ثم انتبه الشيخ من نومه ونهض في يوم الأحد، إلى ملاقاة مولاه الأوحد، فلم يصل بأي حيلة إليه؛ لكثرة الازدحام عليه، وقد استمر على ذلك أربعة أيام، مضت عليه كأنها لطولها أربعة أعوام، وخطر بباله في اليوم الخامس، أنه يدخل عليه وهو في الديوان جالس؛ لعله يفوز من الاجتماع معه بعد الوحشة بالاستئناس، فانتهز فرصة استراحة الحراس، وأيقن أنه بزعمه أتقن الحيل، واندفع في قاعة جلوسه على عجل، وتأمل فيها فوجدها ملونة الجدران واسعة، وهي لأنواع الظرافة والزخرفة جامعة، وشاهد في صدرها شبحا كأنه أسد، أو آدميا مشوه الخلقة كالرصد، وقبل أن يدنو منه ويفوز بالقصد، سمع منه صيحة هائلة كالرعد، فانقلب على ظهره وسحبوه، وطرحوه على الأرض وضربوه، وقال له زعيم الأعوان نذير، موبخا له على فعله النكير: لك الويل يا أغبر، يا مهين يا قبيح المنظر، كيف خاطرت بنفسك، وتجاريت على ارتكاب ما يسوقك إلى رمسك؟! ثم تفل في وجهه وصفعه، وقال: على أبيك اللعنة وعليك معه، اذهب - لا كنت - من حيث أتيت، وإن رجعت بعدها إلى هذا البيت، أشبعناك ضربا، ودفناك بالحياة غصبا، تبا لك يا سلالة الأنذال، ويا حثالة أسافل الجهال، كيف تسعى بقدمك إلى إراقة دمك!
فلما انفلت الشيخ من أيدي الأعوان اللئام، وقد خف عنه بعض ما كان يجد من الآلام، أخذ يمشي الهوينى حتى انتهى إلى منزله عند الغروب وهو في ارتباك، وقد أشرف من الضرب بالسياط على الهلاك، ودخل على زوجته وشقه مائل، والدم من رأسه سائل، فقالت له: من فعل بك هذا يا ابن شعلان؟! قال: فعله جماعة من الأعوان، بعد ما أفرطوا في السب واللعن، وأوعدوني إن لقيني أحد منهم بالطعن. فقالت له: لعلك ما عرفت لزعيمهم حقه، ولا استعملت معهم في كلامك الرقة، فعوقبت على قلة أدبك، بما أودى بك إلى سوء منقلبك، وإنه يجب عليك مع فقرك، وزيادة فاقتك وعسرك؛ أنك يا أقرع بالنزر اليسير تقنع. فقال لها: إني دخلت في قاعة الرئيس الهمام، لزعمي أني له من جملة الخدام، فسحبوني على وجهي قهرا، وعاملوني بضد عدل كسرى، هنالك نسيت بما ناله من العذاب الأليم، ما كانت فيه مع عائلتها من النعيم، وتمثلت وهي على جمر الغضا بقول من مضى:
أيا ويح دهر منه قد عدم الوفا
فما ينقضي فيه لراجيه مأرب
يكدر عيش المرء بعد صفائه
وإن ما كسا ثوبا من العز يسلب
ثم قال لها: يا حليلتي، ويا صاحبتي وخليلتي، إن هذا الرجل قد غدر بي ومكر، وجعلني عبرة لمن اعتبر، وانقطع عنا كما تعلمين الراتب، وزحفت إلينا جنود النوائب، فاخلعي مع البنات ما عليكن من اللباس، ولنقل بأجمعنا: اللهم يا شديد الباس، اشدد وطأتك عليه، وافصله من منصبه ولا تنظر إليه، وليكن ذلك سريعا معجلا، لا بطيئا مؤجلا.
لعن الله من يرى الضر للنا
س ويسعى في كشف حال الخلائق
رب فأنزل عليه سوط عذاب
Unknown page