إننا نعاصر، أو قد عاصرنا، أدباء حياة في أشخاص الكثيرين من الرجال والنساء قبل ألبيرت شيفتزر ومدام كوري وبرنارد شو وبول سارتر وغاندي ونهرو.
هؤلاء هم أدبنا الحي الذي يروح ويغدو ويعلم ويهذب.
تأملات نهرو في السجن
يجب أن نؤلف عشرين بل ثلاثين بل خمسين كتابا عن الهند، وكيف وقعت في الاستعمار البريطاني؟ ثم كيف نهضت؟ كيف بعث غاندي الحياة الجديدة فيها؟ وكيف أقنع أثرياءها بأن يلبسوا الخيش بدلا من الجبردين الإنجليزي؟ وهو الخيش الذي نعبئ نحن فيه القطن، وكيف حارب غاندي الخرافات حتى قتل البقرة المقدسة بيده؟ وكيف قاد نهرو البلاد نحو النهضة الصناعية الجديدة؟ وكيف رفع المرأة من الأنوثة الشرقية إلى الإنسانية الحرة؟ وكيف تسير الهند هذه الأيام في الزراعة والصناعة والسياسة؟
يجب أن نؤلف عن الهند أكثر مما نؤلف عن أوروبا؛ لأن الهند كابدت ما نكابده، وشربت السم كما شربنا، سواء من الاستعمار الأجنبي أم الاستبداد الداخلي، وعرفت الرجعية كما عرفناها، وكانت لها تقاليد توغل في آلاف السنين كما لنا، وكان لهذه التقاليد رجال يقولون: لا تتطوروا، لا تجرءوا على التفكير.
أقول هذا بعد أن قرأت كتاب نهرو «اكتشاف الهند»، فقد انتهيت منه وفي رأسي طنين من أفكاره وآرائه، وكنت في أثناء قراءتي أحس بالمؤلف رجلا مليئا بالشرف مضيئا بالذكاء عامرا بالأمل.
ولكن لا، ليست هذه صفاته الأصلية؛ إذ هي ثمرة الشجرة الأصلية التي يهفوا قلبي إلى أن أرى مثلها في تربتنا المصرية. إنما الصفة الأصلية في نهرو أنه رجل ناضج ليست فيه فجاجة أو صبيانية، ولن أعود إلى شرح هذه الصبيانية في رجالنا، رجال العهود الماضية، ولكني أرمز إليها بمنظر واحد كنت أراه قبل أكثر من نصف قرن على جسر قصر النيل، فقد كان الأمراء السابقون يخرجون في عرباتهم التي كانت تجرها خيول مطهمة، كل منهم يبدو كما لو كان حصانا أو حمارا قد شد لجامه فارتفع رأسه وانبعج بطنه، وكان يتقدم العربة رجلان يحمل كل منهما عصا طويلة تبلغ أربعة أمتار، وقد اكتسى بسترة قزحية الألوان، وكانا يعدوان ويصيحان: هيه. هيه. هيه. أبهة. فخامة. أبهة الصبيان وفخامة الصبيان.
وإني أحس كأني أسب نهرو حين أقول: إنه ليس كذلك؛ إذ هو هنا يعلو على المقارنة، ولكن هذه العربة هي رمز للذهبية، والضيعة، والباشوية، والسيارة، وسائر ما نعرفه عن أبهة هؤلاء الصبيان.
لقد نجحت الهند في تحقيق استقلالها، ونجحت بعد ذلك في احترام العالم صوت ساستها؛ لأن هؤلاء الساسة لم يعرفوا قط هذه الصبيانية. •••
لا أعرف هل كان قدرا أم تدبيرا ذلك الذي هيأ للهند رجلين يشعلان لها طريق المجد، أحدهما يخاطب قلوبها وهو غاندي، والثاني يخاطب عقولها وهو نهرو.
Unknown page