وأضجعتني تباريحي على الحسك
وعند مطلع الفجر، خرج على القافلة في عاشر الشهر، حزب من قطاع الطريق؛ كأنه نار الحريق، وكنت قد تعلقت من عهد نشأتي بملاقاة الأبطال، وركوب الأخطار ومكابدة الأهوال، فامتشقت في يدي الحسام، وتأهبت في الحال للصدام، وقلت جريا على عادة فرسان الحجاز، لما انفصلت عن الصف للبراز:
أنا الأسد الضرغام في حومة الوغى
إذا ثار نقع في مهول الملاحم
وإني مبيد للأعادي جميعهم
بأسمر عسال وأبيض صارم
تفر كماة الجيش مني متى رأت
خيالي في يوم اللقا والتصادم
ولما فرغت من شعري دنوت من القوم، وأقبلت عليهم بالتقريع واللوم، وقلت لهم: يا أبناء اللئام، أتقطعون الطريق على حجاج بيت الله الحرام! فلما سمعوا مني هذا الملام، الذي هو أمضى من السهام، اندفع علي منهم فارس لا يقاومه رئبال، وقال لي: ويلك يا أخس الأنذال، كيف تجاريت على تقريعنا بهذا المقال، مع علمك بأن قطاع الطريق لا يميزون بين الحرام والحلال. فلا وأبيك ما أجبته إلا بنبلة في نحره، ساقته عاجلا إلى قبره، وعطفت بعده على أصحابه الأشرار، في جماعة من فرسان القافلة الأخيار، فقتلنا منهم اثني عشر، في أقل من لمح البصر، وهزم الله باقي الأشقياء، بسيوف هؤلاء الأتقياء، وقرأنا سورتي الفتح والأحزاب، وجمعنا بعد الاستراحة الأسلاب، وركبنا متن الطريق، فوافينا مكة المشرفة بلا تعويق، وأدينا الفريضة في وقتها وبلغنا الآمال، ثم انصرف كل منا إلى منزله واجتمع بالأهل والعيال، واستمرت بيني وبين الشيخ المراسلة، التي تقوم - كما يقال - مقام المواصلة، مدة من السنين والشهور والأيام، لا تنقص عن سبعة أشهر وعشرة أعوام، وكانت آخر مراسلة وصلت منه إلي في رمضان، أنه خارج للحج والزيارة في شوال مع خمسة عشر من الطلبة وثلاث من النسوان، فلما وقفت على هذه المكاتبة، واطلعت على هذه المخاطبة، اتحدت مع عشرين من رجال الحرب، وكانوا من الأبطال المعروفين بالطعن والضرب، وخرجنا في العشرة الأخيرة من شهر الصيام؛ لعلنا نحظى بمقابلته في البيداء ونحييه بالسلام، فلما توسطنا المفازة، بعد ما أخذنا من الشريف الإجازة، وقطعنا من المراحل بالتوان، خمسا كوامل في أمان، انقض علينا من جانبي الجبل، مائة فارس من ورائهم مائة ناقة وجمل، وحملوا علينا كالأسود، وصاحوا علينا بأصوات كالرعود، فلم نجد بدا من القتال، وصدمناهم صدمة الوبال، وكان معنا فارس جسيم كامل العدة تحته جواد من العيوب سليم، فكر عليهم معنا كرة الهاصر، وسطا عليهم بحسامه الباتر، وأظهر لهم ما عنده من الشدة، وقتل منهم أربعة عشر وحده.
ودارت عليهم في آخر النهار، دوائر الفناء والبوار، ولما انجلت الغمة، بما بذله فارسنا من الهمة، وانهزم الأعداء في منتصف شوال، وتخلوا عن الجمال والأثقال، أبصرت بين الأسارى شيخنا الإمام، وهو مشرف من الوثاق على الحمام، فوقعت على قدميه، وقبلت رأسه ويديه، وقلت له: نفسي لك الفدا، من حوادث الردى، ما الذي أوقعك في قبضة هؤلاء الأوغاد، وصفدك من غير رأفة بهذه الأصفاد، فلما سمع صوتي خف عنه ما كان يجد من الألم، واستوى قاعدا وزال عنه السقم، وقال أخبرني أنت يا أخي بالتفصيل، كيف كان خلاصنا من هذا التنكيل؟ فقلت له: يا أيها الصديق، ومن هو لي نعم الرفيق، إن خلاصكم كان على يد هؤلاء الأبطال، الذين أغرقوا أعاديكم في بحار الأهوال، وكان السبب في لقائكم بهذا المكان، أنني دعوت هؤلاء الشجعان، إلى السعي معي خدمة لجنابك، وتبركا بلثم ركابك، فقال لي: جزيت عني خيرا، ولا لقيت ما بقيت ضيرا، لقد فرجت عني الكربة، وأطلقتني من قيود النكبة، فإني لما كتبت إليك، أني قادم عليك، تأهبت لأداء الفريضة على عجل، وحملت عيالي على أربع نياق وجمل، وقلت في نفسي: لعلي أظفر بمقابلتك في الكعبة، وأتناول معك من ماء زمزم شربة، ولما خرجنا من البلد، لم يكن معنا من أهله أحد، بيد أنه تبعنا على الأثر، من الطلبة الخمسة عشر، وفي خلال سيرنا على مهل، انحط علينا هؤلاء الفجار من الجبل، فقتلوا من فرغ منه الأجل، واستحسنوا قبيح العمل، وكانوا مصرين على قتلي مع الجماعة؛ لخوفهم في البيداء من الظمأ والمجاعة، فأوقعهم الله فيما أضمروه، وحملتم إليهم من الموت كأسا فتجرعوه، ثم نزلنا للراحة بذلك المكان القفر، من ضحوة النهار إلى وقت العصر، ثم رحلنا بعد ما أدينا الصلاة، ونال كل من الزاد مناه، وبعد عشر ليال كاملة، وصلنا بالأمان في هيئة قافلة، إلى الحرم المكي المعظم، وكان ذلك في آخر ذي القعدة المكرم، فتوجهت مع الشيخ والأقارب، إلى داري المجاورة لدار الشريف غالب، وأقمنا بها بين الأهل والولد، في عيش رغد، وقد نسي كل منا ما كان يترنم به في السفر، وهو من بديع درر عفيف الدين التلمساني الأغر:
Unknown page