وما زلت أذكر الواقع العميق الذي أحسسته أيام شبابي، أو بالأحرى في بدايته حوالي سنة 1905، حين كنت أقرأ هذه الأفكار الرائعة التي كان فرح أنطون ينقلها إلينا عن رينان وروسو وأمثالهما من أدباء فرنسا، قلت: «الأفكار الرائعة» ولكن ليس هذا التعبير صحيحا كل الصحة، وأجدر منه وأوضح أن أقول: «الإحساسات الرائعة» التي كنا نحسها عندما كنا نقرأ رينان وروسو ودوماس، ذلك أن رينان وروسو يمتازان بذكاء العقل قدر ما يمتازان بذكاء الإحساس، فإن روسو يكشف لنا عن جمال جديد في الزهر والشجر والبحر والجبل، ويتحدث عن الحب بإحساس الرجل الذي أحب، فيقول لنا: إن الحب جميل، ونحس صدق القول؛ لأنه يروي لنا ما رأى فيه من جمال.
وكذلك الشأن في رينان، فإنه لا يقول شيئا جديدا عن المسيح، ولكنه يروي لنا تاريخ حياته، إنه يقص علينا قصة صديق له قد أحبه وشغف بنبالة قصده وطيبة قلبه وروعة حياته.
واعتقادي أن الأدب العربي الحديث يبدأ من هذه الخميرة التي وضعها فرح أنطون فيه بما نقله إليه من الأدب الفرنسي، أدب روسو ورينان. وأن ما نسميه تجديدا إنما يعود إليه.
وفيما بين 1910 و1930 اتجهت الترجمة إلى المؤلفات الإنجليزية، وكان أعظم البواعث على ذلك كثرة المدارس الثانوية التي حملت الكثير من العارفين للغة الإنجليزية على ترجمة ديكنز وشكسبير وبيرون وشيلي.
ولكن الوجدان الثقافي والأدبي عاد منذ أكثر من عشرين سنة يبحث عن أندريه جيد وجان بول سارتر، وقد ترجم لكليهما بعض مؤلفاتهما، ولا يزال الاهتمام بهما كبيرا، وخاصة هذا الأخير الذي يمزج أدبه بالفلسفة وفلسفته بالأدب.
والاهتمام بأندريه جيد أدبي محض، فإن له في التفكير والتعبير أسلوبا يجذب القارئ ويتركنا نتملظ بكلماته عقب قراءة مؤلفاته، وهو في بعض قصصه حساس أكثر مما هو مفكر، وهنا فتنته الساحرة، ثم لا ننسى بعد ذلك أنه عاش في الجزائر، وأحب الجزائريين، ولهذا قيمته في قلوبنا.
أما سارتر فيجد الإقبال العظيم في مصر ولبنان وبعض الأقطار العربية لسبب واحد هو أننا جميعا في بلبلة فلسفية بشأن الحياة وأسلوب العيش وحكمة التصرف ومسئولية الفرد إزاء الجماعة، ثم هذه الكلمات التي نظن أننا نفهم معانيها مثل الديمقراطية والاشتراكية والفردية ونحوها.
إنه يجذبنا لأننا مبلبلون في جميع هذه الأشياء، وهو يعالجها بقدرة غير صغيرة، ولكننا عند التأمل نجد أنه هو أيضا مبلبل مثلنا؛ إذ هو يحاول أن يفهم نفسه إزاء المجتمع وإزاء الكون، ويحاول أن ينظر إلى الدنيا من موقف الحياة وأيضا من موقف الموت، وفي كل هذه المحاولات ينقدح منه شرر الذكاء والفهم، ولكنه سرعان ما ينطفئ؛ لأنه لا يستطيع أن يضيء هذه الجبال القاتمة القائمة أمام الإنسان من الشكوك والشبهات والمخاوف.
إن سارتر هو «الابن الشاطر» في الأدب العصري، أدب النضج والفلسفة والجد، الذي ينأى عن اللهو والتهريج، ولذلك أعتقد أن القراء العرب سينتفعون منه ويطلبون منه الكثير.
حيوية التفكير السياسي
Unknown page