إن العلم قد علمنا، ولا يزال يعلمنا رومانسية جديدة، ولكن هذه الرومانسية لن تنسينا واقعنا المظلم الذي يحفل بالقبح والفقر والمرض والجهل، فموضوعنا الآن يجب أن يكون هذه الواقعية.
ثلاثة عمالقة
عاش في روسيا ثلاثة من الأدباء تقاربت حيواتهم حتى عاصر بعضهم بعضا فترة قصيرة أو طويلة هم:
دستوفسكي الذي مات في 1881.
وتولستوي الذي مات في 1911.
وجوركي الذي مات في 1936.
وليس هناك أديب عصري، بل حتى قارئ عصري مستنير، في أي بقعة في العالم، يجهل أحد هؤلاء الثلاثة، فهم الذين عينوا طراز القصة الروسية، واستنبطوا القيم الأدبية الجديدة التي تعلمت عنها أوروبا، وهم مع ذلك يختلفون، بل إن اختلافهم أكثر من اتفاقهم.
هم يتفقون في أن الأدب ليس ترفا ذهنيا، وإنما هو عذاب ذهني في بذل المجهود، في البحث عن القيم. ويتفقون في أن الجمال ليس هدف الفن، وإنما الهدف هو الحياة، ويتفقون في أن حياة الأديب جزء من أدبه، وحياته هي مؤلفه الأول، ويتفقون في أن الإنسانية هي الهدف الأول للأديب قبل الغني.إأنهم جميعا احترفوا الإنسانية.
إن الذي يقرأ دستوفسكي يحس أن المؤلف لم يكن يستمتع بتأليف قصصه، وإنما كان يتعذب به، بل إن العذاب ينتقل إلينا ونحن نقرأ الصراع القائم بين أبطال قصصه، هؤلاء الأبطال الذين كانوا يجمعون في نفوسهم ضميرين: ضمير القديس المتوجع، وضمير المجرم المتوثب، ضمير الإنسان وشهوة الحيوان.
وقريب من دستوفسكي تولستوي، فإن كليهما مسيحي إلى نخاع عظامه، ولكن دستوفسكي يحب المسيح بقلبه وإحساسه، أما تولستوي فيحبه بعقله، ولذلك انتهى دستوفسكي إلى جملة نطق بها كلها هوس هي قوله: «لو كان المسيح في جانب، وكانت الحقيقة في جانب آخر، لآثرت أن أكون في جانب المسيح على أن أكون في جانب الحقيقة». جملة رعناء نطق بها القلب المفتتن بحب المسيح.
Unknown page