Manhaj Fi Fikr Carabi Mucasir
المنهج في الفكر العربي المعاصر: من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي
Genres
وبقاء النظام المعرفي لهذه النخبة متعاليا، وطبيعة العلاقة بينها وبين الأمة متباعدة، وهو الاتجاه الذي أكده منير شفيق حين فرق بين النخبة الغربية والنخبة العربية المتغربة، يقول: «إن النخبة في الغرب ابنة تجربته وحضارته، وهي وإن نزلت لفئاته الشعبية من خارجها إلا أنه نزول من فئات أعلى تنتسب إلى المجتمع نفسه وإلى الحضارة نفسها. أما النخبة المتغربة فسمتها أنها هبطت من خارج المجتمع إلى فئاته الشعبية، وهذا ما أخرجها من الدائرة الحضارية كليا قبل أن تناقش نخبويتها بالنسبة إلى الفئات الكادحة، وإن هذا الفرق بين النخبة في الغرب والنخبة عندنا فرق جوهري وأساسي؛ ولهذا فقدت «نخبتنا» الهوية التي احتفظت بها الجماهير، مما يشكل المصدر لأزمة عميقة، والمنبع الأول لأخطاء النخبة وعجزها؛ الأمر الذي فرض العودة إلى طرح موضوع الهوية، وإعطائه الأولوية.»
180
يبقى موضوع الهوية الحضارية واحدا من الشواغل الأساسية في العودة إلى الذات، والقدرة على القبض على المشكلات الحقيقية للأمة بمفاهيمها ومناهجها.
يبقى مشروع أركون واحدا من المشاريع الفكرية العلمانية في الفكر العربي المعاصر، التي لم تستطع أن تحدث خلخلة في بنية الذات العربية بالشكل الإيجابي، وقوبل في كثير من الأحيان بالرفض المطلق ليس في العالم العربي فحسب؛ بل في الغرب أيضا، حين حاول أن يتجرأ على الفكر الفرنسي، ويمارس النقد «العلمي» فاتهم بالأصولي المتزمت، إذ لم تشفع له سنوات الانتماء لهذا الفكر من التهمة بالأصولية، وهي الفرضية التي تؤكد أن الولاء للغرب خدعة انطلت على نخبنا الفكرية، فهم كاسحات ألغام ليس إلا، وهي الاعترافات التي عبر عنها أركون نفسه عندما امتلك الجرأة في نقد الفكر الفرنسي، اتهم بالأصولي المسلم المتزمت.
مشروع بنى ذاته على صيغ مفاهيمية غير قابلة للتواصل مع تيارات الفكر العربي والإسلامي، ولا تشجع على التفاهم، صيغ سالبة احتقارية للذات، والعقل العربي الإسلامي من خلال استعارة مفاهيم من الحقل المعرفي الغربي مثل الأوصاف التي وصف بها هذه الذات: «الوثوقية - اللاهوتية - العدوانية - الخرافية - الدوغمائية - الأرثوذكسية - الانغلاقية ...» كما يفتقر مشروعه إلى نوع من الذكاء المنهجي والمعرفي؛ إذ اتجه مباشرة إلى إعلان الحرب على المقدسات وتخريبها، عكس الجابري، الذي احتاط لهذا الأمر وعقد مع الإسلام علاقة ود واحترام وتقدير، بل أعاد تنظيم مشروعه على أساس العلاقة معه
181
وفق تصوراته، المهم عنده هو عدم إثارة الحساسيات، وتجنب الدخول في مربع الخداع الذي دخل فيه أركون والتيارات «الحداثية» التغريبية، وأنجزت قطيعة كلية مع هوية الأمة.
وأعتقد أن هذا النوع من المشاريع لم يعد قادرا على التفاعل مع الذات مهما حاولت الانتساب إليها، خصوصا بعد التحولات النسبية لبعض رموز هذا التيار نحو الهوية الحضارية للأمة ومحدداتها المنهجية والفكرية ومفاهيمها، وكذا التحولات التي تشهدها المنطقة، وعودة الدين إلى الحياة.
إن إبداع الأمة وعطاءها المأمول والمنشود لن يكون إلا من خلال إطارها العقدي والحضاري، وكل خروج عن هذا الإطار ضياع للجهد وضلال منهجي، ف «نموذج المجتمع العربي الإسلامي يختلف اختلافا بينا وجوهريا عن نماذج المجتمعات التي عرفتها أوروبا، فهذا يجعل منذ البداية عملية تطبيق مناهج الغرب على تحليل المجتمعات العربية الإسلامية نهجا غير علمي وانحرافا عن سواء السبيل.
لا ينفصل المنهج العلمي عما يحمل من مفاهيم ومعايير ونماذج مجتمعية، كما أن الذي يقرر علمية نتائج أي بحث هو مدى رؤيتها للأشياء كما هي، ومدى دفعها إلى أخذ موقف صحيح إلى جانب ما هو حق وضد ما هو باطل، لا انتسابها إلى هذا المنهج أو ذاك من المناهج الغربية التي تدعي احتكار العلمية»،
Unknown page