وفي القاهرة، إلى وقتنا، أثران يدلان على أن التعارف لم يكن أقل من التناكر، فإن القلعة التي بناها صلاح الدين هي حصن أوروبي لا يختلف عن تلك الحصون التي لا تزال توجد آثارها في فرنسا وتعرف باسم «شاتو»، وكلمة «برج» هي كلمة أوروبية، والأبراج هي أخص خواص هذه الحصون؛ إذ هي أمكنة الدفاع المستتر في تلك السنين التي لم تكن تعرف البنادق أو المدافع، ولا بد أن الذين بنوا هذه القلعة قد نقلوا تخطيطها عن القلاع التي بناها الصليبيون في سوريا.
ثم في القاهرة أثر آخر هو هذه القناطر، أو الأقباء، التي ما زلنا نجدها مقامة في مصر القديمة بين النيل والقلعة. وكانت المياه ترفع من النيل عند شاطئه ثم تجرى فوق القناطر إلى أن تبلغ القلعة، وهذا الأسلوب في نقل المياه هو أسلوب روماني قديم بقي إلى القرون الوسطى التي اتسمت بهذه الحروب الصليبية، وهي، أي: هذه القناطر، منقولة عن الأوروبيين.
ثم يجب ألا ننسى أن تقلبات الحرب بين العرب والأوروبيين جعلت الفريقين يحترمان القواعد الإنسانية، فالبلدة التي يفتحها الصليبيون كانت تحتوي من المسلمين على ما يبلغ النصف أو الثلثين. ولم يكن الأمير أو الملك المسيحي يجرؤ على أن يسيء إليهم؛ لأنه كان يعرف من ناحية أخرى أن هناك آلاف المسيحيين في المدن الأخرى التي يحكمها المسلمون، وكذلك العكس.
فكان الأمير المسيحي، مثل الأمير المسلم، يعامل كل منهما أبناء الدين الآخر بالاحترام ويحميهم من الظلم أو الأذى، ثم كان التبادل التجاري؛ إذ لم يكن من الممكن أن يعيش السكان حتى مع الحرب التي لا تنقطع بلا تجارة، والتجارة تؤدي إلى التعارف ثم إلى التبادل الثقافي.
كان صلاح الدين نبأ في تاريخ الشرق العربي، وما زلنا نستعيد ذكرياتنا عن حروبه فنحس الفخر والعزة والشرف.
نابليون في مصر
كانت مصر، قبل دخول الأتراك في سنة 1517، أعظم دولة في البحر المتوسط، فقد كانت موانيها، الإسكندرية ودمياط والسويس، أسواق التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، وفيما بين سنة 1300 و1450 كانت مصر أغنى دولة بما كانت تحصل عليه من المكوس على بضائع آسيا وأوروبا التي كانت تمر على موانيها وتقطع طرقها.
ولكن هذا الثراء تزعزع عندما اكتشف كولومبوس القارة الأمريكية في سنة 1492، ثم انهار تماما عندما دخل الأتراك مصر في سنة 1517.
ومنذ 1517 إلى 1798 كانت مصر في فوضى، يحكمها ولاة من إستانبول، يشترون الولاية على مصر بالرشوة الغالية، فإذا وصلوا إلى القاهرة جمعوا أضعافها بالنهب والاغتصاب والسرقة، وكان أحدهم يبقى شهورا، ويعرف أن بقاءه في الولاية لن يزيد على سنة أو نحو ذلك، فكان ينحصر كل اهتمامه في جمع أكبر مقدار من المال؛ كي يسدد الرشوة أو الرشى التي أداها للحصول على الولاية وهو في إستانبول، ثم يجمع فوق ذلك مقدارا آخر يعيش به في الترف والبذخ.
وكانت الولاية للوالي التركي، ولكن الحكم الحقيقي كان للمماليك، أي: أولئك الأمراء من الشركس والترك الذين كانوا سلائل المماليك القدامى، أو كانوا من الرقيق الأبيض المجلوبين من القوقاز وغيره.
Unknown page