Mara'at al-Mafatih Sharh Mishkat al-Masabih
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
Publisher
إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء-الجامعة السلفية
Edition Number
الثالثة - ١٤٠٤ هـ
Publication Year
١٩٨٤ م
Publisher Location
بنارس الهند
Genres
ـ[مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح]ـ
المؤلف: أبو الحسن عبيد الله بن محمد عبد السلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام الدين الرحماني المباركفوري (المتوفى: ١٤١٤هـ)
الناشر: إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء - الجامعة السلفية - بنارس الهند
الطبعة: الثالثة - ١٤٠٤ هـ، ١٩٨٤ م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
مشكاة المصابيح للعلامة الشيخ ولي الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب العمري التبريزي مع شرحه مرعاة المفاتيح للشيخ أبي الحسن عبيد الله بن العلامة محمد عبد السلام المباركفوري حفظه الله (الجزء الأول)
مشكاة المصابيح للعلامة الشيخ ولي الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب العمري التبريزي مع شرحه مرعاة المفاتيح للشيخ أبي الحسن عبيد الله بن العلامة محمد عبد السلام المباركفوري حفظه الله (الجزء الأول)
Unknown page
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن بعض الإخوان سألني أن أعلق له شرحًا لطيفًا على مشكاة المصابيح للشيخ ولي الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب العمري التبريزي، فأجبته إلى سؤاله رجاء المنفعة به. وأسأل الله تعالى أن ينفعنا به ومن كتبه أو سمعه أو قرأه أو نظر فيه، وأن يجعله خالصًا لوجهه، موجبًا للفوز لديه، وبالإخلاص إنما يتقبل العمل، «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» . فأقول مستعينًا بالله مهتديًا به متوكلًا عليه، وما توفيقي إلا بالله، وهو حسبي ونعم الوكيل: قال: (بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله) الخ، افتتح الكتاب بالبسملة ثم أتى بالحمدلة، موافقة لكتاب الله العظيم، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسمية والحمدلة، وتلوها، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأعصار، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول ذلك. وعملًا بحديث نبيه الكريم في بداءة كل أمر ذي بال ببسم الله الرحمن الرحيم، أخرجه الرهاوي في أربعينه من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وأخرج أبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوعوانة والدارقطني وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم»، وفي رواية: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع» حسنه ابن الصلاح وغيره، ولا منافاة بين روايتي التسمية والتحميد؛ لأن المقصود منهما فيما نرى - والله أعلم بمراد كلام نبيه - إنما هو الابتداء بذكر الله والثناء عليه، سواء يكون في ضمن البسملة أو الحمدلة، لا أن لفظ الحمد أو البسملة متعين، فالقدر الذي يجمع الأمرين هو ذكر الله، وقد حصل بالبسملة، وحينئذٍ فالحمدلة والبسملة والذكر سواء، ويدل على ذلك ما ورد في بعض طرق الحديث لفظ «ذكر الله» مصرحًا، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا «كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع»، قال التاج السبكي في أول الطبقات الشافعية في الجمع بين الروايتين ما لفظه: وأما الحمد والبسملة فجائزان، يعني بهما ما هو الأعم منهما، وهو ذكر الله والثناء عليه على الجملة، إما بصيغة الحمد أو غيرها، ويدل على ذلك رواية ذكر الله، وحينئذٍ فالحمد والبسملة والذكر سواء، وجائزان يعني خصوص الحمد وخصوص البسملة، وحينئذٍ فرواية الذكر أعم، فيقضى لها على الروايتين الأخيرتين؛ لأن المطلق إذا قيد بقيدين متنافيين لم يحمل على واحد منهما ويرجع إلى أصل الإطلاق، وإنما قلنا أن خصوص الحمدلة والبسملة متنافيان لأن البداءة إنما تكون بواحد، ولو وقع الابتداء بالحمد لما وقع بالبسملة وعكسه، ويدل على أن المراد الذكر، فتكون روايته هي
1 / 1
نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تكون للنجاة وسيلة
ــ
المعتبرة أن غالب الأعمال الشرعية غير مفتتحة بالحمد كالصلاة، فإنها مفتتحة بالتكبير والحج وغير ذلك، فإن قلت: لكن رواية بحمد الله أثبت من رواية بذكر الله، قلت: صحيح، ولكن لِمَ قلت: إن المقصود بحمد الله خصوص لفظ الحمد، ولِمَ لا يكون المراد ما هو أعم من لفظ الحمد والبسملة؟ ويدل على ذلك ما ذكرت لك من الأعمال الشرعية التي لم يشرع الشارع افتتاحها بالحمد بخصوصه - انتهى كلام السبكي.
قوله (الحمد لله) الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها، أتى بالجملة الاسمية واسم الذات للدلالة على الدوام والثبات. وقوله (الحمد لله) مطلق يتناول حمد الله تعالى نفسه، وأرفع حمد ما كان من أرفع حامد وأعرفهم بالمحمود وأقدرهم على إيفاء حقه، قال ﷺ: «لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك»، ويتناول حمد الحامدين له تعالى من ابتداء الخلق إلى انتهاء قولهم «وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين»، (نحمده) استئناف، فأولًا أثبت الحمد له بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام، سواء حمد أو لم يحمد، فهو إخبار متضمن للإنشاء، ثانيًا أخبر عن حمده وحمد غيره معه بالجملة الفعلية التي للتجديد والحدوث بحسب تجدد النعماء وتعدد الآلاء وحدوثها في الآناء، وإظهار لتخصيص حمده لكن باستعانته، ونفى الحول والقوة ودفع الرياء والسمعة من نفسه، ومن ثم أتبعه بقوله: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» وحاصل وجه التخصيص أنه تعالى لما كان مستحقًا للحمد بإسباغ أنوع النعم علينا فلا بد أن نحمده، وأورد صيغة الجمع ليشمل جميع الخلق الجسماني والروحاني في الدارين، وقال الطيبي: الضمير المستكن في نحمده ونستعينه ونستغفره للمتكلم ومن معه من أصحابه الحاضرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (ونستعينه) أي في أداء الحمد وغيره من الأمور الدنيوية والأخروية، وفيه إشارة إلى أن حمده تعالى أمر لا يتيسر من الخلائق أجمعين إلا بإعانته تعالى، فيكون تبريًا عن الحول والقوة. (ونستغفره) أي من سيئاتنا وتقصيراتنا ولو في أداء ذلك احمد، كما هو حقه من الصدق والإخلاص. (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) أي من ظهور السيئات الباطنية التي جبلت الأنفس عليها، ومنها التقصير في الصدق والإخلاص، أي الحمد مع الرياء والسمعة، وكذا مع إثبات الحول والقوة. (ومن سيئات أعمالنا) أي من مباشرة الأعمال السيئة الظاهرة التي تنشأ عنها، والمراد منها هو التصدي للتصنيف في علم الحديث مع قصور في تصحيح الطية وإخلاص الطوية، أو التقصير في الشكر على توفيقه تعالى لهذه النعمة العظيمة والمنحة الجليلة، أو التكلم بما لا يعنيه والغفلة عن ذكر الله تعالى، أو التهاون في الطاعات والعبادات وارتكاب المكروهات والمحرمات مطلقًا، والأول أظهر. فتعوذ ﵀ من ذلك لحصول الإخلاص. (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) لما أضيف الشرور والأعمال إلى الأنفس أوهم أن لها الاختيار والاستقلال بالأعمال، أتبعه بقوله (من يهده الله ...) الخ ليؤذن بأن كل ذلك منه تعالى، وليس للعبد إلا الكسب، وبعد الكسب الشقي والسعيد على حسب علمه الأزلي سبحانه
1 / 2
ولرفع الدرجات كفيلة. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي بعثه وطرق الإيمان قد عفت
ــ
وتعالى. والضمير البارز ثابت في يهده، وأما في يضلله فغير موجود في أكثر نسخ المشكاة، وهو عمل بالجائزين، والأول أصل وفيه وصل والثاني فرع وفيه فصل، قاله القاري. وهذا الكلام وإن كان خبرًا وبيانًا للواقع وإثباتًا لتفرد الله تعالى بالهداية والإضلال، لكنه في الحقيقة طلب وسؤال من الله للهداية والحفظ من الضلالة. والمعنى: لا هادي ولا مضل غيرك، فوفقني للهداية واحفظني من الضلالة، واعصمني من الغواية، فإنك على كل شيء قدير. (وأشهد أن لا إله إلا الله) الخ، أتبع الحمد بالشهادتين في الخطبة عملًا بما روي عن أبي هريرة مرفوعًا: «كل خطبة ليس فيها شهادة كاليد الجذماء» أخرجه أحمد وأبوداود في الأدب والترمذي في النكاح وحسنه. وأورد صيغة الجمع في الحمد والاستعانة والاستغفار والتعوذ نظرًا إلى كثرة الآلاء والتقصيرات والذنوب وكشف الصفات. وأفرد الضمير في مقام التوحيد لأنه إثبات القدم وإسقاط الحدوث ومحل مشاهدة وحدة الذات وسقوط ما سوى الله، فأشار أولًا إلى التفرقة، وثانيًا إلى الجمع، قال القاري: وقد يقال: إن الأفعال المتقدمة أمور ظاهرية يحكم بوجودها على الغير أيضًا بخلاف الشهادة فإنه أمر قلبي غيبي لا يعلم بحقيقته إلا هو - انتهى. يعني أن الشهادة خبر قاطع مطابق للواقع، فلم يكن للمصنف أن يحكم به بالجزم إلا على نفسه بخلاف الحمد وأخواته، والله أعلم. (شهادة) مفعول مطلق موصوف بقوله (تكون) الخ، والشهادة التي تكون سببًا للخلاص من العذاب وكفيلة لرفع الدرجات في الجنان إنما هي التي تكون بالصدق والإخلاص ومواطأة القلب وموافقة الظاهر والباطن مع الاستقامة عليها؛ لقوله ﷿: ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ...﴾ الآية [٤١: ٣٠]، وقال القاري: والمعنى: أن الشهادة إذا تكررت وأنتجت ارتكاب الأعمال الصالحة واجتناب الأفعال الطالحة صارت سببًا لعلو الدرجات، وكانت مانعة عن الوقوع في الدركات، وبما قررناه اندفع ما يرد على المصنف من أن دخول الجنة بالإيمان ورفع الدرجات بالأعمال، ولكون التوفيق على هذا السبب من فضله لا ينافي قوله ﵊: «لن ينجو أحد منكم بعمله» . (عبده) إضافة تشريف وتخصيص، إشارة إلى كمال مرتبته في العبودية، وقدمه لأنه أشرف أوصافه وأعلاها وأفضلها وأغلاها، ولذا ذكره الله تعالى بهذا الوصف في كثير من المواضع فقال: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده﴾ [١٧: ١]، ﴿تبارك الذي نزل الفرقان على عبده﴾ [٢٥: ١]، ﴿فأوحى إلى عبده ما أوحى﴾ [٥٣: ٩]، وفي الجمع بين الوصفين العبودية والرسالة تعريض للنصارى حيث غلوا في دينهم وأطروا في مدح نبيهم. (وطرق الإيمان) مبتدأ وقوله (قد عفت آثارها) خبر، أو الجملة حالية، والمعنى: أن الله أرسله في حال كمال احتياج الناس إليه ﷺ، فإنهم كانوا في غاية من الضلالة والجهالة، إذ لم يكن حي على وجه الأرض من يعرفها إلا أفراد من أتباع عيسى ﵇، استوطنوا زوايا الخمول ورؤوس الجبال وآثروا الوحدة والاعتزال (قد عفت آثارها) أي اندرس ما بقي من رسومها، من عفا الشيء عَفوا وعفا وعُفُو إذا نقص ودرس وامّحى، ومنه قولهم (عليه العفاء)، قال زهير:
... تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار ما ذهب العفاء
1 / 3
آثارها، وخبت أنوارها، ووهنت أركانها، وجهل مكانها، فشيد صلوات الله عليه وسلامه من معالمها ما عفا، وشفى من العليل في تأييد كلمة التوحيد من كان على شفا، وأوضح سبيل الهداية لمن أراد أن يسلكها، وأظهر كنوز السعادة لمن قصد أن يملكها.
ــ
(وخبت أنوارها) من خبا يخبو خبوًا وخُبوا، يقال: "خبت النار أو الحدة" إذا خمدت وسكنت وطفئت، والمعنى: خفيت أنوارها وانطفأت بحيث لا يمكن اقتباس العلم المشبه بالنور في كمال الظهور (ووهنت) أي ضعفت حتى انعدمت (أركانها) من أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالبعث والقيامة، وقيل: المراد الصلاة والزكاة وسائر العبادات (وجهل) بصيغة المجهول (مكانها) مبالغة في ظهور الجهل وغلبة الفسق وكثرة الظلم وقلة العدل، وقيل: المراد من طرق الإيمان الأنبياء والرسل والكتب المنَزلة عليهم وأتباعهم من العلماء والأولياء. ومن عفو آثارها وخبو أنوارها ووهن أركانها ترك العمل بما جاءوا به من الشرائع، وأمروا به من الأعمال والأخلاق والآداب، وأظهروا من العلوم والمعارف وترك التعلم والتخلق والتأدب بها. ومن جهل مكانها عدم معرفة مراتبهم ومنازلهم وتناسى حقوقهم، ويحتمل أن يكون المراد بطرق الإيمان العلوم والمعارف والأعمال الصالحة والآداب المرضية والمجاهدات النفسية والرياضات البدنية والصفات الجميلة والأخلاق الحميدة التي يبلغ المتصف بها مرتبة كمال الإيمان، وبعفاء الآثار وخبو الأنوار ووهن الأركان وجهل المكان عدم سلوك هذه الطرق وعدم المبالاة بها والاهتمام بتحصيلها وتكميلها، والله أعلم. (فشيد) أي رفع وأعلى وأظهر وقوي بما أعطيه من العلوم والمعارف التي لم يؤت أحد مثله فيما مضى (صلوات الله) أي أنواع رحمته (عليه وسلامه) وفي بعض النسخ: صلوات الله وسلامه عليه، وهي جملة معترضة دعائية. (من معالمها) جمع المعلم وهو العلامة (ما عفا) ما موصولة أو موضوعة مفعول شيد، ومن بيانية متقدمة، والمعنى: أظهر وبيّن ما اندرس وخفي من آثار طرق الإيمان وعلامات أسباب العرفان والإيقان، وإن لم يبصرها الذين ختم الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم وأصم آذانهم مع كمال وضوحها وغاية ظهورها. (وشفى) عطف على شيد (من العليل) بيان مقدم لـ"من" رعاية للسجع (في تأييد كلمة التوحيد) متعلق بشفى ومفعوله قوله (من كان على شفا) أي وخلص من علة الجهل والشرك في تقوية كلمة الإيمان من كان مشرفًا على الموت والهلاك، أو كان على حرف من الصراط السوي ومنحرفًا عن الطريق المستقيم، أو أنقذ من كان قريبًا من الوقوع في حفرة الجحيم، إشارة إلى قوله تعالى ﴿وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها﴾ [٣: ١٠٣]، والشفا حرف كل شيء وطرفه وحده (لمن أراد أن يسلكها) أنث الضمير لأن السبيل يذكر ويؤنث، أي بيّن وعيّن طريق الاهتداء إلى المطلوب لمن طلب وشاء من نفسه أن يدخل فيها (وأظهر كنوز السعادة) أي المعنوية وهي المعارف والعلوم والأعمال والأخلاق والشمائل والأحوال البهية المؤدية إلى الكنوز الأبدية والخزائن السرمدية من نعيم الجنة ورضوان الله ولقائه ورؤيته. (لمن قصد أن يملكها) وجه التخصيص أنهم هم المنتفعون بالإيضاح والإظهار، وإن كان بيان شرائع الإسلام وتعليم أمور الدين عامًا لجميع الناس
1 / 4
أما بعد: فإن التمسك بهديه لا يستتب إلا بالاقتفاء لما صدر من مشكاته، والاعتصام بحبل الله لا يتم إلا ببيان كشفه، وكان كتاب المصابيح
ــ
لمن أراد سلوكها وقصد تملكها، ولمن أعرض عنها، كقوله تعالى: ﴿هدى للمتقين﴾ . (أما بعد أتى به اقتداء به ﷺ وبأصحابه، فإنهم كانوا يأتون به في خطبهم للانتقال من أسلوب إلى أسلوب آخر، ويسمى فصل الخطاب، واختلف في أول من قالها، فقيل: داود ﵇، رواه الطبراني مرفوعًا من حديث أبي موسى الأشعري، وفي إسناده ضعف، وفيه أقوال أخرى ذكرها الحافظ في الفتح، و(أما) لتفصيل المجمل، وهو كلمة شرط محذوف فعله وجوبًا، و(بعد) من الظروف الزمانية متعلق بالشرط المحذوف، وهو مبني على الضم لقطعه عن الإضافة والمضاف إليه منوي، والتقدير: مهما يذكر شيء من الأشياء بعد ما ذكر من البسملة والحمدلة والصلاة والثناء (فإن التمسك بهديه) بفتح الهاء وسكون الدال أي طريقه وسيرته، يقال ما أحسن هديه أي طريقه وهدى هديه أي سيرته (لا يستتب) بتشديد الباء أي لا يستقيم ولا يستمر، أو لا يتأتى ولا يتهيأ (إلا بالاقتفاء) أي بالاتباع (لما صدر) أي ظهر (من مشكاته) أي صدره، والمشكاة هي الكوة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح أي السراج، استعيرت لصدره ﷺ، شبه صدره الذي يفيض النور المقتبس من القلب على الخلق بالمشكاة التي فيها المصباح، وشبه قلبه المنور بنور الله تعالى بالمصباح المضيء (والاعتصام) بالنصب، ويجوز الرفع، أي التمسك والتشبث (بحبل الله) أي القرآن لما ورد في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعًا في صفة القرآن «هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم» أخرجه الترمذي، وروى الحافظ أبوجعفر الطبري بسنده عن أبي سعيد مرفوعًا «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض»، وروي من حديث عبد الله بن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة نحو ذلك. استعار الحبل للقرآن من حيث أن العمل بالقرآن سبب لحصول العلوم والمعارف التي هي وسيلة إلى الحياة الأبدية، كما أن الحبل وسيلة إلى الوصول إلى الماء الذي هو سبب للحياة الدنيوية، أو من حيث أن التمسك بالقرآن سبب للنجاة عن التردي والخلاص من الوقوع في دركات جهنم، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة عن التردي في البئر عند الاحتياج إلى الماء (إلا ببيان كشفه) أي السنة النبوية، والإضافة بيانية، قال الله تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ [١٦: ٤٤]، ولا شك أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة معاني القرآن ولا يتيسر فهم مقاصده إلا بتبيينه ﷺ وإيضاحه، فكان هو مبينًا لمجملات القرآن ومفسرًا لمشكلاته، وليس بيانه وتفسيره إلا في أحاديثه، فكل حديث ورد في الصلاة فهو بيان وتفسير لقوله تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة﴾ فإن الصلاة مجملة لم يبين أوقاتها وأعدادها وأركانها وشرائطها وواجباتها وسننها ومفسداتها إلى السنة، وكذا الزكاة والصوم والحج (وكان كتاب المصابيح) قيل: إن البغوي لم يسم هذا الكتاب بالمصابيح نصًا منه، وإنما صار هذا الاسم علمًا له بالغلبة من حيث أنه ذكر بعد قوله (أما بعد) فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين وخاتم النبيين هن مصابيح الدجى ... الخ، وهو من أجمع الكتب في باب الحديث فإنه جمع فيه أحاديث الأحكام على ترتيب الأبواب
1 / 5
ــ
الفقهية بحيث يستحسنه الفقيه، ووضع الترغيب والترهيب على ما يقتضيه العلم ويرتضيه، ولو فكر أحد في تغيير باب عن موضعه لم يجد له موضعًا أنسب مما اقتضى رأيه، ولذلك عكف عليه المتعبدون، واعتنى بشأنه العلماء بالقراءة والتعليق، فله شروح كثيرة، ذكرها جلبي في كشف الظنون، لكنه لطلب الاختصار ترك ذكر الأسانيد اعتمادًا على نقل الأئمة، ولم يذكر كثيرًا من الصحابة رواة الآثار، ولا تعرض لتخريج تلك الأخبار، بل قسم أحاديث كل باب إلى صحاح وحسان، واصطلح على أن جعل الصحاح ما هو في الصحيحين أو أحدهما، والحسان ما ليس في واحد منهما، والتزم أن ما كان فيها من ضعيف أو غريب أشار إليه ونبّه عليه، وإن ما كان موضوعًا أو منكرًا لم يذكره ولا يشير إليه، هذا هو المشروط في الخطبة، لكن ذكر في أواخر باب مناقب قريش حديثًا وقال في آخره: منكر، وقيل: قد ألحقه بعض المحدثين، قال النووي في التقريب تبعًا لابن الصلاح: أما تقسيم البغوي أحاديث المصابيح إلى حسان وصحاح مريدًا بالصحاح ما في الصحيحين وبالحسان ما في السنن فليس بصواب؛ لأن في السنن الصحيح والحسن والضعيف والمنكر - انتهى. قال السيوطي في التدريب (ص٥٤): ومن أطلق عليها الصحيح كقول السلفي في الكتب الخمسة اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب، وكإطلاق الحاكم على الترمذي الجامع الصحيح، فقد تساهل. قال العراقي: وأجيب عن البغوي بأنه يبين عقب كل حديث الصحيح والحسن والغريب، قال: وليس كذلك، فإنه لا يبين الصحيح من الحسن فيما أورده من السنن، بل يسكت ويبين الغريب والضعيف غالبًا، فالإيراد باقٍ في مزجه صحيح ما في السنن بما فيه من الحسن، وقال شيخ الإسلام: أراد ابن الصلاح أن يعرف أن البغوي اصطلح لنفسه أن يسمي السنن الأربعة الحسان، ليغتني بذلك عن أن يقول عقب كل حديث أخرجه أصحاب السنن، فإن هذا اصطلاح حادث ليس جاريًا على المصطلح العرفي - انتهى. قلت: وقد وقع له بعد ذلك الاصطلاح أن ذكر أحاديث من الصحاح ليست في أحد من الصحيحين وأحاديث من الحسان هي في أحد الصحيحين، وأدخل في الحسان أحاديث ولم ينبه عليها، وهي ضعيفة واهية في غاية الضعف كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. ثم إن الشيخ ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب كمل المصابيح وذيل أبوابه، فذكر الصحابي الذي روى الحديث عنه، وذكر الكتاب الذي أخرجه منه، وزاد على كل باب من صحاحه وحسانه إلا نادرًا فصلًا ثالثًا، وسماه "مشكاة المصابيح"، فصار كتابًا حافلًا كما ترى، وله تصرفات أخرى أيضًا في المصابيح، كما سيجيء ذكره في كلامه، نعم، لم يتعرض هو كالبغوي للكلام على الأحاديث التي أوردها من السنن والمسانيد التي لم يلتزم مصنفوها الصحة في الغالب طلبًا للاختصار، ولا يخفى أنه يسوغ العمل بأحاديثها التي لم يقع التصريح بتحسينها أو تصحيحها منهم أو من غيرهم ممن يعتمد عليه إلا بعد البحث عنها، فما كان منها صحيحًا أو حسنًا أو ضعيفًا يحتمل ضعفه يقبل، وما لم يكن كذلك يرد. قال في كشف الظنون: قيل عدد أحاديث المصابيح أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة عشر حديثًا، منها المختص بالبخاري ثلاثمائة وخمسة وعشرون حديثًا، وبمسلم ثمانمائة وخمسة وسبعون حديثًا، ومنها المتفق عليها ألف وإحدى وخمسون حديثًا، والباقي من كتب أخرى، وقال ابن الملك: إن عدد الأحاديث المذكورة فيه أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وثمانون حديثًا، منها ما هو من الصحاح ألفان وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثًا.
1 / 6
الذي صنفه الإمام محي السنة قامع البدعة أبومحمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي - رفع الله
ــ
ومنها ما هو من الحسان، وهو ألفان وخمسون حديثًا. (محي السنة) روي أنه لما جمع كتابه المسمى بشرح السنة رأى النبي ﷺ في المنام فقال له "أحياك الله كما أحييت سنتي"، فصار هذا اللقب علمًا له بطريق الغلبة (قامع البدعة) أي قاطعها ودافع أهلها أو مبطلها ومميتها (أبومحمد الحسين بن مسعود) هو الإمام الحافظ المجتهد المحدث المفسر أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد الشافعي صاحب معالم التنْزيل في التفسير، وشرح السنة، والمصابيح، والجمع بين الصحيحين في الحديث والتهذيب في الفقه، وغير ذلك من التصانيف الحسان، كان بحرًا في العلوم، إمامًا في الفقه والحديث والتفسير، أخذ الفقه عن القاضي حسين بن محمد صاحب التعليقة في الفقه، وحدث عنه، وعن أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، ويعقوب بن أحمد الصيرفي وغيرهم، وروى عنه أهل مرو وغيرهم، وبورك له في تصانيفه لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، كان ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير، وكان يأكل كسرة وحدها فعذلوه، فصار يأكلها بزيت، قال القاري: كان مفسرًا محدثًا فقيهًا. قال بعض مشايخنا: ليس له قول ساقط، وكان عابدًا زاهدًا جامعًا بين العلم والعمل على طريقة السلف الصالحين. توفي بمروالروذ في شوال سنة ٥١٦هـ ست عشرة وخمسمائة، ودفن عند شيخه القاضي حسين بمقبرة الطالقاني، ولعله بلغ ثمانين سنة، وارجع إلى تذكرة الحفاظ (ج٤: ص٥٤-٥٥)، ووفيات الأعيان (ج١: ص١٤٥-١٤٦)، وإتحاف النبلاء (٢٤٤)، وأشعة اللمعات (ج١: ص٢٨-٢٩) .
(الفراء) بالرفع على أنه صفة لأبي محمد الحسين كما يظهر من كلام ابن خلكان حيث قال: أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه، وقيل بالجر نعت لأبيه نسبة إلى عمل الفراء وصنعها وبيعها، قال الذهبي في ترجمة البغوي: هو أبومحمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء الشافعي، قال: وكان أبوه يعمل الفراء ويبيعها، قال في الإتحاف: يقال له الفراء وابن الفراء أيضًا، قال القاري: وهو غير الفراء النحوي المشهور (البغوي) بالرفع صفة للحسين؛ لأن المقصود ببيان النسبة البلدية وكذا الولادية والصناعية عند المحدثين هو العلم الأول إلا نادرًا، والبغوي بفتح الباء الموحدة والغين المعجمة وبعدها واو، هذه النسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهرات يقال له بغ وبغشور بفتح الباء الموحدة وسكون الغين المعجمة وضم الشين وبعدها واو ساكنة ثم راء معرب "باغ كور"، وهذه النسبة شاذة على خلاف القياس، قاله السمعاني في كتاب الأنساب، وقيل العلم المركب تركيبًا مزجيًا يحذف عجزه وينسب إلى صدره أو ينسب إليه برمته من دون حذف، فتقول: بَعلِيٌّ ومعدَوِيٌّ وبعلبكي ومعدي كربي في النسبة إلى بعلبك ومعدي كرب، والبغوي من هذا القبيل، وإنما جاءت الواو في النسبة إجراء للفظه بغ مجرى محذوف العجز كالدموي، فإنه يرد المحذوف إلى الاسم المحذوف منه إذا بقي على حرفين من أصوله فتقول في أب وأخ: أبوي وأخوي، ويجوز في مثل يد ودم أن يرد المحذوف، وهو الأفصح، وحينئذٍ إذا كان ياء قلبت واوًا فيقال: يدوي ودموي، ويجوز النسبة
1 / 7
درجته - أجمع كتاب صنف في بابه، وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها، ولما سلك ﵁ طريق الاختصار وحذف الأسانيد تكلم فيه بعض النقاد وإن كان نقله - وإنه من الثقات -
ــ
على اللفظ فيقال: يدي ودمي، ولئلا يلتبس بالبغي بمعنى الزاني (أجمع كتاب) خبر كان (صنف في بابه) أي في باب الحديث فإنه جمع فيه الأحاديث المهمة على ترتيب الأبواب الفقهية، والمراد أنه من أجمع الكتب في باب الحديث، أو قاله مبالغة في مدحه، ويجوز مثل هذه المبالغة في مدح كتاب ترغيبًا للطالبين وتشويقًا لهم إليه (وأضبط) عطف على أجمع؛ لأنه لما جرد عن الأسانيد وعن اختلاف الألفاظ وتكرارها في المسانيد صار أقرب إلى الحفظ والضبط، وأبعد من الغلط والخبط (لشوارد الأحاديث) جمع شاردة وهي النافرة والذاهبة عن الدرك، من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأحاديث قيل جمع أحدوثة في الأصل كأساطيرة جمع أسطورة ثم جعل جمع حديث (وأوابدها) عطف تفسير، أي وحشياتها، جمع آبدة وهي الوحش والشيء الغريب، وأوابد الكلام غرائبه، شبهت الأحاديث بالوحوش لسرعة تنفرها وتبعدها عن الضبط والحفظ، ولذا قيل: "العلم صيد والكتابة قيد" قاله القاري، وقال السيد جمال الدين: المراد بالشوارد الأحاديث المخرجة في الأصول قد خفيت على الطالبين مواضع إيرادها، فكأنها نفرت منهم، وبالأوابد الأحاديث التي دلالتها على معانيها كانت خفية، فكأنها توحشت من الطلاب بالنظر إلى معانيها المقصودة، فبإيراد محي السنة إياها في الأبواب المناسبة ولمواضع اللائقة من كتاب المصابيح ظهرت معانيها واتضحت، فارتفع الشرود وانتفى التوحش منها، وصارت مأنوسة، ذكره في اللمعات (طريق الاختصار) أي بالاكتفاء على متون الأحاديث (وحذف الأسانيد) عطف تفسير على ذلك، والمراد بحذف الإسناد إما حذف الصحابي وترك المخرج في كل حديث، وهو مجاز من باب إطلاق الكل على البعض أي طرفي الإسناد، وهو مراد المصنف ظاهرًا من قوله "لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال" فالشيء الذي ذكره المصنف في المشكاة زيادة على المصابيح هو ذكر الصحابي وبيان المخرج، وهو الذي أهمله صاحب المصابيح، وأما معناه الحقيقي على مصطلح أهل الحديث، وهو حكاية طريق المتن بحيث يعلم جميع رواته، لكن المصنف اكتفى بذكر المخرج كما يقول: وإني إذا نسبت الحديث إليهم ... الخ، وعلى هذا يكون ذكر المخرج أي الصحابي للتبرك والتأكيد فقط (تكلم) جواب لما، أي طعن في بعض أحاديث كتابه حتى أن بعض الطاعنين أفردوا أحاديث من المصابيح ونسبوها إلى الوضع، ثم إنه لما نسبت إلى الأئمة المخرجين لها علم أن بعضها صحيح وبعضها حسن، كحديث أبي هريرة «المرء على دين خليله» فإنه أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح، وقال: إنه موضوع، وكذا أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال النووي: إسناده صحيح (بعض النقاد) بضم النون وتشديد القاف، وقال السيد جمال الدين: أي تكلم في حقه واعترض عليه بعض المبصرين بأن صحة الحديث وسقمه متوقفة على معرفة الإسناد، فإذا لم يذكر لم يعرف الصحيح من الضعيف فيكون نقصًا (وإن كان نقله) أي نقل البغوي بلا إسناد، والواو وصلية (وإنه من الثقات) أي المعتمدين في نقل الأحاديث وبيان صحتها وحسنها وضعفها، روي بكسر الهمزة في "إنه" على أنه حال
1 / 8
كالإسناد، لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال، فاستخرت الله واستوفقت منه، فأعلمت ما أغفله فأودعت كل حديث منه في مقره كما رواه الأئمة المتقنون والثقات الراسخون، مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل
ــ
من المضاف إليه في نقله، وروي بفتحها للعطف على اسم كان، يعني نقله بتأويل المصدر أي وإن كان نقله وكونه من الثقات كالإسناد (كالإسناد) أي كذكره (لكن ليس ما فيه أعلام) أعلام الشيء بفتح الهمزة آثاره التي يستدل بها، وهو جمع علم بفتحتين (كالأغفال) بالفتح وهي الأراضي المجهولة التي لا عمارة فيها ولا أثر تعرف به، جمع غفل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء، وفي بعض النسخ بكسرة الهمزة فيهما، فهما مصدران لفظًا وضدان معنى، وأراد بالأول كتابه المشكاة، وبالثاني المصابيح، وكان حقه أن يقول: لكن ليس ما فيه أغفال كالأعلام، ولعله قلب الكلام تواضعًا مع البغوي وهضمًا لنفسه، والحاصل أنه ادعى أن في صنيع البغوي قصورًا في الجملة، وهو عدم ذكر الصحابة أولًا وعدم ذكر المخرج في كل حديث آخرًا، فإن ذكرهما مشتمل على فوائد، قال القاري: أما ذكر الصحابي ففائدته أن الحديث تتعدد رواته وطرقه، وبعضها صحيح وبعضها ضعيف، فيذكر الصحابي ليعلم ضعف المروي من صحيحه، ومنها رجحان الخبر بحال الراوي من زيادة فقهه وورعه، ومعرفة ناسخه من منسوخه بتقدم إسلام الراوي وتأخره، وأما ذكر المخرج ففائدته تعيين لفظ الحديث، وتبيين رجال إسناده في الجملة، ومعرفة كثرة المخرجين وقلتهم في ذلك الحديث لإفادة الترجيح وزيادة التصحيح، ومنها الرجوع إلى الأصول عند الاختلاف في الفصول وغيرها من المنافع. (فاستخرت الله) لقوله تعالى: ﴿وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة﴾، ولما روى الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أنس مرفوعًا: «ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد»، (واستوفقت منه) بتقديم الفاء على القاف، أي طلبت من الله التوفيق (فأعلمت ما أغفله) أي فبينت ما أهمله البغوي عمدًا فإنه ترك ذكر الصحابة في كثير من الأحاديث، فالتزمت ذكر الصحابي في كل حديث، وأيضًا لم يتعرض هو لذكر المخرج بحيث يعلم مخرج كل حديث بخصوصه وإن علم مجملًا من اصطلاحه في الصحاح والحسان أنه ذكر في القسم الأول أي الصحاح أحاديث الصحيحين أو أحدهما، وفي القسم الثاني أي الحسان أحاديث غيرهما، فذكرت المخرج في كل حديث بخصوصه، قال القاري: أي فبينت ما تركه بلا إسناد عمدًا من ذكر الصحابي أولًا وبيان المخرج آخرًا بخصوص كل حديث التزامًا (فأودعت كل حديث منه) أي من المصابيح (في مقره) أي وضعت كل حديث من الكتاب في محله الموضوع في أصله من كل كتاب وباب من غير تقديم وتأخير وزيادة ونقصان وتغيير (كما رواه الأئمة) أي أئمة الحديث الذين يقتدى بهم (المتقنون) أي الضابطون الحافظون الحاذقون لمروياتهم من أتقن الأمر إذا أحكمه، ومنه قوله تعالى: ﴿صنع الله الذي أتقن كل شيء﴾ (الثقات) بكسر المثلثة جمع ثقة، وهم العدول والأثبات (الراسخون) أي الثابتون بمحافظة هذا العلم، المتمكنون فيه، من رسخ أي ثبت في موضعه، يقال رسخ الخبر في الصحيفة، والعلم في القلب، وفلان راسخ في العلم أي متمكن فيه (مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل) هو أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين، إمام الأئمة المجتهدين، سلطان المحدثين، أبوعبد الله محمد بن
1 / 9
البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج
ــ
إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف بردزبه الجعفي مولاهم ولاء إسلام البخاري، صاحب الجامع الصحيح والتصانيف، جبل الحفظ وإمام الدنيا في ثقة الحديث، ومعجزة للرسول البشير النذير حيث وجد في أمته مثل هذا الفرد العديم النظير، فلم ير مثله من جهة الحديث وإتقانه، وفهم معاني كتاب الله وسنة رسوله، ومن حيثية حدة ذهنه، وذقة نظره، ووفور فقهه، وكمال زهده، وغاية ورعه، وقوة اجتهاده واستنباطه، وكثرة اطلاعه على طرق الحديث وعلله، ولد يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة ١٩٤هـ، وتوفي وقت العشاء ليلة السبت ليلة الفطر سنة ٢٥٦هـ، ودفن يوم العيد بعد صلاة الظهر بخرتنك على فرسخين من سمرقند، وعمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يومًا، ولم يخلف ولدًا، كانت أمه مستجابة الدعوات، توفي أبوه وهو صغير فنشأ في حجر والدته، ثم عمي، وقد عجز الأطباء عن معالجته، فرأت في المنام إبراهيم الخليل ﵇ قائلًا لها قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له، فأصبح وقد رد الله عليه بصره، فنشأ متربيًا في حجر العلم، مرتضعًا من ثدي الفضل، ثم ألهم طلب الحديث وله عشر سنين، ورد على بعض مشايخه غلطًا وهو في إحدى عشرة سنة، فأصلح كتابه من حفظ البخاري، سمع الحديث ببلده بخارى، ثم رحل في طلب هذا الشأن إلى جميع محدثي الأمصار، وسمع الكثير، وأخذ عنه الحديث خلق كثير في كل بلدة حدث بها، روى عنه الترمذي في جامعه كثيرًا ومسلم في غير صحيحه، قال الفربري: سمع كتاب البخاري منه تسعون ألف رجل، قال البخاري: خرجت كتابي الصحيح من زهاء ستمائة ألف حديث، وما وضعت فيه إلا صحيحًا، وارجع لترجمته إلى كتاب "سيرة البخاري" جزء كبير وتأليف مفرد مبسوط في ترجمة الإمام البخاري وذكر تصانيفه وبيان محاسن جامعه الصحيح وفضائله باللغة الأردية لوالدنا العلامة محمد عبد السلام المباركفوري ﵀، وقد ذكر شيئًا من ترجمته الشيخ الدهلوي في أشعة اللعمات (ص٩-١٣)، والعلامة القنوجي في إتحاف النبلاء (٣٤٩-٣٥٥)، وعلي القاري في المرقاة (١٣-١٦)، والحافظ في أواخر مقدمة الفتح (٥٦٣-٥٨٣)، وفي تهذيب التهذيب (ج٩: ص٤٧-٥٥)، والقسطلاني في مقدمة إرشاد الساري (ج١: ص٣١-٤٦)، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات (ج١: ص٦٧-٧٦)، والسبكي في طبقات الشافعية (ج٢: ص٢-١٩)، والسمعاني في الأنساب (ورقة ٦٨، ١٣١)، والخطيب في تاريخ بغداد (ج٢: ص٤-٣٤)، وابن خلكان في تاريخه، والذهبي في تذكرته، والمصنف في الإكمال وغيرهم، وأفرد بعضهم ترجمته في تأليفات مبسوطة كالذهبي وابن الملقن والأمير اليماني والعجلوني وغيرهم. (البخاري) نسبة إلى "بخارى" بلدة عظيمة من بلاد وراء النهر؛ لتولده فيها وصار بمنْزلة العلم له ولكتابه. (وأبي الحسين مسلم بن الحجاج) هو الإمام الحافظ الحجة أبوالحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أحد الأئمة الحفاظ وأعلام المحدثين صاحب التصانيف، طلب علم الحديث صغيرًا، ورحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر، سمع من مشايخ البخاري وغيرهم كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والقعنبي وغيرهم. وروى عنه أئمة من كبار عصره وحفاظ دهره، كأبي حاتم الرازي وابن خزيمة وغيرهما، وروى عنه الترمذي
1 / 10
القشيري، وأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي
ــ
حديثًا واحدًا «أحصوا هلال شعبان لرمضان» ما له في جامع الترمذي غيره، ألف المؤلفات النافعة، وأنفعها صحيحه الذي فاق بحسن ترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته، قال مسلم: صنفت المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، قال الحافظ: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ، كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه، وحفظت منهم أكثر من عشرين إمامًا ممن صنف المستخرج على مسلم، وقال الخطيب: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه، ولما ورد البخاري النيسابور في آخر مرة لازمه مسلم وداوم الاختلاف إليه، وقال الدارقطني: لولا البخاري لما ذهب مسلم وجاء، ولد سنة ٢٠٤هـ، وقيل سنة ٢٠٦هـ، وتوفي عشية يوم الأحد لأربع أو لخمس أو لست بقين من رجب سنة ٢٦١هـ، وعمره خمس وخمسون سنة، ودفن بنصر آباد ظاهر نيسابور يوم الاثنين، ملتقط من التذكرة للذهبي (ج٢: ١٦٥-١٦٧)، ووفيات الأعيان (ج٢: ص٩١)، وتهذيب التهذيب (ج١٠: ١٢٦-١٢٨)، والمرقاة (ج١: ١٦-١٧)، وإتحاف النبلاء (٤٣٠-٤٣١)، وأشعة اللمعات (ج١: ١٣-١٤)، والإكمال للمصنف، وبستان المحدثين (١١٦-١١٧) . (القشيري) بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون المثناة من تحتها وبعدها راء، نسبة إلى قشير بن كعب، قبيلة كبيرة من العرب، (وأبي عبد الله مالك بن أنس) هو الإمام الحافظ فقيه الأمة، أحد أعلام الإسلام، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، كبير المتثبتين، صاحب المذهب، أبوعبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان ويقال: عثمان بن جثيل، وقيل: خثيل بن عمرو بن ذي أصبح الحارث المدني (الأصبحي) بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها حاء مهملة، نسبة إلى ذي أصبح جده التاسع، واسمه الحارث بن عوف، وهي قبيلة كبيرة من أكرم قبائل اليمن جاهلية وإسلامًا، من يعرب بن يشجب بن قحطان، كان جده الأعلى الحارث بن عوف بن الأصبح، وهو بطن من الحمير، ولذا لقب بذي أصبح، واختلف في ولادته، فقيل: ولد سنة ٩٠هـ، وقيل: سنة ٩٤هـ، وقيل: سنة ٩٥هـ، قال الذهبي في التذكرة: أما يحيى بن بكير فقال: سمعته يقول: ولدت سنة ٩٣هـ ثلاث وتسعين، فهذا أصح الأقوال، انتهى. واختاره السمعاني في الأنساب، وقال: هذا متصل بالسند إلى يحيى بن بكير تلميذ الإمام، واختاره ابن فرحون، وقال: هو الأشهر، وحمل في بطن أمه ثلاث سنين، واختلف في تاريخ وفاته أيضًا، قال ابن فرحون: والصحيح أنها كانت يوم الأحد لتمام اثنين وعشرين يومًا من مرضه في ربيع الأول سنة ١٧٩هـ، فقيل: لعشر مضت، وقيل: لأربع عشرة، ولثلاث عشرة، ولإحدى عشرة، وقيل: لاثنتي عشرة من رجب، ودفن بالبقيع، قال المصنف في الإكمال: هو - أي مالك - إمام الحجاز، بل الناس في الفقه والحديث، وكفاه فخرًا أن الشافعي من أصحابه، أخذ العلم عن الزهري ويحيى بن سعيد ونافع مولى ابن عمر وهشام بن عروة وربيعة بن عبد الرحمن وخلق كثير، قال الزرقاني: أخذ عن تسعمائة شيخ فأكثر، قال: والرواة عنه فيهم كثرة جدًا، بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة
1 / 11
وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي
ــ
كرواته، وقال الذهبي: حدث عنه أمم لا يكادون يحصون، وروى سعيد بن أبي مريم عن أشهب بن عبد العزيز قال: رأيت أباحنيفة بين يدي مالك كالصبي بين يدي أبيه. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟ يعني أباحنيفة ومالكًا ﵄، قال: قلت على الإنصاف؟ قال: نعم، قال: قلت: ناشدتك الله، من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: قلت: ناشدتك الله، من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال: ناشدتك الله، من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله ﷺ المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلى على هذه الأشياء، فعلى أي شيء نقيس؟ ذكره ابن خلكان، ساد مذهبه في الأندلس قضاء وفتيا ولا يزال هو السائد إلى اليوم في المغرب، وقد أطنب الناس من السلف والخلف في ذكر ترجمته في كتبهم، وصنف جمع منهم تأليفات مفردة بذكر أحواله، منهم الذهبي، وأبوبكر بن أحمد بن مروان المالكي المتوفى سنة ٣١٠هـ، وأبوالروح عيسى بن مسعود الشافعي المتوفى سنة ٧٧٤هـ، وأبوعبد الله محمد بن أحمد التستري المالكي المتوفى سنة ٣٤٥هـ، ومحمد أبوإسحاق بن القاسم بن شعبان المتوفى سنة ٣٥٥هـ، ومحمد أبوبكر بن اللباد بن محمد المتوفى سنة ٣٣٣هـ، والحافظ ابن حجر، والسيوطي وغيرهم، وقد ذكر شطرًا صالحًا من ترجمته، وكشف حال كتابه الموطأ الشاه عبد العزيز في "بستان المحدثين"، والشيخ عبد الحي اللكنوي في مقدمة التعليق الممجد، والعلامة القنوجي في إتحاف النبلاء (ص٣٣٨-٣٣٩)، والحافظ في تهذيب التهذيب (ج١٠: ص٣-٩)، والمصنف في الإكمال، والقاري في المرقاة (ج١: ١٧-١٨)، وصاحب الأوجز في مقدمة شرحه للموطأ (ص١١-٣٥)، فعليك أن تراجع هذه الكتب، قال الذهبي في التذكرة (ج١: ص١٩١): قد كنت أفردت ترجمة مالك في جزء وطولتها في تاريخي الكبير، قد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره، أحدها: طول العمر، وعلو الرواية. وثانيها: الذهن الثاقب، والفهم، وسعة العلم، وثالثها: اتفاق الأئمة على أنه حجة، صحيح الرواية، ورابعتها: تجمعهم على دينه، وعدالته، واتباعه السنن، وخامستها: تقدمه في الفقه والفتوى، وصحة قواعده، عاش ستًا وثمانين سنة - انتهى. وقدم المصنف عليه البخاري ومسلمًا مع كونه أولى وأحرى بالتقديم للشرط الذي لكتابيهما. وقال القاري: أخر عن البخاري ومسلم ذكرًا وإن كان مقدمًا عليهما وجودًا ورتبة وإسنادًا لتقدم كتابيهما على كتابه ترجيحًا لعدم التزامه تصحيحًا - انتهى. (وأبي عبد الله محمد بن إدريس) هو الإمام العلم حبر الأمة صاحب المذهب ناصر الحديث المجدد لأمر الدين على رأس المائتين محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي المكي، نزيل مصر أبوعبد الله (الشافعي) بكسر الفاء بعدها عين مهملة، نسبة إلى شافع، قيل: لقي شافع النبي ﷺ وهو مترعرع، وهذا وجه تخصيص النسبة إليه، ثم نسبه أهل مذهبه أيضًا شافعي لأن الاسم إذا كان مختومًا بياء مشددة، فإن كان قبلها أكثر من حرفين وجب حذفها، فتقول في النسبة إلى إسكندرية إسكندري، والشافعي من هذا القبيل، فقول العامة
1 / 12
وأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني،
ــ
"شافعوي" خطأ، ولد بغزة سنة ١٥٠هـ، على الأصح، وهي سنة وفاة أبي حنيفة، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي عند العشاء الآخر ليلة الجمعة آخر يوم من رجب سنة ٢٠٤، ودفن بعد العصر يوم الجمعة بقرافة مصر، عاش أربعًا وخمسين سنة، قال المصنف بعد ذكر شيء من مناقبه: وفضائله أكثر من أن تحصى، كان إمام الدنيا وعالم الناس شرقًا وغربًا، جمع الله له من العلوم والمفاخر ما لم يجمع لإمام قبله ولا بعده، وانتشر له من الذكر ما لم ينتشر لأحد سواه، سمع مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد، وخلقًا سواهم كثيرًا، حدث عنه أحمد بن حنبل، وأبوثور، وأبوإبراهيم المزني، والربيع بن سليم المرادي، وخلق كثير غيرهم، قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها أشهرًا، ثم خرج إلى مصر ومات بها، قال القاري: وصنف في العراق كتابه القديم المسمى بالحجة، ثم رحل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة، وصنف كتبه الجديدة بها، ورجع عن تلك ومجموعها يبلغ مائة وثلاثة عشر مصنفًا، وسار ذكرها في البلدان، وقصده الناس من الأقطار للأخذ عنه، وكذا أصحابه من بعده لسماع كتبه حتى اجتمع في يوم على باب الربيع تسعمائة راحلة، وابتكر أصول الفقه، وكتاب القسامة، وكتاب الجزية، وقتال أهل البغي، وكان حجة في اللغة والنحو. وقال ابن خلكان: كان الشافعي كثير المناقب، جم المفاخر، منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول ﷺ وكلام الصحابة وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة العربية والشعر، حتى أن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين ما لم يجتمع في غيره، حتى قال أحمد بن حنبل: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي. وقال أبوعبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلًا قط أكمل من الشافعي، قال ابن خلكان: والشافعي أول من تكلم في أصول الفقه، وهو الذي استنبطه، وقد اتفق العلماء قاطبة من أهل الحديث والفقه والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على ثقته وأمانته وعدالته وزهده وورعه ونزاهة عرضه وعفة نفسه وحسن سيرته وعلو قدره وسخائه. وأخبرني أحد المشايخ أنه عمل في مناقب الشافعي ثلاثة عشر تصنيفًا - انتهى. قلت: بل زيادة على ذلك فقد ذكر في كشف الظنون أحدًا وعشرين تصنيفًا مع العزو إلى من صنف هذه التصانيف. وقال ابن الملقن في العقد المذهب: بلغ التصانيف في مناقب الشافعي إلى نحو أربعين مؤلفًا بل زيادة على ذلك، وقال الحافظ في توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس: قد سبق إلى التأليف في ذلك من يتعسر استيعابهم بالذكر، أو يطمع في اللحاق بهم المتأخر ولو وسع المجال أو ضيق الفكر، ثم ذكر أسماء بعض من صنف في ذلك، وعليك أن تراجع توالي التأسيس، فقد ذكر فيه الحافظ شطرًا صالحًا من مناقبه. (وأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل) بن هلال بن أسد الإمام الحافظ الحجة صاحب المذهب (الشيباني) نسبة إلى شيبان بن ذهل بن ثعلبة أحد أجداده، وهو مروزي الأصل، خرجت أمه من مرو وهي حامل فولدته ببغداد في ربيع الأول سنة ١٦٤هـ، وتوفي ضحوة نهار الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ٢٤١هـ ببغداد، كان ﵀ إمامًا في الفقه والحديث والزهد والورع والعبادة، وبه عرف الصحيح والسقيم والمجروح من المعدل، ونشأ ببغداد وطلب
1 / 13
وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي،
ــ
العلم وسمع الحديث من شيوخها، ثم رحل إلى مكة والكوفة والبصرة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، فسمع من يحيى بن سعيد القطان، وابن عيينة، والشافعي، وعبد الرزاق بن الهمام، وخلق كثير، وروى عنه ابناه صالح وعبد الله، وابن عمه حنبل بن إسحاق، والبخاري، ومسلم، وأبوداود، وأبوزرعة، وأبوالقاسم البغوي، وخلق كثير سواهم، قال أبوزرعة: كانت كتبه اثني عشر جملًا، وكان يحفظها على ظهر قلبه، وكان يحفظ ألف ألف حديث، قال الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدًا أتقى وأورع ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل، ودعي إلى القول بخلق القرآن فلم يجب، فضرب وحبس وهو مصر على الامتناع، وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، وكان حبسه أيام المعتصم ثمانية وعشرين شهرًا، ثم عرف المتوكل قدره وأكرمه وقدره، وألف المسند الكبير، أعظم المسانيد وأحسنها وضعًا وانتقادًا، انتقاه من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث، ومناقبه كثيرة، وفضائله جمة، وله كرامات جليلة، وقد طول المؤرخون ترجمته، وترجمه الذهبي في النبلاء في مقدار خمسين ورقة، وأفردت ترجمته بمصنفات مستقلة بسيطة، قال الذهبي في التذكرة: سيرة أبي عبد الله - يعني الإمام أحمد - قد أفردها البيهقي في مجلد، وأفردها ابن الجوزي في مجلد، وأفردها شيخ الإسلام الأنصاري في مجلد لطيف - انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج١: ص٧٥): لم يسق المؤلف - يعني مصنف التهذيب - قصة المحنة، وقد استوفاها ابن الجوزي في مناقبه في مجلد، وقبله شيخ الإسلام الهروي، وترجمته في تاريخ بغداد للخطيب (ج٤: ٤١٢-٤٢٣) مستوفاة - انتهى. قال ابن خلكان: وحرز من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفًا، وقال أبوالحسن بن الزاغوني: كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبوجعفر بن أبي موسى إلى جانبه فوجد كفنه صحيحًا لم يبل، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة. (وأبي عيسى محمد بن عيسى) بن سورة بن الضحاك السلمي الضرير البوغي (الترمذي) نسبة إلى ترمذ، واختلف في ضبطها كثيرًا، والمعروف المشهور على الألسنة كسر التاء والميم وبينهما راء ساكنة بوزن "إثمد" كما ضبطها صاحب القاموس، قال السمعاني في الأنساب (ورقة ١٠٥): والناس مختلفون في كيفية هذه النسبة، بعضهم يقول بفتح التاء المنقوطة بنقطتين من فوق، وبعضهم يقول بكسرها، والمتداول على لسان تلك البلدة - وكنت أقمت بها اثني عشر يومًا - فتح التاء وكسر الميم، والذي كنا نعرفه قديمًا كسر التاء والميم جميعًا، والذي يقوله المتنوقون وأهل المعرفة بضم التاء والميم، وكل واحد يقول معنى لما يدعيه - انتهى. وقال الذهبي في التذكرة (ج١: ص١٨٨): قال شيخنا ابن دقيق العيد: وترمذ بالكسر هو المستفيض على الألسنة حتى يكون كالمتواتر، وهذه البلدة ترمذ قال السمعاني: مدينة قديمة على طرف نهر بلغ الذي يقال له جيحون، ولد سنة ٢٠٩هـ، كتبه نصًا العلامة الشيخ محمد عابد السندي المتوفى سنة ١٢٥٧هـ بخطه على نسخة من كتاب الترمذي المكتوبة سنة ١٢٢١هـ المصححة المقابلة على أصل صحيح معتمد، ذكره العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في مقدمة تعليقه على الترمذي (٧٧) قال: ولعله نقل ذلك استنباطًا من كلام غيره من المتقدمين، وقد
1 / 14
ــ
صرح بذلك أيضًا جسوس والبيجوري في شرحهما على الشمائل، وقد ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال أنه مات في رجب سنة ٢٧٩هـ، وقال: وكان من أبناء السبعين، وقال القاري في شرح الشمائل بعد أن ذكر وفاته سنة ٢٧٩هـ: وله سبعون سنة، وقال الصلاح الصفدي في نكت الهميان: ولد سنة بضع ومائتين، وقال ابن الأثير في جامع الأصول: ولد في ذي الحجة سنة مائتين (١)، فالله أعلم بصحة ذلك، والأكثر على أنه توفي ليلة الاثنين الثالث عشر من رجب سنة ٢٧٩هـ، وقيل سنة ٢٧٥هـ، وقيل سنة ٢٧٧هـ، والصواب الأول، وهو ﵀ أحد الأئمة الحفاظ الأعلام المبرزين الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف الجامع والتواريخ والعلل تصنيف رجل عالم متقن، كان يضرب به المثل في الحفظ، قد امتحنه بعض المحدثين بأن قرأ له أربعين حديثًا من غرائب حديثه، فأعادها من صدره فقال: ما رأيت مثلك. ونقل الحاكم أبوأحمد عن عمر بن علك أنه قال: مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد، بكى حتى عمي وبقي ضريرًا سنين، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر، وقال أبوالفضل البيلماني: سمعت نصر بن محمد الشيركوهي يقول: سمعت محمد بن عيسى الترمذي يقول: قال لي محمد بن إسماعيل - يعني البخاري-: ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي، وقال ابن خلكان: وهو تلميذ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وشاركه في بعض شيوخه، مثل قتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر، وابن بشار وغيرهم، وقال الشيخ أحمد المصري في مقدمة تعليقه: الترمذي تلميذ البخاري وخريجه، وعنه أخذ علم الحديث، وتفقه فيه، ومرن بين يديه، وسأله، واستفاد منه، وناظره فوافقه وخالفه كعادة هؤلاء العلماء في اتباع الحق حيث كان، وفي إنكار التقليد والإعراض عنه، وقد طاف البلاد وسمع خلقًا من الخراسانيين والعراقيين والحجازيين كما في التهذيب، والرواة عنه كثيرون، ذكر بعضهم في تذكرة الحفاظ وفي التهذيب، وأهمهم عندنا ذكرًا المحبوبي راوي كتاب الجامع عنه، ترجم له ابن العماد في شذرات الذهب (ج٢: ص٣٧٣) فقال: أبوالعباس المحبوبي محمد بن أحمد بن محبوب المروزي، محدث مرو وشيخها ورئيسها، توفي في رمضان سنة ٣٤٦هـ، وله سبع وسبعون سنة، روى جامع الترمذي عن مؤلفه، وروى عن سعيد بن مسعود صاحب النضر بن شميل وأمثاله. ووصفه السمعاني في الأنساب (ورقة ٥١١): شيخ أهل الثروة من التجار بخراسان وإليه كانت الرحلة، وقد أراد البخاري أن يشهد لتلميذه الترمذي شهادة قيمة فسمع منه حديثًا واحدًا كعادة كبار الشيوخ في سماعهم ممن هو أصغر منهم - انتهى كلام الشيخ أحمد مختصرًا. قلت: بل سمع البخاري من الترمذي حديثين، ذكر أحدهما في تفسير سورة الحشر، والثاني في مناقب علي، وقال المصنف: وللترمذي تصانيف كثيرة في علم الحديث، وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب وأكثرها فائدة وأحسنها ترتيبها وأقلها تكرارًا، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخر كتاب العلل، وقد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها (٢) . وارجع للبسط والتفصيل إلى مقدمة تحفة الأحوذي شرح
_________
(١) كذا نقله شيخنا في مقدمة شرح الترمذي (ص١٦٧)، والذي في جامع الأصول طبعة مصر (ج١: ص١١٤): ولد سنة تسع ومائتين.
(٢) وكتاب العلل هذا الملحق بكتاب الجامع (سنن الترمذي) معروف بالعلل الصغير، وقد شرحه ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة ٧٩٥، وطبع هذا الشرح في بغداد سنة ١٣٩٦هـ بتحقيق السيد صحبي جاسم الحميدي البدري السامرائي، وللترمذي أيضًا كتاب العلل الكبير، ذكره ابن النديم في الفهرست ص (٣٣٩) قال السيد صبحي: لم أقف عليه ولعله فقد.
1 / 15
وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي،
ــ
جامع الترمذي، وإلى مقدمة تعليق الترمذي للشيخ أحمد محمد شاكر المصري (وأبي داود سليمان بن الأشعث) بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي (السجستاني) بكسر السين المهملة وتفتح وبكسر الجيم وسكون السين الثانية بعدها تاء مثناة من فوقها وبعد الألف نون، نسبة إلى سجستان معرب سيستان الأقليم المشهور بين خراسان وكرمان، ويقال في النسبة إلى سجستان: "سجزي" أيضًا، وقد نسب أبوداود وغيره كذلك، وهو عجيب التغير في النسب، ولد سنة ٢٠٢هـ، وتوفي بالبصرة يوم الجمعة منتصف شوال سنة ٢٧٥هـ عن ثلاث وسبعين سنة. وهو الإمام الثبت أحد حفاظ الحديث وعلله، وفي الدرجة العليا من النسك والصلاح وعلم الفقه والورع والإتقان، أحد من رحل وطوف البلاد وجمع وصنف وسمع بخراسان والعراق والجزيرة والشام والحجاز ومصر، وقدم بغداد مرارًا، ثم نزل البصرة وسكنها، وأخذ عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وقتيبة بن سعيد وعبد الله بن مسلمة ومسدد بن مسرهد ومحمد بن بشار وغير هؤلاء أئمة الحديث ممن لا يحصى كثرة. وحدث عنه ابنه أبوبكر عبد الله بن أبي داود، وكان من أكابر الحفاظ ببغداد عالمًا متفقًا عليه إمام بن إمام، وحدث عنه أيضًا أبوعيسى الترمذي صاحب الجامع، وأبوعبد الرحمن النسائي صاحب السنن المشهورة، وأحمد بن محمد الخلال، وروى عنه شيخه أحمد بن حنبل فرد حديث أي حديث العتيرة، كان أبوداود يفتخر بذلك، وروى عنه خلق سوى هؤلاء، قال أبوبكر الخلال: أبوداود هو الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم وبصره بمواضعه أحد في زمانه، وقال ابن حبان: أبوداود أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وحفظًا ونسكًا وورعًا وإتقانًا، وقال الحافظ موسى بن هارون: خلق أبوداود في الدنيا للحديث وفي الآخر للجنة، وما رأيت أفضل منه، قال أبوداود: كتبت عن رسول الله ﷺ خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمان مائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه، وقال: ما ذكرت فيه حديثًا أجمع الناس على تركه، وعرض كتابه هذا على شيخه أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه، وارجع للبسط إلى تاريخ بغداد (ج٩: ص٥٥-٥٩)، والتهذيب (ج٤: ١٦٩-١٧٣)، والتذكرة (ج٢: ١٦٨-١٧٠)، وبستان المحدثين، وإتحاف النبلاء (٢٥٦-٢٥٧)، وغير ذلك من كتب التواريخ والتراجم. (وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب) بن علي بن سنان بن بحر بن دينار الحافظ الإمام القاضي صاحب السنن المشهورة (النسائي) نسبة إلى نسأ - بفتح النون والسين المهملة وبعدها همزة يعني بالقصر -، وهي مدينة بخراسان، وقال صاحب مجمع البحار في المغني: النسائي بنون مفتوحة وخفة سين مهملة ومد وهمزة نسبة إلى نسأ، مدينة بخراسان، وكذا ضبطه طاش كبرى زاده، قال شيخنا في مقدمة شرحه الجامع الترمذي (ص٦٥): النسائي بالمد والنسائي بالقصر كلاهما صحيح، فإن الظاهر أن مدينة نساء التي هي بخراسان يقال لها نساء ونسأ بالوجهين انتهى. ولد سنة ٢١٤هـ أو سنة ٢١٥هـ أو سنة ٢٢١هـ على اختلاف الأقوال، والراجح هو القول الثاني، وتوفي برملة من أرض فلسطين، وقيل: بمكة يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر، وقيل: من شعبان سنة ٣٠٣. قال الذهبي في مختصره:
1 / 16
عاش ثمان وثمانين سنة. قال الحافظ: وكأنه بناه على ما تقدم من مولده فهو تقريب - انتهى. وهو ﵀ أحد الأئمة الحفاظ العلماء الفقهاء، لقي المشايخ الكبار، وأخذ الحديث عن قتيبة بن سعيد وهناد بن السري ومحمد بن بشار وعلي بن حجر ومحمود بن غيلان وأبي داود سليمان بن الأشعث وغير هؤلاء من المشايخ الحفاظ، وأخذ عنه الحديث خلق كثير، ومنهم الطبراني والطحاوي وأبوبكر بن السني الحافظ، وله كتب كثيرة في الحديث والعلل وغير ذلك، قال أبوالحسين بن المظفر: سمعت مشايخنا بمصر يعترفون لأبي عبد الرحمن النسائي بالتقدم والإمامة، ويصفون من اجتهاده في العبادة بالليل والنهار ومواظبته على الحج والجهاد وإقامته السنن المأثورة واحترازه عن مجالس السلطان، وإن ذلك لم يزل دأبه إلى أن استشهد، وقال الحاكم: سمعت عمرو بن علي الحافظ غير مرة يقول: أبوعبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره، وقال مرة: سمعت عمرو بن علي يقول: النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح والسقيم، وأعلمهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه، فخرج إلى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه، فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة، فأخرجوه وهو عليل، وتوفي مقتولًا شهيدًا، وقال: أما كلام أبي عبد الرحمن على فقه الحديث فأكثر من أن يذكر، ومن نظر في كتابه السنن تحير، قال السيد جمال الدين المحدث: صنف النسائي في أول الأمر كتابًا يقال له السنن الكبير للنسائي، وهو كتاب جليل لم يكتب مثله في جمع طرق الحديث وبيان مخرجه، وبعده اختصره وسماه بالمجتنى - بالنون -، وسبب اختصاره أن أحدًا من أمراء زمانه سأله أن جميع أحاديث كتابك صحيح؟ فقال في جوابه: لا، فأمره الأمير بتجريد الصحاح وكتابة صحيح مجرد، فانتخب منه المجتنى، وكل حديث تكلم في إسناده أسقطه منه، فإذا أطلق المحدثون بقولهم "رواه النسائي" فمرادهم هذا المختصر المسمى بالمجتنى، لا الكتاب الكبير، كذا في المرقاة، وقال ابن الأثير (ج١: ص١١٦): وسأله بعض الأمراء عن كتابه السنن أكله صحيح؟ فقال: لا، قال: فاكتب لنا الصحيح منه مجردًا، فصنع المجتبى، فهو المجتبى من السنن، ترك كل حديث أورده في السنن (الكبيرة) مما تكلم في إسناده بالتعليل، رواه ابن عساكر، وسماه المجتنى بالنون أو الباء والمعنى قريب، والأشهر هو الأخير، وإذا أطلق أهل الحديث على أن النسائي روى حديثًا فإنما يريدون المجتبى لا السنن الكبرى، وهي إحدى الكتب الستة، قال الحافظ أبوعلي: للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم، وكذلك الحاكم والخطيب كانا يقولان: إنه صحيح، وإن له شرطًا في الرجال أشد من شرط مسلم، لكن قولهم غير مسلّم، قال البقاعي في شرح الألفية عن ابن كثير: إن في النسائي رجالًا مجهولين إما عينًا أو حالًا، وفيهم المجروح، وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة، وقال الشوكاني: وله مصنفات كثيرة في الحديث والعلل، منها السنن، وهي أقل السنن الأربع بعد الصحيح حديثًا ضعيفًا، قال الذهبي والتاج السبكي: إن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح، هذا ملتقط من مقدمة تحفة الأحوذي (٦٤-٦٥)، والتذكرة (ج٢: ٢٦٦-٢٦٩)، والتهذيب (ج١: ٣٧-٣٩)، وإتحاف النبلاء (١٨٩-١٩٠)، وبستان المحدثين، هذا وقد ادعى الشيخ تقي النقي العلامة عبد الصمد شرف الدين في مقدمته القيمة للسنن الكبرى (١٧-١٩) أن حكاية ابن
1 / 17
وأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني،
ــ
الأثير المذكورة كذب وزور، ولنا في كلامه نظر لا يخفى على الباحث المتأمل. (وأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه) بفتح الميم وتخفيف الجيم وبينهما ألف وفي الآخر هاء ساكنه لا تاء مربوطة (القزويني) بفتح القاف وسكون الزاي وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون، نسبة إلى قزوين وهي من أشهر مدن عراق العجم، كانت ولادته سنة ٢٠٩هـ، وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة٢٧٣هـ، وله أربع وستون سنة، وهو الحافظ الكبير المشهور المفسر أبوعبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه الربعي بالولاء (نسبة إلى ربيعة) القزويني، مصنف كتاب السنن في الحديث، كان إمامًا في الحديث عارفًا بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث، وله تفسير القرآن الكريم، وتاريخ مليح، وكتابه في الحديث أحد الصحاح الستة. قال الخليلي: ثقة كبير متفق عليه محتج به، له معرفة بالحديث وحفظ، وله مصنفات في السنن والتفسير والتاريخ، قال: وكان عارفًا بهذا الشأن، سمع أصحاب مالك والليث. وعنه أبوالحسن القطان وخلق سواه، قال السندي في مقدمة تعليقه على سنن ابن ماجه: قد اشتمل هذا الكتاب من بين الكتب الست على شؤون كثيرة انفرد بها عن غيره. والمشهور أن ما انفرد به يكون ضعيفًا، وليس بكلي، لكن الغالب كذلك، ولقد ألف الحافظ الحجة العلامة أحمد بن أبي بكر البوصيري في زوائده تأليفًا نبه على غالبها. وقال السيوطي في حاشية الكتاب: قال الحافظ نقلًا عن الرافعي أنه قال: سمعت والدي يقول: عرض كتاب السنن لابن ماجه على أبي زرعة الرازي فاستحسنه، وقال: لم يخطئ إلا في ثلاثة أحاديث، وقال في حاشية النسائي نقلًا عن غيره: إن ابن ماجه قد انفرد بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب ووضع الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم، مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك، والعلاء بن زيد، وداود بن المحبر، وعبد الوهاب بن الضحاك، وإسماعيل بن زياد السكوني وغيرهم، وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثًا مما فيه ضعف، فهي حكاية لا تصح لانقطاع سندها، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية، أو أراد من الكتاب بعضه، ووجد فيه هذا القدر، وقد حكم أبوزرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لأبي حاتم - انتهى. قال السندي: وبالجملة فهو دون الكتب الخمسة في المرتبة، فلذلك أخرجه كثير من عده في جملة الصحاح الستة، لكن غالب المتأخرين على أنه سادس الستة - انتهى. وقال الذهبي: سنن أبي عبد الله كتاب حسن، لولا ما كدر من أحاديث واهية ليست بالكثيرة، قال أبوالحسن القطان صاحب ابن ماجه: في السنن ألف وخمس مائة باب، وجملة ما فيها أربعة آلاف حديث، وقال ابن الأثير: كتابه كتاب مفيد قوي النفع في الفقه لكن فيه أحاديث ضعيفة جدًا بل منكرة، حتى نقل عن المزي أن الغالب فيما تفرد به - يعني بذلك ما انفرد به من الحديث عن الأئمة الخمسة - الضعف، ولذا لم يضفه غير واحد إلى الخمسة بل جعلوا السادس الموطأ، وفيه عدة أحاديث ثلاثيات من طريق جبارة بن المغلس، وفيه حديث في فضل قزوين منكر بل موضوع،
1 / 18
وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي.
ــ
ولذا طعنوا فيه، وفي مصنفه، وواضعه رجل اسمه ميسرة، قال الحافظ في التهذيب (ج٩: ص٥٣١): كتابه في السنن جامع جيد كثير الأبواب والغرائب، وفيه أحاديث ضعيفة جدًا حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر فيه فهو ضعيف غالبًا، وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي، وفي الجملة ففيه أحاديث كثيرة منكرة، ونقل القاري عن الحافظ أنه قال: وأول من أضاف ابن ماجه إلى الخمسة الفضل بن طاهر حيث أدرجه معها في أطرافه، وكذا في شروطه الأئمة الستة، ثم الحافظ عبد الغني في كتاب الإكمال في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ المزي، وقدموه على الموطأ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ، انتهى. تنبيه: اختلف في ماجه فقيل: إنه لقب والد محمد بن يزيد، وقيل: إنه اسم أمه، قال القاري في المرقاة ما لفظه: بإثبات ألف يعني في ابن ماجه خطًا، فإنه بدل من ابن يزيد، ففي القاموس: ماجه لقب والد محمد بن يزيد صاحب السنن لا جده، وفي شرح الأربعين: أن ماجه اسم أمه - انتهى. وقال صاحب الحطة: والصحيح أن ماجه أمه، وعلى كلا القولين يكتب الألف على لفظ ابن في الرسم ليعلم أنه وصف لمحمد لا لما يليه، فهو مثل عبد الله بن مالك ابن بحينة، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وفي إنجاح الحاجة: "ماجه" على ما ذكر المجد في القاموس، والنووي في تهذيب الأسماء، لقب والده لا جده - انتهى. والصحيح هو الأول - انتهى ما في الحطة -. قال في تاج العروس شرح القاموس (ج٢: ص١٠٢) ما لفظه: "ماجه" بسكون الهاء كما جزم به الشمس بن خلكان: لقب والد محمد بن يزيد القزويني صاحب السنن لا جده - أي لا لقب جده - كما زعمه بعض. قال شيخنا: وما ذهب إليه المصنف فقد جزم به أبوالحسن القطان، ووافقه على ذلك هبة الله بن زاذان وغيره، قالوا: وعليه فيكتب ابن ماجه بالألف لا غير. وهناك قول آخر ذكره جماعة وصححوه وهو أن ماجه اسم لأمه - انتهى. (وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن) بن فضل بن بهرام بن عبد الصمد التميمي السمرقندي (الدارمي) بكسر الراء المهملة - نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم. ولد سنة ١٨١هـ، وتوفي يوم التروية ودفن يوم عرفة، وقيل: مات يوم الخميس يوم عرفة ودفن يوم الجمعة للعاشر من ذي الحجة سنة ٢٥٥هـ، وله من العمر أربع وسبعون سنة، وهو الإمام الحافظ شيخ الإسلام عالم سمرقند صاحب المسند المشهور، وهو على الأبواب لا على الصحابة على خلاف اصطلاح المحدثين. سمع النضر بن شميل ويزيد بن هارون وجعفر بن عون وطبقتهم بالحرمين وخراسان والشام والعراق ومصر. وحدث عنه مسلم وأبوداود والترمذي وعبد الله بن الإمام أحمد والنسائي خارج سننه وآخرون، وقال الخطيب: كان أحد الحفاظ والرحالين، موصوفًا بالثقة والصدق والورع والزهد، استقضى على سمرقند فأبى فألح عليه السلطان فقضى بقضيه واحدة ثم استعفى فأعفي - إلى أن قال: وكان على غاية العقل وفي نهاية الفضل، يضرب به المثل في الديانة والحلم والاجتهاد والعبادة والتقلل. صنف المسند والتفسير وكتاب الجامع. قال أحمد بن حنبل وذكر الدارمي: عرضت عليه الدنيا فلم يقبل. وقال أبوحاتم بن حبان: كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين ممن حفظ وجمع وتفقه وحدث، وأظهر
1 / 19