آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (٦)
المنهج القويم في اختصار اقتضاء الصراط المستقيم
لشيخ الإسلام ابن تيمية
اختصره
العلامة محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي (ت ٧٧٨)
تحقيق
علي بن محمد العمران
إشراف
بكر بن عبد الله أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
1 / 1
رَاجَعَ هَذَا الجُزْءَ
محمَّد أجمَل الإصْلاحي
1 / 3
"مقدمة التحقيق"
الحمد لله ربّ العالمين، حمدًا يوافي نِعَمَه ويكافيء مَزيدَه، وأُصلِّي وأُسلِّم على أشرف الخلق ومقدَّم الرُّسْل: نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد؛ فإن الله -تعالى- أخَّر هذه الأمة المحمَّدية في الزمن، وقدمها في الخصائص والفضل، فجعلَها كما أخبر في كتابه المنزَّل: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
* وللمُهَيْمِنِ في تأخيرها شأن *
فختم الشرائع بها، فأصبحت قاضيةً وحاكمةً وناسخةً ومُهَيْمِنةً على شرائع الله المنزلة قبلها: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)﴾ [آل عمران: ٨٥].
وقد امتنَّ الله -تعالى- على هذه الأمة؛ فأرشدها وهداها إلى أحسن الطرقِ وأقومها، وأوضحِ السُّبُل وأجلاها، وجعلها على شريعةٍ من الأمر، وأكمل ذلك كله فقال -مُمْتنًّا-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]. ثم أمر باتباع هذه الشريعة -الكاملة الناسخة- فقال: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨].
ولأجل حِفْظ هذه الخصائص والميزات، جاءت خطاباتُ الشرع المتكاثرة في القرآن والسنة والآثار، بالحضِّ على تَمسُّك الأمة بدينها
1 / 5
والتزام طريقتها ومنهجها، كما جاءت بالنكير والتحذير مِن اتباع سنن الذين كفروا، على اختلاف مِلَلِهم ونِحَلِهم وضلالاتهم، ثم قَطَعَ الطُّرُقَ الموصلةَ إلى اتباعهم بتوجيهات حاسمة وأوامر كثيرة، لتصفوَ للأمة شِرْعتُها ومنهاجُها في أمورها كافةً (العبادات والعادات والمعاملات).
ومع كل هذا التحذير والتشديد إلا أن النبي ﷺ قد أخبر: أن طوائف من هذه الأمة ستتَّبع سنن الذين كفروا، وستسعى في مشابهتهم بكل طريق، حتى في أقبح الأفعال ومُسْتنكَر العادات ورذائل الأمور، وذلك الاتباع بل التَّبَعِيَّة = دليلٌ على فشوِّ الضعف فيها، كما في "قاعدة التغالب" بين الأمم، فالضعيف يسعى في تقليد الأقوى ومحاكاته، ليس في أسباب قوَّته وتقدمه، بل في أردأ ما عنده من شهوات ونحوها؛ نتيجة لخَوَر الهِمَم وفساد العزائم، وقد عبَّر الشارعُ عن هذا الضعف بـ "الغثاء" في قوله: "ولكنكم غثاء كغثاء السيل"، وأصل مادة "الغثاء" تدلّ على فسادٍ في الشيء، فما فَسَد ويبس وذهبت خضرته وروحه من أوراق الشجر ونحوها خفَّ على السيل حمله وتجمعت القاذورات حوله؛ فكان غُثاءً.
وأسبابُ الضعف كثيرة، ليس هذا مكان بيانها وشرحها.
ومع كل ذلك -أيضًا- فقد أخبر ﷺ -وخبرُه الصِّدْق-: أنه لا تزال طائفة من أمَّته على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله.
فلا بُدَّ إذن من بيان الحقِّ وتوضيحه وتبليغه، وبيان خطر تخلِّي الأمة عن خصائصها وشِرْعتها، ووجوب مباينة الكافرين والنهي عن مشابهتهم، وقطع الوسائل الموصلة إلى ذلك، وفي هذا البيان
1 / 6
والتوضيح من الحِكم الكثيرُ:
- من تثبيت الطائفة المنصورة.
- وتكثير عددها.
- وزيادة إيمانها.
- ثم العلمُ بالطريقة الشرعية، ومعرفةُ الأعمال القبيحة، والإيمانُ بذلك مطلوب شرعًا، بل العلم بها خير من العمل بدون علم، فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر، خير من أن يكون ميِّت القلب، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا.
* ولا زال أهل العلم والإيمان من هذه الأمة المرحومة في بيانٍ للحق ومدافعةٍ للباطل؛ هدايةً للخلق، وقيامًا بواجب التبليغ، ومعذرةً إلى الله، فكان ممن تصدّى لهذه المسألة (التشبه بالكفار ونحوهم وما يتبعها) = الإمام الرَّبَّاني القدوة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيميَّة -رحمة الله عليه- فأوفَاها حقَّها من البحثِ والتقعيد وضرب الأمثال وتحرير المسائل، في كتابه الفذّ: "اقتضاءُ الصراطِ المستقيمِ مخالفةَ أصحاب الجحيم".
فبيَّن فيه: الاختلاف الذي وقع وسيقع في الأمة، ومتابعتها لمن قبلها من الأمم -اليهود والنصاري-.
وذَكَر: بقاء الطائفة المنصورة والفرقة الناجية على الحق إلى قيام الساعة.
وبيَّن: أنواع البدع والضلالات والشرك الذي ابتليت به الأمة في
1 / 7
الاعتقاد والعمل (من العبادات والعادات والسلوك).
وبيَّن: أثر هذا التشبّه والموافقة على الأمة، وأن المشاركة في الهدي الظاهر تورِث مشاركة في الباطن.
وبيَّن: مسألة التشبُّه والنهي عنه ودلائله، وقواعد الحكم على العمل وإلحاقه بالتشبّه المنهيّ عنه أو المكروه، وذكر الأجناس التي جاء النهي عن التشبه بها من (الكفار، والأعاجم، والأعراب).
وفصَّل: في مسألة الأعياد والاجتماعات المبتدعة وحرَّرها أبلغ تحرير، وصرح فيه: (١/ ١٠٣ وغيرها) أن هذه المسألة هي المقصودة من الكتاب، وغيرُها سِيْق تبعًا لها.
وبيَّن أخيرًا: ما وقع في الأمة من الابتداع في تتبُّع وزيارة الآثار والقبور والمزارات والمشاهد.
ولعموم الحاجة إلى هذا الكتاب، ولما فيه من العلوم الكثيرة الغزيرة = انتشر في الآفاق، وعَظُم انتفاع الناس به، واعتمدوا عليه في بابه (خاصة موضوع التشبُّه والكلام على البدع).
* * *
* ولعلّ الأمرَ الذي ذكرناه في مقدمة "مختصر الصارم المسلول": (ص/ ٦) هو نفسه الذي دعا العلامة البعلي إلى اختصار "الاقتضاء"، ولعل السبب نفسه -أيضًا- هو الذي دعا جماعةً من المعاصرين لعمل مختصراتٍ للكتاب، وهي:
1 / 8
١ - "مختارات من اقتضاء الصراط المستقيم" لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عُثيمين، طبع دار ابن الجوزي في (٦٣ صحيفة).
٢ - "مهذَّب اقتضاء الصراط المستقيم" للدكتور عبد الرحمن الفريوائي، تقديم فضيلة الشيخ عبد الله الغنيمان، في (٣٥٢ صحيفة). وتُرجم هذا المختصر إلى الأُرْدية.
٣ - "مختصر اقتضاء الصراط المستقيم" للدكتور ناصر بن عبد الكريم العَقْل، طبع دار إشبيليا عام ١٤١٩، في (٤٧٨ صحيفة).
وفي كلٍّ خير، نفعَ اللهُ بالجميع.
وكنَّا قد قدمنا الكلام على:
* ترجمة المؤلف.
* ووصف النسخة الخطية.
* ومنهج العمل.
في مقدمة "اختصار الصارم": (ص ١٥ - ٢٤)، فلا نعيده.
ويقع هذا "المختصر" في "المجموع النفيس" بخطِّ مؤلِّفه البعلي ت (٧٧٨) في (٣٣ ق) (ق/ ١٧٧ أ - ٢١٠ ب).
وسمَّاه كما في طرَّته: "المنهج القويم في اختصار الصراط المستقيم"، كذا، وفيه من الإيهام على العامة ما فيه؛ لذا فقد أشار من مشورته غُنْم بأن تضاف إلى العنوان كلمة "اقتضاء" ليصبح "المنهج القويم في اختصار [اقتضاء] الصراط المستقيم" وبه يزول اللبس.
وقد اعتمدنا في الإحالة والمقابلة على "الاقتضاء" في طبعته التي حققها د/ ناصر العقل (ط السابعة ١٤١٩، توزيع وزارة الشئون الإسلامية)، وهذه النشرة هي أجود نشرات الكتاب فيما أعلم، وقد استفدت من عمله وزدت في عملي فوائد كثيرة؛ في تخريج الأحاديث،
1 / 9
والحكم عليها، والإحالة على الكتب، وتخريج بعض الآثار، والتعليق على بعض المواضع؛ فلو استُدْرِك -من هنا ما فات هناك- في طبعة لاحقة لكان حسنًا.
ثم ذيَّلت الكتاب بفهارس متنوِّعة؛ للآيات، والأحاديث والآثار، والمراجع، ثم صنعتُ له فهارس علمية؛ للمسائل العقدية، والفقهيَّة، والأصولية، والبدع، وبدع النصارى ومنكراتهم، ومسائل التشبُّه، والقواعد والضوابط، والفوائد المنثورة، والموضوعات. ولا أدَّعي الإحاطة بكلِّ ذلك، لكني بذلت جهدي، وبالله الإعانة والتوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وكتب
علي بن محمد العِمران
٦/ ٥/ ١٤٢١ هـ
في مكة المكرمة - حرسها الله تعالي
1 / 10
نماذج من النسخة الخطية
1 / 11
ورقة العنوان من "المنهج القويم"
1 / 12
الورقة الأولى من "المنهج القويم"
1 / 13
الورقة الأخيرة من "المنهج القويم"
1 / 14
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربِّ العالمين، قيوم السماوات والأَرضين. والحمد لله الذي أكملَ لنا ديننا، وأتمَّ علينا نعمتَه، ورضيَ لنا الإسلامَ دينًا، وأمرنا أن نستهديَه صراطَه المستقيم، صِراط الذين أنعمَ عليهم غير المغضوب عليهم -اليهود-، ولا الضالين -النصارى-.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالدين القيِّم، والحنيفية السَّمْحة، وجعله على شريعةٍ من الأمر، وأمره أن يقول: ﴿هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨]، صلى الله وسلَّم عليه، وزاده شرفًا لديه.
وبعد؛ فإني كنت قد نَهَيْتُ عن التشبُّه بالكفار في أعيادهم، وبيَّنت ما في ذلك من الأثر والدلالة الشرعية. ثم بلغني أن من الناس من استغربَ ذلك واستبعده، لمخالفةِ عادةٍ قد نشأوا عليها، فاقتضاني (^١) بعض الأصحاب أن أعلِّق في ذلك ما يكون إشارة إلى [أصل هذه المسألة، لكثرة فائدتها وعموم المنفعة بها، ولما قد عمَّ كثيرًا من الناس من الابتلاء بذلك حتى صاروا في نوعِ جاهلية.
_________
(^١) أي: طلب مني.
1 / 17
فصلٌ
اعلم أن محمدًا] (^١) بعثه الله إلى الخلق وقد مقت أهلَ الأرض، إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا -أو أكثرهم- قُبيل مبعثه.
والناس أحد رجلين؛ إما كتابيٌّ مُعْتَصِم بكتابٍ؛ إما مُبدَّل، وإما مُبَدَّلٌ منسوخ، ودين دارس (^٢)، بعضه مجهول وبعضه متروك.
وإما أُمِّي من عربيٍّ وعجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه وظنَّ أنه ينفعه من نجمٍ أو وثنٍ أو قبرٍ أو تمثال أو غير ذلك.
والناسُ في جاهليةٍ جَهْلاء، فهدى اللهُ الناسَ ببركة [نبوة] (^٣) محمد ﷺ، وبما جاء به من البيِّنات والهدي، هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفةَ العارفين، فلله الحمد كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.
بعثه بدين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، وفَرَضَ على الخلق أن يسألوه هدايتَه كلَّ يومٍ في صلاتهم، ووصفَه بأنه: صراطَ الذي أنعم اللهُ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
قال عديُّ بن حاتم ﵁: أتيتُ رسول الله وهو جالسٌ في المسجد، وجئتُ بغير أمانٍ ولا كتاب، فلما دفعتُ إليه أخذ بيدي، وكان قد قال قبل ذلك: "إنِّي لأرجو أن يجعلَ اللهُ يَدَه في يدي"، قال:
_________
(^١) ما بين المعكوفين متآكل في الأصل، إذ كان تكملةَ لحقٍ طويل، بدأ من قوله: "وبعد، فإني ... " فجاء في ذيل الصفحة، والإكمال مستفاد من "الاقتضاء": (١/ ٧٣ - ٧٤).
(^٢) أي: ذهبت معالمه.
(^٣) لحق بالهامش ولم يظهر، بسبب تداخله مع اللحق الطويل المتقدم.
1 / 18
فقام بي حتى أتى داره، فألقت له الوليدةُ (^١) وسادةً، فجلسَ عليها، وجلستُ بين يديه، فحمدَ اللهَ وأثنى عليه ثم قال: "ما يُفِرُّكَ (^٢)؟ أَيُفِرُّكَ أنْ تَقُوْلَ: لا إلهَ إلا الله؟ فَهَل تعلمُ مِن إلهٍ سوى الله"؟ قلتُ: لا، ثم تكلَّم ساعةً، ثم قال: "إنما تَفِرُّ أن تقول: الله أكبر، أَوَ (^٣) تَعْلَمُ شيئًا أكبرُ مِنَ اللهِ؟ " قلتُ: لا، قال: "فإن اليهودَ مغضوبٌ عليهم، وإن النصاري ضُلَّال".
قال: قلت: فإني حنيف مسلم. قال: فرأيتُ وجْهَه ينبسِطُ فرحًا، وذكرَ حديثًا طويلًا.
رواه الترمذي (^٤) وحسَّنه (^٥).
وفي كتاب الله ما يدلُّ على معنى هذا الحديث، مثل قوله: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٦٠]، والضمير عائد إلى اليهود والخطابُ معهم، كما دلَّ عليه سِياق الكلام.
_________
(^١) أي: الجارية.
(^٢) أي: ما يحملك على الفرار.
(^٣) كذا في الأصل، وفي "الاقتضاء" و"المصادر": "و".
(^٤) رقم (٢٩٥٣).
(^٥) تمام عبارته: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سِماك بن حرب" اهـ والحديث أخرجه أحمد في "المسند": (٣٢/ ١٢٣ رقم ١٩٣٨١)، وابن حبان "الإحسان" (١٦/ ١٨٣) وغيرهم من طرقٍ عن سِماك بن حرب عن عبَّاد بن حُبيش به.
وفيه عبَّاد، قال الذهبي: لا يُعرف، وذكره ابن حبان في "الثقات": (٥/ ١٤٢)، ولم يرو عنه غير سِماك بن حرب، وسِماكٌ في حفظه مقال. ولبعض ألفاظ الحديث شواهد يتقوَّى بها.
1 / 19
وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ﴾ [المجادلة: ١٤]، وهم المنافقون الذين تولَّوا يهود، باتفاق أهل التفسير، وسياق الآية يدل عليه.
وقال: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٢]، وفي [البقرة] (^١): ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾، فهذا بيان أن اليهود مغضوبٌ عليهم.
وقال في النصارى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (٧٧)﴾ [المائدة: ٧٣ - ٧٧]، فهذا خطابٌ للنصارى كما دلَّ عليه السِّياق، ولهذا نهاهم عن الغلو، وهو مجاوزة [الحد] (^٢)، كما نهاهم عنه في قوله: ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ﴾ الآية [النساء: ١٧١].
ووَصْفُ اليهودِ بالغضب، والنصارى بالضلال له أسبابٌ ظاهرة وباطنة، ليس هذا موضِعها، وجماعٌ ذلك: أن اليهود كفروا عنادًا؛ لأنهم يعلمون الحقَّ ولا يُتْبِعونه عملًا، والنصارى كُفْرهم من جهةِ عملهم بلا علم، بل هم مجتهدون في أصناف العبادات بلا شِرعةٍ (^٣) من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون.
_________
(^١) وقع في جميع مخطوطات الاقتضاء، وفي "الأصل": "آل عمران" وهو سهو؛ إذ الآية قبلها في آل عمران، وهذه في البقرة آية: ٩٠.
(^٢) في "الأصل": "الحق"، وهو سهو.
(^٣) "الاقتضاء": "شريعة".
1 / 20
ولهذا قال السلف -سفيانُ بن عُيَينة وغيره-: "من فَسَد من علمائنا ففيه شبهٌ من اليهود، ومن فسدَ من عُبَّادنا ففيه شَبَهٌ من النصاري".
ومع أنَّ الله قد حذَّرنا سبيلهم، ثم مع ذلك فقضاؤه نافذ بما أخبرَ به رسولُه، حيث قال: "لَتتَّبِعُنَّ سَنَنَ من كان قَبْلَكُمْ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لو دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُموه" قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فَمَنْ" (^١)؟!. حديث صحيح.
ورواه البخاري (^٢) عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "لا تَقُوْمُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخَذَ أُمَّتِي ما أَخَذَ (^٣) القرونَ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِراعًا بِذِراعٍ" فقيل: يا رسولَ الله! كفارس والروم؟ قال: "وَمَن الناسُ إلا أُولئك"؟
وقد كان ينهى عن التشبُّه بهم، وليس ذلك إخبارًا عن جميع الأُمة، فإنه قال: "لا تَزَالُ طائفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظاهرينَ على الحقِّ حتَّى تقومَ السَّاعَةُ" (^٤).
وأخبرَ: أنه لا تجتمع هذه الأمةُ على الضلالة (^٥)، وأن لا يزال
_________
(^١) أخرجه البخاري رقم (٧٣٢٠)، ومسلم رقم (٢٦٦٩) من حديث أبي سعيد الخدري ﵁. بنحوه.
(^٢) رقم (٧٣١٩).
(^٣) كذا بالأصل. وهي إحدى روايات الصحيح، ورواية الإسماعيلي. وضُبِطت بأوجهٍ أخرى انظر "الفتح": (١٣/ ٣١٣).
(^٤) أخرجه البخاري رقم (٣٦٤٠)، ومسلم برقم (١٩٢٠، ١٩٢١) من حديث المغيرة ﵁ وغيره.
(^٥) جاء هذا المعنى في عدة أحاديث عن عدد من الصحابة، منهم ابن عمر عند الترمذي برقم (٢١٦٧) وابن أبي عاصم في "السنة": (١/ ٣٩ رقم ٨٠)، وكعب =
1 / 21
يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعة الله (^١).
فعُلِم بخبره الصِّدق أنَّ في أمته قومًا متَمسِّكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا، وقومٌ منحرفون إلى شعبةٍ من شُعَب اليهود، أو إلى شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكلِّ انحرافٍ، بل وقد لا يفسُق، بل قد يكون الانحرافُ كفرًا، وقد يكون فِسْقًا، وقد يكون معصيةً، وقد يكون خطأً.
وهذا الانحراف أمرٌ تتقاضاه (^٢) الطباع ويُزَينه الشيطان، فلذلك أُمِر العبدُ بِدَوام دعاء الله -سبحانه- بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهوديَّةَ فيها ولا نصرانية أصلًا.
وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتُلِيَت بها هذه الأمة، ليجتنب المسلم الحنيف الانحرافَ.
قال الله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ
_________
= بن عاصم الأشعري عند ابن أبي عاصم في "السنة": (١/ ٤١ رقم ٨٢)، وغيرهم.
والحديث حسنه الألباني في "السلسلة" رقم (١٣٣١) بمجموع طرقه.
(^١) أخرجه بنحوه أحمد في "المسند": (٢٩/ ٣٢٥ رقم ٧٧٨٧)، وابن ماجه في المقدمة رقم (٨)، وابن حبان "الإحسان": (٢/ ٣٣) وغيرهم، من طرقٍ عن الجراح بن مليح عن بكر بن زرعة. عن أبي عنبة الخولاني به.
والجراح بن مليح لا بأس به، وبكر بن زرعة لم يوثقه أحد غير ابن حبان فقد ذكره في "الثقات": (٤/ ٧٥) وروى عنه جماعة. وفي صحبة أبي عنبة خلاف، والحديث صححه ابن حبان، والبوصيري في "مصباح الزجاجة": (١/ ٤٤).
أقول: وفي صحته نظر.
(^٢) أي: تقتضيه وتطلبه.
1 / 22
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة: ١٠٩]، فذمَّ اليهودَ على ما حسدوا به المؤمنين على الهدى والعلم.
وقد يُبْتَلى بعض المُتَلَبِّسِين (^١) بالعلم وغيرهم بنوعٍ من الحسد لمن هداه الله بنوع علمٍ أو عملٍ صالح، وهو خُلُق مذمومٌ مطلقًا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم.
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء: ٣٦ - ٣٧]، فوصفهم بالبخل بالعلم وبالمال، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلمِ هو المقصود الأكبر.
وكذا وصَفَهم بكتمان العلم في غير آيةٍ، مثل قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٨٧]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٥٩]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [البقرة: ١٧٤].
فوصَفَ المغضوبَ عليهم بأنهم يكتمون العلم؛ تارةً بخلًا به، وتارةً اعتياضًا عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفًا (^٢) أن يحتج عليهم بما أظهروه منه.
وهذا قد ابتُلِي به طوائف من المنتسبين إلى العلم، فإنهم تارةً يكتمون العلمَ بُخلًا به، وكراهية أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارةً اعتياضًا برئاسة أو مال، فيخاف إن أظهره نَقْصَ رياسته أو ماله، وتارةً يكون قد خالف غيره في مسألةٍ، أو اعتزى إلى طائفةٍ قد خُوْلفت
_________
(^١) "الاقتضاء": "المنتسبين".
(^٢) في "الأصل": "خوف".
1 / 23
في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه، وإن لم يتيقَّن أن مخالفه مُبْطل.
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٩١]، بعد أن قال: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (٨٩)﴾ [البقرة: ٨٩].
فوصَفَ اليهود أنهم كانوا يعرفون الحقَّ قبل ظهور الناطق به، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يَهْوَوْنها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم.
وهذا يُبْتَلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معيَّنة في العلم أو الدين، من المتفقِّهة أو المتصوِّفة وغيرهم، أو إلى رئيس معظَّم في الدين غير النبي ﷺ، فلا يقبلون من الدين رأيًا وروايةً إلا ما جاءت به طائفتُهم، ثم إنهم لا يعملون بما تُوْجِبه طائفتهم، مع أن دين الإسلام يوجِبُ اتباعَ الحقِّ مطلقًا، من غير تعيين شخصٍ غير النبي ﷺ.
وقال في صفة المغضوب عليهم: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء: ٤٦]، و﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران: ٧٨] والتحريف قد فُسِّر بتحريف التنزيل، وتحريف التأويل.
فأما تحريف التأويل؛ فكثير جدًّا، وقد ابتُلِيت به طوائف من الأمة، وأما تحريف التنزيل؛ فقد وقع في كثير من الناس، يحرِّفون ألفاظَ
1 / 24