(العلامة الأولى): أن الحواس المدركة بآلة جسمانية إذا أصاب الآلة آفة فاما أن تدرك وأما أن يضعف إدراكها أو يغلط فيه.
(الثانية): أنها لا تدرك آلتها إذ البصر لا يدرك نفسه ولا آلته. (الثالثة): أنها لو كان فيها كيفية ما لم يدركها وإنما يدركها أبدا غيرها حتى أن سوء المزاج إذا صار متمكنا فى البدن جوهر بآلته مثل الدق لم يدرك ذلك قوة اللمس.
(الرابعة): أنها لا تدرك نفسها فان الوهم لو أراد أن يتوهم نفسه وهو الوهم لم يمكنه.
(الخامسة): أنها إذا أدركت شيئا قويا لم يمكنها الادراك للضعيف بعده وعقيبه بل بعد زمان فلا تسمع الصوت الخفى عقيب القوى الهائل ولا ذا اللون الضعيف عقيب الضوء الظاهر ولا طعم الحلاوة الضعيفة عقيب الحلاوة القوية فانها إذا انفعلت بمدركها القوى لم تقبل سرعة الانفعال بمدركها الضعيف لاشتغال المحل بذلك المدرك القوى واشتباكه به.
(السادسة): أنها لو هجم عليها مدرك قوى ضعفت الآلة وفسدت فقد تفسد العين بقوة الشعاع ويفسد السمع بالصوت الهائل.
(السابعة): أن القوى الجسمانية تضعف بعد الأربعين وذلك عند ضعف مزاج البدن وهذا الذى ذكرناه كله ينعكس فى القوة العقلية فانها تدرك نفسها وتدرك إدراكها لنفسها وتدرك ما يقدر أنه آلتها كالقلب والدماغ وتدرك الضعيف بعد القوى والخفى بعد الجلى وربما تقوى بعد الأربعين فى غالب الأمر* فان قيل القوة العقلية أيضا قد تقصر عن الادراك بالمرض الذى يظهر فى مزاج البدن قيل قصورها أو تعطلها عند تعطيل آلاتها لا يدل على أنها لا فعل لها فى نفسها بل يجوز أن تكون فساد الآلة مؤثرا فيها من وجهين.
(أحدهما): أنه إذا فسدت اشتغلت النفس بتدبيرها وانصرف عن جهة المعقولات فان النفس إذا اشتغلت بالخوف لم تدرك اللذة وإذا اشتغلت بالغضب لم تدرك الألم وإذا اشتغلت بفن معقول لم تدرك في حال الشغل غيره فيشغلها شىء عن شىء فلا يبعد أن يشغلها ضعف الآلة والحاجة إلى إصلاحها.
(والوجه الثانى): أن الآلة الجسمانية ربما تحتاج القوة اليها ابتداء ليتم لها الفعل بنفسها بعد حصولها كما يحتاج من يقصد بلدة مثلا إلى دابة فاذا وصل استغنى عنها فاذا فعل واحد بغير آلة يدل على أن له فعلا فى نفسه وتعطل الفعل بتعطيل الآلة يحتمل هذين الوجهين الذين ذكرناهما فلا حجة فيه.
(الثامنة): وهى البرهان أن العلم المجرد الكلى لا يجوزأن يحل فى جسم منقسم لأن العلم الكلى لا ينقسم والجسم ينقسم وما لا ينقسم لا يحل فيما ينقسم والعلم لا ينقسم فاذا لا يحل العلم في جسم وهذه المقدمات لا يمكن النزاع فيها إذ الجزء الذى لا يتجزى قد بطل فلا يكون العلم فيه وإذا كان في جسم منقسم انبسط فيه كالحرارة واللون فاذا قسم الجسم انقسم العلم بالمجهول بزعم الزاعم والعلم الواحد بالمعلوم الواحد لا ينقسم إذ ليس له بعض البتة فاستحال أن يحل فى الجسم وإن قيل فلم قلتم أن العلم الواحد لا ينقسم قيل العلم بالمعقول المجرد ينقسم إلى ما لا يمكن أن يتوهم فيه كثرة وقبول قسمة كالعلم المجرد بالوجود وكالعلم بالوحدة فانه لا بعض للمعلوم فلا بعض للعلم الذى هو مثال مطابق له وإلى ما يتوهم فيه كثرة كالعلم بالعشرة والعلم بالانسان الذى هو متقوم من الحيوان والناطق وهما الجنس والفصل وهذا النوع ربما يظن أن له أجزاء إذ يقول القائل العشرة لها جزء والعلم بها مثال لها ومطابق إياها فالعلم بها له جزء وكذلك العلم بالانسان وهو محال فان العشرة من حيث هى عشرة لا جزء لها إذ ما دون العشرة ليس بعشرة فليست كالماء الكثير فان بعضه إذا قسم فهو ماء بل هى كالرأس مثلا فانه واحد لكل إنسان ولا جزء له من حيث هو رأس بل له جزء من حيث هو جلد ولحم وعظم وكونه جلدا ولحما وعظما غير كونه رأسا وكونه رأسا لا يقتضى أن يكون له جزء فان الرأس من حيث هو رأس لا ينقسم وكل معلوم لم يتحد بهذا النوع من الاتحاد فلا يكون معلوما واحدا* وأما الانسان فهو معلوم واحد لأنه من حيث أنه إنسان شىء واحد وله صورة واحدة كلية ولأجل وحدتها تصير معقولا فيكون واحدا لا يقبل القسمة على أنا نقيم برهانا على استحالة القسمة وهو أنه لو انقسم العلم بانقسام الجسم لكان أحد القسمين فى جزء وهذا الجزء المفروض فيه قسم العلم الواحد لا يخلو إما أن يخالف الكل أو لا يخالف فان لم يخالف أحدهما الآخر فى شىء أصلا كان الجزء مثل الكل وذلك محال إذ يخرج عن كونه جزءا وإن كان مخالفا فلا يخلو إما أن يخالفه مخالفة النوع للنوع ومخالفة الشكل للون وهو محال إذ لا يكون الشكل داخلا فى اللون وكل جزء فهو داخل فى الكل وإما أن يخالفه بعد كونه داخلا فيه مخالفة الحيوان للانسان وهى مخالفة الجنس للنوع وإن كان داخلا فيه أو مخالفة الواحد للعشرة وباطل أن يخالفه مخالفة الجنس للنوع لأنه يؤدى إلى أن يكون العلم بالحيوان في جزء والعلم بالناطق في جز آخر فليس فى كل واحد منهما علم للانسان فيؤدى إلى نأ لا يكون العلم بالانسان حاصلا بل ليت شعرى إذا قدرنا الجزئين أحدهما فوق مثلا والآخر أسفل فالعلم بالجنس بأنهما يختص ولم يستحق أحدهما أن يكون محلا للجنس والآخر محلا للفصل ثم أن تركب الانسان من الحيوان والناطق فلا يتركب الحيوان من عدد يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهى إلى أول واحد وإلا فيؤدى إلى أن لا يعلم الشىء إلا بعد علوم غير متناهية وذلك محال وإن كان يخالفه فى المقدار مخالفة الواحد للعشرة فلا يخلو إما أن يكون ذلك الجزء علما أو لا يكون علما فان لم يكن علما أدى ذلك إلى أن يحصل من أجزاء ليست علوما وهو كما يقال حصل من جزئين هما شكل وسواد وهو محال وإن كان ذلك الجزء علما فمعلومه إن كان هو معلوم الكل كان الجزء مساويا للكل وان كان معلوم آخر استحال أن يكون الكل علما غير العلم بالأجزاء إذ لا يحصل من العلم بالشكل والعلم بالسواد العلم بالقدرة وإن كان العلم بالجزء معلوم الكل فقد فرضنا ذلك في معلوم واحد لا جزء له فدل على أن القسمة محال.
(والتاسعة): وهى برهان أيضا المعقول المجرد يحصل في النفس للانسان كما سبق ويكون مجردا عن الوضع وعن المقدار فتجريده لا يخلو إما أن يكون باعتبار محله أو باعتبار ما منه حصل وباطل أن يكون باعتبار ما منه حصل فان الانسان إنما يتلقى حد الانسان وحقيقته ويحصل ماهيته فى عقله من انسان شخصى له قدر مخصوص لكن العقل يجرده عن القدر والوضع فبقى انه منزه عن الوضع والقدر لمحله لا لما منه أخذ وحصل وذلك أن محله أعنى نفس الانسان يميزه عن القدر والوضع وإلا فكل حال في ذى وضع وقدر يكون له قدر ووضع بسبب محله لا محالة.
Unknown page