Manhaj Fi Fikr Carabi Mucasir
المنهج في الفكر العربي المعاصر: من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي
Genres
أما الدليل الثاني:
فإن روح الرشدية «اللاتينية» التي تنبني على مبدأ الفصل بين الدين والفلسفة استمرت إلى غاية القرن السابع عشر، ممهدة على التدريج لظاهرة التحلل من الدين التي انتشرت بين أصحاب عصر التنوير، والتي تواصل تأثيرها وانتقل إلى المحدثين، فحينئذ لا عجب أن ينصب ابن رشد إماما للعقلانيين والعلمانيين والحداثيين، وبهذا يتبين أن إرادة الانتساب إلى ابن رشد إنما هي إرادة الانتساب إلى العلمانية كما تجلت في أطوارها الثلاثة: «اللاتيني» و«الأنواري» و«الحداثي».»
113
صحيح أن للجابري - رحمه الله - مواقف من العلمانية ومن المركزية والحداثة الغربية ما يفوق بها غيره من المفكرين العرب، واحترامه للأسس العقدية الإسلامية، ولم يعلن مصادمته للثوابت، كما فعل غيره، وهو الذي أعلن غير ما مرة أن العلمانية غير ذات موضوع في تاريخنا الفكري والثقافي، لكن ابتكر لها بديلا هو الديمقراطية والعقلانية للتخفيف من الحساسيات التي يثيرها المفهوم ومآلاته في الوعي الشعبي العربي، وهو ما عبر عنه سابقا بنوع من الذكاء المنهجي الذي سلكه الجابري في محاورة إشكالات الوعي العربي.
إن انبعاث الأمة وانبثاقها من جديد لن يكون عن طريق عقلانية ابن رشد وفلسفته مهما بلغت من النضج؛ لأنها عقلانية عبرت عن طموحاتها في سياقها التاريخي، وهي عقلانية نسبية محكومة بالزمان وبالأفق الفكري الذي فكرت فيه ومن خلاله. إن الأمة أكبر من عقلية ابن رشد وغيره وتاريخها لا يعبر عنه ابن رشد وحده، وإنما تتجدد بمقوماتها وأسسها الفكرية المطلقة - الوحي - وبعقلية مستوعبة لجميع مدارس الأمة الفكرية والقدرة على استثماره، وفق المعطيات الجديدة التي تحياها، ويعبر طه عبد الرحمن عن هذا النفس بقوله: «فإني أنصرف عن ابن رشد وعن الرشدية، وأنا مطمئن إلى صواب انصرافي عنهما لتمام إيقاني بأن انبعاث الأمة العربية الإسلامية لن يكون عن طريق فكر ابن رشد، ولو استنفر الرشديون عددهم وعدتهم كلها لبثه في النفوس بالترغيب أو الترهيب، إلا أن ينسلخوا عن جلدتهم ويلبسوا غيرها، فيذوبوا في أهلها ذوبان الثلجة في البحر، أما أن يطمعوا في أن يحققوا لهذه الأمة انبعاثها بواسطة هذا التقليد مع بقائهم هم أنفسهم عربا مسلمين متميزين عمن يقلدون، فذاك أمر دونه ولوج الجمل في سم الخياط.»
114
ولم يكتف الجابري بالدعوة إلى القطيعة بين مفكر وآخر، بل القطيعة حتى داخل الشخصية الواحدة، كما هو الحال مع ابن خلدون بين عقلانيته ومنهجه في التفكير وبين أسسه المرجعية التي استند إليها في قانونه التاريخي، وأن عقلانيته لا علاقة لها بالمرجعية الإسلامية، وهو يعالج إشكالية الذاتي والموضوعي في فكر ابن خلدون، بعد أن فصل بينه وبين ابن رشد في النظر إلى أحداث التاريخ وتشكلها، فهو يرى أن ما يميز ابن خلدون عن «غيره من المؤرخين السابقين له (...) هو صدوره في عمله التاريخي عن دوافع تختلف اختلافا جذريا عن تلك التي وجهت غيره إلى التأليف التاريخي، فبينما نجد كبار المؤرخين في الإسلام اتجهوا إلى التاريخ بدوافع وأغراض دينية أو سياسية أو مجرد التسلية أو من أجل إبراز دروس وعبر معينة، الشيء الذي يعني أن اهتمامهم بالتاريخ كان من أجل شيء آخر، لا من أجل التاريخ ذاته نجد ابن خلدون يصدر، بالعكس من ذلك، عن وعي تاريخي حاد جعل اهتمامه بالتاريخ لذات التاريخ لا لشيء آخر»،
115
ويجرده - في أماكن أخرى - من القواعد المنهجية العلمية الإسلامية التي اعتمدها في مقدمته يقول: «هناك حقيقة لا بد من أخذها بعين الاعتبار الكامل، وهي أن فكر ابن خلدون كان مؤطرا أشد ما يكون التأطير بالقوالب المنطقية القديمة الأرسطية الأصولية»،
116
Unknown page