إن قواعد البلاغة تحليلية، والكاتب المبتدئ يؤذيه التحليل أكثر مما ينفعه؛ إذ هو يربكه ويعرقل حركته، وهو يحتاج إلى ما يؤلف ذهنه وليس إلى ما يحلله.
وقد نجد نحن الكتاب من المشاق ما هو أشق علينا من الملاءمة بين لغتنا العصرية ولغتنا القديمة؛ ذلك لأن هذه المشكلة تسير إلى اليسر، إما بمصالحة بين اللغتين، وإما بابتداعات جديدة لا تبالي القديم، كما نرى أحيانا في بعض مجلاتنا الأسبوعية حيث يأخذ الكاتب من العامة الكلمة أو العبارة التي لا تؤدي معناها عبارتنا وكلماتنا العربية الصميمة، وهذا كسب كبير بل كبير جدا.
نجد في لغتنا العربية عيوبا عديدة تعود إلى تاريخها الاجتماعي، ولغة الأدب العربي هي قبل شيء لغة الفقه الإسلامي، ثم هي لغة الفروسية، وأخيرا هي لغة المترفين من الأمراء والأثرياء، وما عدا هذه الموضوعات الثلاثة قليل.
وذلك لأن المجتمع العربي كان مجتمعا أميريا إقطاعيا، وكانت اللغة في خدمة هذا المجتمع بجميع ملابساته تؤدي كلماتها أفكاره الاجتماعية، وفي الأحيان القليلة حين كان المجتمع تجاريا كانت اللغة تتغير، ولكن لأن الوسط التجاري لم يسد قط الوسط الديني أو الحربي أو الإقطاعي كانت العناية اللغوية الأوروبية بهذا الوسط قليلة، فإن الجاحظ يمثل الوسط الديني الحربي، وقد برع وتفوق، ولكن ابن بطوطة، كان من حيث لا يدري، يمثل الوسط التجاري ولم يبرع.
وفي لغتنا لذلك تبذخ الأمراء والأثرياء والمترفين، ولكنها خالية من كلمات التفطن لمأساة الفقر أو عيش الفلاحين أو الوجدانات الجديدة التي أثمرتها النظم والمجتمعات الديمقراطية، فهي لغة يقنع بها رجل مثل الشيخ محمود أبو العيون؛ لأنه يجد في كلماتها كل ما يحتاج إليه من المعاني الشرقية التي في ذهنه، ولكن رجلا مثلي، يحفل ذهنه بالمعاني الأوربية والمشكلات العصرية، وينبعث بوجدان ديمقراطي عالمي، لا يجد فيها حاجاته التعبيرية والفنية، ولذلك اضطررت أنا إلى تأليف عشرات من الكلمات التي جرت على أقلام الكتاب، في حين لم يحتج هو قط إلى تأليف كلمة واحدة جديدة.
والكاتب المصري في ظروفنا الحاضرة محتاج إلى أن يذكر أن ما سميناه «نهضة» في 1919 إنما كان نهضة سياسية تهدف إلى الاستقلال فقط، ومع أن النهضة السياسية لابستها حوافز من التحرير الاجتماعي، مثل سفور المرأة وتعليمها، والاتجاه نحو الصناعة، مع كل ذلك يجب أن نعترف أننا أفسدنا معنى النهضة كما يفهمها الأوروبي الذي عرف النهضة الأوروبية منذ القرن الرابع عشر إلى القرن العشرين، إنها تحرير الشخصية البشرية من التقاليد والغيبيات، وإنها إقبال على العلم التجريبي، وإنها فصل الدين عن الدولة، وإنها دعوة للإنسان كي يأخذ مصيره في يده ويتسلط على القدر بدلا من أن يخضع للقدر، وإنها انتزاع الخير من الطبيعة وإخضاعها، وليس الانتظار كي تسدي إليه الطبيعة فضلها وبزها.
هذه المعاني التي لم نفهمها من النهضة في سنة 1919، ومن هنا هذه الانتكاسات الأدبية والرجعية والسياسية والاجتماعية التي بلوناها في الثلاثين سنة الماضية.
وقد فهم الهنود معنى النهضة بأوسع وأعمق مما فهمنا، كما يتضح ذلك من إلغاء النجاسة، والمساواة في الميراث بين الجنسين، ومنح المرأة حقوقا دستورية لا تقل عن حقوق الرجل، وفصل الدين عن الدولة، والأديب المصري محتاج إلى أن يصحح هذا النقص في نهضة 1919. •••
لا يزال رجل الأدب أو الفن العصري هو رجل النهضة، فقد وصف نشاط الناهضين فيما بين 1450 و1550 بأنه «بشري»، أي: إن الهموم والاهتمامات البشرية قد شرعت تأخذ مكان الهموم والاهتمامات الغيبية التي كانت تسود القرون المظلمة حين كانت الكنيسة بؤرة الثقافة، فنقل الناهضون هذه البؤرة من الكنيسة وغيبياتها إلى الإنسان وارتقائه المادي، وبهذا الاتجاه ظهر العلم كما ظهر المجتمع المدني.
وما زلنا إلى الآن نجد الكتاب الذين يفصلون بين الروحيات والماديات، أو بين النفس والجسم، أو بين العلم والأدب، أو بين الدين والفلسفة، كما كان يفعل كتاب القرون المظلمة، مع أن رجال النهضة ألغوا هذه الفروق؛ إذ جعلوا كل هذا النشاط «بشريا»، وكان فنانهم دافنشي يمارس الرسم والنحت كما يدرس علوم الطيران والحرب والطبيعيات.
Unknown page