضرب امرأة بسوط، لا تأخذه بها رحمة، وهي تصيح وتستغيث؛ فأشفق سيدي على المرأة، وجرى نحوها لينقذها وجريت معه، ثم نزل عن برذونه، وتقدم نحو الرجل شاهرا سيفه، وما كاد يفعل حتى خرج علينا كمين من الخلف فانقض علينا رجاله، وقبضوا على أيدينا فلم نستطع دفعا، ثم شدوا وثاقنا فلم نستطع حراكا، ثم جاءوا فربطوا على فمي وفم سيدي، وحملوه على جواد لهم، وانطلقوا به في سرعة الريح العاصفة، وبقيت مكتوفا مكموما حتى عثر بي أحد الأعراب فحل وثاقي، فأسرعت إليك يا أمير المؤمنين لتجد إلى إنقاذه سبيلا. - ويل لهم! يختطفون ابني في حاضرة ملكي وبين سمع أعواني وبصرهم! أي طريق سلكوا لا أم لك؟ - لا أدري يا أمير المؤمنين، فقد أثارت خيولهم غبارا حجب عني طريقهم. - صفهم لي. - كانوا يلبسون ثياب الأعراب، ولكنهم لم يكونوا من الأعراب، وقد دس أحدهم هذه الورقة في يدي، وهو يعقد وثاقي. - هاتها ويلك! فناوله يعقوب الورقة، فأسرع إلى قراءتها، وكان فيها: إن لم تطلق عبد الصمد بن عبد الأعلى، وابن سهيل، وابن مسلم الليلة ذبحنا ابنك كما تذبح الشاة، وقذفنا به في فناء قصرك، إننا جادون غير هازلين، وبيننا وبينك غروب الشمس، فإن أطلقتهم نام ابنك الليلة على فراشه، وإلا فقد أنذرناك.
صعق هشام بعد أن قرأ الورقة، وأخذت يداه ترتعشان، ورمى الوليد بنظرة كادت تسحقه، وصاح بكبير السجن: أطلق الكفرة الفجرة أصحاب الوليد، وسوف يكون لي ولهم شأن، فإن للعذاب ألوانا غير السجون، وسيعلم الأنذال ما ينتظرهم بعد حين.
هجرة ولقاء
ترك الوليد هشاما وهو يعجب لتصاريف القدر، ويفكر في أمر الذين جرءوا على ابن الخليفة فاختطفوه في النهار المبصر، كما تختطف السلع، أو كما تطر الجيوب، ثم طاف بخاطره أن هؤلاء القوم إنما كانوا يعملون لأجله، ويحتطبون في حبله، ويناصرونه على أعدائه، وأنهم ما أنقذوا ندماءه من براثن هشام إلا لحبهم إياه، وبغضبهم الخليفة، من يكون هؤلاء يا ترى؟ ومن الذي دفعهم إلى هذه الفعلة الجريئة؟ من هو ذاك الذي أمدهم بالمال، ورسم لهم تلك الخطة المحكمة، وذلك التدبير الحاذق؟ أسئلة لم يستطع الإجابة عنها بعد أن فكر طويلا، وأكد ذهنه طويلا، فسار إلى قصره حتى بلغه، فكان أول من قابله أبو رقية المعتوه بوجهه الأبله، وفمه المفتوح الذي لا ينقطع منه سيلان الريال، فقال الوليد: كيف حال الدنيا يا أبا رقية؟ - الدنيا بخير لأنها تجري على نمط مطرد، وإنما الناس هم الذين يتغيرون، ولو عاش الناس عيشة البهائم لرأوا أن للدنيا صورة واحدة جميلة تتكرر على مر الزمان، وإذا قلنا لهم: عيشوا عيشة البهائم، قالوا: إننا مجانين، إن الإنسان هو الذي يشقي نفسه في هذه الدنيا بمطامعه، وبعد مطالبه وضغنه على كل من يزاحمه في الحياة، أو يسبقه إلى لقيماتها، وكلما نال منها نصيبا زاد طمعه فلون الدنيا بألوان نفسه، فهو يرى فيها خوفا وحقدا، وخداعا وطمعا واغتصابا، ولو حقق لعلم أن هذه الألوان البشعة إنما هي مرائي نفسه وصورها. - مرحى أبا رقية، لقد أصبحت حكيما بصيرا بالحياة بعد أن عمي عنها العقلاء.
فضحك أبو رقية ضحكة أشبه بصراخ الأطفال وقال: وأين العقلاء أيها الأمير؟ إني أخشى أن تعدني منهم، أليس عجيبا أن العقل الذي يعرف الأشياء يعجز عن أن يعرف نفسه، وأن الناس يحصرون المجانين فيمن يرجمهم الصبيان بالأحجار، ولو علموا لرأوا أن الظالم والقاتل، والمدمن والمبذر، والشحيح والمزهو بنفسه، وكثيرا من أنواع الناس لا يعدون في صفوف العقلاء . - هل تكره الظلم يا أبا رقية؟ - أكرهه وأدفع شره بنفسي وبغيري، ثم رفع عينيه الذاهلتين إلى الوليد وقال: هل زرت الخليفة اليوم؟ - نعم، هل ذكرته حينما ذكرت الظلم والشر؟ - لا. ولكن نبئني: أوصلت إليه رسالة من أحد؟
فدهش الوليد، وقبض بشدة على ذراعي أبي رقية الرخويتين، وقال: من أنبأك بهذا أيها الأحمق؟ فابتسم أبو رقية ابتسامة الاطمئنان واليقين، وقال: الحمد لله لقد أفلح التدبير، وماذا فعل هشام؟ - أطلق سراح المسجونين، ومن أين لك علم كل هذا؟ - كان ذلك يسيرا علي، فإن الخليفة حينما أرسل أعوانه إلى القصر، فقبضوا على أصدقائك، وقذفوا بهم في السجن، علمت أن كل ذلك للنكاية بك والإساءة إليك، فذهبت باكيا إلى أمك فنفضت إليها الخبر، فقالت: وماذا أصنع في الخليفة؟ فقلت: تعطينني مائتي دينار، فابتسمت في حزن وأسى، وقالت: ترشو بهما الخليفة؟ فقلت: لا، بل أعطيهما «خارجة القيسي» شيخ لصوص الشام، فقالت: وما شأنك باللصوص؟ قلت: إذا قسا الحاكم تحكم اللصوص؛ فتنهدت طويلا، ثم قذفت إلي بثمانية أكياس، فأسرعت إلى خارجة، ورسمت له طريق العمل، ودعوت له بالتوفيق. - لقد أجاب الله دعاءك يا أخا «هبنقة»، ثم صاح: أين أشعب؟ فجاء إليه يحجل في مشيته كما يحجل القرد راعته عصا صاحبه، ثم رفع صوته محاكيا صوت الديك، ووضع رأسه على الأرض، ورجليه إلى الأعلى، ثم انقلب فعاد كما كان، وقال: هل يريد مولاي الأمير أن يعطيني شيئا؟ - أعطيك هذا، ثم قنعه بسوط كان في يده، فأخذ يحاكي صوت الكلب حينما يقذف بحجر، فرمى إليه الوليد دينارا فتلقفه بفمه في مهارة بارعة، ثم قال: الآن نستطيع أن نتحدث، ماذا تريد مولاي؟ - أتعرف ما كان من أمر ابن سهيل، وعياض، وعبد الصمد، فقد اعتقلهم الخليفة، وعذبهم عذابا شديدا، ثم أجبر مكرها على فك عقالهم، وهم الآن في دورهم، فاذهب إليهم أحضرهم إلي الساعة. - أتريد أن أحل محلهم في سجن الظلام؟ إن كل واحد منهم الآن محاط بجواسيس الخليفة، فهل تظنني أبا رقية حتى تقذف بي في هذه المهالك؟ - أتريد أن تعيش في قصري منعما مترفا دون أن تتعرض لمخوف؟ إن الغنم بالغرم يا ابن جبير. - لقد لقنتني أمي ألا أحمل غرما، وألا أتعفف عن غنم.
فأخرج الوليد من كمه كيسا، وهزه فسمعت وسوسة الدنانير، وقال: وما تقول في هذا؟ - الآن أذهب، ولعن الله أمي، ثم أخذ يمط وجهه، ويطوله حتى بلغ وسط صدره، وأصبح لا يعرفه من كان يعرفه، ثم وثب فاختطف الكيس من يد الوليد، وانطلق كما ينطلق السهم عن القوس.
وبعد قليل أقبل ندماء الوليد ضعفي يتوكئون حتى كأنهم خرجوا من معركة أثخنتهم جراحها، وما كاد يراهم الوليد حتى انقض عليهم معانقا مقبلا، ثم صاح: علي بالمغنين، علي بعمر الوادي وأصحابه، هذه ليلة الليالي، وواحدة الدهر؟ وسننسى الآلام، وسننسى هشاما؛ فأسرع المغنون إلى البهو، ودخل بعدهم نحو الأربعين من الجواري والقيان، بين روميات، وفارسيات، وتركيات في الملابس الزاهية، والحلي الباهر، وكان عمر الوادي قد لقنهن أبياتا للوليد في سلمى، فأخذن ينشدن معا بصوت ساحر بين رنين العيدان ونقر الدفوف:
خبروني أن سلمى
خرجت يوم المصلى
فإذا طير مليح
فوق غصن يتفلى
قلت: هل تعرف سلمى؟
قال: ها. ثم تدلى
قلت: هل أبصرت سلمى؟
قال: لا. ثم تولى
ولعب الطرب بالرءوس، وظفر شره العيون بجمال الوجوه، فكان يلتهمها التهاما، وصاح رستم: لنرقص رقصة الفرس، لنرقص الفنزج، ولننشد معا:
نجا عياض وابن وهب قد نجا
ونال مولانا الوليد ما رجا
هلم نرقص في هواه الفنزجا
فأخذ كل رجل بذراع فتاة، وتمايلت الرءوس، وماست الخصور، وسايرت الأقدام دقات الأنغام، واحمرت الوجنات، ولعبت العيون، وانطلقت الضحكات، وطغى المرح فأطلق لنفسه العنان، وطار العقل، وغادر المكان، وكان صياح، وكان هرج، وكان نزق، وبينما القوم في لهوهم إذ علا عند مدخل البهو صوت فيه رصانة، وفيه نبل، فنظر القوم مبهوتين، فإذا أم الوليد في جلال سمتها، واعتدال قوامها، ترسل نظرات ثاقبة ملؤها الغيظ والغضب، فأطرقوا في خشية وخجل، فقالت: ما هذا يا بني إن جواسيس هشام تحيط بقصري من كل جانب، وقد كنت أرضى كارهة عن الغناء والطرب، أما رقصات العلوج وضجيجهم ففوق احتمالي، وأكثر مما تسعه طاقتي.
وما سمعها القوم حتى تسللوا لواذا مطرقين وجلين.
وبقي الوليد وأمه وأبو رقية فالتفتت الأم إلى الوليد وقالت: يا بني، إن من يريد عرشا لا يصل إليه من هذه الطريق، وإن هشاما يقعد لك كل مرصد، ويسجل كل ما تأتي وما تذر؛ ليثبت لرجال بني أمية أنك لا تصلح للخلافة، وأن الحقيق بها ابنه مسلمة، ولقد غشي حبي لك على سمعي وبصري، فأغضيت عن شيء من اللهو، ولكني أراك تستمرئ ما أنت فيه، وتجاوز الحد فيما لا يليق بك؛ فبكى الوليد بكاء الطفل واحتضن أمه، وسرت العدوى إلى أبي رقية؛ فسالت دموعه مدرارا، وقال الوليد بين النحيب والنشيج: صفحك يا أمي، إني ولد عاق حقا، ولكن ماذا أعمل وخيال سلمى يعاودني في كل لحظة فيؤجج أشجاني، ويثير أحزاني؟ وكلما حاولت نسيانه والانصراف عنه وثب أمامي ساحرا فتانا، يعبس مرة، ويبسم أخرى، ويغرس في الأمل حينا، واليأس أحيانا، حتى كاد يسوقني إلى الجنون، إنني يا أمي أحاول نسيانه بهذا اللهو، وأجهد في طرده عني بضرب الدفوف وعزف المزاهر، إنني شقي يا أماه، جاه ومال وسلطان ودولة، ولكن أين السعادة بين كل هؤلاء؟ لا أرى لها أثرا، ولا ظلا من أثر، إن صلاحي في سلمى، وحياتي ومماتي لها، فلو أني نلتها أو فزت بكلمة منها لكنت أتقى الأتقياء، وخير الأصفياء.
وهنا تلعثم أبو رقية والدموع لا تزال تنهمر من عينيه وقال: إذا كان في قرب سلمى صلاحك فلم لا تتزوجها؟ فابتدره الوليد قائلا: ألم تعلم بما كان من أبيها أيها المجنون؟ ألم تعلم أني أطرد دونها كما تطرد غرائب الإبل عن المناهل، وأنها أبعد إلى مناط الثريا، وأنأى من آمال الحمقى؟ - هون عليك أبا العباس، فكل شيء ينال إذا صبرت له حتى آمال الحمقى. - وكيف ذلك يا رضيع «الجرنفش»؟ - إني سأفكر بعقلي، وأدبر لك لقاءها؟ - لقد يئس العقلاء من اجتذابها إلي فلم يبق إلا المجانين! - إن الناس يتقون العقلاء؛ لأنهم يعرفون طرق تفكيرهم فيتحصنون منهم، أما المجانين فلهم أسلوب في الحيل لا يهتدي إليه العقلاء، سأذهب إليها غدا، وستراها بعد غد.
فضحك الوليد ضحك اليائس، وأخذ يسخر من أبي رقية ويهزأ به، وأبو رقية مطرق لا ينبس، ثم طلب الوليد المصحف، وشرع يقرأ حتى إذا انتصف الليل ذهب إلى فراشه.
وفي الصباح خرج أبو رقية من القصر، ولما ابتعد عنه كثيرا، وقرب من قصر سعيد بن خالد، أخذ يهارش الصبيان ويغريهم بإيذائه، حتى إذا وصل إلى القصر شرعوا يرجمونه بالحجارة، وقد كثر عددهم، فطفق يصيح ويستغيث، وقد شج رأسه، فخرج العبيد فذادوا عنه الصبيان، وأدخلوه القصر، ولكنه استمر في عويله، وأخذ يرفع الصوت بشتم الصبيان والدعاء عليهم، فأطلت عليه سلمى مع بعض جواريها، وقالت: ماذا أصابك يا أبا رقية؟ - كل ما أصابني بسببك يا سيدتي. - بسببي؟ وهل أنا التي أغرت بك هؤلاء الشياطين؟ - نعم أنت، رأيت لك رؤيا بالأمس فأعجبتني، فجئت لأبشرك بها، فقابلني هؤلاء الأبالسة فشجوا رأسي، ألست أنت السبب في كل هذا؟ فضحكت سلمى ضحكة فاتنة لو سمعها الوليد لباع بها ملك الشام والعراق، ثم أدركتها شفقة على الرجل، ورثاء لما أصابه، وعطف يحسه العاقل على المجانين، فدعته إلى حجرتها، وقالت في دلال وعجب: حدثني بحديث هذه الرؤيا يا أبا رقية. - إنها رؤيا جميلة جدا لم أخبر بها أحدا، وأنا واثق من أنها ستقع؛ لأني لم أر شيئا في المنام إلا تحقق كما رأيته: رأيت مرة ليزيد بن عبد الملك أن حبيبته «حبابة» ستعود إليه، وقد كان يئس من لقائها، فعادت إليه بعد ثلاثة أيام، ورأيت لمسلمة بن عبد الملك قبل سفره إلى العراق أنه سيقود جيشا لمحاربة يزيد بن الملهب، وأنه سيقتله، فلم يمض شهر حتى تحققت الرؤيا. نعم يا سيدتي، إن العقلاء يرون الأشياء في النهار حينما تجيء، ونراها نحن في الليل قبل أن تجيء؛ فأغرقت سلمى في الضحك وقالت: أسرع أبا رقية وخبرني بهذه الرؤيا. - لا بد أن آخذ البشرى أولا. - لك عشرة دنانير. - لا يا سيدتي، وماذا أصنع بالدنانير؟ إنني أريد منك شيئا أعظم من هذا، بشرط أن تقسمي لي بجدك عثمان بن عفان أن تعطيني ما أطلبه منك. - أقسمت بعثمان فماذا تطلب؟ - أطلب طبقا من هريسة.
فأغرقت في الضحك، وأعجبها ما في الرجل من بلاهة وظرف، وأشارت إلى الجواري أن يغادرن الحجرة، واتجهت إليه قائلة: لك ما تطلب يا أبا رقية فاقصص رؤياك. - رأيت يا سيدتي كأنني في ميدان قصر الخلافة، وإذا بك أنت نفسك يا سيدتي تجرين في ذعر ووهل، ووراءك أسد مفترس ما رأيت في حياتي أشد منه شراسة وأنكر زئيرا، وكنت تصيحين وتستجيرين، فاجتمع الناس وملئوا جوانب الميدان، فأعدت النظر إلى الأسد، فإذا هو ينقلب رجلا أمرق العينين، أحمر الوجه، غزير شعر الحاجبين، أصفر شعر اللحية كثها، عظيم الشفتين، بخده الأيسر أثر ضربة سيف كاد يشوه وجهه، فنظرت إليه سلمى في ذهول وقالت: أنا أعرف هذا الرجل. - أنا لا أعرفه يا مولاتي، ولكني في النوم سمعت الناس يصيحون: ابن عنبسة، ولا أدري من هو. - نعم هو ابن عنبسة، يزيد بن عنبسة، إنه خطبني من أبي. - هذا لم يكن في منامي، ولا شأن لي بالرجل ولا بخطبته، انقلب الأسد رجلا في الوصف الذي ذكرت كأنني أراه أمامي الساعة، وكان في يده خنجر هم أن يطعنك به، فصحت وحاولت التخلص من يديه، وبينما أنت كذلك إذ أقبل رجل يشق صفوف الناس، وسيفه في يده، وعلى وجهه الشهامة والبطولة، وغضب الكريم لعرضه وشرفه، فصاح الناس: الوليد أمير المؤمنين. الخليفة. فرجعت البصر فإذا هو مولاي الوليد بن يزيد، فسألت رجلا بجانبي: أأصبح الوليد خليفة؟! فأجاب: نعم، أصبح الخليفة أيها الأبله، ألم تعلم أن هشاما مات منذ سنوات، وأنه الآن خليفة المسلمين؟ فسكت وترقبت فإذا الوليد يهجم بسيفه فيشطر الرجل الذي أراد طعنك بخنجره شطرين، ويأخذ بذراعك في رفق وحنان، ثم يمشي بك حتى يبلغ دار الخلافة بين صياح الصائحين، والدعاء لك ولزوجك أمير المؤمنين.
كانت سلمى ذاهلة واجمة، كأنها تسبح في حلم آخر، وكانت بفطرتها جمة المطامع، بعيدة الآمال طموحا، وكانت تبغض ابن عنبسة لثقل فيه ودمامة؛ ولأنه جاوز سن الشباب، فلما تعرض لخطبتها طلبت من أبيها أن يسوف الرجل ويمهله؛ لأن قلبها كان يهفو إلى الوليد على الرغم مما عرف عنه، وعلى الرغم من إباء هشام وتحريضه أباها ألا يزوجها إياه كانت تحب الوليد وتخاف رعونته، وكان مما يزهدها فيه، ويخفف من ثورة حبها له سعي هشام الحثيث لخلعه من ولاية العهد، وإطباق أكثر الناس على أنه لا يصلح للخلافة، بعد أن أرخى لنفسه العنان، وإذا ضاعت الخلافة من الرجل لم يبق منه إلا شبح هزيل من بني الإنسان لا جاه ولا غناء فيه، ولكن الرؤيا التي قصها عليها أبو رقية محت من نفسها كل شك، وأججت خامد الآمال، فالتفتت إليه وقالت: وبم تعبر هذه الرؤيا؟ - إنها لا تحتاج إلى تعبير، إنها كفلق الصبح. - وهل أصبح حقا في يوم من الأيام زوجة الخليفة؟ - ذلك بعد أن آكل الهريسة. فضحكت سلمى طويلا، ثم قالت: ولكني لا أحب الوليد، وقد خطبني من أبي، فرد طلبه في عنف وإباء! فكيف أتزوجه؟ لا يا أبا رقية إنك واهم، فلعلك رأيت في منامك فتاة أخرى تشبهني. - لم أرك وحدي، إن الناس الذين كانوا في ميدان الخلافة رأوك معي، وقالوا: هذه سلمى بنت سعيد، على أني أعرف أن الوليد بك صب مفتون، وأنه إنما يعبث ويلهو لينسى حبك بعد أن أيأسه أبوك من قربك، فلو أنه ظفر بك لرأى في حبك كل ما يحجبه عن اللهو والمرح، ثم إني لمحت منذ أيام أن جارية «عاتكة» بنت العباس بن الوليد قد أكثرت التردد على قصر حبابة، وأكثرت من الخلوة بالوليد، وعلمت من الجواري أن عاتكة مفتونة بحب الوليد، وأنها تحاول أن تجتذب مودته بعد أن يئس منك، ولست أبالي أتزوج عاتكة أم تزوج غيرها، ولكني لا أحب عاتكة؛ لأني ائتمنتها مرة على حجر قذفني به الصبيان فضيعته.
ثارت الغيرة في نفس سلمى، وتيقظت فيها غريزة المرأة فقالت : وماذا أعمل للوليد، وقد رأيت أنه محجوب عني وعن قصري؟ ثم ماذا أصنع وقد أقسم أبي ألا يزوجني إياه؟ - إنه يريد أن يطفئ نار غرامه برؤيتك والحديث إليك، أما زواجه بك فقد كتب في سجل القدر، ولن يستطيع يمين أبيك أن يمحو ما كتبه القدر. - وكيف أراه وعلي ألف عين من أهلي؟ - ذلك هين يسير، إنه سيأتي إلى القصر غدا متنكرا في هيئة رجل يبيع ثيابا، ومعه حماره وفوقه بضاعته، ولا تثريب عليك في شراء ثياب من بائع ثياب، فصاحت في خوف ممتزج بالفرح: أنت أعقل مجنون رأيته يا أبا رقية. - وأنت أجن عاقلة رأيتها، عمي صباحا، أرجو ألا ألتقي بالصبيان في عودتي، ثم انفتل من حولها فكأنما ابتلعته الأرض.
وعاد أبو رقية إلى القصر فالتقى به الوليد وأمه فحدثهما بكل ما حاك من حيلة وتدبير، ودهش الوليد، واستبد به الفرح، وانكب على أبي رقية يقبله، وأرسل فاشترى أثوابا من جميع الأنواع، وما جاء الصباح حتى غير من زيه وهيئته على نحو ما يرتدي باعة الملابس، فلبس عمامة صفراء وسروالا فضفاضا، وصدارا من الصوف الخشن، ولف حول رأسه شملة من الحرير الأحمر، وخرج من القصر بعد أن وضع الأثواب فوق حمار هزيل، حتى بلغ قصر سعيد نادى بأعلى صوته: أثواب وألوان، للعذارى الحسان، عندي من الحرير ما ليس له نظير، حرير صنعاني، وحرير تنيسي، وخز فارسي، ذهب بذهب، وعجب من عجب، فسمعته سلمى وأمرت إحدى جواريها أن تدعوه، فحمل بعض بضاعته، ودخل القصر، فقادته الجارية إلى حجرة سلمى، فبهره حسنها، وكاد يفضحه جمالها، وأخذ يتلعثم ويتمتم، وهم بأن يمد إليها يده، فنظرت إليه عابسة، وأشارت إلى جاريتها بالخروج، فلما خرجت رمى بالأثواب، وانكب على يديها يلتهمها لثما وتقبيلا، وجعل يئن ويقول: ارحميني يا حبيبتي، أنت حياة روحي، وريحانة نفسي، أنت الهواء الذي أتنسم، والأمل الذي أناغي، والسعادة التي أرجو وإليها أصبو، نظرة واحدة تكفيني، وبسمة تقنعني، وكلمة تفتح أمامي باب الرجاء. - قم أبا العباس فبي مثل ما بك، وحبي لك صدى لخفقات قلبك، ولكن أبي والخليفة يحولان دون هذا الحب. - إن الحب لا يعرف الحوائل، إنه ينفذ إلى ما لا ينفذ إليه الهواء، ويحلق فوق ما لا يصل إليه جناح، فإذا أحببتني فلا الخليفة ولا أبوك، ولا الدنيا كلها بمستطيعة أن تقف بيننا. - أحبك، فوثب عليها يقبل وجهها في شغف وفتون، فابتعدت عنه قليلا ثم قالت: اهدأ يا حبيبي؛ فإني لست لك بزوجة، وخير لنا أن نصبر حتى يصل الله بين حبلينا، ويقرب منا ما بعد. - إني سأكون خليفة، وسأنعم بزواجك. - هذا لا شك فيه. - ولن تتزوجي ابن عنبسة. - لن أتزوج به. - وكيف أظفر بقربك قبل أن يتم زواجنا؟ - نبيع أثوابا كل أسبوع، وتأتي إلينا بحمارك الناحل الأعجف، ثم قامت كأنها تدعوه إلى الانصراف، فوقف يودعها طويلا، فلما خرج وضع الأثواب على حماره، وهو يكاد يطير من الفرح، وأخذ يضرب الحمار بعصاه ويصيح: أثواب وألوان، للعذارى الحسان!
نار ورماد
كانت دولة بني أمية عربية النزعة، شديدة التعصب لكل ما هو عربي، تنظر إلى الأعاجم في تيه وتعاظم، وتحول بينهم وبين مناصب الدولة ومراتبها، ثم اشتط بعض الأمويين وغلا في إحياء نزعات الجاهلية، ونبش ما دفن من أحقاد القبائل التي جهد الإسلام في إماتتها، واجتثاث أصولها، فكان الخلفاء يؤثرون بعض القبائل بالمودة والعطاء، والتجاوز عن عدوانهم، وكان كل وال من ولاتهم يختص قبيلته بالبذل والمحاباة، فمرة تكون المحاباة لليمانية، ومرة تكون للمضرية، وكان الناس يشعرون بكل هذا فيطرقون واجمين، ويسكتون وجلين، حينما كانت الخلافة في عنفوانها، والدولة في شبابها، والسيف مصلتا فوق الرءوس، والولاة كلهم من طينة الحجاج بن يوسف الذي كان يقول: من قال برأسه هكذا، قلنا له بالسيف هكذا! فلما ضعفت الدولة بعد موت الوليد بن عبد الملك تطلعت رءوس من الفرس كانت مدفونة تحت أطباق الخوف، ونطقت أفواه من بني العباس كان يسكتها الذعر والحذر، وامتد الزمان بدولة بني أمية فزاد ضعفها باستنامة رجالها إلى النعيم، ففقدوا رجولتهم، وتسلبوا من خصائص عروبتهم، فكان ضعفهم قوة لأعدائهم، وتراخي حبلهم شدة وبأسا للخارجين عليهم، لهذا قوي أمر بني العباس بمعاونة الفرس في أواخر عهد هشام، وتجمع الناس حول دعاتهم بخراسان، وتكونت في أكثر أقطار الدولة جماعات من أنصارهم، كانوا جميعا يعملون سرا، ويعدون العدة في الخفاء، وينتظرون الفرصة للانقضاض على الدولة وثل عرشها.
وكان بدمشق كثير من المحتطبين في حبل العباسيين بين فرس وعرب، وهؤلاء كانوا يبعثون بأخبار الخلافة وأسرارها إلى الزعماء بخراسان، ويتلقون أوامرهم وإشارتهم، وكانوا ينبثون بين الناس فيشيعون بينهم مساوئ الخلافة، وهفوات فتيان بني أمية بأسلوب شيطاني عجيب لا يلصق بهم تهمة، ولا يدع لسامعيهم شكا في أنهم أمناء مخلصون للدولة، حريصون على بلوغها ما ينبغي لها من عظمة ومجد؛ يبدأ الرجل منهم فخورا بمكانة الخلافة، وفضل رجالها الأولين، وقوادها السالفين، وأنها رفعت راية الإسلام، ونشرت كلمة التوحيد في كل مكان، ثم يقول في رنة حزن، وبصوت تكاد تخنقه العبرة، وتقلبه الحمية بكاء: هدى الله خلفاءنا السداد، وألهم فتيانهم التوفيق! أكان يفعل هشام كذا لو كان عمر بن عبد العزيز حيا؟ وهل كان يفعل الوليد كذا لو كان عبد الملك بن مروان حيا؟ ثم يزفر زفرة طويلة، ويرفع عينيه إلى السماء داعيا للإسلام والمسلمين. هكذا كانت تعمل هذه الفئة الثائرة، ومن أخاليق هؤلاء وأكاذيبهم امتلأت كتب الأدب والتاريخ بكثير من مثالب الأمويين، وكان بين هذه الطائفة أشخاص اندسوا في قصور الأمويين ليكونوا عليهم عيونا، ولينقلوا أسرارهم إلى أعدائهم.
وفي إحدى ليالي شهر رجب سنة أربع وعشرين ومائة وصل من دمشق إلى الكوفة إسماعيل بن يسار رسولا من الشام من قبل محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فنزل بدار بكير بن ماهان، وكان من كبار أنصار العباسيين، وأخبره بما قدم إلى الكوفة بسببه، فسهل له بكير لقاء سليمان بن كثير الحراني زعيم جماعتهم، ومالك بن الهيثم، واتفقوا على زيارة يونس بن عاصم وعيسى وإدريس ابني معقل في السجن، وكان قد اتهمهم يوسف بن عمر عامل هشام على خراسان بالدعاء إلى بني العباس، فلما ذهبوا إلى السجن قابلهم حارسه، وكان رجلا غليظا مفرطا في الطول، متين البناء، ينطق وجهه بالشراسة والشر، فتعمد ابن كثير أن يسقط من كمه دينارا، فأخذ يدور فوق الأرض، فانقض عليه الحارس يلتقطه، ثم رفعه إلى ابن كثير قائلا: هذا دينار سقط منك يا رجل.
فقال ابن كثير: خذه جزاء أمانتك، فإنما اللقطة لمن وجدها. ثم تعمد إسقاط دينار ثان، فانكب عليه الحارس وقال: وهذا دينار آخر، فأطبق عليه ابن كثير كف الحارث وقال: هو لك أيضا، فقد أحسنت في الأولى والثانية، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فبهت الحارس لهذه الأريحية، ثم اتجه إليه ابن كثير سائلا: هل بين ضيوفك في هذا السجن عيسى بن معقل؟ فإننا قوم من أهله جئنا لنراه، ولنحدثه في أمور أولاده وضياعه. - إن ابن عمر يحظر أن يلقاه أحد، ولكن أوامر الرؤساء دائما تصدر لتنقض، فلا تثريب عليكم من أن تروه على شرط ألا تطيلوا المكوث، وعلى شرط ألا تتحدثوا في أمر بني العباس.
إن لنا من الشغل بأنفسنا ما يذودنا عن الحديث في شئون غيرنا، وأشار إليهم الحارس بالدخول فوصلوا إلى حجرة المسجونين، وكانت واسعة فسيحة منعزلة في ناحية من البناء، وما كاد يراهم من بها حتى أسرعوا إليهم فرحين معانقين، وأخذوا يمطرونهم بالأسئلة عن محمد بن علي بن عبد الله، وعن ابنه وخليفته إبراهيم الإمام، ثم عن الدعوة بخراسان، وعن قوتها ونشاطها وانتشارها، وكان يخدمهم بالسجن شاب قصير في نحو الرابعة والعشرين، أسمر اللون، نقي البشرة، أحور العينين، عريض الجبهة، كانوا يدعونه أبا مسلم، وهو أبو مسلم الخرساني الذي كانت تدخر له الأيام عظمة ومجدا، وهو الذي أقام بسيفه ورأيه بعد ثماني سنوات لبني العباس دولة شامخة الذرا راسخة البيان.
جلس الجماعة بعد التحية وتبادل الأشواق، فقال ابن كثير في صوت خافت: هذا إسماعيل بن يسار شاعر الطائفة العباسية، ومذيع فضلها، وناشر مناقبها، قدم بالأمس من الحميمة بعد أن قابل ابن عم رسول الله، وزوده بما يجب علينا عمله لإشعال الثورة على الأمويين، وبثها في كل مكان، وهو يستطيع أن يحدثنا بكثير من أخبار فتيان بني أمية وعبثهم، وسخط الناس عليهم، وقد يهدينا تبادل الرأي وتجاذب التفكير إلى ما يحسم هذا الأمر، وإلى أن نرسم طريقا نمضي فيه إلى الغاية موفقين، لقد بلغ السيل الزبى، وجاوزت الشدة طاقة الاحتمال، ولا بد من ضربة سيف قاصمة مصممة تفرق بين الحق والباطل، وتعيد الخلافة إلى أهلها؛ فصاح أبو مسلم والدموع تتناثر من عينيه: نعم لا بد من ضربة سيف، ولا بد أن يمحى كل أثر لأبناء عبد شمس. - اهدأ يا بني، الرأي لا تنضجه نيران الغضب. - إن الغضب هو الذي يصهر العزائم، ويشحذ الهمم، وما حاجتي إلى رأي هزيل، تزيده الشكوك ضعفا وهزالا؟ فالتفت ابن كثير إلى ابن معقل في دهشة وقال: من هذا الشاب؟ - هذا أبو مسلم أشدنا حماسة في الدعوة، وهو أرهف من سيف، وأنفذ إلى مطالبه من سهم، إن نار الثورة تسري في شرايين جسمه، وإننا نسميه صخرة الأرض، وداهية الدواهي. - هذا كله حسن، ولكن أحب أن يضم إلى فورة شبابه حكمة الشيوخ ودهاءهم. - إن عنده من ذلك الشيء الكثير فلا يلفتك أمره عما نحن فيه. - أظن أن الكلام في جبروت الأمويين، وحرمانهم إيانا مناصب الدولة قد أصبح كلاما مكررا، وحديثا معادا، فقال إسماعيل بن يسار: إنهم يتعالون علينا، ويشمخون بأنوفهم حتى كأن الله خلقنا من طين وخلقهم من مسك وكافور، فقال عيسى بن معقل: إن دين الله لا يفرق بين عربي وأعجمي، ولا بين مضري ويماني، ولكن هؤلاء القوم يكيلون للناس بمكيالين، وينزلونهم منزلين، وينظرون لهؤلاء بعين ولأولئك بعين، ثم يزعمون أنهم نصراء القرآن، وحماة الإسلام، وهنا وثب أبو مسلم واقفا وقال: لو زرت خراسان اليوم يا صاحبي لرأيت الأعاجيب.
فقال ابن يسار: إن ما نلقاه بالشام أعجب وأغرب يا فتى. أنشد هشاما مرة قصيدة فدفعني الاعتزاز بقومي إلى أن أفخر بالفرس، وأشيد بمجدهم القديم، فما كان منه إلا أن غضب حتى نفرت أوداجه، وصاح في جبرية وزهو: أعلي تفخر بقومك أيها الأحمق؟ وإياي تنشد قصيدة تمدح فيها نفسك، وأعلاج قومك؟ ثم أمر عبيده أن يغطوني في الماء، فقذفوني في بركة حتى كدت أغرق، ثم أمر فنفيت إلى الحجاز، فصاح عيسى بن معقل: ماذا كانت قصيدتك لله أبوك؟ - قلت فيها يا سيدي:
إني وجدك ما عودي بذي خور
عند الحفاظ ولا حوضي بمهدوم
أصلي كريم ومجدي لا يقاس به
إلى لسان كحد السيف مسموم
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب
من كل قزم بتاج الملك معموم
جحاجح سادة بلج مرازبة
جرد عتاق مساميح مطاعيم
من مثل كسرى وسابور الجنود معا
والهرمزان لفخر أو لتعظيم
فصاح القوم: لا فض فوك يا ابن يسار، بمثلك تنهض الدعوة، وتتأجج الثورة، فلما عادوا إلى الحديث قال إسماعيل: أما العبث بين فتيان بني أمية قد بلغ الغاية، وقد جهدنا جهدنا في إذاعة مثالبهم ونشر أخبارهم، ووصمهم بكثير من النقائص بالحق وبالباطل، حتى أصبحوا حديث كل غاد ورائح، وأخذ الناس يشعرون بوجوب زوال دولتهم وانتهاء أمرهم، والوليد بن يزيد سادر في غلوائه، لا يقف في طريقه شيء، وإذا نصحه ناصح، أو زجره زاجر زاد عنادا وتحديا، كأنه يتعجل نهاية أيام بني أمية، وهو ولي العهد، وإذا ولي الخلافة على تلك الحال قوى ثورتنا، ومكن لدعوتنا، وقدم الخلافة هدية سائغة هنيئة لأمير المؤمنين ابن العباس، لكل هذا تعمل جماعتنا بدمشق على إحباط كل مسعاة لهشام في خلعه من ولاية العهد، ونقلها إلى ابنه مسلمة، ولأجل هذا نحث دائما رستم غلامه أن يوحي إليه بكل شنعاء، وعندكم بخراسان جماعة منظمة تبعث بالجواري الحسان إلى قصور أمراء بني أمية لإغرائهم بالتبذل، وليكن جاسوسات عليهم، ينقلن أخبارهم، ويفشين أسرارهم، وقد نجحن كثيرا، وأصبحن المتحكمات في الدولة، المسيطرات على خلفائها وقوادها، ولو طال عمر «حبابة» جارية يزيد بن عبد الملك قليلا لانتهى حكم بني عبد شمس منذ حين، ولكنا اليوم ناعمين هانئين في ظل خلافة بني العباس، فصاح أبو مسلم: لقد طال حكم هشام حتى كاد يدب اليأس إلى نفوس بعض ضعفاء العزائم من شيعتنا .
فقال ابن يسار: لقد طال حكمه حقا، وهو قاس صارم يريد أن يعيد الأموية إلى ما كانت عليه أيام معاوية، ومروان، وعبد الله. شحيح بالمال، جماع له، كأنه يريد أن يصون كل دينار ودرهم لحماية الخلافة، والذود عنها إذا خرج عليها خارج، فلم يعط أحدا من بني مروان عطاء إلا إذا خرج للغزو بنفسه، أو أخرج من ينوب عنه، ورد عليه يوما محمد بن زيد للعطاء فقال له: «مالك عندي شيء، وإياك أن يغرك أحد فيقول لك: إن أمير المؤمنين لم يعرفك، فوالله لقد عرفتك، أنت محمد بن زيد بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب، فلا تقيمن وتنفق ما معك، فليس لك عندي صلة»، فعاد الرجل إلى المدينة يخفي حنين، وبعث إليه أحد عماله بسلة خوخ فكتب إليه: قد أعجب الخوخ أمير المؤمنين، فزدنا منه، واستوثق من الوعاء حتى لا يسرق في الطريق. وأخبرني غلامه فيروز أن بعض المشرفين على ضياعه بعث إليه خادما بطائرين ظريفين، فدخل عليه وهو جالس في سرير في عرصة الدار، فقال للخادم: أرسل الطائرين لأنظر إليهما، فأرسلهما، ولما أراد الخادم الانصراف طلب جائزته، فقال له هشام: ويلك وما جائزة طائرين؟ قال: أي شيء تجود به. قال: خذ أحدهما. فعدا في الدار خلفهما، فقال له هشام: ماذا تصنع؟ قال: أختار خيرهما. قال: أتختار خيرهما وتدع لي شرهما؟ لا، والله لا نلت منهما ريشة، لعن الله ناقة حملتك إلينا! وهذا هو الرجل الذي تخضع الدنيا لأمره، وتجبى إليه ثمراتها، ولقد كان مرة في أحد بساتينه، والزراع يجمعون الزيتون، فرآهم يهزون الأشجار ليتناثر زيتونها، فصاح: القطوه لقطا، ولا تنفضوه نفضا فتفقأ عيونه، وتنكسر غصونه. هذا هو هشام: بخل فكرهه الناس، وقسا فحقد عليه الناس، وطال عهده فضجر منه الناس.
فقال ابن كثير: إنه الصخرة الصماء التي تتحطم حولها آمالنا، والتي يجب أن تزول من الطريق، فقال ابن يسار: إنه مصاب بذبحة الصدر، ولولا دواء مزجه له طبيبه «فرات بن شحناثا» لقضي عليه منذ سنوات، واستراحت الدنيا منه ، ومن صلفه وشحه؛ فزفر عيسى ابن معقل طويلا، ثم قال: ألا يستطيع فتى أحوذي أن يروي خنجره بدمه؟
فأجاب ابن كثير: إن الأمر لا يحتاج إلى كل هذا، فقد يكفي أن نوعز إلى خادمه فيروز أن يريق ما في زجاجة الدواء، ويضع مكانه ماء بلونه، فإذا أدركته النوبة وأسعف بالدواء لم يغنه الماء شيئا، فصاح جميعهم: هذا رأي صائب؛ مر فيروز أن يفعل هذا يا ابن يسار، وهنا عاد ابن كثير إلى الحديث فقال: لنوجز الآن ما استقر عليه رأينا ليعمل كل منا على إنفاذه، وليبلغه ابن يسار إلى الإمام محمد بن علي، فقد رأينا أولا أن نبث بين الناس بغض بني أمية، والسخط على حكمهم، وأن نبتدع الأقاصيص والأخبار التي تشوه سيرتهم، وتثير الضغينة عليهم، ثم أن نغري الوليد بالاستمرار فيما هو آخذ فيه بكل ما مكنتنا من وسائل، وأن نذلل له السبيل إلى الخلافة؛ فإنه لن يمكث بها أياما حتى تدول، ثم أن نقلل من مدة هشام، وأن نقطع الخيط الذي يصله بالحياة، وعلينا أن نفكر في كل لحظة في اليوم الذي تنجلي فيه هذه الغمة حتى كأنه الغد، وأن نسخر من العقبات التي يضعها أجراء بني أمية في طريقنا، هلم الآن فقد طال بنا الجلوس.
ويخرج الزوار فيمرون بالحارس لدى الباب، فيتجه إلى ابن كثير وهو يقول في سخرية ودهاء: الآن لا تسقط دنانيرك أيها الشيخ! - كان بثوبي فتق فأصلحته. - أخشى أنك تعمل أنت ومن معك لفتق لا يرتق. - قد يكون الهدم إصلاحا في كثير من الأحيان. - إلا أن تهدم دارا على ساكنيها، احذر يا شيخ فإني أجد في أعطافك ريح الثورة، والثورة نار مجنونة، تأكل أول ما تأكل مشعليها، اذهبوا فإني لا أرى في وجوهكم خيرا.
فسار الثوار حتى بلغوا دار بكير بن ماهان، وأقام معهم إسماعيل بن يسار أياما، ثم عاد إلى دمشق لينهض العزائم، ويثير الهمم.
موت وحياة
مرت شهور والوليد بن يزيد لا يزال يزور قصر سلمى في كل أسبوع لبيع الثياب، حتى بليت الثياب، ومل الحمار، ومرت شهور وهشام مازال يتحرق غيظا على الوليد، وعلى أنصاره الذين تحدوه، واختطفوا ابنه مسلمة، وجعلوا رده ثمنا لفك من اعتقلهم من أصحاب الوليد، ومرت شهور ويزيد بن عنبسة لا يزال يلح على سعيد بن خالد في أن يزوجه سلمى، وهو يرجئه ويراوغه، ويرده خائبا محسورا، وفي ذات يوم أعلمته «صدوف» إحدى جواري الوليد - وكانت جاسوسة له عليه - أن الوليد يزور سلمى في كل أسبوع في هيئة بائع ثياب، فيتبادلان الحب والصبابة، فزاد حقده على الوليد، واخذ يدبر له الغوائل.
وساقته قدماه يوما إلى دار الخلافة، فلما بلغ قاعة الحكم رأى «يعقوب» حاجب هشام لدى الباب فسأله عن الخليفة، فقال: إنه بالقاعة مع كثير من رجال بني أمية، وهم يتحدثون في أمر ذي بال، وقد حجب الباب، وأرسل رسولا إلى دارك. - نبئه بقدومي يا يعقوب، فإني أود أن أحدثه أيضا بأمر ذي بال، ودخل يعقوب وعاد سريعا بالإذن، فلما مثل ابن عنبسة أمام هشام رآه مطرقا، وقد اربد وجهه، وانتفض عرق لصدغه الأيسر كان ينتفض كلما غضب، ورأى عنده يزيد بن الوليد والزهري، ومحمد بن هشام المخزومي، وأخاه إبراهيم، وبني القعقاع العبسي، ثم العباس بن الوليد، ويزيد بن خالد.
سلم ابن عنبسة فرفع هشام رأسه متثاقلا وقال: وعليك السلام يا ابن عنبسة! هلم إلينا فإننا بصدد أمر خطير سيكون له ما بعده، ونرجو أن نخرج بعد أن نكون قد نصحنا لله ورسوله، ولصالح المؤمنين، هذا ابن أخي الوليد قد شرد على الله شراد البعير، وجالس قرناء السوء، وركب رأسه جامحا، ثم هو لا يزيده النصح إلا إسرافا في العناد، ولقد عاهدت أخي يزيد بن عبد الملك، وحلفت له أوثق الأيمان أن تكون الخلافة له من بعدي، ولم أكن حين أقسمت أعلم أني أقسمت على أن أترك زمام الخلافة وهي معقد آمال المسلمين، ومعقل أمنهم في يدي مثله، ولكني أقسمت حين أقسمت وأنا أرى غلاما أزهر الوجه، نبيل السمات، توحي مخايله بصدق الأمل فيه، وتنطق ملامحه بالثقة به، ورب سم كامن في الزهر النضير! وموت راكد في الماء النمير! وأنا الآن يا بني مروان بين خلتين: إما أن أترك الأمة بعد موتي تنساق إلى الدمار بولاية الوليد، وهنا النازلة الفادحة، والقاصمة القارعة، وتمزيق أوصال الدولة، وفناء بني أمية بالموت أو بالذل والهوان، وإما أن أحمي ما ورائي، وأتخذ الأهبة للقاء ربي، وأصون تراث آبائي، فأخلع الوليد من ولاية العهد، وأختار للمسلمين رجلا يحمي ذمارهم، وللخلافة من يبعث فيها العظمة والقوة والشباب.
فقال يزيد بن الوليد: لا يصلح لها إلا ابنك مسلمة. - دعك من هذا الآن يا ابن العم، فلن يحسن في هذا الأمر إلا أن ننسى أنفسنا وأبناءنا، والذي نفس هشام بيده لو علمت أن صلاح هذا الأمر في اعتزالي لاعتزلت، ولو علمت أن غير مسلمة أقوى بالخلافة كاهلا، وأضبط يدا لقدمته عليه، فأسرع إبراهيم المخزومي قائلا: لن تصلح الخلافة إلا بك يا أمير المؤمنين، وإذا كان لنا في الله رجاء فهو أن تبقى فيك، ثم في ابنك مسلمة من بعدك، فإنه بضعة منك، فيه ما فيك من دين وسياسة وحزم؛ فصاح أبناء القعقاع: لن نرضى بمسلمة بديلا، أما الأيمان التي عقدتها لأخيك لتولية ابنه من بعدك فإن الله يحلك منها.
وهنا قال الزهري في صوت خافت: يرى بعض المفسرين في قوله تعالى:
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس
أن المعنى: لا تجعلوا القسم بالله حائلا بينكم وبين البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا حلف رجل أن يأتي منكرا وجب عليه أن ينقض يمينه، ويكفر عنها. فقال ابن عنبسة: هذا تفسير عظيم، وأسرع هشام فقال: إذا أنا في حل من هذه الأيمان، ولم يبق إلا أن نكتب ميثاقا ندون فيه مساوئ الوليد ومثالبه، وأنه لا يصلح للخلافة، ونثبت فيه محامد مسلمة ومناقبه، وأنه خير من يقوم بها من بني أمية، وأن أمير المؤمنين لكل هذا خلع الوليد من ولاية العهد، ونقلها إلى مسلمة، أين سالم أبو العلاء؟ فتحرك العباس بن الوليد في مجلسه قليلا، وهو يكبت غيظا دفينا، وقال: قبل أن تدعو كاتبك يا أمير المؤمنين أرى أن نبحث في الأمر حتى نصل فيه إلى غاية تثلج الصدر، وتبدد الشكوك.
فأجاب هشام غاضبا: ألم نمحص الأمر بحثا ودراية؟ ألم يصبح عبث الوليد حديث الناس، ومسلاتهم في أسمارهم؟ أليس ابني مسلمة في دينه وعقله خيرا ألف مرة من الوليد؟ فأجاب العباس: إن الأمر يا أمير المؤمنين أعظم خطرا من أن نتقنع فيه بالحياء، وأجل شأنا من أن نجتذب فيه رضاك، أو نجتنب فيه سخطك، أنا شاك غير مستيقن بكل ما قلتم، فلا الوليد قد وصل إلى تلك الهاوية التي زعمتم، ولا مسلمة قد بلغ تلك القمة من الصيانة والتقوى، ولا تلك الأيمان التي وكدتها لأخيك أصبحت لغوا فصرت في حل من نقضها؛ فبهت من بالمجلس، واصفر وجه هشام، واحمرت عيناه من الغيظ، وضرب عرق صدغه، وانتفض وصاح حتى ملأ صوته القاعة: هكذا أنتم دائما يا أولاد الوليد بن عبد الملك! تحقدون علي وعلى أولادي، ولقد كاد يسلبكم الضغن عقولكم حين ازور عنكم وجه الخلافة بعد أن تجاذبتم أطرافها، فأصبحتم تعدون علينا الأيام، وتتمنون أن تتقلص عنا ظلالها، إنكم أعظم كيدا للخلافة، وأكثر عدوانا عليها من العباسيين، والعلويين، والترك، والدليم، ووالله لولا خشية منه، ولولا أن يقول الناس حارب هشام أهل بيته لبدأت بكم قبل أن أبدأ بمقاتلة المتألبين على الدولة من الخوارج، أما قولك: إنك في شك من الأمر فباطل يراد به إزهاق الحق، وإطلاق شيطان الفتنة من عقاله؛ ليعيث معكم في الدولة كما تعيثون.
فوقف يزيد بن خالد وقفة المناضل المتحدي وقال: مهلا يا أمير المؤمنين، فنقل الخلافة من رجل إلى رجل أمر جلل، لا يكفي فيه أن يكون أمير المؤمنين ساخطا على هذا، أو راضيا على ذاك، لقد قال العباس حقا، وإن رأى من تجمعهم اليوم من أنصارك لا يكفي لإقناع الأمة، وحملها على نبذ العهد الذي عاهدتك عليه، والأمر شديد الخطر على أمير المؤمنين قبل أن يكون شديد الخطر على الوليد، لقد بايعك الناس في عهد واحد وفي ميثاق واحد على أمرين لا على أمر واحد: بايعوك بالخلافة، وبايعوك على أن تكون الخلافة من بعدك للوليد بن يزيد، فإذا نقضت بعض العهد يا أمير المؤمنين انتقض كله، وتحلل الناس من البيعة لك، وصح لكل خارج عليك، أو ضجر حكمك أن يصيح في الناس: أيها المسلمون، إن هشاما نقض العهد الذي بينه وبينكم، فليس له في رقابكم بيعة، أتريد أن يحصل هذا يا أمير المؤمنين؟ أتريد أن توقظ راقد الفتنة، وتعيد أيام صفين حين احتكم المسلمون إلى سيوفهم في شأن الخلافة؟ إن هؤلاء يا أمير المؤمنين الذين يزينون لك ما تحب، ويقربون لك الأقصى مما تريد، أعداء في ثياب أصدقاء، أو مخبولون في مسوح عقلاء، ثم من هم أبناء الوليد الذين يكيدون لك ويدبرون السوء لدولتك؟ أتستطيع أن تشير إلى واحد منهم عن بينة ويقين؟ دعك من كل هذا يا أمير المؤمنين، واترك الأمر كما هو، فلسنا في حاجة إلى فتن جديدة نشعلها بين الناس، فإن الفتن تنبث في كل مكان، وإن تحت الرماد للهيبا وضراما.
وما كاد يسكت حتى ابتدره ابن عنبسة قائلا: ما هذا التهويل يا ابن خالد، أنا أعرف صلتك بالوليد، ومحبتك له، وتهاديكما الجواري الحسان، أعرف أنك تطمع أنت والعباس في أن يكون لكما شأن في خلافته بعد أن انبت بكما الحبل في هذه الدولة، ثم ما أخلوقة البيعة هذه التي إذا انتقض بعضها انتقض كلها، وهنا تمتم الإمام الزهري قائلا: إن ما قاله ابن خالد حق؛ لأن الجزأين متلازمان، وقد تفهم البيعة على وجه آخر، هو أن الناس بايعوا هشاما بالخلافة شريطة أن يتركها بعده للوليد، فإذا أقصى الوليد عن ولاية العهد فقد نقض شرط ما بايعوه عليه، وبهذا تسقط بيعته من أعناقهم؛ فوجم هشام، وجف ريقه، وظهرت الحيرة على وجوه أنصاره، وهنا قال العباس: قلت: إن عندي شكا، ولم أكن في هذا القول كاذبا ولا متجنيا، إن أكثر ما يشاع عن الوليد إفك ومين، وهي أكاذيب ولع الناس بها، واختلقها قوم لهم في اختلاقها مأرب ومغنم؛ فعجل الزهري وقال: لا يا ابن الوليد، لقد رأيته بعيني وحوله القيان ينقرن الدفوف، والمغنون يضربون على البرابط والطنابير. - هذا يا مولانا أمر لا يخلو منه قصر من قصور بني أمية، ثم التفت إلى هشام قائلا: ثم إني لا أعرف من رجال بني أمية من يبغض الوليد إلا القليل ممن يحيطون بهذا القصر، ويتزلفون إلى صاحبه، ولو أنك يا أمير المؤمنين خلعت الوليد لأثرت فتنة شعواء في حياتك، وفرقت كلمة المسلمين بعد مماتك؛ فإني أرى بعين الغضب - وأطال الله بقاء أمير المؤمنين - أن الناس سيختلفون بعد موتك، وسوف يعد كثير منهم نقضك الولاية للوليد أمرا باطلا، فينصرفون إليه، ويبقى فريق مع مسلمة، ويتقاتل الفريقان، ويأتي العباسيون فيضربون هذا بذاك، ويختطفون الخلافة من أيديهم، يا أمير المؤمنين: دع الأمر كما هو، ودع كلاب الفتنة نائمة، فإني أخشى أن نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، والله يعلم أني لك ناصح، وعلى خير المسلمين أمين.
فانتفض هشام واقفا وقال: اذهبوا عني الآن، فإن عقلي يكاد يطير من رأسي، اذهبوا فللخلافة رب يحميها، وأين هشام إذا أراد أمرا، وأراد الله غيره؟ فانصرف القوم في وجل ورهبة، وبقي ابن عنبسة متخلفا، فلما خلت القاعة التفت إليه هشام وقال في ألم ممض: طار العصفور من أيدينا، وبقي على دوحته ينظر إلينا مغردا ساخرا، لقد خاب الأمل في بني أمية. - دعه يغرد قليلا يا أمير المؤمنين، فإننا سنعد له بعد قليل فخا وسكينا. - كيف يا ابن عنبسة؟ - إذا لم نستطع خلعه من ولاية العهد استطعنا خلعه من الحياة. - معاذ الله أن أمد يدي إلى الوليد بسوء، لا تفكر في شيء من هذا يا ابن عنبسة، أتريد أن تجعلني أحدوثة في الناس، وأن يقول القالة: إن هشاما قتل ابن أخيه؟
لن يكون لك يا أمير المؤمنين في هذا الأمر ورد ولا صدر، وإنما:
هو الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد - لا، لا، يا يزيد، وإياك أن تقتل نفسا حرم الله إلا بالحق. - لقد كنت أفكر يا أمير المؤمنين في التخلص من الوليد، لا لأنه يزاحم مسلمة في الخلافة فحسب، بل لأنه يزاحمني في سلمى بنت سعيد. - لقد حلت بينه وبين هذه الأمنية، وأمرت سعيدا ألا يرضى به زوجا لبنته. - من يدري يا أمير المؤمنين؟ فإن الأحوال قد تحول، وقد يصبح سعيدا له راجيا بعد أن كان آبيا. - ماذا تريد أن تقول لا أم لك؟ - أطال الله حياة أمير المؤمنين، ومد في عمره. - سمعت هذه الدعوات من آلاف الآلاف من الناس، ولكن الدعاء لا يمنع القدر. - إن لكل نفس أجلا يا أمير المؤمنين، لا تستقدم عنه ساعة، ولا تستأخر. - دعك من ذكر الموت، وخض في حديث آخر. - كانت لي جارية اسمها «صدوف» يا أمير المؤمنين، اشتراها مني الوليد من خمس سنوات، وهي لا تزال تهفو إلي، وتحن إلى ذكراي، وتنقل لي أخباره، ولو أني أمرتها أن تثب في النار، أو تنام في خيس الأسد لفعلت مطيعة راضية، وقد كنت أريد إغراءها بقتل الوليد قبل أن يستنكره أمير المؤمنين، وينهى عنه، وأمير المؤمنين واجب الطاعة، وقد كان الأمر جد هين، فإن مروان بن الحكم الذي كانت تنتفض منه قلوب الأبطال رعبا لم يقتله إلا امرأة هي زوجه أم خالد، فقد وضعت على وجهه وسادة وهو نائم، فلم ترفعها عنه حتى مات؛ فأغمض هشام عينيه وغادر الحجرة غاضبا وهو يقول: احذر يا ابن عنبسة أن تدنس يديك بالدماء! إني أنهاك ... إني أنهاك!
وخرج ابن عنبسة من عند الخليفة بعد أن خدعه وأظهر له العدول عن الفتك بالوليد، والتقى بعد أيام بصدوف في داره؛ لأنها كانت تتغفل أهلها، وتختلس زيارته بين الحين والحين، فأحسن لقاءها، وأكثر من الحفاوة بها، وطوقها بهالة من غزله وتشبيبه، وبثها كثيرا من أشواقه؛ فأجج في قلبها نار كاد يطفئها اليأس، وفتح بابا من الرجاء أغلقه القنوط، فمالت عليه مذهولة حيرى بعد أن أثار فيها حبا قديما كان يساورها في اليقظة والمنام، وهاج في نفسها وجدا كامنا لم تفل من حدته الأيام، ثم أخذت تتمتم ورأسها على كتفه قائلة: حبيبي ماذا جد لك؟ لقد كنت ألقاك قبل اليوم فلا أجد فيك تلك النشوة، ولا أحس لقلبك بهذا الخفقان الذي كأنه صدى وجيب قلبي. - كنت أكظمه يا صدوف، وكنت أربأ بمروءتي أن أمد يدي إلى طعام غيري، ولكن لكل شيء طاقة، وقد عجزت طاقتي، وناء صبري بأن يحتمل أكثر مما احتمل، ولا بد للماء في مرجل أن يفور، وللسيل المحتبس أن يخترق ما أمامه من جنادل، لقد بعتك يا حبيبة قلبي في ساعة جنون، ولم أعرف الهدوء منذ ذلك الحين، ولكني كنت أخاف أن أظهرك على ما في نفسي فأجدد لك شوقا وحزنا أنت عنهما في غناء، ثم انكب عليها يقبلها في ظمأ ونهم، ويهمس في أذنها بما يلقى من العصابة والهجر؛ فأحاطت وجهه بيديها الرخصتين وهي تقول: ليتني أعود إليك يا حبيبي، هل من سبيل؟ فأطرق كالمفكر وقال: ليس من سبيل إلا أن يبيعك لي الوليد. - إنه كثير النفور مني، متجن عسوف، ولكنه شديد البغض لك، وهو يؤثر أن يبيعني لمجوسي ولا يبيعني لك، ولو وازنتني بالذهب. - إذا لم يبق من سبيل. - إنني لا أستطيع الحياة بعيدة عنك يا حبيبي. - ويل للوليد، إنه سد منيع بين قلبين. - سد من فولاذ. - أنستطيع أن نحطم هذا السد؟ - كيف يا حبيبي؟ - إن الحديد بالحديد يفلح، بهذا الخنجر، ثم قذف بالخنجر فسقط في حجرها، فقامت مذعورة وقد تفتحت عيناها، وارتعشت يداها، وأدركها ما يدرك النساء ساعة الوهل من الذهول، وارتجاف العصب، ثم همست والكلمات تتعثر بلسانها: تريد أنه يقتل؟ - نعم يقتل؛ لأن الحب لا يقف في طريقه شيء. - لا يا حبيبي، دعني من القتل وذكر الدماء، وخذ في وسيلة أخرى. - ليس أمامي شيء غير القتل، ولو واتتني الفرص كما تواتيك ما توانيت لحظة عن قتله. - كما تواتيني؟ أتريد أني أقتله أنا؟ - ولم لا؟ - لا، إنني أوثر أن يقتلني الحب على أن أمد يدي لقتل رجل أعيش تحت سقف داره. - تعيشين تحت سقف داره ذليلة منبوذة، تعيشين تحت سقف داره وتتركينه ينام ملء عينيه هانئا سعيدا، وحبيبك يتقلب دنفا حزينا على فراش من سهاد، تعيشين تحت سقف داره وتتحرجين من قتل رجل يقتل نفسين في وقت معا، إنني لن أعيش طويلا إذا ظلت هذه الحال، ولن تمر أيام حتى تذرفي الدموع على شهيد قتلته حبيبته؛ لأنها لم تقتل قاتله. - إن القتل أكبر الجرائم إثما عند الله والناس. - ألا يقتل بعض الناس بعضا في الحرب فرحين متفاخرين؟ - ذلك في ميدان الحرب يا حبيبي. - إن الوليد يحاربني ويحاربك بسلاح مسموم، فيجب أن ندفع عن أنفسنا، وأن نقتل قاتلنا. - ولكني لا أقتل أحدا. - إذا لم تقتليه فخير لي أن أقتل نفسي، ثم وثب نحو الخنجر فدفعته عنه مذعورة وصاحت: لا تفعل يا حبيبي، وقل ما شئت فإنني لك سمع وطاعة، فارتمى على وسادته كالمجهود، ثم قال: إن الأمر أهون ما يكون، إن الوليد ينام وحده، فإذا هدأت الأصوات، ونامت العيون، ولم يبق من الليل إلا أقله، تسللت إلى حجرته كأنك الطيف الطارق، أو الظل الساري، فأغمدت هذا الخنجر في صدره وهو نائم، دون أن تسمع لك نأمة، أو تحس حركة، ثم عدت فغسلت يديك، ونمت مطمئنة هادئة، فإذا جاء الصباح وعلم الأمر سهل أن يتهم بقتله أحد خدمه، وبينهم رستم الفارسي الذي هو جاسوس عليه من خراسان، ثم ناولها الخنجر فخبأته تحت ثيابها، وخرجت من لدنه مضطربة ذاهلة كأن بها مسا من جنون.
ولما بلغت القصر لمحها أبو رقية، وقرأ بعينه البلهاء ما على وجهها من خوف وحذر، ورأى في اضطراب مشيتها، وفي حديثها الذاهل المتعثر ما يريب؛ لأن المسكينة على ما بذلت من جهد لم تستطع أن تكبت ما يجيش في صدرها من أمواج الدسيسة، لمحها أبو رقية فأخذ يغالط نفسه، ويتهم عينيه، ويلوم عقله المختبل على إساءة الظن بفتاة قد يكون عصف بها مطل حبيب، أو فراق خليل، ثم إنه يعرف بصورة مبهمة أن الوليد ينأى عنها بحبه، ويخص بغرامه سعاد الكوفية، فلعل ثورة من الغيرة طافت بها في هذه اللحظة، والنساء لغز معقد لا يهتدى إلى حله، وتيه مضلل تدور فيه ولا تخرج منه، ولكنه رجع إليها البصر فلمح نتوءا لا يكاد يرى عند أعلى فخذها اليمنى، فعاوده الشك، وتملكته الحيرة: أتخفي صدوف شيئا تحت ثيابها؟ ولم تخفيه إذا لم تقصد شرا؟ وما هو؟ ولعب الشيطان بعقله، وتزاحمت هواجسه، فصمم على أن يتابع حركاتها دون أن تشعر ليرى إلى أي مدى تنتهي، وجاء المساء، وانصرف أهل القصر إلى شيء من اللهو والطرب كعادتهم، وصلى الوليد العشاء الآخرة بعد أن مر هزيع من الليل، وتحين أبو رقية غفلة العيون فدلف إلى حجرة نوم الوليد، واختفى تحت سريره، ثم ذهب الوليد لينام، وأوى من بالقصر إلى مضاجعهم، ولما سكتت الأصوات، ولف القصر ضرب من سكون الموت بعد أن كان يضطرب بضجيج الحياة، وأوشك الليل أن يزمع الرحيل، قامت صدوف من مرقدها خائفة مرتعشة، ولكنها استعانت ببقية من مذخور عزيمتها، فأسرعت الخطا في حذر وترقب، حتى بلغت الحجرة فدخلتها، فسمعت تنفس الوليد هادئا فأدركتها رجفة، ولكنها لم تأبه لها، وتقدمت والخنجر في يمينها، وسمع أبو رقية خطواتها فتزحزح ليخرج من تحت السرير، فرأى صدوف ويدها تمتد بالخنجر إلى صدر الوليد، فوثب من مكانه وقبض على يدها بقوة ليست في طوق البشر، وذعرت الفتاة للمفاجأة؛ فصرخت وقذفت بالخنجر، ودهمتها موجة جارفة من البكاء والنحيب، واستيقظ الوليد؛ فدهش لما رأى وصاح: ما الخبر يا أبا رقية؟ - شيء تافه، فتاة تريد أن تنافسني في الجنون. - قل لي ما الخبر قبل أن أكون مجنونا ثالثا. - سلها يا سيدي.
وكان من بالقصر قد تيقظ للجلبة والصياح، فهرع الجواري والخدم إلى حجرة الوليد، وجاءت أمه ترتعد من الخوف، حتى إذا رأته رمت بنفسها بين ذراعيه وهي تجهش بالبكاء، وقبض الوليد على ذراع الجارية وقال: قولي ماذا كنت تقصدين بهذا الخنجر؟ فأجابت بين الشهيق والعويل: كنت أقصد أن أقتلك. - ولم تقتلينني يا فتاة؟ - ذلك سرا أطويه لنفسي. - هل أغراك أحد بقتلي؟ - لم يغرني أحد، فازداد غيظ الوليد، ولكنه كبح غضبه، وأمر سبرة أن يحبس الفتاة، وألا يمسها بسوء، ثم التفت إلى أمه وهو يقول مشيرا إلى أبي رقية: لقد أنقذني هذا المجنون. - إنه ليس بمجنون يا بني، إنه إذا أراد كان أعقل العقلاء، حياك الله أبا رقية! لقد نجيت ولدي. - لعل من أكبر علامات جنوني أني أهتم دائما بهذا الوليد الذي لا يساوي جناح بعوضة؛ فضحك الوليد وقال: الآن عاد إليك الجنون، قل لي بالله: كيف وصلت إلى حجرتي؟ - لقد ارتبت في أمر الفتاة منذ الصباح، وجال في نفسي أنها تريد بك شرا لا أدري لماذا، فاختبأت تحت سريرك قبل أن تنام، وقد صدق ظني، وتحققت وساوسي، فقالت أم الوليد: هذه مؤامرات من أعدائك حركت ساعد الفتاة بالخنجر يا بني، فإنك تمشي فوق أرض ملئت بالفخاخ!
وانتهت الحادثة، ومرت أيام وأيام، وعرف ابن عنبسة من اختفاء صدوف أن المؤامرة لم تفلح.
وفي أحد الأيام خرج الوليد للصيد مع فريق من ندمائه، وبينما كان يعدو فرسه «السندي» خلف غزال ظهر فارس من عبيد بني أمية كان مختفيا خلف أكمة، فلمحه الوليد وهو يصوب إليه سهما فراغ منه، فرماه بثان وثالث فأخطأه، وعجل الوليد فدار ووثب عليه بالسيف فأطاح رأسه وقال:
ألم تر أني بينما أنا آمن
يخب بي السندي قفرا فيافيا
تطلعت من غور فأبصرت فارسا
فأوجست منه خيفة أن يرانيا
ولما بدا لي أنما هو فارس
وقفت له حتى أتى فرمانيا
رماني ثلاثا ثم إني طعنته
فرويت منه صعدتي وسنانيا
وقد علم الوليد بعد هذه المخاتلات المتكررة أن حياته أصبحت في خطر داهم، وأنه إذا نجا مرة وأخرى فلن ينجو في كل مرة، وتحدث مع أمه وندمائه في الأمر، فعقدوا العزم على أن يفر بنفسه في البوادي، وأن يتنقل بين المنازل والمناهل فلا يعلم مستقره إلا أخلص خلصائه، فهجر دمشق مع بعض جواريه وأصحابه، وخلف كاتبه عياض بن مسلم بالرصافة ليكون له جاسوسا على هشام، ولينبئه بأخباره.
ونزل على ماء يسمى «الأغدف» بعمان بين أرض بلقين وفزارة، ونسي الناس بدمشق الوليد، وأطرقت أفاعي أعدائه إلى حين.
ومرت أيام وشهور على الوليد وهو يعاني الهم والضيق، وينتقل بين أحياء العرب كالطريد المنبوذ في خشونة لم يتعودها، وجفوة ليس له بها عهد.
وفي ليلة الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، أحس هشام ضيقا في صدره واختناقا، فأخذ يئن أنينا، ويدلي رأسه من النوافذ ليلتقط بعض النسيم، ويهمس في ضعف ويأس: هذه الذبحة! هذه الذبحة! لقد عاودتني، ليس لي منها نجاة هذه المرة، مروا فيروز يحضر دواء الذبحة فإني ما أراني إلا مائتا.
وأسرع فيروز فأحضر الزجاجة، ولم يكن بها إلا ماء ملون، فجرع هشام منها مرات فلم تفده شيئا، واشتد به الداء فألقى رأسه على الوسادة، وأخذ يردد أنفاسا قصارا.
وعلم عياض بن مسلم بمرضه وإشرافه على الموت، فأسرع وختم على خزائن الأموال، وأمر خزانها أن يحتفظوا بما في أيديهم، وألا يخرجوا من خزائنهم شيئا، وإلا كان جزاؤهم الموت.
وأفاق هشام من غشيته فطلب مروحة من بيت المال يجتذب بها بعض الهواء إلى صدره، فقيل له: إن الخزائن مقفلة موصدة، فزفر زفرة قصيرة، ثم قال بصوت يزاحمه الموت: «أرانا كنا خزانا للوليد»، ثم مات، وحينما هم أهله بغسله طلبوا قميقما ليسخن فيه ماء الغسل، فقيل لهم: إن الخزائن مقفلة موصدة، فاستعاروا قمقما من الجيران، ثم طلبوا له كفنا، فقيل لهم: إن الخزائن مقفلة موصدة، فكفنه أحد عبيده من حر ماله.
وهكذا يموت من ملك الدنيا، ودانت له الأرض، فلا يجد إناء لماء غسله، ولا يجد كفنا فيكفنه العبيد، فسبحان من له الملك الدائم، والعزة التي لا تبيد!
ضحك وبكاء
أقام الوليد طويلا بالصحراء حتى جفاها وجفته، وأسأمها بالشكاية وأسأمته، وبينما كان جالسا ذات يوم إلى ندمائه وهم يتحدثون في دمشق، وليالي دمشق، وما فيها من إشراق ومتاع؛ إذ طاف به خيال سلمى، فاستبد به شوقه، واشتد إليها حنينه، وصاح: لقد انقطعت الرسل بيني وبينها، وأصبحت لا أطيق لهذا البين احتمالا، ولا عليه صبرا، ليت شعري أين الآن وجهها؟ وماذا تفعل الآن بعدي؟ ألا تزال راعية لعهدي حافظة لودي؟ أخشى أن يكون ابن عنبسة قد وجد إليها الطريق ذلولا، وأخشى أن يكون أبوها قد تغلب على عنادها، ودفعها إلى قبول هذا العتل الزنيم زوجا، ثم تأوه وزفر، وطلب إلى عمر الوادي أن يغني:
طاف من سلمى خيال
بعد ما نمت فهاجا
قلت عد نحوي أسائل
ك عن الحب فعاجا
بفلاة ليس ترعى
أنبتت شيحا وحاجا
1
فغنى الأبيات بصوت حزين بكى له الوليد، وبكى له من معه، ثم عاوده الفرح فجأة، وطلب إلى أبي كامل أن يغني:
أصبح اليوم وليد
هائما بالفلوات
ابعثوا خيلا لخيل
ورماة لرماة!
فلما سكت أطرق الوليد طويلا، ثم اتجه إلى عبد الصمد بن الأعلى وقال: أما لهذا الليل من آخر يا ابن عبد الأعلى؟ أما آن لهذه الغمرات أن تنجلي؟ لقد طالت مدة هشام حتى مللت انتظار يومه، وكأنه يريد أن أسبقه إلى الموت.
فقال عبد الصمد: رفقا بنفسك يا مولاي، فإني أرى في ظلمات الغيب نورا يأتلق، وأسمع في صدري همسا يبشر بالفرح القريب:
ألم تر للنجم إذ شيعا
يبادر في برجه المرجعا؟
فقلت وأعجبني شأنه
وقد لاح إذ لاح لي مطمعا
لعل الوليد دنا ملكه
فأمسي إليه قد استجمعا
وكنا نؤمل في ملكه
كتأميل ذي الجدب أن يمرعا
عقدنا له محكمات الأمو
ر طوعا، فكان لها موضعا
فاهتز الوليد للشعر وقال: حياك الله يا ابن عبد الأعلى! ألا تزال تؤمل في ملكي كتأميل ذي الجدب أن يمرع؟ إذا فلتؤمل طويلا، ولتصبر طويلا، فإن بينك وبينه سدا من صخر، وجنادل يسميه الناس هشاما، ثم وجه الحديث إلى المنذر بن أبي عمرو، فقال: أتعرف يا ابن أبي عمرو أن ليلة لم تأت علي منذ عقلت عقلي أطول من ليلة الأمس؟ وأخذت أفكر في هذا الرجل الذي شردني وتجرد لإيذائي، فاركب بنا نتنفس؛ فقد كدت أضيق بكل ما حولي، فركبا حتى إذا سارا ميلين وقف الوليد على كثيب، وأعاد الكلام في هشام، وفي الشكوى من هشام، وبينما هو يعدد أفاعيله، إذا رجلان على البريد مقبلان، أحدهما مولى لأبي محمد السفياني، والآخر يدعى جردبة، فلما قربا أتيا الوليد يعدوان حتى دنوا منه، فسلما عليه بالخلافة، فدهش الوليد وتملكه ذهول كاديسقطه على الأرض، فجعل جردبة يكرر السلام عليه بالخلافة، وهو مشدوه يفتح فمه ولا يستطيع الكلام، ثم جاهد حتى ملك نفسه وقال: ويحك أمات هشام؟ - نعم يا أمير المؤمنين، فصاح الوليد: صدق الله العظيم
حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . اكتب يا ابن أبي عمرو إلى العباس بن الوليد أن يأتي الرصافة، ويحصي ما فيها من أموال هشام، وأن يسجن أولاده وعماله وخدمه، ثم قال:
طاب يومي ولذ شرب السلافة
إذ أتاني نعي من بالرصافة
وأتانا البريد ينعي هشاما
وأتانا بخاتم للخلافة
وأمر من معه بالرحيل إلى دمشق، ودخل المدينة في موكب حافل وهو فوق فرسه «الرائد»، وقد لبس خلع الخلافة، وقبض على عصاها، ووضع فوق رأسه عمامة بها ياقوتة حمراء بقدر الكف قبلتها أشعة الشمس، ثم ارتدت عنها فأرسلت بريقا وألوانا تتخطف العيون، وحف به ندماؤه وكتابه وعماله وكبار أهل الرأي من بني أمية، واصطف الناس وتزاحموا على الجانبين، ورددوا صيحات الفرح، والاستبشار بالخليفة الشاب، ونثر أمامه النثار الدنانير والدراهم، فانكب عليها الناس في هرج وشره كما تنقض سباع الطير على فرائسها، ومشى المغنون وهم ينقرون الدفوف، ويعزفون بالطنابير، وكان أشعب يرقص أمامهم رقصات عجيبة يتلوى فيها جسمه كما يريد، كأنه خلا من العظام، ويرسل النكات سافرة ومحجبة لا يبالي من يقذف بها.
وبلغ الموكب قصر الخلافة، وجلس الوليد على عرش آبائه بعد أن طال إليه اشتياقه، وكاد يدركه اليأس منه، وتقدم صنايد الأمويين، وعظماؤهم يبايعونه، ويسلمون عليه بالخلافة، وبايع الناس جميعا، وطارت إليه الرسل من أقصى الأرض بالبيعة والتهنئات، وجال بخاطره - وهو في هذه النشوة الساحرة، وذلك العز الشامخ - بيت من الشعر قالته لسليمان بن عبد الملك إحدى حظاياه :
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان!
فغام وجهه، وزاغ بصره، فهز رأسه هزا عنيفا، كأنه يريد أن يطرد عنه طائر التطير، ثم أمر ابن عبد الأعلى أن يدعو إليه سعيد بن خالد، وقدم عليه في هذه الأثناء وفد الشعراء، وكان في مقدمتهم يزيد بن ضبة، وهو شيخ جاوز السبعين، دخل يتوكأ على عصاه، فهنأ الوليد بالخلافة، وانكب على رجليه يقبلهما، وكان ابن ضبة في أول عهده منقطعا إلى الوليد، فلما أفضت الخلافة إلى هشام فر من وجهه إلى الطائف، وحين رآه الوليد فرح به وهش للقائه وأدناه، وقال لحاشيته: هذا طريد هشام لصحبته إياي، وانقطاعه إلي! هات يا ابن ضبة ما عندك، فأنشده قصيدة منها:
سخا بالذهب الأحمر وزنا بالقناطير
كريم العود والعنصر غمر غير منزور
فطرب الوليد للشعر، وأمر بأن تعد أبيات القصيدة، وأن يعطى بكل بيت ألف درهم، وكانت خمسين بيتا، ثم أمر كاتبه عياضا أن يجري عطاء دائما على عجزة أهل الشام من الشيوخ، والمرضى، والعميان، والفقراء المعدمين، وأن يخص كل واحد منهم بخادم، وأمره بأن يزيد في عطاء كل صاحب عطاء عشرة دنانير، وأن يصل بأعطية أهل الشام إلى ضعف ما كانوا يأخذون.
ثم طلب منه أن يكتب إلى نصر بن سيار عامله على خراسان، أن يسير إليه مع وجوه من أهل خراسان، وأن يحضر معه برابط وطنابير ودفوفا وأباريق من ذهب وفضة، وأن يجمع كل صناجة يقدر عليها، وكل باز، وكل برذون فاره، ثم أطرق قليلا وقال: وعليك أن تحصر علماء الحديث والقرآن بالشام والمدينة، ثم تجري على كل واحد منهم مائتي دينار في العام.
والتفت إلى ابن سهيل وقال: وأنت يا ابن سهيل مر كبير شرطتي أن يقبض على يزيد بن عنبسة، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن الوليد، والزهري، وأبناء القعقاع، وأن يزج بهم في سجن الظلام، فقد كنت أحن إلى اليوم الذي أشفي فيه نفسي منهم.
وما كاد ينتهي من أوامره حتى وصل سعيد بن خالد فاستأذن له، فدخل وهو يرتجف من الخوف، فقبل يد الوليد وهنأه بالخلافة، فقال الوليد: أقبل علي يا ابن خالد، فإن بيننا حسابا عسيرا. - لقد سعدت الدنيا بك يا أمير المؤمنين وسعد الناس، وهذا يوم صفاء يجب ألا يكدر بذكر الماضي. - صدقت يا ابن خالد، ولكنك كنت علي إلبا مع هشام، ولو شئت أن أنتقم لفعلت، ولكن شفيعا لا يرد يأتي دونك ودوني، فيرد عنك يدي، ويغمد سيفي. كيف سلمى؟ - هي بخير، تقبل يدي أمير المؤمنين، وترجو رضاه. - ترجو رضاي؟ ولقد لبثت شهورا بائع ثياب لألتمس منها كلمة رضا! والآن وقد أصبحت أمير المؤمنين أتقبل أن تزوجنيها؟ - هي خادمة لأمير المؤمنين، فوثب الوليد من مجلسه وثبة عصبية، وصاح في أصحابه: أعدوا كل شيء للعروس.
وكان عرسا لم تر له دمشق مثيلا، تألقت فيه الأنوار، ومدت الموائد، ونثرت الدنانير واللآلئ، وتواترت فيه الهدايا من كبار الدولة، وعمال الأمصار، ولم يبق عود ولا طنبور ولا دف في المدينة إلا أطلق العنان للألحان، ولم تبق راقصة ولا شادية إلا عرضت من فنونها ما يثير الوجدان، ويعجز البيان، ولعبت نشوة الفرح بالرءوس فسالت الأعطاف، وجمد اللسان، وعرض أشعب ألاعيبه وفنونه بين ابتسامات الشيوخ، وضحكات الحسان، واخترق الوليد الجمع الحاشد وهو يصيح في غير مبالاة:
أو لا تخرج العرو
س فقد طال حبسها؟!
قد دنا الصبح أو بدا
وهي لم يقض لبسها!
وبعد قليل تحققت أمنيته وابتسم له القدر العابس، وزفت إليه حبيبة قلبه وريحانة حياته بعد أن ضرب الدهر بينه وبينها، وكاد اليأس يقضي عليه وعليها.
وكانت سلمى في برد شبابها زينة شبابها، وزهرة أترابها، جسم رخص ريان ناصع البياض كأنما صيغ من صافي الدر، أو سبيك اللجين، وقامة مياسة يزيدها العجب حسنا ولدانة، وصدر ممتلئ رجراج كأنه الزئبق يفر من البنان، ووجه تأنقت يد القدرة في تكوينه وتلوينه، فجاء صورة للجمال البارع الذي حاول وصفه كل شاعر فند على أوزانه، وخطر لكل رسام فأبى على ألواحه وألوانه، جبين يتألق كأنه الصباح الباسم، وعينان فيهما سحر ، وفيهما خمر، وفيهما كل ما يثير الفتنة، ويعبث بالعقول، وأنف عربي أموي فيه الشمم، وفيه العزة، وفيه الجمال، وفم ياقوتي يبسم عن درر لم تظفر بمثلها صدفات البحار.
جلست سلمى إلى جانب الوليد فتشاكيا البعد، وتبادلا الوجد، وشربا من رحيق الحياة أكوابه صافيه مترعة، ومرت بهما ساعات هنيئات أطلق الدهر الغادر لهما فيها العنان، ومد الحب عليهما الظلال، فمن عناق إلى عناق، ومن قبلات إلى أشواق، ومن ضحك إلى بكاء هو الضحك، ومن مزاح إلى جد هو المزاح، حب وملك ونشوة وشباب وجمال، فماذا بقي من صنوف النعيم؟ وماذا تخلف من نضارة الحياة؟ حقا إن السعادة لو طمعت في أكثر من هذا لكانت بطرة ملولا!
ومضى سبعة أيام والعاشقان يتساقيان كؤوس الحب، ويتراشفان رضاب الغرام، وترك الوليد شؤون الدولة تسير كما تريد أن تسير، أو تقف كما تريد أن تقف، وانفرد بحبيبته في ناحية من قصره كما ينفرد طائران في وكن، وجعل بينه وبين صخب الحياة وضجيجها وآلامها ودسائسها حجابا مستورا، لم يخطر بباله تألب العلويين، ولا مؤامرات العباسيين، ولا تذمر الأمويين، ولا تلك الثورات التي أخذت تشتعل في أطراف الدولة، الدنيا عنده سلمى، والحياة سلمى، وكل جميل في هذا الوجود ليس إلا سلمى، وطالما كان يقول، وطالما كان يردد:
أنا في يمنى يديها
وهي في يسرى يديه
إن هذا لقضاء
ليس عدلا يا أخيه
ليت من لام محبا
في الهوى لاقى منيه
فاستراح الناس منه
ميتة غير سويه!
بقيا على تلك الحال سبعة أيام، وجاء اليوم الثامن فكان شديد الحر، لواح الهجير، متقد أديم الأرض، مات فيه النسيم العليل، وبعثت نيران الجحيم، وصبت الشمس فيه شواظا على جبل قاسيون، فأبى أن يحمله وأشفق منه، فرمى به إلى المدينة شررا وحمما، واغبر الجو فاختفت الأنفاس، وضاقت الصدور، ولم تطق سلمى ذلك الحر اللافح، فأمرت جواريها أن يضعن لها ثلجا في الماء، فلما ذاب فيه قامت لتبترد، فتسلبت من ثيابها، وأخذت تصب الماء على جسمها، وحين شعرت بلذة الماء وبرده والت الصب، ثم والته، كأنها كانت تطفئ لهيبا، ثم لبست غلالة رقيقة من الحرير، وخرجت إلى أحد مشارف القصر فوقفت به طويلا، وما كاد يولي النهار حتى شعرت ببرد شديد يسري في أوصالها، ثم أخذتها غشية فسقطت على الأرض لا تحس ولا تبين، فأسرع إليه الوليد فحملها إلى سريرها، وأقبلت أمه مذعورة واجفة، وطفق الجواري يدلكن جسمها، وينضحن وجهها بماء الورد لتفيق، واضطرب الوليد وأخذه البكاء، واستولى عليه الهلع، وجعل يصيح: أين الطبيب؟ أين الطبيب؟ اذهبوا إلى فرات بن شحناثا اليهودي، أحضروه على جناح الريح، على جناح البرق، على جناح الشيطان! حبيبتي! حبيبتي تموت وأنتم هنا أمامي يا أولاد الإماء!
ولم يمض إلا قليل حتى جاء الطبيب، وكانت البرودة التي في جسم سلمى انقلبت حرارة متأججة، وأخذ تنفسها يتلاحق، وصدرها يرتفع وينخفض كأنه كير حداد، ثم اعترتها نوبة هذاء وخلاط، فجعلت تثب من سريرها وتصيح: دعوني أذهب إلى زوجي، أنا أعرف أنه بعمان، لقد حال هشام بيني وبينه، حبيبي! أنت لا تصلح بائع ثياب، إن وجهك يشي بك، إن به نبلا موروثا، إنه وجه ملك، أثواب وألوان للعذارى الحسان! دعني يا أبي من ابن عنبسة، عم مساء يا أبي، هاتوا حلي العروس! مشطوا العروس! ما هذه البئر؟ إنها بعيدة الغور مظلمة، لقد زلقت رجلي، أدركوني! أنقذوني! ثم سقطت على السرير مجهودة لاهثة، تطلب نفس النسيم فلا تكاد تجده، وغاصت في غشية لا قرار لها، وارتفع بكاء الوليد، وبكاء من حوله من الجواري والخدم، وأخذ يلطم وجهه كما تفعل النساء إذا حزبهن الحزن، ولا يجدن له متنفسا، ومس الطبيب المريضة، وسأل عما يكون سببا في المرض، ثم اتجه إلى الخليفة مكفهر الوجه حزينا وقال: إن هذا المرض في الرئتين يا أمير المؤمنين، وقد سببه صب الماء البارد، ثم التعرض للجو في غلالة رقيقة، وهو مرض قوي الحملة، شديد الوطأة، ولكن الله يشفي ما هو أشد منه وأعضل، ودواؤه الدفء، والأشربة الساخنة، ويجب ألا تخاطب المريضة وهي تهذي، وإلا اختلط عقلها، وإذا احتملت مولاتي هذا المرض خمسة عشر يوما نجت وزالت أسباب الخوف، وإني يا أمير المؤمنين مستبشر خيرا، راج في وجه الله الكريم، وسأعد لمولاتي دواء، وسأتردد في كل يوم مرات، مسح الله السوء عن مولاتي، ولا أحزن قلب أمير المؤمنين!
وانصرف الطبيب، ومر يوم وثان وثالث والمرض يستشري، والآمال تتضاءل، حتى إذا كان اليوم السابع هدأت المريضة، وسكن صدرها من الخفقان، فاستبشر الوليد وأرسل صيحة فرح دوت في جوانب الحجرة، وكادت تهز الكلة التي ضربت فوق سريرها، ثم أخذ يداعبها ويدللها ويقول: لقد شفيت يا حبيبتي، وزال عنك الضر، سأذهب بك عندما يتم شفاؤك إلى لبنان، إن هواءه يبرئ السقيم، وماءه من تسنيم، وتفاحه كفمك مسكي النفحات، سكري اللثمات، أتحبين تفاح لبنان يا سلمى؟ حدثيني، أتفضلينه على مشمش دمشق؟ قولي يا حبيبتي أيهما تفضلين؟ مالك ساكنة؟ أواجدة أنت علي؟ لا لا، إن الوليد لا يغضب ريحانة حياته، بالله أجيبي يا سلمى!
ولكنها لم ترد عليه، ولم تجاذبه الحديث، فرفع الكلة ونظر، فإذا جثة هامدة! وإذا الجمال الباهر الذي كان جمالا في جسم وروح أصبح جمالا في تمثال؛ فصرخ وشق ثيابه، وأخذ يدور في الحجرة كالمجنون، ويضرب الجدران برأسه ويصرخ: ماتت سلمى! ماتت سلمى! ذهبت حياتي! طويت آمالي! غابت شمسي! جفت زهرتي! صوحت روضتي! أدركوني يا عبيد القصر، خذوني وادفنوني معها، لا شأن لي بالحياة بعدها، إن الحياة ليست نفسا يتردد، ولكنها أمل ورجاء وحب، وكان أبو رقية يجلس في ناحية من الحجرة مشدوه العينين ساهما، يرتل القرآن ترتيلا، وقدم رجال الدولة وعم البكاء، وارتفع العويل، وطوي بساط السرور، وفرش بساط للأحزان.
وفي اليوم التالي دفنت سلمى بعد إباء من الوليد وممانعة، وبعد أن شيعها بأبيات تقطع نياط القلوب، وتستنزف ماء الشؤون:
ألما تعلما سلمى أقامت
مضمنة من الصحراء لحدا؟
لعمري يا وليد ولقد أجنوا
بها حسبا ومكرمة ومجدا
ووجها كان يقتصر عن مداه
شعاع الشمس، أهلا أن يفدى
فلم أر ميتا أبكى لعين
وأكثر جازعا، وأجل فقدا!
وعكف بعد ذلك الوليد على أحزانه، ولم يجد تسلية لهمومه إلا أن يصب عذابه على من ناصبوه العداء أيام هشام، فأحضر سليمان بن هشام من السجن، وأمر بأن يضرب أمامه مائة سوط، وأن يحلق رأسه ولحيته ثم ينفي إلى عمان، وطلب يزيد ابن عنبسة والزهري، فقيل له: إنهما فرا إلى حيث لا يعلم مكانهما، فأرسل خلفهما الجنود ليقبضوا عليهما ولو كانا في أقصى الأرض، ثم أمر بأن يدفع بنو القعقاع إلى عامل قنسرين ليذيقهم مر العذاب إلى أن يموتوا، ودعا عياضا كاتبه، وطلب منه أن يكتب إلى يوسف بن عمرو والي العراق بقتل خالد بن عبد الله القسري، وهكذا كان يقضي الوليد نهاره في تعذيب وانتقام، وليله في تطريب وأنغام!
واجتمع أهل الدعوة بخراسان عندما وصلت إليهم أنباء الوليد وأحاديث لهوه وظلمه، ورأوا أن دولة الأمويين تخطو حثيثا إلى الزوال، وأن من الحكمة أن ينتظروا بإظهار دعوتهم قليلا حتى تجف الثمرة فتسقط وحدها؛ لأن عبث بني أمية وحده سيزيد من كراهية الناس وانصرافهم عنهم، وبذلك يسهل ثل عرشهم، ومحو سلطانهم، واستبشر الدعاة بالوليد خيرا؛ فزادت قوتهم، وتجددت آمالهم، وظهرت منهم بوادر رآها نصر بن سيار عامل خراسان فتوجس الشر، وأحس بسوء المصير، وكتب إلى الوليد:
أرى خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام!
فإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها كلام!
فقلت من التعجب: ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام!
فلما قرأ الوليد كتاب نصر كتب في أسفله: بل نيام يا ابن البلهاء! لقد أقطعك أمير المؤمنين خراسان هبة فاعمل بها ما شئت، فإنه مشغول عنك وعن خراسانك!
قتل ودمار
ومرت شهور والوليد يشفي نفسه في كل يوم بانتقام جديد حتى خافته خاصة الناس، وسئمته عامتهم، ولقد فرح الناس لتوليته أول الأمر لما أغدق من العطايا والنعم، ولما بذل من المواهب واصطناع المعروف، بعد أن عانوا أيام هشام عهدا شحيحا يحاسب فيه الخليفة على الدانق، ولا يثيب إلا على عمل، ولكن الوليد لم يستطع أن يمد يده بالعطاء في كل حين، ولم يكن له من الخلال ما يحمل الناس على حبه وإجلاله، فتحولت عنه قلوبهم، ونالت منه ألسنتهم، ولكل دولة في أول عهودها بهجة وإشراق، يستقبلها الناس فرحين مستبشرين، وهي تستقبل الناس بالوعود، وبذل الرغائب، فإذا ذهبت جدتها ولم تواصل إحسانها انصرفوا عنها ساخطين شاكين وهم يتحسرون على العهد القديم، ويتطلعون إلى فجر يوم جديد.
واجتوى الوليد دمشق واجتوته، وكره لقاء الناس وضجروا به، فرحل إلى «الأغدف» بعمان، وسار في ركابه كثير من خدمه وندمائه، وكان الوليد خلقا عجيبا، فقد كانت له نفس واحدة استطاعت أن تتقسم أنفسا، فكانت له نفس باكية حزينة، ونفس مرحة ضحوك، ونفس تقية خيرة، ونفس عارمة صاخبة، وكانت كل نفس من هذه الأنفس تظهر فجأة على غير إرادة من صاحبها، وتطالع الناس متناوبة متعاقبة كما تدور كرة حول محور، فكثيرا ما اتصل منه الضحك بالبكاء، والخير بالشر، والقوة بالضعف، وكان الناس لذلك منه دائما في وجل وخوف، لا يدرون ماذا تكون اللحظة التالية للحظة الحاضرة.
ذهب إلى الأغدف، وأعاد فيه مجالس أنسه، ومجالي صبوته، وكأنه لم يعشق مرة سلمى، ولم ينكب بموت سلمى، ولكن خيالها كان يطوف بنفسه في لحظات متقطعة؛ فيبكي بين رنين المزاهر، ودقات الصنوج، وتنفست دمشق الصعداء لفراقه، ومد فيها الساخطون رءوسهم إلى الفتنة، وعاد إليها كثير من الفارين كابن عنبسة، وبعض بني القعقاع، وزعماء اليمنية. وفي ذات صباح التقى جمع منهم بدار شبيب بن أبي مالك فتذاكروا في شأن الوليد، وأنه إذا امتد عهده لم يبق منهم أحدا، ولم يترك لمجد الخلافة أثرا، واستقر رأيهم على مبايعة يزيد بن الوليد؛ لأنه كان يظهر التقوى والورع، ويتشبه بعمر بن عبد العزيز، فذهبوا إليه وكان بالرصافة فحدثوه بأمرهم، وألقوا إليه بسرهم، فأخذته الدهشة، وتذكر سطوة الوليد وبطشه، فطلب منهم أن يمهلوه حتى يستشير عمرو بن يزيد، ثم تركهم وذهب إلى عمرو في داره، وأطلعه على ما اعتزم عليه القوم، فوقف عمرو وقد كان جالسا وقال: هذا يا ابن العم أمر جسيم لن يفصل فيه إلا أخوك العباس؛ فإنه صاحب رأي ومعرفة، أما أنا فرجل كثير الشكوك كثير التقلب، وليس لمتقلب رأي.
وانطلق يزيد إلى العباس يستشيره ويستهديه، فما كاد يكشف له عن طرف مما جاء بشأنه حتى وكزه العباس في صدره، وصاح في وجهه غاضبا: حقا إنك لأشأم سخلة في بني مروان، ووالله لولا ما أخاف عليك من حدة غضب الوليد لشددت وثاقك وحملتك إليه، إن دولة بني أمية تهتز للسقوط، فبالله عليك لا تضرب فيها بمعول جديد! إن بها من نيران الفتن ما تعد جهنم إزاءه جذوة خامدة، فدعها أيها الغر، ولا تزدها نكالا! دعها بالله وانصرف إلى شأنك، أتدري معنى خلع خليفة من بني مروان؟ إن معناه أيها الأبله ضياع الدولة كلها، اذهب يا عدو عشيرته، ولا تثر جرحا لا يريد أن يندمل، وإذا حدثتك نفسك بشيء مما في نفسك فاعلم أنه هو الشيطان الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، وأن غراب الفتنة هو الذي يدفع الأشقياء إلى أن يخربوا بيوتهم بأيديهم:
إني اعيذكم بالله من فتن
مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
وخرج يزيد من لدن العباس حزينا مترددا، ولكن الرغبة في الملك أغرته بنبذ وصايا أخيه، فنفض عنه ما كان قد أصابه من يأس، وطرح ما كان مسه من خوف، والتقى بجماعات الساخطين، وكان بينهم يزيد بن عنبسة فبايعه سرا، ولما اجتمع له أمره قصد إلى دمشق متنكرا في سبعة من أنصاره؛ فنزل على المزة، وهي أرباض دمشق، وقصد قدما إلى دار معاوية بن مصاد زعيم قومه، فبايعه وبايعه كثير من أهله ورجاله، ثم رحل إلى دمشق، وعزم على إظهار الدعوة، فأرسل إلى أصحابه فكمنوا عند باب الفراديس، ودخلوا المسجد الجامع لصلاة العشاء، فلما أتموا المكتوبة قبضوا على من بالمسجد من الحراس وكبلوهم، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأخبره الخبر، ثم قال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله وعونه! فاتجه يزيد إلى السماء، وهو يقول: اللهم إن كان هذا لك رضا فأعني وسددني له، وإن كان غير ذلك فاصرفه عني! وانطق مع ابن عنبسة في دروب دمشق، وكلما سارا خطوات انضم إليهما أعوان وأنصار، وما جاء اليوم الثاني حتى توافدت على يزيد الكتائب يقودها مشايخها، وهي تتحرق للقتال، وترجو ما وراءه من غنائم.
وطار أحد عبيد الوليد على جواد يسابق الريح إلى سيده، فلما بلغ الأغدف رآه بين ندمائه، وعمر الوادي ينشدهم:
أدر الكأس يمينا
لا تدرها باليسار
اسق هذا ثم هذا
صاحب العود النضار
من كميت عتقوها
منذ دهر في جرار
وما كاد يلقى إليه الخبر حتى ثار وقذف بالحمم، وأمر بضربه مائة سوط، ثم بحبسه.
وكان بمجلس الوليد يزيد بن خالد، وعبد الله بن سعيد، والأبرش الكلبي، فقال ابن خالد: إني أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل حمص فإنها حصينة، وأن توجه منها الجنود إلى يزيد حتى يظهرك الله عليه. وقال ابن سعيد: لا ينبغي للخليفة أن يرتحل بجنوده، ويدع نساءه في أيدي أعدائه، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره، فابتدره ابن خالد قائلا: وماذا يخاف أمير المؤمنين على نسائه، وقائد جيش عدوه هو ابن عمه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك؟ فصاح الوليد في غضب وسآمة: لن أرحل، ولن أترك أهلي ونسائي. وأشار عليه الأبرش أن ينزل بحصن البخراء، وأن يقاتل أعداءه حوله، فأخذ الوليد برأيه، وانتقل إليه. أما دعاة يزيد فانطلقوا ينادون في الناس: من سار للقتال مع يزيد فله ألفان! فهرع إليه كثير من مرتزقة المحاربين.
ثم علم عبد العزيز بن الحجاج قائد جيش يزيد أن العباس بن الوليد قادم لمناصرة الوليد بطائفة من أهله ورجاله، فسقط في يده، وأيقن أن شيئا من ذلك لو يتم لتفرق عنه رجاله لشدة ثقتهم بالعباس، وحبهم إياه، واعتقادهم أن الفئة التي يظاهرها هي الفئة الغالبة، ولذلك أسرع فبعث منصور بن جمهور على رأس فرقة من الجند لتحول بين العباس والوصول إلى الوليد.
وسار منصور وهدد العباس، وساقه مع من معه إلى مخيم ابن الحجاج، فلما وصل إليه أمره ابن الحجاج أن يبايع لأخيه يزيد فبايع مكرها مغلوبا، ونصب ابن الحجاج راية العباس، وأمر مناديا أن ينادي في الناس: هذه راية العباس، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد، وما كاد أصحاب الوليد يسمعون هذا النداء حتى تفرقوا عنه، وانضموا إلى جيش أعدائه.
ولكن الوليد كان شجاعا مقداما بعروبته، وطبعه الموروث، فلم يأبه لانصراف أصحابه عنه، واعتزم أن يلقى القوم بنفسه، ففي أحد أيام جمادى الأول من سنة ست وعشرين ومائة ركب فرسه «السندي»، وقذف بنفسه في حومة الحرب فقاتل قتالا شديدا، ولكن القوم تزاحموا عليه حتى كادت تنوشه سيوفهم، فدخل الحصن، وأغلق الباب دونه، ثم أخذ المصحف وجلس يرتل آيات القرآن الكريم، وانتحى أبو رقية ناحية من الحجرة، وأخذ يفتح عينيه ويغمضهما كأنه يصلي بإيماء العينين.
ووثب يزيد بن عنبسة نحو الباب وصاح قائلا: كلمني يا وليد، فلقد كنت تبحث عني في كل مكان، وها أنذا قد أتيت إليك طائعا، ولكني أظنك لا تود اليوم لقائي، لقد حاربتني في سلمى أيها الرجل فانتصر الموت علينا جميعا، واستأثر بها، واليوم تلقى جزاءك بما قدمت! لا تخف يا أبا العباس فإني لن ألقاك، ولكن سيفي هو الذي سيلقاك. فقال الوليد: لم تقتلونني لا أبا لكم؟ ألم أزد في أعطيات أصحاب العطاء؟ ألم أرفع المؤن عن كثير من الناس؟ ألم أعط الفقراء؟ ألم أعطف على الزمنى؟ فصاح ابن عنبسة: إنا نقتلك لننقذ الخلافة من يديك، فغضب الوليد وقال: حسبك يا ابن عنبسة، إن الخلافة أكرم على الله من أن ينقذها مثلك، ثم عاد إلى التلاوة وهو يردد: يوم كيوم عثمان! فسخر منه ابن عنبسة، وجبهه بمقذع السباب، وغليظ القول، ثم وثب فوق الحائط، وانطلق وراءه نفر من أصحابه، ولما قرب من الوليد قبض على يده وكان يريد أن يأسره، ويذهب به إلى القوم ليفصلوا في أمره، ولكن رجلا عاجله بضربة سيف فخر صريعا مضرجا بدمائه، وتقدم ثان فاجتز رأسه، وأشرع روح بن مقبل فحمل الرأس وطار إلى يزيد فرحا بما يحمل، فلما وصل إلى خيمته قذف أمامه به وهو يقول: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد، وأسر من كان معه، هذا نصر مبين مؤزر! فسجد يزيد شكرا، ثم التفت إليه باكيا وقال: كنت أرضى منكم بدون هذا، أما القتل فبلاء عظيم!
ودخل ابن عنبسة فأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله لك، وإتمام نعمته عليك، فارتعد يزيد وقال: ويلي إذا لم يغفر الله لي! قل لي بالله يا ابن عنبسة: ماذا قال لكم الوليد قبل قتله؟ فأجاب ابن عنبسة: لقد كان يقول: أما فيكم ذو حسب فأكلمه؟ أليس منكم رجل رشيد يستمع لما أقول؟ ولكنا أوسعناه تقريعا، وتواثبنا عليه فروينا أديم الأرض بدمائه. فصاح يزيد: كفاك يا ابن عنبسة كفاك! لقد لعمري أكثرت وأغرقت، أما والله لا يرتق بعدها لكم فتق، ولا يلم شعث، ولا تجتمع كلمة! إن الرءوس التي حصدها الحجاج بن يوسف بعد أن أينعت وحان قطافها ستثأر اليوم لنفسها! لقد حق القول على بني أمية، وانهار بناؤها، وخربت - كما يقول العباس - بيوتها بأيديها! وإنما أنا والوليد رجلان المنتصر منهما المهزوم، والقاتل منهما المقتول!
يصاولني والسيف بيني وبينه
وأقتله عمدا، وفي قتله قتلي!
Unknown page