تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات
محمود محمد شاكر
نشر عام 1938م
نحن شعوب متخاذلة، قد غفلت عن حقيقة الحياة، فواجبنا أن نعمل على إيقاظ هذه الشعوب من سنة النوم التي طالت بها، وقتلت فيها مادة النشاط، التي تدفعها إلى تحقيق الأغراض النبيلة، التي خلق من أجلها الإنسان على الأرض.
أجل .. وهذه الشعوب نفسها، هذا الشرق قد أثبت في التاريخ مرات أنه قادر على صناعة الحضارات والمدنية، يتقنها، ويستجيدها، ويطهرها من أدران البلاء، التي تعصف بإنسانية الإنسان، كما تعصف الريح بأوراق الشجر؛ فلم لا يثبت الشرق مرة أخرى في التاريخ الحديث أنه لم ينس هذه الصناعة؟ وأن أنامله الرفيقة لا تزال قادرة على نسج الثياب الرفيعة التي تلبسها الإنسانية؛ لتزهى بها، وتبدو في زينتها؟
هذه المدنية الأوربية المحدثة من أمامنا قد عملت عملها، وأتمت ما وجدت له على طريقتها ومذهبها، وجعلتنا ننظر إليها ذاهلين، كأنما نرى معجزة تحققها أيدي مردة من الجن، ليسوا من الإنس في أصل ولا نسب.
إن هذا الوهم الكبير هو الذي أعجز الشرق عن العمل، ورماه في براثن الأمم المستأسدة الضارية، وجعله كالفريسة تنتفض تحت أقدامه عجزا وهلعا واستكانة ولكن الحين قد حان، وآن للشرق أن ينظر إلى الحقائق الواقعة؛ ليعرف كيف يعمل.
إن أوروبا، التي هي مصدر المدنية الحديثة تقف على هذه الأرض موقفا ظاهرا لمن يتأمل.
هذه دول الحضارة الحديثة من أمامنا قد هبت كلها في جنبات الأرض تملؤها حديدا، ونارا، وضجيجا في الأرض، وصخبا طائرا في السماء. والرجال على الأرض كأنهم قنابل معدة مهيأة لتنفجر، وفي كل ناحية أمة مقعية متربصة، تكاد تثب، والحياة تتدافع بهذا وذاك وهؤلاء، فلا تلبث أن تصطدم هذه الأمم بعضها ببعض، ويومئذ لن تثبت الأرض، ولن تسكن السماء، وتتطاير أشلاء الحضارة الحديثة إلى أعلى؛ لتسقط على أهل هذه الحضارة، وتطويهم في أكفانها، وتدفنهم في قبورها.
إن المدنية الأوربية المحدثة في هذا العصر، تحمل في داخلها كل عناصر التهدم، وكل أسباب الفناء والبلى، وأهم هذه العناصر والأسباب، هذه الحالة الحربية التي شملت كل دولة أوربية، ودفعتها إلى زيادة التسلح بكل أدوات الدمار والهلاك، والسرعة الجامحة التي تعمل بها هذه الأمم في كل ما يمس الاستعداد الحربي.
ولا شك في أن هذه الإرادة وحدها- مع الإسراع في تنفيذها- سوف تؤدي حتما إلى اختلال التوازن في القوى المتساندة، وسينتهي هذا الاختلال باصطدام قوى الشر جملة واحدة، وسيعقب هذا الاصطدام انفجار هائل يشوه وجه الإنسانية الباغية أبد الدهر، ويتركها مثلا في العالمين.
ولو أن هذا الاستعداد الحربي العظيم كان نتيجة للدفاع عن مبادئ استقرت على أصولها في نفوس القائمين بأمرها- لقلنا عسى أن تنتفع الإنسانية بانهزام الباطل، وانتصار الحق، وإن ضحت في سبيل ذلك بالملايين من البشر، الذين تأكلهم هذه الحروب الضروس، ولكان ثمة أمل في عودة الحضارة إلى منزلة من الإصلاح، تعمل فيها لسعادة الإنسان بعد الشقاء الكبير الذي تعس به.
ولكن الواقع غير ذلك؛ فإن الحرب الحديثة المقبلة إنما هي بغي؛ لقد بغى بعضهم على بعض في العلم؛ فضربوا للإنسان أسوأ الأمثلة على أن ضرر العلم أكبر من نفعه [أي العلم المادي]، وأن الشقاء قرين لعلم هذه المدنية الطاغية، وأن الفرد فيها حيوان يستغل، فيا لشناعة هذا الاستغلال الذي هزم العقل والإرادة، وردهما إلى أدنأ درجة في تاريخ الإنسان على الأرض!.
هذه أوربا التي نفضت على كلمة (الحرية) من تهاويل الخيال، وتخاليف الفن، وتحاسين الإبداع، وزخارف الأرض، حتى بدت فتنة يتهاوى في فتونها كل غاو وحليم- تثبت للناس أن (الحرية) كلمة ضامرة ضعيفة، لا معنى لها، ولا حياة فيها.
ولعل التاريخ كله لم يشهد عصرا ضاعت فيه كل معاني هذه الكلمة- مع كثرة دورانها على الألسنة- مثل الذي شهده في هذا العصر؛ ففي كل ناحية في أوربا يضرب الحصار على حرية الأفراد، وحرية الجماعات، وعلى حرية السر، وحرية العلن، وعلى حرية الرأي ، وحرية الضمير.
في فرنسا- باعثة هذه الفتنة في أوربا- في إنجلترا، في ألمانيا، في إيطاليا، في روسيا، في كل بلد، يشهد التاريخ أفظع استبداد تستبد به السياسة الدولية، وتتعسف به المعاهدات والمحالفات القائمة على مصالح البغي السياسي والحربي، في إزهاق الروح الحقيقية التي تحملها كلمة الحرية.
إن كل عمل، بل كل رأي، بل كل فكر، بل كل شيء في أوربا الآن تقتسره السياسة الحربية على صورة تنفعها، فإن لم تكن تنفعها فلا تضرها، حتى صارت العقول الإنسانية آلة في يدها تصرفها كيف تشاء، وفسدت معاني الأشياء، وطغى غرور القوة والاعتداد بها في العلم والفن والأدب، وفي كل شيء، واختلط الحق بالباطل اختلاطا فاسدا لا أمل في تطهيره إلا بجهد كبير تبذله نفوس هادئة ساكنة حكيمة، تتجرد للعمل، وتعمل للحق، وتختار صالح كل شيء، وتنفي فساده، وتحريفه، وغلوه، وغروره؛ ليكون الانتفاع به أقرب لإنقاذ الإنسانية من مصير مخيف، يرتد بها إلى وحشية الغرائز الدنيا، التي تتحكم في مراشد العقل والقلب بغير حكمة ولا روية.
هذه الصور الدانية الآن للحالة الظاهرة في أوروبا غير ناظرين إلى الاختلاط الفكري القبيح بين المذاهب المتباينة، ولا إلى الفساد الكبير في المبادئ العقلية، التي تبني عليها سعادة القلب الإنساني، ولا إلى تشاجر الأهواء الاجتماعية في حرب الفضيلة والرذيلة، والخير والشر، والعدل والبغي، ولا إلى انحلال القوى الاقتصادية، وتزعزع الأسس المالية، ولا إلى ما يمد كل هذه بأكبر أسباب الفساد، ألا وهو غرور هذه المدنية بعلمها، ورأيها، وفهمها، وادعائها إدراك سر الحقيقة في كل ما تتناوله بالبحث والتحليل.
أما الشرق فهو الآن يموج، ويهتز، ويمتد بآماله، ويطالب بحرياته؛ فبذلك تهيئه ضرورة الحياة الحاضرة لانتزاع الخير المحض مما يقع إليه من مدنية وحضارة، وتهيئه طبيعته الموروثة للاستفادة من نتاج الحضارات والمدنيات قديمها وحديثها، وتهيئه ما انحدر معه في أعصابه من الحكمة القديمة، والرزانة التقليدية؛ لتعبئة قواه التاريخية كلها؛ فيأخذ الحضارة الحديثة، فيصهرها، ويذيبها، ويعيد تكوينها موسومة بسمته: الحرية، العدل، الشرف، الفضيلة، سكينة النفس، التقوى؛ تقوى الله في عمل الدنيا، وعمل الآخرة، تلك سمات الشرق التي يسم بها مدنيته الجديدة التي يتهيأ اليوم لوراثتها عن سالف الحضارات والمدنيات.
Page 3