إهداء
تقديم
1 - المدرسة القومية في الفكر العربي المعاصر: الأسس المرجعية والمحددات المنهجية
2 - المدرسة العلمانية في الفكر العربي المعاصر: الأصول المرجعية والمنهجية
3 - المدرسة البنائية التأصيلية في الفكر العربي المعاصر: الرؤية والمنهج
خاتمة
لائحة المصادر والمراجع
إهداء
تقديم
1 - المدرسة القومية في الفكر العربي المعاصر: الأسس المرجعية والمحددات المنهجية
2 - المدرسة العلمانية في الفكر العربي المعاصر: الأصول المرجعية والمنهجية
3 - المدرسة البنائية التأصيلية في الفكر العربي المعاصر: الرؤية والمنهج
خاتمة
لائحة المصادر والمراجع
المنهج في الفكر العربي المعاصر
المنهج في الفكر العربي المعاصر
من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي
تأليف
عبد الله أخواض
إهداء
إلى أمي وأبي
اعترافا بفضلهما وجميل صنيعهما.
تقديم
ثمة إحساس واتفاق بين المشتغلين بالفكر العربي المعاصر، والمهتمين بهموم النهضة والتقدم في الأمة، أن ما خطط له منذ أربعة عقود - على الأقل - لم يحقق ما كان يرجى ويتوخى، وأن الجهود التي بذلت مسها قصور كبير في جوانب مهمة من هذا المسار الفكري رغم الإمكانات التي توفرت لتيارات هذا الفكر، ورغم محاولات الترميم بين لحظة وأخرى، لكنها بقيت دون المبتغى، ولم ترق إلى مستوى التحول العميق في الأطر المرجعية ومنطلقات التأسيس والبناء.
وقد قدمت هذه الاتجاهات مشاريعها الفكرية، وتبنت مقولات ومفاهيم تتقدم برامجها للإجابة عن الأسئلة المقلقة والحرجة التي تواجه الأمة، فدارت المعارك بين هذه المقولات ومنهجياتها تحت شعار «البقاء للأقوى» و«نفي النفي» ومنطق التجاوز والإلغاء، فأدخلت الأمة في معركة وهمية؛ معركة المقولات الإمبريالية بتعبير المسيري. فجر الفكر العربي المعاصر الأمة إلى معارك فكرية ومنهجية لم تكن لتختارها بإرادتها، ولا عن طواعية، لكن سيقت إليها سوقا، ودعت إليها دعا، فتوزعت إلى أحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون: معركة المناهج، ومحددات الرؤى، والاختيارات الفكرية، فنشأت فيها مقاربات وأطروحات مضادة، فاحتدم الصراع بين تيارات الوعي العربي حول أمضى الأسلحة وأقواها في مواجهة مركبات التخلف والتأخر التاريخي، فاختلفت هذه المحددات المنهجية من مدرسة إلى أخرى، وقدمت وصفات منهجية جاهزة.
المقاربة الأولى:
المقاربة التاريخية الجدلية التي تبناها اليسار الماركسي العربي، الذي يرى في التحليل المادي التاريخي المخلص الحقيقي للأمة من سكونها، وركودها التاريخي، وتجاوز المنهجيات التي ظلت رهن النظرات، والمواقف المثالية «الميتافيزيقا» التي يحكمها خط عام مشترك، ورؤية أحادية الجانب، ومستقلة عن التاريخ وقاصرة عن كشف العلاقة الواقعية الموضوعية غير المباشرة بين القوانين الداخلية لعملية الإنجاز الفكري، وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي،
1
باعتبار هذه الرؤية تمثل طريق الوضوح المنهجي،
2
وتملك عناصر قادرة على تقويم التاريخ وتجاوزه، فنظرت إلى تاريخ الأمة وفق تراتبية منهجية أملتها عناصر المقاربة المعتمدة في أفق الانتقال من مجتمع إقطاعي رأسمالي متخلف إلى مجتمع اشتراكي.
فقام التحليل عندها على قاعدتين أساسيتين: قاعدة المادية الدياليكتيكية والمادية التاريخية، واعتبرت هذه الأخيرة هي القاعدة في تحديد المنهج لإنتاج المعرفة. وتمثل هذه المدرسة أحسن مدخل للعرب في الفكر التاريخي، وإن التجاوز الأفضل لمشكلات التأخر يتحقق داخل الأطر المنهجية والمرجعية لهذه المدرسة، لكنها ظلت على هامش قضايا الأمة، فتحولت من البحث عن الوضوح المنهجي إلى الغموض المنهجي وضبابية الرؤية ومصادرة حق الاختلاف فيه. وتكاد تكون هذه المصادرة علامة فارقة عند هذا التيار، فلا هو أنتج فكرا وأسس رؤية ولا استطاع تجاوز مشكلات التخلف.
المقاربة الثانية:
هي المقاربة الإبستيمولوجية التي مثلها ثلة من المفكرين العرب، على اختلاف مداخل التبني، الجابري، ووقيدي، وأركون ... إلخ، التي انتهجت هي الأخرى منطق الاستبعاد والاستبقاء على مستوى الاختيارات المنهجية، أو على مستوى قضايا ونماذج التطبيق لهذه المقاربة، إلا أنها هي الأخرى مسها مس الاختزال والفشل في تحقيق الحلم، إذ مارست التفكيك لآليات العقل العربي الإسلامي، لكنها لم تقو على البناء والتركيب والتوليد.
هكذا اتخذت الإجابة عن مشكلات الأمة طرقا ملتوية غير مستوية، ومنهجية معكوسة من خلال الاشتغال على آليات وأدوات، وجدت خارج مشكلاتها الحقيقية، وسياقها التاريخي الحضاري؛ قاصرة عن تقديم الحلول المناسبة، مما يطرح مشكلة الاستعانة بالمساقط الفكرية والمنهجية - بتعبير منى أبو الفضل رحمة الله عليها - المغايرة لهوية الأمة الحضارية، ويفسر ضعف الإبداع في الفكر العربي المعاصر، فافتقد هذا الفكر لإطار مرجعي جامع في تنظيراته وممارساته، وقد كان هذا مسوغا كافيا لإرباك حسابات وتوقعات هذه التيارات المتأرجحة، ومن شأن كل فكر ينطلق من مسلمات النموذج المتأرجح ومقولاته أن يفقد مقومات النهوض الراشد.
يقتضي المنهج العلمي الإمساك بالمنطق الداخلي لكل مجتمع، ومراعاة خصوصياته في إطار المشترك الإنساني العام ما لم ينقض أصلا من أصوله، أما التعميم المنهجي والمعرفي والواحدية في المقولة الإنسانية فمنطق متجاوز، وإن العقائد مسلمات أساسية في البناء المعرفي والحضاري للأمم، خصوصا إذا تعلق الأمر بأمة الإسلام صاحبة الوحي الخالد - الإطار المرجعي الأساس في بناء الرؤى وتوليد النماذج الفكرية والمعرفية.
إن أي تخطيط لمشكلات الأمة خارج هذا الإطار سيئول لا محالة إلى الفشل؛ ولهذا لم يكن الاشتغال في الفكر العربي المعاصر على مناهج واضحة المعالم، وذات علاقة براهنية قضايا الأمة ومشكلاتها، وتؤسس لتحيزاتها وخصوصياتها، والانتقال من المطابقة والمماثلة - بتعبير عبد الله إبراهيم - مع آليات ورؤى الفكر الغربي إلى الاختلاف معها.
لأن الاختلاف رهان الاستقلال الحضاري، وإعادة قراءة الأحداث برؤية مستقلة وواعية ومتبصرة، زد على ذلك أن هذه المناهج مناهج تفكيكية غير قادرة على التركيب وتفتقد إلى القصدية، والغاية التكوينية للخلق، في دراسة الظواهر وغير مستوعبة للشروط التاريخية والنفسية والاجتماعية للإنسان العربي.
وتكاد تكون هذه القضية عامة في واقع الفكر العربي المعاصر. وما ذلك التأخر في السعي والإثمار الذي عاشته تجارب الأمة الإصلاحية إلى اليوم، إلا بسبب افتقادها للمنهج والتي هي أقوم في مشاريعها النهضوية.
استشعارات داخلية:
ثمة إحساس ووعي واستشعارات داخلية قوية لم تعد تراهن على تقليد الغرب في تحقيق الإنجاز الحضاري، أو على منهجية تلفيقية تجمع بين الحداثة وبعض إنجازاتها، والتراث ومفاهيمه؛ بعد أن ضاع من الأمة زمن غير يسير من السير خلف هذا الذي يأتي أو لا يأتي، بقدر ما تراهن على مقومات الهوية العربية الإسلامية في النهوض، والبحث عن مسافة حقيقية في علاقتها مع الغرب تحددها هذه الهوية، وأن الرهان على النماذج المعرفية والمنهجية الإدراكية المتلقية مستحيل، خصوصا في جو من الأزمات التي تعيشها هذه النماذج، والانتقادات الصارمة التي تتلقاها في الداخل.
إن النهضة الحقيقية تنطلق من النسق الفكري للأمة ومن أصالتها المنهجية وصدق وفعالية أفكارها وقدرة جهازها المفاهيمي على التوليد والإبداع، وإن حركة التاريخ لا تؤتي ثمارها إلا في إطار نسقها العقدي والفكري، أما الاعتماد على مجموعة من المرتكزات والمفاهيم المنبثقة من أنماط حضارية أخرى فيحدث الخلل والتناقض، ويعطل المسير حيث ينبغي له السير، ويسير حيث لا ينبغي أن يسير.
هذه قضايا حاولنا قدر الوسع والطاقة أن نعالج بعضا منها من خلال نماذج اخترنا الاشتغال عليها، وحد بينها هم التاريخ والتقدم والنهضة والخروج من التخلف، وفرق بينها المنهج والرؤية والتصور.
وقد كان هاجسنا في هذا العمل البحث عما يجمع هذه التيارات لا ما يفرقها، لهذا تجنبنا السقوط في التحليل الاختزالي الذي يرى المخالف شرا مستطيرا، ومن يشترك معه في تحيزاته الصواب والحق، وإنما تحيزنا في هذا العمل كان إلى جانب الإطار المرجعي العام للأمة للمنهج والرؤية التي ينبغي أن تنطلق منها في نهضتها.
فنحن لا نؤسس لرؤانا وتصوراتنا على انتظار فشل الآخرين أو لعيوب في فلسفاتهم، بقدر ما نؤسس على تراكم خبرات وتجارب الأمة على اختلافها وتنوعها.
يأتي الاهتمام بهذا الموضوع في سياقات متعددة، لعل أبرزها: ما ارتبط بالدعوة إلى ضرورة تحرير مناهج التفكير في الوطن العربي، وتجاوز حالة الاغتراب واللاوعي التي يعانيها، ثم سياق بناء المعرفة؛ إذ لا معرفة بدون منهج، إذ المنهج حالة وعي دائمة في الأمة لإعادة التركيب الطبيعي فيها، وإحداث التوازن والانسجام بين الفكرة والواقع الاجتماعي والوعي التاريخي الذي شكل هذه الذات، وإعادة الثقة بالمنظومة الفكرية والثقافية لها، وامتلاك القدرة على تشغيل آلياتها في النهوض والتقدم، وتجاوز ثغرات الفكر العربي المعاصر ومشروعه النهضوي وآليات اشتغاله، وتناقضاته وثنائياته المفاهيمية.
إن قضية المنهج والمنهجية يتوجب أن تأخذ مكانة متقدمة في سلم الأولويات، فالمعركة اليوم في كثير من المجالات والمشاريع تكاد تنحصر في نظرنا حول قضية المنهج؛ لأنه هو التصور والفلسفة والرؤية (للماضي والحاضر والمستقبل). والوعي بهذه القضية يجعل الأمة قادرة على الدخول في تنافسية حقيقية مع المركزية الغربية، وإن حركة التاريخ «لا تؤتي ثمارها وفاعليتها إلا في إطار نسقها العقدي والفكري الخاص بحضارتها ومسارها في خضم الكيانات الحضارية، أما اعتماد مجموعة من المرتكزات والمفاهيم المنبثقة عن أنماط حضارية مغايرة فيحدث الخلل والتناقض (...)»
3
بين الأنساق الحضارية وعالم أفكارها الذي يفصل بينها، فإذا كان التقدم الحضاري يبدأ من خلال الأفكار فإن التحليل يبدأ أيضا من خلالها.
تحليل الآثار المدمرة للأفكار الوافدة وخيانة لأصالة الفكرة الإسلامية التي غيبت عن ساحة الفعل الحضاري المعاصر. كما تسعى الدراسة إلى تعرية الأسس والمنطلقات المرجعية، والمنهجية التي ظل ينطلق منها الفكر العربي المعاصر على اختلاف توجهاته، وكشف تهافت أطروحاته، والتأكيد على خصوصيات المجتمعات العربية، وحقها في تحقيق الاستقلال المنهجي في دراسة قضاياها وتجاوز الأدوات المنقولة إلى أدوات مأصولة وموصولة بالذات الأصيلة تاريخيا وحاضرا ومستقبلا. (1) موضوعات البحث
قسمت هذا البحث إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.
الفصل الأول:
خصصناه للمدرسة القومية العربية، ومحدداتها المنهجية التي أسست عليها مشروعها النهضوي، من خلال الاشتغال على نموذج متميز داخل هذه المدرسة، الأمر يتعلق بالمفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، وعلى الموجهات المنهجية التي اختار الاشتغال عليها وتجاوز ما عبرنا عنه بفوضى المنهج إلى الانتظام المنهجي داخل هذه المدرسة، وفي الفكر العربي المعاصر بشكل عام، والمرجعيات التي أسس عليها هذه الاختيارات، مع ملاحظات نقدية على أساس الالتزام بما ألزمنا به أنفسنا وهو تجنب التحليل الاختزالي، والسعي إلى تحصيل التراكم البنائي لا التراكم التبديدي الإبطالي.
الفصل الثاني:
اعتمدنا فيه على تحليل الخطاب العلماني في الفكر العربي المعاصر، أسسه ومنطلقاته المنهجية التي اشتغل عليها في التنظير لقضايا الأمة ومقاربة إشكالاتها وشروط الدخول في عصر الحداثة الفكرية والمعرفية، من خلال نموذجه محمد أركون نظرا لما يميز كتاباته على مستوى التنظير المنهجي، وأكثرها افتتانا بفتنة الحداثة في نسختها الغربية، فقومنا ما ينبغي تقويمه في هذا الخطاب.
الفصل الثالث:
عرضنا فيه لنموذج بدأ يطرح نفسه على الساحة الفكرية العربية المعاصرة؛ نموذج المدرسة الحداثية البنائية في الفكر العربي المعاصر، عززناها بنموذجين من النماذج الفكرية اشتغلت بعمق على المستوى المنهجي، وتأسيس آليات البحث المعرفي، والارتقاء بالأمة إلى رتبة الاستقلال في الإجابة عن إشكالاتها بدل التقليد.
النموذج الأول:
ارتبط بالجهود الفكرية والفلسفية التي ما فتئ يبذلها المفكر المغربي طه عبد الرحمن من خلال دعوته إلى تأصيل المفاهيم، ووجوب الاستقلال عن المرجعيات الخارجية، في تدبير إشكالاتنا المعاصرة، وتجديد آليات الاشتغال المنهجي من خلال مقومات الأمة (الإسلام، واللغة، والتراث) مع الانفتاح الراشد على إبداعات الآخر، وفق منظوره القائم على الاختلاف، والتقريب التداولي الذي يسعى إلى جعل المعرفة المنقولة موصولة بباقي المعارف الأصلية، أي جعل المنقول موصولا ومأصولا.
النموذج الثاني:
ارتبط بالعمق الفلسفي والمنهجي الذي بذله المفكر المصري «عبد الوهاب المسيري» من خلال رؤية نقدية عميقة للحضارة الغربية التي ظلت وسيطا مرجعا لدعاة التقليد في الفكر العربي المعاصر، وإعلان فساد كثير من المعتقدات المنهجية لهذه الحضارة ومنظوراتها في التحليل، والتفسير؛ لأنها منظورات كمية تراكمية اختزالية، أحدث تبنيها القسري في فكرنا المعاصر تحيزا للمرجعية ذاتها، ومن خلال الدعوة إلى بديل معرفي منهجي اجتهادي توليدي، تركيبي تراحمي يستجيب للبعد الفطري في الإنسان.
الفصل الأول
المدرسة القومية في الفكر العربي المعاصر: الأسس المرجعية
والمحددات المنهجية
«محمد عابد الجابري أنموذجا» (1) المبحث الأول: المدرسة القومية: مرجعيات التأسيس والمحددات المنهجية
شكلت القومية العربية حلقة من حلقات الفكر العربي المعاصر، إن لم نقل إحدى حلقاته الكبرى في زمن كان يبحث فيه الإنسان العربي عن مخرج لأزماته وحلول لانتكاساته المتتالية، وبدأت هذه المدرسة تطرح نفسها بقوة كبديل للاتجاهات السائدة في الفكر العربي، فهزيمة 67-73 كانت المحطة التي زودت الآليات الفكرانية لهذا التيار، وإن الآليات المعرفية والمنهجية التي تم اعتمادها في تحليل قضايا الأمة بعيدة عن واقعها.
وقد ظهرت الدعوة قوية إلى المراجعة في مجال البحث الاجتماعي والدراسات الاجتماعية التي اعتبرت مفاتيح لحل المشكلات تحت مسميات متعددة «نحو علم اجتماع عربي وقومي»، فعقدت لهذا الغرض عدة مؤتمرات وندوات ولقاءات تناقش سبل وإمكانيات التأسيس لمنهج جديد في حياة الأمة يربطها بجذورها التاريخية واستقلال شخصيتها والعودة إلى الذات. ونذكر في هذا الإطار: «ندوة النهوض بعلم الاجتماع في الوطن العربي، الجزائر 1974م»، «ندوة أوضاع العلوم الاجتماعية في الشرق الأوسط، الإسكندرية 1974م» و«مشكلة المنهج في بحوث العلوم الاجتماعية، القاهرة 1983م»، ثم «علم الاجتماع وقضايا الإنسان العربي، الكويت 1984م»، ثم «نحو علم اجتماع عربي، تونس 1985م».
1
والغرض - كما تدل عناوين هذه الندوات - هو وضع لبنة لأسس علم اجتماع عربي يكون فيه للعقل العربي دون غيره حضور متميز؛ لأنه الأقدر في نظر هذا الاتجاه على ملامسة مشاكله، فالعودة إلى الذات شكلت محور هذا التوجه الجديد في الفكر العربي المعاصر والاستقلال عن القوالب الفكرية الغربية التي وظفت في تحليل أزمة المجتمع، ولأن الباحث العربي يكاد يكون تابعا تبعية كاملة للباحثين والمفكرين الأجانب، وكما يذكر الباحث الاجتماعي العربي عبد الباسط عبد المعطي، يقول: «إن هناك خريجين من عدد من الجامعات الغربية توقفت معارضهم مثلا في الستينيات عند المدرسة الدركايمية أو المدرسة الأمريكية الإمبريقية
2
التي عنيت بدراسة المشكلات الاجتماعية التقليدية (...) [ولهذا] فإن المدقق في التأليف، وفي الأطر النظرية للبحوث، وفي الرسائل الجامعية خاصة؛ يلاحظ انصياعا للمعايير الغربية شكلا ومضمونا ولغة وطريقة في التفكير.»
3
إذن يرى الأستاذ أن البحوث الاجتماعية والدراسات المنهجية في الوطن العربي أكثر البحوث تعبيرا عن تبعيتنا الثقافية للمكتبة الغربية بجناحيها الأوروبي والأمريكي، وأنه آن الأوان لطرح صيغ بديلة وجديدة للخروج من هذه التبعية ومن عنق الأزمة، وتأسيس علم اجتماع عربي نابع من رحم المجتمع، يعالج قضايا مرتبطة باستراتيجيات التنمية والتقدم والوحدة وتحرير فلسطين وتوزيع الثروة وعلاقات الإنتاج، ومرتبط بمصير الطبقات الاجتماعية.
وقد نشطت مجموعة من دور النشر لترسيخ البعد القومي في الثقافة والفكر والأجناس الأدبية بكل أنواعها، نذكر منها على سبيل المثال: «المجلس القومي للثقافة العربية» الذي أسس مباشرة بعد اتفاقية كامب ديفيد لمقاومة الغزو الثقافي والتطبيع مع الكيان الصهيوني وتحصين الذات العربية من الاختراق.
ارتكز هذا الخطاب في انتمائه للأمة والجماعة العربية على مجموعة من المقولات والمفاهيم يراها الأساس في البناء والنهوض العربي: «اللغة والتاريخ». لهذا شدد الاتجاه القومي على «مرجعية اللغة والتاريخ الواحد ودوافع المصالح المشتركة، ووحدة آمال وأهداف المستقبل والتطلع لتحويل الأمة «كمعطى تاريخي» إلى واقع سياسي يتجلى في كيان دولة واحدة ومتحدة.»
4
هذه المرجعية التي تحولت عند كثير من الأقلام القومية إلى «جوهر ثابت» - بتعبير وجيه كوثراني - وهو ما نجده عند عميد القومية العربية أبو خلدون ساطع الحصري الذي يقول: «إن العاملين الأساسيين في تكوين القومية هما اللغة والتاريخ، ولا يتغلب عامل من العوامل الاجتماعية على تأثير اللغة والتاريخ في هذا المضمار سوى عامل الاتصال الجغرافي؛ لأن فقدان الاتصال الجغرافي قد يؤدي إلى بقاء أجزاء الأمة الواحدة منفصلة بعضها عن بعض رغم اتحادها في اللغة والتاريخ.»
5
باعتبار اللغة وسيلة للتخاطب والتفاهم، ونقل الأفكار والمكتسبات، أما التاريخ فهو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها، فإن كل أمة من الأمم إنما تشعر بذاتها وتكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص.
6
ولا يرى هذا التيار للرابطة الدينية أو لعامل العقيدة أثرا في تكوين الجماعات. يقول: «مهما كان الأمر فإن الرابطة الدينية وحدها لا تكفي لتكوين القومية، كما أن تأثيرها في تسيير السياسة لا يبقى متغلبا على تأثير اللغة والتاريخ. إن هذا التأثير يشتد أو يتراخى، يتقوى أو يتلاشى، حسب تطور علاقة الدين باللغة، ويبقى أمرا ثانويا في تكوين القوميات بالنسبة لتأثير اللغة والتاريخ.»
7
بالإضافة إلى مكون اللغة والتاريخ، استند الاتجاه القومي إلى مبدأ العلمنة لأن اللغة والتاريخ غير كافيين في البناء والوحدة؛ ولهذا فإن «استكمال بنيان القومية العربية يحتاج في الواقع إلى عناصر أخرى لم يلتفت إلى أهميتها في السابق، وعلى رأسها النزعة الإنسانية التي تتضمن احترام وصيانة حقوق الإنسان وتبث فيه روح المواطنة؛ بحيث يجعل ولاءه لوطن وحده. (...) وتحقيق هذه المهمة الصعبة لن يكون ممكنا إلا على قاعدة إشاعة الديمقراطية من جهة وإنجاز العلمنة من جهة ثانية»،
8
حيث ظل مكون الدين ثانويا لا يقوى على صناعة المستقبل، ولعل كاتبا في مستوى برهان غليون - والجابري كما سنرى - يكشف بعض أسباب انحصار القومية العربية وفشل أطروحاتها ومشاريعها، حين ركز على ضعف استيعابها للتطور التاريخي وتحولات المجتمع العربي، وأن ظروف الطرح قد تغيرت، ولم يعد ينفع فيها النفخ في وحدة اللغة والثقافة والأصول، ولا تقبل فيها المجتمعات بعمليات الضم والإلحاق عن طريق القوة العسكرية،
9
خصوصا عندما تمكنت القومية من السلطة واستفردت بالحكم، وتسلطت على رقاب الناس.
لهذا انهارت واندثرت القومية العربية التقليدية تماما، ولم يعد لها موقع في الخريطة الفكرية؛ أي الشكل الذي كانت الفكرة تتخذه سابقا، فلم يعد الحديث عنها كوحدة ثقافية ولغوية وتاريخية، فكان الرهان على هذه المحددات سببا من أسباب الفشل والتراجع بدل التأكيد على الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة أو على الهوية الموحدة، في مقابل هذا التوجه، نجد القوميين الجدد يؤكدون على التعددية الثقافية وأهمية الاعتراف بالأقليات ورفض الفكر الواحد، بل رفض الفكر العقائدي ذاته باعتباره فكرا مشوها بالضرورة.
10
وظلت الفكرة القومية تعاني فراغات بسبب إهمال الإسلام كمكون أساسي في بناء الذات وهو الأمر الذي انتبه إليه برهان غليون، من خلال الانخراط في أيديولوجيات مستعارة وغريبة عن واقع الأمة؛ اشتراكية، ليبرالية، علمانية،
11
مما ضيق أفق التحرك لدى هذا التيار، وقدرته على استثمار الطاقات الفاعلة في الأمة.
ومما زاد من أزمته وعمقها عجزه عن «صياغة وعي الأمة في قالب نظري مطابق لتاريخها، فاضطرت إلى إيجاد عوامل موضوعية تكون أساسا للوحدة»،
12
من الوحدة الجغرافية، والتكامل الاقتصادي، بالإضافة إلى اللغة والتاريخ والجنس. فبعد إلغاء الأمة، وفصل التراث عن الحداثة، والإسلام عن العروبة، والأمة عن تاريخها، ولم «يعد التراث طريقهم إلى الحداثة، كما لم يعد المجتمع [الأمة] قاعدة للشعور القومي وانتهوا إلى فصل القومية العربية عن الأمة ومجتمعها فصار الفكر القومي دون مرجعية ينطلق منها، وينتظم على أساسها ويتخبط عشوائيا ويتأرجح بين مواقف متناقضة.»
13
فعندما تغيب الرؤية تسيطر الأيديولوجية وتتلاشى الأهداف السياسية والقضايا الكبرى، وهكذا رأينا «النخبة السياسية العربية تجر الأمة مرة بعد أخرى إلى حروب ومعارك لا تأخذ بعين الاعتبار الطاقات الحقيقة للأمة وظروفها الموضوعية، فتنتهي إلى هزائم أخرى.»
14
وقد كان «الفشل الذي مني به الاتجاه القومي العربي إزاء تحقيق أهدافه في توحيد الأمة وتحرير فلسطين، وتنمية الطاقات الاقتصادية، وإفساح المجال لحرية للمواطن؛ لا يعود إلى نوايا سيئة، كما أنه لا يقتصر على مسائل تتعلق بالممارسة؛ بل هو يعود بالدرجة الأولى إلى الفقر النظري. فشل هذا في بلورة شمولية تستند إلى تاريخ الأمة وسيرورتها وحاضرها، فجاءت ممارستها دون توقعاتها، وأحيانا متناقضة مع شعاراتها. فشل هذا التيار في قيادة الأمة؛ لأنه لم يعرف الأمة معرفة حقة. إن أحد معالم هذا الفشل هو الانفصال في الوعي بين القومية والأمة فلم تعد القومية تعبيرا عن الأمة، بل صارت تعبيرا عن نزوات أصحاب الشعارات الذين لم يكن لديهم إطار نظري ينظم أفكارهم وأفعالهم، فجاءت عشوائية دون مرجعية تضبطها وتضع لها الإطار لحركتها.»
15
وبرز صوت آخر، ولكن هذه المرة من المغرب (الأستاذ محمد عابد الجابري)، وذلك في إطار المراجعات النقدية للمشروع النهضوي العربي، الذي جعل الفكر القومي محور هذه المراجعات ومحدداته المنهجية والمرجعية، يفتح له آفاقا جديدة من خلال رؤية تتجاوز التصورات والمكونات السابقة [اللغة والتاريخ] والمفهوم الضيق للفكرة؛ لأن «حصر مقومات «الأمة العربية» في اللغة والتاريخ بوصفهما قالبين صوريين مجردين إفقار لمفهوم الأمة»،
16
محاولة لإعادة التركيب، ووصل ما انفصل، وسد الخلل الذي تركته التوجهات السالفة، هكذا يستطيع «الباحث [القول للجابري] أن يلاحظ بسهولة فقر خطاب الحصري وغيره من القوميين العرب فقرا «تراثيا»، فالتراث العربي والإسلامي - وهل يمكن الفصل بينهما - غائب تماما في خطابهم، ليس فقط كمرجعية بل أيضا كاستلهام وتوظيف براغماتي. إن الباحث لا يكاد يعثر على آية أو حديث أو قول مأثور أو بيت من الشعر أو حدث تاريخي من التراث العربي الإسلامي في خطاب القوميين الرواد (...) لقد كان الحصري يفكر في القومية العربية خارج أية مرجعية عربية. فقد كانت مرجعيته الوحيدة هي المرجعية الأوروبية.»
17
مما استدعى عند الجابري إعادة تأسيس الموقف من خلال كسر الثنائيات التقابلية بين الإسلام والعروبة، إذ «ليس هناك أي مفهوم ل «الإسلام» يمكن وضعه في علاقة ثنائية تعارضية أو تكاملية مع مفهوم «العروبة»، وليس هناك مفهوم ل «العروبة» يمكن وضعه في نفس العلاقة مع «الإسلام». وإنما هناك وراء هذه الثنائية قضية سياسية كان لها معنى في وقت من الأوقات (...) والمتعلقة برد فعل العرب على سياسية التتريك العثمانية.»
18
لينتفض ضد هذه الثنائيات المرتبطة ببعض الأقطار العربية، ذات الخصوصية التاريخية كلبنان وسوريا بصورة خاصة، وإنه آن الأوان لكي «نتخلص من هذا التعميم للمشاكل؛ لأنه تعميم لا يخدم الفكر القومي ولا القضية القومية، بل على العكس يضع هذه القضية في أزمة دائمة مزمنة.»
19
وللتخفيف من النزعة العلمانية التي روج لها دعاة القومية التقليدية، يقول الجابري: «فأنا لا أستسيغ طرح المسألة بهذا الاسم وتحت هذا العنوان، فليس هناك في أي قطر عربي ما يبرر طرح مسألة العلمانية فيه بالمعنى الذي تفهم به هذه المسألة في أوروبا.»
20
فاتجه إلى إعادة تأسيس الموقف وتصحيح الوعي ونقد المفاهيم والتصورات، وبناء محددات للرؤية أكثر جرأة في النظر إلى المستقبل، من خلال الدعوة إلى الانخراط في التراث؛ لانتزاع ما يسمى بأسلحة الخصوم.
فكان التراث أحد هذه الأسلحة التي ارتكز عليها الجابري عكس دعاة القومية الأوائل - في التأسيس للموقف الجديد - الذين كان خطابهم خطاب نقائض أيديولوجية (ليبرالية - اشتراكية - ماركسية)، ويدعو إلى مراجعة مفاهيم النهضة ونقدها نقدا عقلانيا مستندا إلى الواقع كمعطى، وهو السبيل الذي يقودنا إلى تشييد حلم أيديولوجي مطابق، وتلك مهمة المثقف العربي في الظروف الراهنة: مهمة إعادة التفكير في مشروعنا النهضوي انطلاقا من مراجعة المفاهيم والتصورات في ضوء الواقع وتحت ضوء سلاح النقد.
21
وإنجاز هذه المهمة «يلزم فيها شرطان اثنان؛ الأول: هو أن يكون التجديد من الداخل؛ من داخل الثقافة العربية بالحفر في معطياتها، ولكن أدوات الحفر وطريقته - وهذا هو الشرط الثاني - لا بد أن تكون جديدة حديثة، وبالتالي لا بد من اقتباسها من أرقى مراحل التقدم التي يصل إليها الفكر الإنساني.»
22
وهو الشرط الذي سيرفع عملية التجديد إلى مستوى العصر، أما الإبقاء على أدوات الحفر القديمة - المفاهيم والمناهج - لا يمكن أن ينتج غير القديم في نظره، وهكذا شرع الجابري في وضع التصاميم المفاهيمية، والأدوات المنهجية متجاوزا المنظورات التحليلية التي أثثت الفكر القومي العربي المعاصر، ونقدها نقدا عقلانيا؛ نقد المجتمع ونقد العقل العربي.
فكان النقد عنده السلاح الأقوى في الكشف عن ثوابت هذا العقل والقدرة على خلخلتها وكسرها، وما لم نقم بهذا النقد - يقول - فإن التطور إلى الأمام لن يشق طريقه الصحيحة عندنا، وهذه مهمة الفكر الفلسفي والتحليل الأيديولوجي، ولأن التغيير عندنا «يبدأ ويجب أن يبدأ من تغيير طريقة النظر إلى الأمور، من تحليل الواقع تحليلا يجمع بين النظرة الموضوعية والهدف الاستراتيجي؛ هدف التغيير وإعادة البناء.»
23
فما هي المحددات والموجهات المنهجية لرؤية الجابري النقدية وإعادة التأسيس والبناء داخل هذه المدرسة وتحقيق النهضة واستشراف المستقبل؟
إن اختيار الاشتغال على فكر الجابري، ومشروعه النقدي للعقل العربي؛ أملته عدة اعتبارات:
أولها ما أثاره، وما يزال من ردود اختلفت، حسب توجهات أصحابها تحولت بدورها إلى مشاريع فكرية ومدارس نقدية، أخذت على عاتقها مهمة التجديد المنهجي في قراءتها للتراث ولمقدمات المشروع النهضوي العربي المعاصر، وما أحدثه من جدل واسع في الساحة العربية المعاصرة على مستوى الأدوات والمسلكيات المنهجية، ونتيجة دعوته إلى إنجاز نوع من القطيعة الإبستيمولوجية مع تراث الأمة.
أما ثاني الاعتبارات فهو ما صرح به من القدرة على تجاوز القراءات التي تعاملت مع التراث وطرح بدائل منهجية قادرة في رأيه على التفاعل وإنجاز النهضة، والقطيعة مع الفهم التراثي للتراث إلى الفهم الحداثي له بقدر يعيننا على تجاوز المحن والإشكالات المعاصرة، معتمدا في ذلك على مدخلين أساسيين:
المدخل الأول: فهم هذا التراث وأدوات اشتغاله. المدخل الثاني: الاستعانة بمفاهيم الفكر الغربي المعاصر على تعدد مدارسه وتنوعها، ومحاولة تبيئتها وفق معطيات هذا التراث، ووفق شواغل معرفية كما صرح، وأخرى أيديولوجية كما استبطن حينا وصرح في كثير من الأحيان؛ لهذا فإن البحث في منهج الجابري يتطلب قراءة دقيقة لمساره الفكري، والنتائج التي توصل إليها أولا بأول، ولكل ما كتب عنه نقدا أو نقضا، وهذا ما لا يتسع له الوقت. وحسبنا أن نركز في هذا الفصل على أهم ما كتب عنه وأنجز من دراسات نعتبرها استوفت بعضا من الشروط العلمية في الحركة النقدية متجاوزين بعضا من الدراسات التي سلكت مسلك التحامل والتجريح، وبالدرجة الأولى على أهم كتبه التي شكلت مشروعه الفكري انطلاقا من باكورة أعماله: «نحن والتراث» سنة 1980م، «الخطاب العربي المعاصر» 1981م، «نقد العقل العربي» الذي أصدر أولى حلقاته سنة 1984م من خلال كتابه «تكوين العقل العربي»، ثم الجزء الثاني «بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية» سنة 1985م، «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» 1989م، «العقل السياسي العربي: المحددات والتجليات»1990م، «التراث والحداثة: دراسات ومناقشات» 1991م، ثم «المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية» 1996م. هذه هي الخريطة الفكرية التي سنعتمد عليها في بحث إشكالية المنهج في المشروع الفكري للجابري. (2) المبحث الثاني: المحددات المنهجية والمرجعية لمشروع الجابري
يعالج هذا المبحث قضايا منهجية دقيقة وقوية على مستوى الرؤية والمنهج التي تبناها الجابري في فحص آليات قراءة التراث، والإشكالات التي أفرزتها في الواقع العربي المعاصر، حين اعتبرها مسئولة إلى حد كبير عن الوعي المزيف اتجاه مرجعية المتن التراثي، في مقابل ذلك سعيه الدءوب إلى تحرير العقل العربي من تلك القراءات السلفية، والدعوة إلى الانتظام المنهجي في تاريخ التراث، من خلال إنجاز قراءة معاصرة، وبأدوات منهجية تتيح فرص التوظيف العلمي، والعقلاني للتراث، والقدرة على التشابك مع منجزات الحداثة ومفاهيمها. (2-1) من فوضى المنهج إلى الانتظام المنهجي
أحدث مشروع الجابري نقلة نوعية في الفكر العربي المعاصر، ليس على مستوى المتن، وإنما على مستوى الثورة المنهجية؛ حيث انتقل هذا الفكر من لحظة تاريخية غلب عليها التكرار إلى لحظة التفاعل الإيجابي والانخراط في عملية نقدية استفزت كثيرا من الاتجاهات الفكرية في العالم العربي، نظرا للطرح الجدي الذي اتسم به المشروع، فالقضاء على هذه الفوضى المنهجية طريق التحديث والانخراط في الحداثة عبر جهاز مفاهيمي جديد قادر على تقريب الوضع الإشكالي القائم داخل قطاعات واسعة من الفكر العربي المعاصر، وبين ثنائياته القديمة-الجديدة، الأصالة والمعاصرة، القديم والحديث، بين صورة الأنا والآخر، «القديم» ينتمي إلى الأنا، و«الجديد» ينتمي إلى الآخر.
24
فكان طموحه هو إزالة الغموض والتوتر الذي ظل يطبع مسيرة هذا الفكر، «ونزع الطابع الإشكالي عنه أو التخفيف منه على الأقل إلى أقصى درجة ممكنة.»
25
ومن هنا سارع الجابري إلى بلورة رؤية معاصرة في القراءة والتنوير؛ تعيد ترتيب العلاقات وتساهم في قراءة التراث العربي؛ قراءة تستجيب لطموحات الحاضر، والدخول في الحداثة والاستفادة من منجزاتها. يقول: «فالحداثة في نظرنا لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه «المعاصرة»؛ أعني: مواكبة التقدم الحاصل على المستوى العالمي.»
26
كما تعني عنده نوعا من «الانتظام النقدي في الثقافة العربية؛ بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل (...) إنها بهذا الاعتبار تعني أولا وقبل كل شيء حداثة في المنهج وحداثة في الرؤية».
27
ولعل من أهم منجزات الحداثة أو الفكر الحداثي، المكون النقدي الذي تبلور مع مدرسة فرانكفورت الألمانية، ومع جيل من المفكرين أمثال: أدرنو وهابرماز وماركوز، ولهذا «فالممارسة النقدية في فكر الجابري لا تنفصل عن هذا الطموح المعرفي النقدي»،
28
مع اختلاف في متن الاشتغال وأرضية الانطلاق؛ فعلى هذا الأساس شرع في وضع المعالم الكبرى لمنهجه، والمبادئ الأولية للقراءة المعاصرة للتراث وتحقيق الوعي المطلوب. (أ) القراءة المعاصرة للتراث ونقد القراءات السابقة
ينطلق الجابري في مشروعه من تحديد نوع القراءة التي يتوخاها في التعامل مع التراث من خلال منظومة من العلاقات القائمة على عناصر ثلاثة: قراءة، عصرية، تراث، ومن خلال صيغ تركيبية، الصيغة الأصل: «قراءة عصرية للتراث» وهي تنفي صيغة أخرى هي: «قراءة تراثية للتراث»، وهذه بدورها تنفي صيغة أخرى هي: «قراءة تراثية للعصر» لينتهي إلى أن الصيغة الأولى هي الأجدر في إنجاز هذه المهمة، يقول: «نريد قراءة عصرية للتراث تجنبنا السقوط في قراءة تراثية للعصر (...) والوقوع تحت سلطته التي تجرنا ليس فقط إلى قراءة تراثية للتراث، بل - وهذا أخطر - تجرنا إلى «قراءة تراثية للعصر»، أي إلى تمديد الماضي لجعله ينوب عن الحاضر والمستقبل ...»
29
ولعل هذا التوجه وهذا الاختيار هو الذي يحقق - في نظره - الانتظام المنهجي في قراءة تاريخ الفكر العربي وبنياته وأصوله، ويتجاوز الفوضى المنهجية التي ظلت مهيمنة على قطاع واسع من المثقفين العرب في مقاربة قضايا الفكر العربي المعاصر وإشكالاته.
قراءة تختلف عن القراءات التي تناولت موضوع اشتغاله «التراث» على مستوى المنهج والرؤية، وهي تحاول تسطير معالم ذلك المنهج ورسم أفق تلك الرؤية.
30
والذي يجعلها معاصرة كونها تسعى إلى جعل النص التراثي المقروء على صعيد الإشكالية والمحتوى المعرفي والمضمون الأيديولوجي معاصرا لنفسه، في أفق تجاوز القراءات التي ظلت تحتكر الخريطة الفكرية للتراث لافتقادها للموضوعية على مستوى المنهج والنظرة التاريخية على مستوى الرؤية.
القراءة السلفية الدينية للتراث
انشغلت هذه القراءة في الفكر العربي المعاصر أكثر من غيرها بالتراث وإحيائه واستثماره في إطار قراءة أيديولوجية سافرة، أساسها إسقاط صورة «المستقبل المنشود» المستقبل الأيديولوجي على الماضي، ثم «البرهنة» - انطلاقا من عملية الإسقاط هذه - على أن «ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل»،
31
ولبس هذا التيار في بداية الأمر لباس حركة دينية سياسية تنادي بالتجديد وترك التقليد بما يعنيه هذا الترك من إلغاء كل التراث المعرفي والمنهجي والمفهومي المنحدر إلينا من عصر «الانحطاط» وما يرمز إليه التجديد على مستوى الفهم والقدرة على الاستمداد من المصادر مباشرة.
فنحن إذن - كما يقول الجابري - أمام «قراءة أيديولوجية جدالية (...) تستعيد الصراع الأيديولوجي الذي كان في الماضي وتنخرط فيه، لا تكتفي بخصومها في الماضي، بل تبحث عن خصوم في الحاضر والمستقبل»،
32
مما يجعل هذه القراءة، قراءة لا تاريخية، وبالتالي لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث هو الفهم التراثي للتراث، مما يجعل المراهنة عليها رهانا خاسرا؛ نظرا لقصور آلياتها التفسيرية ومداخلها. يقول: «السلفية الدينية تصدر في قراءتها من منظور ديني للتاريخ، يجعل التاريخ ممتدا في الحاضر منبسطا في الوجدان، يشهد على الكفاح المستمر والمعاناة المتواصلة من أجل إثبات الذات وتأكيدها، ولما كانت الذات تتحدد بالإيمان والعقيدة فلقد جعلت من العامل الروحي العامل الوحيد المحرك للتاريخ، أما العوامل الأخرى فهي ثانوية أو تابعة أو مشوهة للمسيرة.»
33
السلفية العربية الليبرالية الاستشراقية
إذا كانت السلفية الدينية قد اتخذت من الماضي آلياتها التحليلية ومرجعيتها للحاضر فإن السلفية العربية الليبرالية اتخذت الغرب سلفها، فتقرأ تراثها قراءة أورباوية النزعة، ولا ترى فيه إلا ما ترى هذه النزعة، وتقدم نفسها كقراءة «علمية » تتوخى «الموضوعية»، وتلتزم «الحياد»، و«تنفي» أن تكون لها أية دوافع نفعية أو أهداف أيديولوجية.
34
وإنها تأخذ من المستشرقين المنهج العلمي دون أيديولوجياتهم، لكنها تنسى أو تتناسى أنها تأخذ الرؤية مع المنهج.
وتقوم هذه الرؤية «من الناحية المنهجية على معارضة الثقافات على قراءة تراث بتراث ومن هنا المنهج الفيلولوجي الذي يجتهد في رد «كل» شيء إلى «أصله»، وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الإسلامي فإن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في رده إلى «أصوله» اليهودية والمسيحية والفارسية، اليونانية والهندية ...»
35
وتكشف هذه الرؤية عن استلاب خطير للذات تاريخا وحضارة، حينما تحاول أن تقرأ ذاتها بذات الآخر وماضيه، وهكذا تنكشف دعوى المعاصرة في الفكر الليبرالي العربي الحديث والمعاصر.
القراءة اليسارية الماركسية العربية
الحوار داخل هذه القراءة يجري بين ثنائية المستقبل والماضي، لكن بوصفهما مجرد مشروعين: مشروع الثورة التي لم تتحقق بعد، ومشروع التراث الذي سيعاد بناؤه بالشكل الذي يجعله يقوم بدوره في همز الثورة وتأصيلها،
36
فالعلاقة هنا جدلية بين الثورة والتراث، فالثورة ينبغي لها أن تعيد ترتيب التراث وفق مطالبها وشواغلها، والتراث مطلوب منه أن يساعد الثورة ويقدم لها المبررات.
هكذا فكر الفكر اليساري العربي باحثا لنفسه عن مخرج من الحلقة المفرغة التي أوجد فيها نفسه؛ باحثا عن منهج، فيتبنى المنهج الجدلي، لكن مع ذلك - تأكيد من الجابري - يجد نفسه في الحلقة نفسها التي حاول الخروج منها.
ويبرر الجابري هذا الضيق المنهجي عند هذا الاتجاه بأنه يسعى - في هذا التبني - إلى المنهج الجدلي كمنهج «مطبق» لا كمنهج «للتطبيق»، فأرادت أن تحول التاريخ العربي الإسلامي إلى صراع طبقي بين المادية والمثالية، ومن «ثمة تصبح مهمة القراءة اليسارية للتراث هي تعيين الأطراف وتحديد المواقع في هذا الصراع «المضاعف».»
37
ودفع هذا الاتجاه بكل مقولاته المنهجية وآلياته التفسيرية إلى تفصيل التاريخ الفكري والمعرفي للأمة، وفق هرمية تصورية منسجمة مع ذات المقولات والآليات، وحتى إذا عجزوا عن هذا التفسير وهذا التفصيل للتاريخ، ولم تسعفهم قوالبهم الفكرية تحدثوا عن «التواطؤ التاريخي» بين قوى رجعية ظلامية أيديولوجية، فانتهت هذه القراءة إلى «سلفية ماركسية».
فهذه الآليات المنهجية والمطالعات النقدية للتراث تعاني حسب الجابري من آفات على مستوى المنهج والرؤية؛ فمن حيث المنهج فإنها تفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، أما من حيث الرؤية فتعاني كلها من غياب النظرة التاريخية، وبالتالي لا تختلف هذه القراءات عن بعضها من الناحية الإبستيمولوجية؛ لأنها مؤسسة على طريقة واحدة في التفكير، الطريقة التي سماها الباحثون العرب القدامى ب «قياس الغائب على الشاهد»، مما يجعلها عاجزة عن الإبداع والإنتاج، وتطوير لكل أنماط المعرفة.
فهذه الآليات غير ذات موضوع بالنسبة للفكر العربي المعاصر إن هو أراد أن يبدع ويخلق حالة من الوعي داخل الساحة الفكرية العربية، مما يجعله خارج الزمان، ومن هنا لا تاريخية الفكر العربي؛ لأنه «يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ولذلك كانت قراءة التراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه «الحلول» الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل، وإذا كان هذا ينطبق بوضوح كامل على التيار الديني فهو ينطبق أيضا على التيارات الأخرى؛ باعتبار أن لكل منها سلفا يتكئ عليه ويستنجد به. هكذا يقتبس العرب جميعا مشروع نهضتهم من نوع الماضي، إما الماضي العربي الإسلامي، وإما «الماضي-الحاضر» الأوروبي.»
38
فمشكلة المنهج التي يعالجها الجابري هنا هي في نهاية التحليل تئول عنده إلى «قضية النهضة ومشكلة العقلانية»
39
في فضاء الفكر العربي المعاصر، ومن هنا لا علمية ولا تاريخية المسلكيات المنهجية التي تناولت إشكالات هذا الفكر وفقدانها الزمان بهذا الشأن.
فهذه المسوغات كافية في نظر الجابري لمقترحات منهجية أكثر فاعلية، وقدرة على التحليل في إطار المشروع الكبير الذي اشتغل عليه «نقد العقل العربي» وتفكيك آلياته ونظمه المعرفية. (ب) الانتظام المنهجي في فكر الجابري: الأسس والآليات
ظل إشكال المنهج في قراءة التراث العربي الإسلامي عند الجابري إحدى القضايا الكبرى التي شغلته، الأمر الذي دفعه إلى نقد الدراسات السابقة والتي وصفها بالسلفية، على اختلاف مرجعياتها؛ لأنها أخلت - في رأيه - بشروط القراءة العلمية المعاصرة التي تخلق إمكانات وكفايات في قراءة الإشكالات الواقعية المطروحة على العقل العربي المعاصر، وتعيد المتن التراثي إلى سياقات جديدة ليتفاعل معها، بدل أن يظل متنا سكونيا عاجزا عن الفعل، أي بعد الاتصال والانفصال عنه في اللحظة ذاتها.
ويقدم الجابري في هذه الخطوات المعالم الكبرى لمنهجياته المقترحة نستعرضها كما صاغها الرجل دون تغيير حرصا على الأمانة العلمية وإبلاغا للمادة كما هي على أساس أن نؤجل القول فيها فيما بعد.
تنتظم هذه الخطوات المنهجية عنده كلها في سؤال إشكالي وأزمة بنيوية، سؤال إشكالي مرتبط ب «قضية إعادة بناء الذات العربية بالشكل الذي يجعلها قادرة على مجابهة تحديات العصر والاستجابة لمتطلباته»،
40
وهذا لا يتم في نظره إلا من خلال عملية إعادة بناء الماضي وتفكيك عناصره، وترتيب العلاقة بين أجزائه؛ حتى يكون قادرا على أن يؤسس لنهضة تمتلك هذا التراث، وتعيد بناءه قصد تجاوزه وبقراءته قراءة تستوحي المفاهيم والمناهج الجديدة وتوظفها في خدمة الموضوع، وتعيد الاستقلال التاريخي للذات العربية.
وما لم ينتظم الفكر العربي المعاصر في هذا «التراث وتجديده من الداخل، وفي الفكر العالمي المعاصر ومواكبة أدواته المنهجية وتوظيفها ورؤاه العلمية في إعادة بناء الماضي وتغيير الحاضر وتشييد المستقبل (...) سيبقى الفكر العربي سجين المعارف القديمة يجترها، وسيظل يعاني ليس أزمة إبداع فقط، بل لربما من سكرات الموت وخطر الانقراض.»
41
أما الأزمة البنيوية التي يشكو منها الفكر العربي المعاصر - في نظره - فهي «أزمة عقل قوامه مفاهيم ومقولات وآليات ذهنية تنتمي إلى ثلاثة نظم معرفية [يقصد العرفان والبيان والبرهان] متنافرة تكلست وجمدت فيها الحياة باكتساح الطرقية الصوفية ورؤاها السحرية الخرافية للساحة الاجتماعية اكتساحا شاملا، وأزمة ثقافية ارتبطت منذ بداية تشكلها بالسياسة، فكانت السياسة فيها لا العلم»
42
تخضع باستمرار لتقلباتها ودورانها بين الإخفاق والنجاح؛ لهذا يرى أن أولى خطوات التجاوز المنهجي للقراءات السابقة - التي شكلت عائقا إبستيمولوجيا أمام التطور في العقل العربي، وبالتالي العجز عن تحقيق حلم النهضة - تكمن في تبني الأسس المنهجية الآتية:
ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث
يعتبر الجابري هذه القطيعة شرطا من شروط التجديد على مستوى المنهج من خلال «كسر بنية العقل المنحدر إلينا من «عصر الانحطاط» وأول ما يجب كسره (...) ثابتها البنيوي «القياس» في شكله الميكانيكي، وامتداداته إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر.»
43
فتكون مشكلة المنهج هنا هي مشكلة الموضوعية، فمهما بلغت مناهج التفسير والتحليل من الدقة حسب الجابري، فإنها لا تصلح إلا عندما يكون الموضوع منفصلا عن الذات يتمتع بنوع من الاستقلالية عنها؛ فيؤسس لباراديغم جديد في بحث العلاقة بين الموضوع [التراث] والذات.
وقد مكنته هذه الآلية المنهجية من حسن تدبير العلاقة بين طموحات الواقع وإشكالاته، وبين الماضي وإكراهاته؛ ليرفع من جاهزية العقل العربي في مجابهة تحديات الحداثة وتدفقاته، والقدرة على إنجاز أحلامه؛ فيتحرر من تراكمات التاريخ السلبية، والمعيقة لحركته الإبداعية في واقع لا يسمح بتكرار أنظمة فكرية غير قادرة على الفعل والإنجاز.
تجديد باراديغم قراءة التراث: منهجية الفصل والوصل
يبدأ الجابري هذه المشكلة بطرح سؤال منهجي إشكالي: كيف نبني لأنفسنا فهما موضوعيا لتراثنا؟ ويرى أن هذه القضية هي جوهر المشكلة المنهجية، التي تواجه الفكر العربي المعاصر في محاولاته الرامية لإيجاد طريقة علمية ملائمة للتعامل مع التراث. وتتخذ هذه الموضوعية عنده مستويين من العلاقة»؛
44
مستوى العلاقة الذاهبة من الذات إلى الموضوع، والموضوعية في هذا المستوى تعني فصل الموضوع عن الذات، ثم مستوى العلاقة الذاهبة من الموضوع إلى الذات، وهي في هذا المستوى تعني فصل الذات عن الموضوع.
ويصر الجابري على أن هذه الخطوة هي الأساس في تحقيق الموضوعية والعلمية بعيدا عن المسبقات والرغبات، وأن المكتسبات المنهجية للعلوم الألسنية المعاصرة تقدم لنا طريقة في هذا التعامل الموضوعي مع النصوص التي يلخصها في القاعدة الذهبية التالية: «يجب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ، والتحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة.»
45
وهذه الخطوة تحتاج حسب تحليله، إلى ثلاثة أسس منهجية كبرى:
المعالجة البنيوية: التي تحرص على العلائق الداخلية للنصوص، والاقتصار في التعامل معها «كمدونة، ككل تتحكم فيها ثوابت، ويغتني بالتغييرات التي تجري عليه حول محور واحد»،
46
من خلال محورية فكر صاحب النص حول إشكالية واضحة قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك فيها ومن خلالها فكره. مرحلة تعين على فهم العلاقات الأفقية داخل النص، دون الاستناد إلى العلاقات الخارجية.
التحليل التاريخي: من خلال الحرص على ربط فكر صاحب النص الذي أعيد ترتيبه بمجاله التاريخي، بكل أبعاده الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية، لاختبار مدى صحة المعالجة البنيوية،
47
فهذا التحليل يساعدنا على اكتشاف الإمكان التاريخي، والتعرف على ما كان في إمكان النص أن يقوله ولكن سكت عنه.
الطرح الأيديولوجي: ينطلق الجابري من أن هذا المدخل في التحليل يشكل إضافة نوعية في عملية الفهم، والبناء التكاملي في الوظيفة التي نتوخاها من التراث. يقول: «إن التحليل التاريخي سيظل ناقصا، صوريا مجردا ما لم يسعفه الطرح الأيديولوجي؛ أي الكشف عن الوظيفة الأيديولوجية [السياسية والاجتماعية] التي أداها الفكر المعني الذي ينتمي إليه (...) والكشف عن هذا المضمون هو الوسيلة الوحيدة لجعله فعلا معاصرا لنفسه، مرتبطا بعالمه»،
48
وإعادة التاريخية له.
تشكل هذه الخطوات كلها نسقا متداخلا ومتكاملا قائمة على لحظة الموضوعية، وتحقيق الانفصال عن الموضوع، أما اللحظة الثانية فهي لحظة الاتصال به والتواصل معه، لمعالجة مشكل الاستمرارية، وهي اللحظة المنهجية التي يؤسس عليها الجابري علاقة القارئ بالمتن التراثي؛ وتمكنه من الاتصال المباشر به، فيعيش إشكالاته، ويكتشف ذاته مع الاحتفاظ بوعيه واستقلاله ... إنها حسب الجابري رؤية مباشرة ريادية استكشافية: تستكشف الطريق وتستبق النتائج، وسط حوار جدلي بين الذات القارئة، والذات المقروءة، عبر معطيات الموضوعية التي استخلصت خلال اللحظة الأولى من المنهج.
كما تمكن هذه الخطوة من قراءة ما سكتت عنه الذات المقروءة؛ فيندمج الموضوعي بالأيديولوجي، فيتحول «المستقبل-الماضي» إلى «المستقبل-الآتي» ... فيصبح المقروء المعاصر لنفسه معاصرا لقارئه، فتصبح هذه المعاصرة المتبادلة هي التي تحقق الاستمرارية باستمرارية تقدم الوعي من خلال البحث عن الحقيقة.
49
والذي يتيح إمكانية هذه الاستمرارية هو: «الممارسة العقلانية النقدية في تراثنا وبالمعطيات المنهجية لعصرنا، وبهذه الممارسة وحدها يمكن أن نزرع في ثقافتنا الراهنة روحا نقدية جديدة وعقلانية مطابقة: الشرطين الضروريين لكل نهضة.»
50
هكذا يفصح الجابري عن طموحاته النقدية وأفقه المعرفي، من خلال منهجية الوصل والفصل لتحرير التراث والتاريخ من الرقابة المادية والمعنوية التي يفرضها المجتمع، وتمنع من استمرار العطاءات في الثقافة العربية. (ج) محددات الرؤية والقراءة المعاصرة للتراث
الوعي بأبعاد الرؤية - فلسفة النظر ومنطلق التحليل وترتيب الخطوات - شرط ضروري لاستعمال المنهج استعمالا سليما مثمرا ... فهي التي تؤطر المنهج وتحدد له أفقه وأبعاده،
51
وترتكز هذه الرؤية على منطلقات أساسية في المنهجية التي يقترحها في قراءة المتن التراثي واستيعاب إرجاعات الواقع المعاصر:
وحدة الفكر ... وحدة الإشكالية
52
ينطلق الجابري في هذه النقطة من اعتبار تاريخ الفكر تاريخ وحدة الإشكالية التي تؤسس لوحدة الفكر في لحظة أو لحظات تاريخية معينة لا تتقيد بإطار الزمان والمكان، بل تبقى مستمرة وتظل مفتوحة في كل لحظة تبرز فيها إشكالية النهضة للأمة كإشكالية التوفيق بين العقل والنقل، كما تعني عنده ضرورة الانصراف إلى ما كتبه مجموعة من المفكرين إلى فكر واحد منهم. وتشكل هذه اللحظة عند الجابري لحظة مهمة في توجيه اختياراته الفلسفية العقلانية أثناء تعامله مع التراث العربي في مجال جغرافي محدد [المغرب والأندلس] ولفكر بعينه - ابن طفيل وابن رشد وابن باجة - وبالعوامل التي أنتجت هذا الفكر في زمان محدد ومعروف «اقتصادية وسياسية واجتماعية»، ويرى أنها رؤية مفتوحة للذات القارئة ومتاحة للتأويل بعد تكييف أدوات التحليل معها.
المجال التاريخي أو تاريخية الفكر
الذي يعنيه ليس بالضرورة التحديد التقليدي الذي يؤرخ له بتعاقب الدول، وإنما القصد هو «عمر الإشكالية»،
53
والفترة التي تغطيها في تاريخ فكر معين،
54
ويتحدد عنده هذا المجال بأمرين اثنين: «الحقل المعرفي» الذي تؤطره المادة المعرفية الموحدة المنسجمة «الفكر الفلسفي» التي يتحرك فيها الفكر بجهاز مفاهيمي وتصورات، ومنطلقات، ومنهج ورؤية موحدة.
أما المجال الثاني فهو «المضمون الأيديولوجي» لإعادة نوع من الترابط بين الفكر والواقع من خلال الوظيفة الأيديولوجية التي يحملها ذلك الفكر.
تمكننا هذه الخطوات المنهجية وعناصر الرؤية - يقول الجابري - من الوعي بإشكالات التراث، وتحديد مستويات التعامل معها؛ في أفق توظيفه في حياتنا الفكرية الراهنة على مستوى الفهم والاستيعاب الكلي، وعلى مستوى الاستثمار والاتجاه نحو أعلى مراحل التقدم فيه، منبها إلى أن ما يزيد المشكلات تعقيدا في هذا التعامل داخل الفكر العربي المعاصر، هو الطرح الخاطئ لقضية التعامل مع التراث، التي تشكل إحدى المحددات الأساسية لإشكاليته، ولكونه يطرح المشكلات التي يواجهها في إطار هذه الإشكالية طرحا خاطئا.
55
والمنهج في كتابات الجابري - كما يؤكد - مسترسل، لكن لا ليكرر نفسه، بل ليكيف خطواته وأدواته مع المعطيات التي يتعامل معها، ويتمم عملية اكتشاف نفسه، وهذا واضح من المداخل والمقاربات التي افتتح بها كل جزء من أجزاء مشروعه في نقد العقل العربي.
بهذه الخطوات يحقق الجابري معنى الانتظام في المنهج بدل الفوضى التي سادت الدراسات السابقة، و«الانتقال من التناول «الأيديولوجي» للتراث إلى التراث باعتباره سؤالا «معرفيا»؛ أي من سؤال: لماذا الحاجة إلى قراءة التراث؟ إلى سؤال: كيف نقرأ التراث؟ وسؤال الكيفية هنا هو سؤال الرؤية والمنهج؛ السؤال الذي يقتحم التراث ويبحث فيه، لا «السؤال» الذي يتخذ من التراث تكأة لينتج خطابا أيديولوجيا.»
56
وينتقد الجابري القراءات السابقة للتراث في بعدها الإبستيمولوجي لأنها «مؤسسة على طريقة واحدة في التفكير؛ الطريقة التي سماها الباحثون العرب القدامى ب «قياس الغائب على الشاهد» [أي إن] هناك دوما «شاهد» يقاس عليه «الغائب». الغائب هنا هو المستقبل. (...) أما الشاهد فهو بالنسبة لكل اتجاه الشق الأول من السؤال الذي يطرحه.»
57
فهي قراءات سلفية الرؤية والمنهج.
ويحق لنا أن نتساءل بعد الذي عشناه مع هذا المشروع من متعة وسياحة فكرية وقوة في المراجعات: هل فعلا انتهينا من إشكالية المنهج من خلال الخطوات المقترحة وسويت المسألة أم أن الأمر أعقد مما يتصور الجابري؟ ما حدود التوفيق لهذه المنهجية المقترحة؟ ألم يكن خطاب الجابري حول التراث خطاب نقائض أيديولوجيا عكس ما قرره من أن الهم الإبستيمي هو رهانه الأول في كل هذا الجهد؟ نؤجل القول في هذه الأسئلة إلى المبحث الرابع من هذا الفصل حيث مجاله الطبيعي. (2-2) تأسيس المفاهيم المعرفية المنهجية في مشروع الجابري: المرجعيات والأصول
اعتمد محمد عابد الجابري في تأسيس ونحت جهازه المفاهيمي ومنهجياته التحليلية على منظورات متعددة ومتخصصة، ومساقط معرفية، منها ما ينتمي إلى المتن التراثي العربي الفلسفي بالدرجة الأولى، ومنها ما ينتسب إلى الفكر العالمي المعاصر المتعدد التخصصات «الفكر السياسي، والبنيوية، والتفكيكية، والأنثروبولوجيا، والإبستيمولوجيا، وعلم النفس، وعلم اللغة، والماركسية المتجددة» ليس كما طبقت هذه المفاهيم في حقلها التداولي الأول، وإنما وفق معطيات جديدة، يعيشها الفكر العربي المعاصر، وهو ما يمنحها - حسب الجابري - إمكانات التحرك في حقلها الجديد بحرية، بعد تنقيتها من خلفياتها الأيديولوجية، وتطويعها والسياقات الجديدة لفكرنا المعاصر.
لم يواجه الجابري مشكلة في بحثه أكثر من مواجهته لمشكلة تبيئة المفاهيم الغربية التي استمدها من حقوله المعرفية من أجل بلورة أفضل لمشروعه النقدي،
58
فكان عليه أن يقطع مسافات، ذهابا وإيابا، بين هذه الحقول المعرفية المتعددة والمتخصصة وشبكة مفاهيمها، حتى يظفر ببغيته المنهجية في إطار النقد الإبستيمولوجي للعقل العربي، وبالتالي الهدف الاستشرافي النهضوي العربي؛ من خلال تفكيك آليات تفكير هذا العقل، والتحرر مما أسماه «مما هو متخشب في كياننا العقلي، وإرثنا الثقافي»،
59
وفك الارتباط بين «الصراع الأيديولوجي والصدام الإبستيمولوجي في الثقافة العربية. وهي علاقة ما كان يمكن لنا قط إهمالها أو التقليل من أهميتها ومفعولها، وإلا فقد التحليل بعده التكويني؛ أعني ما يمنح موضوعه تاريخيته ...»
60
وتحقيق هذه المهمة التاريخية يتطلب من الناحية المنهجية نظرة متكاملة منافية للتبعيض والبعثرة؛ ولذلك تجد غلبة مفاهيم تستجيب لهذا الطموح النقدي من قبيل «البحث عن الأصول والفصول»، و«التفكيك»، و«رد الجزء إلى الكل». يقول: «نحن لا نصدر عن مثل هذا المنهج التجزيئي الفيلولوجي الاستشراقي، ليس فقط لأنه معرض للنقد علميا، بل لأنه لا يستجيب لاهتماماتنا نحن العرب المعاصرين، ولا لنوع الوعي الذي نريد أن يكون لنا عن تراثنا.»
61
حين حاول أن يجعل المصطلح الغربي أقرب إلى موضوعه، ويكسبه القدرة على الانسجام.
هكذا تكلم الرجل. فهل فعلا استطاع الجابري أن يحقق هذا الانسجام بين أدواته التفسيرية وموضوعه «نقد العقل العربي» بمضلعاته الأربعة: «تكوين العقل»، «بنية العقل»، «العقل السياسي»، «العقل الأخلاقي»؟ ولإشكالات الفكر العربي المعاصر؟ وأن يحررها من أبعادها الأيديولوجية وإحالاتها الفلسفية؟ وأن يحقق بهذا العمل الضخم ما كان العرب يحلمون به؛ مشروع النهضة والتقدم والحداثة السياسية؟ فهذا الانتظام، والتجاوز المنهجي، والتبيئة المفاهيمية التي اشتغل عليها الجابري وأخذت منه وقتا من شأنها - كما يقول - أن تجعل من دراسة التراث وقضايا الفكر العربي المعاصر؛ دراسة نقدية عقلانية متجاوزا «الثقافة الشعبية، والخرافات، والأساطير» إلى الانخراط في نقد العقل بأدوات مأخوذة من الفكر العالمي الإنساني، ومحاولة غرسها في الحقل التداولي الفلسفي العربي.
وقد كان هذا الهاجس المنهجي مهيمنا على نفس الكتابة عنده، وما يؤكد هذا المنحى ما نجده في مقدمات مشروعه التي استغرقت صفحات؛ لهذا فقد «عانق إطار التحليل الإبستيمولوجي معانقة لصيقة ظلت تصادفنا بصماتها واصطلاحاتها على طول الأجزاء المكونة لمشروع «نقد العقل العربي»، فبالقدر الذي يثيرها في مقدمة «تكوين العقل العربي» يرسخها في خلاصته»،
62
أثناء مقارنة أجراها بين خطاب الكندي وخطاب الفارابي، وهو ما يثبته بقوله: «وإذا نحن نظرنا إلى خطاب الكندي وخطاب الفارابي من زاوية الأساس الإبستيمولوجي، أو النظام المعرفي الذي يؤسسهما وجدناهما خطابا واحدا؛ خطابا جديدا على الثقافة العربية الإسلامية يسجل لحظة جديدة في تاريخ تكون العقل العربي ...»
63
فالتأكيد على هذا الاختيار في التحليل أدى به إلى ارتشاف حاجياته المنهجية - كما ذكرنا آنفا - من حقول معرفية إنسانية تناسب موضوعه، فحينما يحتفل باللغة العربية معتبرا إياها مرجعا لقراءة فكرية كان لزاما عليه طرق باب علماء السيميائيات.
64
ويعبر عن هذا المنحى المنهجي فيقول: «وإذا أخذنا بالأطروحة العامة المقبولة (...) لدى علماء السيميائيات والإثنولوجية اللسانية، والقائلة: إن منظومة لغوية ما (الشيء الذي يعني ليس فقط مفرداتها بل أيضا نحوها وتراكيبها) تؤثر في طريقة رؤية أهلها للعالم وفي كيفية مفصلتهم له، وبالتالي في طريقة تفكيرهم؛ أمكن القول إن الكلمة التي يرجع بها إلى معناها اللغوي إنما يطلب مدلولها كما كان يتحدد داخل المنظومة اللغوية التي تنتمي إليها (...) وهذا ميسور جدا وبدرجة كبيرة في اللغة العربية الفصحى.»
65
فهذا الشاهد يظهر بدرجة كبيرة مدى ارتباط مقومات المنهج النقدي عند الجابري بأطروحات التفكير اللساني والإثنولوجية
66
اللسانية وأصولها النظرية، ومحاولة سحب بطاقة السفر معها، والدخول بها إلى حقل البيان العربي وفق محددات الرؤية المنهجية التي حددها.
ويؤسس لهذه القوة الإبستيمولوجية من التراث، وينتزع أدواتها منه، حين اعتبر الإجماع في التشريع الإسلامي قوة منهجية ناهضة بالعمل الإبستيمولوجي. يقول: «الإجماع إذن أصل من أصول «التشريع» في النحو واللغة، وفي الغالب يتم العمل بهذا الأصل بدون تأسيس ولا تبرير وكأنه من بديهيات العقل (...) ولم تكن هذه السلطة التي مارسها «الإجماع» على عقول النحاة واللغويين إلا مظهرا من مظاهر السلطة الإبستيمولوجية التي كانت - وما تزال - لهذا «الأصل» في الحقل المعرفي البياني، والتي تجد مركزها في أصول الفقه (...) والواقع أن علماء أصول الفقه قد منحوا «الإجماع» من القوة الإبستيمولوجية؛ قوة التأسيس على الصعيد النظري، ما لم يمنحوه لأي «أصل» آخر، بل لقد أسسوا عليه جميع الأصول».
67
فظلت هذه المنهجية هي الموجه الأساس لعمليته النقدية التي انطلقت من الخطوات الثلاث في كتابه «نحن والتراث»: التحليل التاريخي، المعالجة البنيوية، ثم الطرح الأيديولوجي.
ومع كل التأكيدات الصارمة التي أعلنها الجابري في التسلح بالنقد الإبستيمولوجي باعتباره سلطة مرجعية في منهجية التحليل، فإنه لا يفوته أن يلمح إلى إحساسه بالإحراج من نتائج هذا التحليل، إزاء المذاهب والطوائف التي انتقد بنية التفكير عندها في التراث المعرفي وما زالت مستمرة؛ ولذلك عمد إلى ما أسماه بالتخفيف من النقد، حيث حرص على تجنب الحساسية الطائفية فخفف من النقد إلى أدنى درجة ممكنة بالنسبة للمذاهب الفكرية التي ما زالت موجودة في الساحة، وربما تنافسه على مستوى التحليل أو تخالفه.
وهذا التخفيف ذكاء منهجي من الجابري ليتجنب الدخول في الصراع المباشر، والمعارك الهامشية التي تنسيه الموضوع الأساس والحيوي «نقد العقل العربي والتأسيس لمشروع الحداثة»، ويضع بينه وبين «خصومه» مسافة من الاحترام والتقدير، المستند إلى فقه الاختلاف، لكن الاختيار يبقى هو هو: الصرامة النقدية، والوفاء لمنظومته التحليلية.
وهذا دأب دأب عليه الجابري في كل مراحل مشروعه، فكان يلجأ إلى إجراء تعديلات منهجية واختيار منظورات في التحليل تستجيب لطبيعة كل موضوع ولاحتياجاته. هكذا نجده في تحليل العقل السياسي العربي يستعير آليات جديدة، ومفاهيم أخرى أكثر قدرة على التفكيك والتوليف والتوليد، فاعتمد خرائط معرفية تتوزعها كل الاتجاهات على اختلاف منطلقاتها وأيديولوجياتها؛ ويبرر الجابري هذا الاستمداد المنهجي من الفكر الغربي بمبرر بناء الذات وتطوير وعينا المعاصر. يقول: «عندما ندرس التراث أو الفكر الغربي (...) فإنما نفعل ذلك لكي نبني ذاتنا ونطور وعينا، لكي نكون لأنفسنا نظرة عن العالم، لكي نفهم.»
68
وهو مضطر - كما تقول الباحثة اللبنانية نايلة أبي نادر - إلى أن يستعير أدوات بحثه، حتى يتسنى له الحفر والتفكيك بالشروط التي حددها. لكن المشكلة المطروحة لا تقف عند حد الاستعارة؛ وإنما المشكلة حول كيفية اختيار هذه الأدوات وفي توظيفها
69
حتى تستجيب لأغراض البحث العلمي، وهذا تحد يواجه الباحث في عمله؛ تحدي ترجمة المفاهيم والمصطلحات واختيار المنهج أو المناهج الملائمة للموضوع.
إن الترجمة لا تكفي، بل لا بد من عمل استثنائي للباحث هو الوعي بما قبل المنهج بالحمولات الفلسفية للمفاهيم؛ لتفادي الإسقاط العشوائي، وهذا واحد من العوائق الكبرى التي تواجه الفكر العربي المعاصر في كل لحظة من لحظاته التاريخية، بل تواجه البحث العلمي بشكل عام.
فهذا الخلل في قراءة المفاهيم أدى إلى خلق ثنائيات في تاريخ الفكر العربي منذ بداية الترجمة، الماضي والحاضر، التراث والحداثة.
ومن أجل تفادي العوائق الإبستيمولوجية شرع في تبيئة مفاهيم موضوعه، ففرق بين «الدرس الإبستيمولوجي» و«التوظيف الإبستيمولوجي»، ف «الإبستيمولوجية بمعناها المعاصر تتعلق بالمعرفة العلمية، لكن ليس بالضرورة [في رأيه] أن ترتبط بالعلوم الطبيعية والرياضية، بل يمكن أن تكون ميدانا لإنتاج مفاهيم ورؤى جديدة قد لا تتوافر في العلوم الحقة التي هي موضوع الدرس الإبستيمولوجي بالمعنى الضيق للكلمة»،
70
ليوسع من تحرك مفاهيمها في مجالات جديدة غير أصلية، ويحاول أن يدرسها كما فعل بياجي في استعارة مفهوم اللاشعور المعرفي أثناء دراسته لتكوين بنية العقل، عقل الواحد من البشر، مستلهما المعنى الذي أعطاه فرويد للاشعور «الانفعالي السلوكي»، يقول: «لنستعر إذن هذا المفهوم من بياجي ولننقله من ميدان السيكولوجيا التكوينية، الذي تحرك فيه بياجي، إلى ميدان إبستيمولوجيا الثقافة الذي نتحرك فيه (...) ومعلوم أن اللاشعور لا تاريخ له؛ لأنه بطبيعته لا يعترف بالزمن «الطبيعي» ولا بزمن بنية العقل المنتمي إلى ثقافة ما ، فهو لا يلحقه التغير بنفس الوتائر التي يتغير بها الزمن الاجتماعي والعاطفي ...»
71
وألتوسير حين وظف دراسات باشلار في تحليل فكر ماركس وفوكو في حفرياته.
فهو لا يرى مانعا من أن تسافر هذه المفاهيم من حقل إلى آخر دون تأشيرة المرور وشروط السفر ومدة الإقامة، ودون الخضوع لمراقبة جمركية صارمة، مع ما يخلقه هذا المرور والسفر من قلق في الطريق ومتاعب في الوصول؛ ولهذا يحاول تركيبها في منظومته النقدية كما يتصورها وما تبقى منها في ذهنه ومن خلال معرفته بها، وأنه «إذا امتلكنا هذا الذي تبقى وأصبح مهضوما، وصار ملكا لنا، فإننا حينئذ نستعمله بصورة عفوية وفي الغالب بكيفية مبدعة».
72
ويعطي لهذه المفاهيم مشروعية الارتباط بموضوعه حين اعتبرها مفاهيم تعبر عن واقع إنساني عام، مع ما في هذا التعميم من تجاوز لخصوصيات الثقافات الأخرى التي ما فتئ يؤكد عليها وعلى نسبية هذه المناهج - اضطراب في التعبير والإفصاح في أكثر من موقع - بين العمومية والنسبية والشمولية والاستقلال التاريخي. يقول: «إن مفاهيم العلوم الإنسانية في الغرب ترتبط بالمرجعيات التي تؤسس الثقافة الغربية والفكر الغربي، ولكنها في ذات الوقت تعبر عن واقع إنساني عام»؛
73
الأمر الذي يطعن في مفهوم الاستقلال التاريخي الذي استوحاه من غرامشي، إذ لا استقلال إلا ارتباطا بالذات وبمرجعيتها وتاريخها ونسقها الحضاري العام.
أما في كتابه «تكوين العقل العربي» فيؤسس فصوله على منهجين؛ الأول: يهيمن فيه التحليل التكويني، والثاني: يسود فيه التحليل البنيوي،
74
بالثقل نفسه تحضر المعاجم الفلسفية واللغوية الغربية في تحديد المفاهيم عنده، بل تحسم في كثير من اختياراته كما هو الشأن في تحديد «مفهوم العقل»، حيث استعان بالتمييز المشهور الذي أقامه لالاند بين العقل المكون «بالكسر والتشديد لحرف الواو» [الفاعل] والعقل المكون «بالفتح والتشديد للواو» [السائد]. فالأول يقصد به النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر ويصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ، والثاني هو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا
75
ليتبنى المفهوم الثاني للعقل - العقل المكون [السائد] - فيسقطه على العقل العربي إسقاطا أضر بمخرجات تحليله الإبستيمي الذي تبناه في مشروعه.
إلى جانب لالاند، دخل الجابري في خط التماس مع فلسفة ديكارت واسبينوزا وهيغل في تحديد طبيعة العقلانية التي يتوخاها في دراسته لبنية الثقافة العربية وطبيعة الأدوات المتوسل بها في هذا التحليل «التفكيك»، ويعزز نموذجه التفسيري هذا وهذه الاختيارات والمحددات المنهجية باستعراض التطورات التي عرفها العقل الغربي من العصر اليوناني إلى العقل الحداثي كما تبلور مع ديكارت، وحدد له ثابتين ينتظمان خط سيره وميزتين تميز بهما عن غيره من العقول: (أ)
اعتبار العلاقة بين العقل والطبيعة علاقة مباشرة. (ب)
الإيمان بقدرة العقل على تفسيرها والكشف عن أسرارها.
وهما خطان يشكلان - في نظره - ثابتا بنيويا واحدا، قوامه تمحور العلاقات في بنية العقل حول محور واحد، قطباه: العقل والطبيعة. فصال في هذه الثقافة ومعاجمها قبل الوصول إلى معاجم اللغة العربية التي تفحصها؛ وانتهى إلى خلاصات تؤكد مفارقات بين العقل العربي الذي ارتبط بالقيم والأخلاق غير متجه إلى الطبيعة وظواهرها، عكس التصور الذي تنقله اللغات الأوروبية، فالعقل مرتبط دوما بالموضوع، فهو إما نظام الوجود، وإما إدراك هذا النظام أو القوة المدركة.
76
أما في كتابه «العقل السياسي» فقد اتجه بالقوة نفسها إلى المرجعيات الغربية يستمد منها ويستعير مفاهيمه، يقول: «والجهاز المفاهيمي الذي سنوظفه في هذه الدراسة يتألف من صنفين من المفاهيم: صنف نستعيره من الفكر العلمي الاجتماعي والسياسي المعاصر، وصنف نستمده من تراثنا العربي الإسلامي [دون أن يصفه بالعلمي]. والمزاوجة بين توظيف هذين النوعين من المفاهيم ليست بالعملية السهلة. ونحن أول من يدرك [القول للجابري] «الأخطار» التي تنطوي عليها؛ ولذلك حرصا منا على تبيئة الأولى مع موضوعنا فلم نتقيد حرفيا بالمضمون الذي تحمله في مجالات استعمالها في حقول الثقافة الغربية، بل عملنا على جعلها تتسع، دون تشويه للتعبير عن المضامين التي يعرضها علينا موضوعنا كمعطيات خاصة تشكل جانبا أساسيا من خصوصيته، واجتهدنا من جهة أخرى في بعث حياة جديدة في المفاهيم القديمة التي اخترناها من تراثنا، وذلك بتحريرها من قيود الماضي وربطها باهتمامات الحاضر.»
77
يوظف هذه المفاهيم دون عرضها معجميا وتتبع سياقاتها في الحقل الدلالي الذي نشأت فيه، وصعوبات تطبيقها في المجال التداولي الثاني موضوع الدراسة [العقل السياسي العربي] لاعتبارات حددها في إشراك القارئ في الرؤية التي يقترحها لموضوعه، وترك الرؤى والمرجعيات التي اختارها تحدد هذه المفاهيم كما وردت في سجلاتها.
ومن المفاهيم المركزية التي استعارها الجابري مفهوم «اللاشعور السياسي» والأهمية التي اكتسبها في حقل الدراسات النفسية، انطلاقا من الفيلسوف النفسي الشهير سيغموند فرويد (1856-1939م) الذي أولى أهمية كبيرة في تحليل هذه المكبوتات، واعتبره مسئولا عن قسم كبير من سلوك الفرد البشري يكشف عن نفسه من خلال الأحلام وفلتات اللسان، ومن خلال تصنيف سلوك الإنسان إلى سلوك صادر عن الشعور، عن وعي وإقرار وتصميم، وسلوك صادر عن اللاشعور لا تتحكم فيه إرادة المرء، يفلت من الرقابة الشعورية.
78
ويبرز الجابري أهمية هذا المفهوم من خلال الأبعاد التي أضافها يونغ في تحليله للتشكيلات البشرية التي اشتغل عليها وانتهى إلى وجود ما أسماه ب «اللاشعور الجمعي» الذي أسسته العشيرة والقبيلة والأمة، ليجد الجابري موطنا لمفاهيمه ويفترض أن اللاشعور الجمعي أصل «اللاشعور السياسي». يقول: «إن مفهوم اللاشعور الجمعي هذا يبدو وكأنه أصل لمفهوم «اللاشعور السياسي» يؤسسه ويؤطره بوصفه أعم منه.»
79
ويعزز هذا التوجه بما انتهى إليه ريجيس دوبري الذي استعار منه هذا المفهوم في دراسته للعقل السياسي من التمييز بين المفهومين «اللاشعور الجمعي» و«اللاشعور السياسي»، حيث جعل من هذا الأخير مفهوما مستقلا.
ويقدم الجابري في صفحات الكتاب توضيحات حول المفهوم وطريقة اشتغاله في موضوعه الأول، نقد التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ومنهجيته في التوظيف داخل سياقه الجديد: العقل السياسي العربي. يقول: «هذا ونحن عندما نستعير مفهوم اللاشعور السياسي من دوبري لا نأخذه بكل حمولته ولا بنفس مضمونه، بل نتصرف فيه بالقدر الذي يفرضه موضوعنا الذي يختلف اختلافا غير قليل عن موضوعه»،
80
مع فارق في الزمن التاريخي بين المجتمع الذي فكر فيه دوبري، والمجتمع الذي فكر فيه الجابري.
الأول احتلت فيه الصناعة والعلاقات الاجتماعية مكانا يقع خلف الموقع الذي تحتله العلاقات الاقتصادية المتطورة: علاقات الإنتاج. أما المجتمع العربي فالأمر يكاد يكون بالعكس، كما يقول، فالعلاقات العشائرية والطائفية ما تزال تحتل موقعا أساسيا وصريحا في حياتنا السياسية قديما وحديثا، بينما العلاقات الاقتصادية وعلاقات الإنتاج لا تهيمن على المجتمع إلا بصورة جزئية،
81
في محاولة لقلب الأوضاع بين المجتمعين، مع الإبقاء على خطوط التماس بينهما؛ الأوروبي قبل علاقات الإنتاج والصناعة، والعربي في وضعه الحالي الذي تهيمن عليه نفس العلاقات، ويعبر عن هذا التوجه في قوله: «وهكذا فإذا كانت وظيفة مفهوم «اللاشعور السياسي» عند دوبري هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، فإن وظيفته بالنسبة إلينا ستكون بالعكس من ذلك إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والسلوك العشائري داخل المجتمع العربي القديم والمعاصر (...) فاللاشعور السياسي المؤسس للعقل العربي يجب ألا ينظر إليه فقط على أنه «الديني» و«العشائري» اللذان يوجهان من خلف الفعل السياسي، بل لا بد من النظر إليه أيضا على أنه السياسي الذي يوجه من خلف التمذهب الديني والتعصب المذهبي.»
82
فهذه التراتبية التي يقيمها الجابري انطلاقا من تحليل دوبري مع تغييرات طفيفة - دون أن يقدم المبررات الكافية - تجعل التحليل في نظرنا عسيرا في كثير من تفاصيله؛ لأنه قياس على غير قياس، وبناء على غير بناء. ويعزز الجابري هذا البناء المفاهيمي بمفهوم آخر يعتبره المرجعية العامة للعقل السياسي: إنه مفهوم «المخيال الاجتماعي»
83
الذي استعاره من علم الاجتماع المعاصر، وبالضبط من ماكس فيبر.
وقد سلك المسلك نفسه الذي سلكه مع المفهوم الأول؛ أي الشرح والتفسير للمخيال الاجتماعي في حقله التداولي الغربي؛ لينتهي إلى تبيئته - بطريقته - للاقتراب من فلسفته والتمكن من تشغيله، ولتوضيح ذلك يقول: «إن مخيالنا الاجتماعي العربي هو الصرح الخيالي المليء برأس مالنا من المآثر والبطولات وأنواع المعاناة، الصرح الذي يسكنه عدد كبير من رموز الماضي، مثل: الشنفرى وامرئ القيس وعمرو بن كلثوم وآل ياسر وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز - واللائحة طويلة - إضافة إلى رموز الحاضر ورموز متفرعة عند كل من السنة - السلف - والشيعة الذي يشكله الحسين بن علي ...»
84
مع إجراء نوع من المفاصلة والانفصال بين النظام المعرفي الذي يحكم الفعل المعرفي والمخيال الاجتماعي الذي هو مجال لاكتساب القناعات، مجال تسود فيه حالة الإيمان والاعتقاد ليصل في النهاية إلى أن آليات العقل السياسي العربي هي «الاعتقاد»، وليست نظاما معرفيا منهجيا قائما على تصورات وملاحظات واستنتاجات ومتابعات عقلانية، بقدر ما هي اعتقادات عاطفية قلبية توظف البيان والعرفان.
أما المفهوم الثالث أو الآلية المنهجية الثالثة «المجال السياسي» في التحليل فقد استعارها من أحد أساتذة علم الاجتماع الفرنسيين؛ الأمر يتعلق ببرتراند بادي
85
من خلال كتابه «الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام» محاولا تقريب الإشكالية التي يعالجها هذا الكتاب إلى الإشكالية التي يعالجها الجابري في الفكر السياسي العربي، باحثا عن وحدة الإشكالية بينه وبين الكاتب، يقول: «وإذا نحن أردنا أن نقرب الإشكالية التي يعالجها المؤلف إلى دائرة الفكر الحديث والمعاصر أمكن القول إن السؤال الذي يريد المؤلف الإجابة عنه هو التالي: لماذا تطورت «الدولة» في أوروبا من دولة «الأمير» إلى الدولة الحديثة، دولة «الحداثة السياسية»، دولة القانون والمؤسسات، التي تستمد الشرعية من كونها تمثل إرادة الشعب (...) بالمقابل لم تتطور الدولة في بلاد الإسلام خلال القرون الوسطى إلى دولة حديثة من هذا الطراز؟ ثم لماذا فشلت المحاولات التي قامت بها النخب العصرية في بلاد الإسلام من أجل نقل «الحداثة السياسية» الغربية تلك إلى بلدانها؟»
86
معلقا على بعض التفاصيل التي أوردها بادي، معتبرا تحليله الخطي نوعا من قياس العكس لا يفي بالمطلوب، أما السبب المباشر في عدم قيام هذه الحداثة السياسية فيعزوه الجابري إلى العامل الخارجي باعتباره من أبرز الأسباب التي كانت وراء تقهقر الأوضاع فيه، كما لا يفسره ماضيه وحده، بل لا بد من أن ندخل في الحساب «حاضر» بل حضور الغرب الاستعماري كقوة فاعلة يتوقف استمرار نموها واطراد تقدمها على إعاقة نمو وتقدم العالم العربي والإسلامي وجميع بلدان العالم الثالث.
87
ويعزز الجابري شبكة مفاهيمه باجتهادات الماركسي المجري جورج لوكاتش
88
وقدرتها على التخلص من عدد من العوائق الإبستيمولوجية التي روجتها في الساحة العربية وبشكل رديء ، الماركسية التقليدية في قراءة التاريخ العربي، موظفا مفاهيم هذه المدرسة «البنية الفوقية والبنية التحتية».
89
وقد شجعه هذا النقد على تبني آراء نقدية أخرى لماركسيين مجتهدين معاصرين اهتموا بموضوعه. الأمر يتعلق بالباحث الأنثروبولوجي «موريس كودوليي» - وفي هذا التوجه لا يختلف الجابري عن زميله العروي على مستوى المنظورات التحليلية، وإعلانه حالة التنافي المنهجي والمرجعي - ومع موريس يتنسم الجابري عبق المفاهيم ورائحتها من خلال توظيف المعلومات والمعطيات التي تراكمت من الأبحاث الأنثروبولوجية والأركيولوجية «المنهج الحفري» واللسانية والتاريخية.
وينوه الجابري بعمل كودوليي كباحث أنثروبولوجي طور مجموعة من المفاهيم، خصوصا مفهومي «القرابة» والدور الذي يقوم به في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، والمجتمعات القبلية خاصة، ثم فكرة «وحدة البنيتين» - البنية الفوقية والتحتية - داخل ذات المجتمعات. مع العلم أن الأبحاث التي أجريت على عينات من المجتمعات المسماة بدائية لم تستوف الشروط العلمية، وأثبتت محدوديتها في الدراسات الأنثروبولوجية، وتعرضت لانتقادات من داخل المدارس نفسها، وضعية كانت أو ماركسية، بل إن هذه المجتمعات التي كانت موضوع الدراسة لم تدرس فيها كل العوامل المشكلة لبنياتها.
ويبرر أهمية الاستمداد من هذه الدراسات كونها تخفف من مفعول العوائق المعرفية التي نشرتها الأيديولوجيا الغربية المعاصرة في صفوفنا - يقصد الماركسية التقليدية لا المجددة؛ عوائق هي أصلا عبارة عن تصورات ومفاهيم تعبر بهذه الدرجة أو تلك عن واقع المجتمع الأوروبي الرأسمالي البورجوازي: مفاهيم البنية التحتية والبنية الفوقية والوعي الطبقي والانعكاس الأيديولوجي ... إلخ، التي هي مفاتيح قد لا يستقيم التحليل العلمي للمجتمعات الأوروبية المعاصرة بدون توظيفها نوعا من التوظيف - لكن ليس على الإطلاق هكذا - لكنها تنقلب إلى عوائق معرفية إذا هي فرضت فرضا كمقولات ومفاتيح «يجب» أن تقرأ بها واقع مجتمعات أخرى لم تعرف نفس المراحل من التطور التي عرفتها المجتمعات الأوروبية.
90
صحيح هذا الاستنتاج، وهذا التدقيق في المفاهيم، لكن كيف نجمع بين هذا الرفض والقبول لأطروحات الأنثروبولوجيا حول المفاهيم ذاتها؟ فهو يرى أن مفاهيم الأنثروبولوجيا حول القرابة ووحدة البنية الاجتماعية، وتداخل الديني والسياسي والاقتصادي فيها تدفعنا إلى «المصالحة» مع واقعنا،
91
ورفع الحصار في وعينا عن مفاهيم كان العلم الاجتماعي الأوروبي يقمعها فينا، كما تحررنا من «سلطة مقولات الأيديولوجيات والعلوم الاجتماعية الخاصة بالمجتمعات الغربية الرأسمالية المتطورة، ولنعتبرها مجرد مقولات نسبية تعبر عن حالة أو حالات، ضمن أحوال أخرى موجودة أو سبق أن وجدت. إن هذه هي الخطوة الأولى الضرورية التي بدونها لن نتمكن من رؤية واقعنا كما هو، واقعنا في الماضي وواقعنا في الحاضر.»
92
الملاحظ أن هذا التوجه يحتاج إلى تحرير القول، صحيح أن الدراسات الأنثروبولوجية قدمت عدة منهجية للفكر الإنساني، وأغنت الدراسات المنهجية، لكنها لا تصلح دائما أن تكون أنموذجا لكل الدراسات، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمجتمع - كما يؤكد الجابري - كالمجتمع العربي، فما تزال مفاهيم هذا العلم موضوع خلاف إلى اليوم بين أهل الاختصاص، وغير ذات اتفاق وغير مستقرة، فمن المستبعد أن تكون أداة مصالحة مع الواقع العربي، ولا تقوى على القراءة الواعية لماضيه وحاضره.
وهنا نوع من التناقض في تصريح الجابري بتفكيك المقولات المنهجية الغربية الواردة علينا، وبين ادعاء الانتماء إلى التراث ومقولاته وخصوصيات المجتمع الأم، وحقه في أدوات ومنهجيات تراعي هذه الخصوصيات، وبين التنويه بأدوات خارجية ليست إلا وجها للتحليل الأيديولوجي الاستعماري.
أما المفهوم الآخر الذي استعان به وأثث به مشروعه؛ فهو مفهوم «الحفر المعرفي» الذي استمده من ميشيل فوكو أثناء مقارنته وتحليله لمفهوم «الراعي والرعية» في الفكر الشرقي القديم، والمضمون الذي كان له في الفكر اليوناني.
لكن بغية الجابري الفكر الشرقي القديم من خلال الحفر في الحضارات الشرقية البابلية والمصرية، فهذا النوع من الاستمداد - كما يرى - يعيننا على تجاوز «النظرة الدوغمائية [الماركسية منها والقومية والاغترابية السلفية] التي سادت الفكر العربي في العقود الأخيرة، التي كانت تفرض على الناس لونا واحدا من الرؤية (...) أما اليوم فالأمر يختلف، فالتعددية على الصعيد العالمي والعربي تجعلنا، على المستوى النظري، قادرين على أن نرى مفاتيح وليس مفتاحا واحدا (...) في قراءتنا للواقع السياسي العربي»،
93
ليعلن المحددات المنهجية التي ينبغي اعتمادها في إطار هذه التعددية في قراءة التاريخ السياسي العربي، وهي: (1)
القبيلة: وهي ما تقصده الدراسات الأنثروبولوجية بالقرابة، أثناء دراسته للمجتمعات البدائية، والسابقة على الرأسمالية، أو ما سبق أن عبر عنه ابن خلدون ب «العصبية» أثناء دراسته لطبائع العمران. (2)
الغنيمة: باعتبار العامل الاقتصادي نوعا خاصا من الدخل، خراجا أو ريعا، وطريقة في صرف الدخل وعقلية ملازمة لهما، واعتباره أحد دوافع الفعل السياسي وأحد محدداتها الأساسية. (3)
أما العقيدة فتكمن أهميتها في قدرتها على تشكيل المخيال الاجتماعي السياسي للعقل العربي. وقد قدم الجابري شرحا مفصلا لهذه المنهجية وفق المحددات والتصورات والمرجعيات التي اعتمدها، ووفق خطية تاريخية بين المرجعية الغربية والأبحاث الأنثروبولوجية والمرجعية التراثية العربية. فقد نظر إلى هذه المحددات من جهتين: جهة الإيجاب حين تتحرك في اتجاه البناء وتعزيز الراوبط، وجهة السلب حين تتحول إلى عوامل تقويض البنيان العربي.
94
فهذه العوامل تتداخل عنده فيما بينها لتشكل محددات جوهرية للعقل السياسي العربي، ففي العصر الجاهلي شكلت القبيلة والغنيمة أساسا له، في حين شكلت العقيدة في عصر النبوة محددا لتحرك العقل السياسي العربي، دون أن تسلم هذه المحددات من المساءلة والنقد وتتعرض لانتقادات.
فهذا التنظير الثلاثي في تفسير «تراث الإسلام، قد لا يكون مقنعا، وهو يذكرنا [الكلام لعماد الدين خليل] بمقولة الكاتب المجري آرثر كوستلر من أن الفكرة التي تستطيع تفسير كل شيء، فإنها في نهاية الأمر لا تكاد تفسر شيئا، كما يذكرنا بتعليق الفيلسوف الإيطالي بنيدتو كروتشه على «مثالية» هيغل من أن فكرة هيغل عن الحياة كانت فلسفية، بحيث إن النزعتين المحافظة والثورية تجد فيها ما يبررها. وفي هذه النقطة يتفق «إنجلز» الاشتراكي والمؤرخ المحافظ ترايتشه لأن كليهما يرى أن تماثل المعقول والحقيقي يمكن أن يدعى إليه بصورة متساوية في كل الآراء السياسية والأحزاب التي تختلف عن بعضها، لا من ناحية هذه الصيغة المشتركة، بل في تعيين ما هو المعقول والحقيقي، وما هو غير المعقول وغير الحقيقي، ومن ثم اتهام خصمه بأنه مخالف للمعقول؛ أي إنه ليس له وجود ملموس وحقيقي، ويكون بهذا الادعاء قد وضع نفسه مع الفلسفة في خط واحد.»
95
وقد حاول الجابري أن يرغم التراث العربي على أن ينطق بلسان عقائدي الحاضر من خلال عدة معرفية ومنهجية تربط بين الفهم الإبستيمولوجي المعاصر وأفقه - الحداثة - وتحرير العقل العربي من الفهم التراثي للتراث، وإن كنا نحتفظ له بفضل معرفي على هذا المستوى من الفهم، وتحرير العقل العربي من الفهم الخاطئ للتراث، أو على الأقل زعزعة بعض أفكاره المشوشة لمسيرته، فيخرجه من الجبر التاريخي إلى حركة تنويرية معاصرة. فاعل ذلك الجهاز المفاهيمي الذي اعتمده في تشريح ذلك العقل، في أفق التأسيس للكتلة التاريخية، وهو بذلك يدشن مرحلة القطيعة مع الميتولوجيا السياسية التي سادت في تاريخ الأمة إلى فقه السياسة بالمفهوم المعاصر. (3) المبحث الثالث: القطيعة المعرفية في فكر الجابري: المفهوم والمجالات والمآلات
وظف محمد عابد الجابري في مشروعه النقدي للعقل العربي جهازا مفاهيميا حاول من خلاله تنشيط آليات التحليل، وتحديد منطلقات البحث ومآلاته، فكان هذا الجهاز المفاهيمي هو الضابط لحركته النقدية، والموجه نحو الأفق المعرفي عنده، فمن المفاهيم المركزية التي شغلت مساحة كبيرة في مشروعه: مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية، أو النقد الإبستيمولوجي.
فتأسيس الحاضر واستشراف المستقبل لا يحصل عنده إلا بتحقيق هذه القطيعة المعرفية مع مساحة كبيرة من تاريخ الفكر العربي الإسلامي، ومع أنواع الفهوم التي تشكلت حول هذا الفكر في الماضي، وأريد لها أن تستمر وتبني وتشيد.
ظهر مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية على يد الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884-1962م) ليدل على مفهومين:
الأول:
تخلي العالم في المختبر عن المعرفة التقليدية الشائعة، والأخذ بالمعرفة العلمية الموضوعية القائمة على التجربة والبرهان.
الثاني:
القطيعة بين الأنظمة المعرفية في تاريخ العلم، والنظام المعرفي هو مجموعة من المفاهيم والمقولات وطرائق التفكير التي تمكننا من حل المشكلات أو التوصل إلى معرفة جديدة ترقي حياتنا. فعندما يصل النظام المعرفي الذي نستخدمه إلى طريق مسدود ولا يستطيع معالجة الإشكاليات التي تواجهنا، لا بد لنا من تغيير الزاوية التي ننظر منها إلى الأشياء؛ أي التخلي بوعي تام عن ذلك النظام المعرفي القديم، وتبني نظام معرفي جديد يستطيع التعامل مع الإشكاليات التي عجز النظام المعرفي القديم عن التعامل معها، فالتطور العلمي لا يتوقف على التراكم الكمي فحسب، بل على آليات التفكير الجديد أيضا، وفيما اشتغل باشلار على المفهوم الأول لمصطلح القطيعة المعرفية تبنى المفهوم الثاني وطوره ثلاثة من المفكرين هم: الفيلسوف الناقد الفرنسي ميشيل فوكو (1926م- 1984م) الذي اتبع طرائق بحث جديدة في كتابه «تاريخ الجنون»، ولويس التوسير (1916-1990م) الذي أعاد قراءة ماركس قراءة بنيوية؛ فبين أن ماركس في كهولته قد قطع صلته الأيديولوجية والمثالية بالفلسفة الألمانية، وتبنى مقاربة علمية، ونظرية قرأ فيها الأشياء قراءة نسقية توضح بنيتها الداخلية ونظامها الهيكلي. ومؤرخ العلم الأمريكي توماس كوهن (1922-1996م) صاحب كتاب «بنية الثورات العلمية» الذي برهن فيه على أن «التطور العلمي ليس بالضرورة تراكميا وتدريجيا، وإنما قد يتأتى من ثورات بنيوية يتم فيها تغيير نسق البحث وآلياته، وأصبح للقطيعة المعرفية مفهوم مختلف شيئا ما لدى كل واحد من هؤلاء المفكرين الثلاثة.»
96
فاستعار الباحثون العرب هذه الآلية ضمن جملة الآليات المنهجية من الفكر الغربي المعاصر، وحاولوا إنزالها في قراءة الخريطة الفكرية والنظم المعرفية العربية الإسلامية. وهنا ينبغي استحضار سياقات الفكر الغربي الذي جرت فيه هذه القطيعة أو القطائع، والمطارحات التي واكبت هذا السجال الفكري الغربي منذ الصراع بين الكنيسة والعلماء، وما أسفر عنه من دعوات اتجهت نحو القطيعة مع هذا التفكير الكنسي في بداية الصراع إلى الدعوة للقطيعة مع الدين وكل أشكال التدين.
97
فكان لتطور العلوم الحقة دور بارز في تأكيد هذه القطيعة على مستوى أدوات التحليل والبرهنة ومناهج النظر التي ظلت مهيمنة على الحقل المعرفي الغربي؛ فسافرت المناهج في الغرب من حقل معرفي إلى آخر دون اعتبار للفوارق بين موضوع العلوم الحقة والعلوم الإنسانية؛ ولهذا يرى الجابري ضرورة استعارة هذا المفهوم وتوظيفه في قراءة تاريخ الفلسفة العربية وتشريح التراث العربي الإسلامي والعقل الذي أنتجه. يقول: «صحيح أن «القطيعة الإبستيمولوجية» مفهوم باشلاري، استعمله في تاريخ العلم، حيث أعطاه معنى محدودا بحدود هذا التاريخ، ولكنني أخذت هذا المفهوم واستعملته في مجال آخر هو تاريخ الفلسفة؛ الفلسفة العربية-الإسلامية، التي بينت طبيعتها كما أفهمها، باعتبارها قراءات مستقلة متوازنة لفلسفة معينة، وبذلك فلا تاريخ لها ، هكذا وظفت المفهوم توظيفا جديدا في مجال آخر، وهو بالنسبة لي مفهوم إجرائي مكنني من أن ألاحظ أشياء لم أكن ألاحظها من قبل طرحه كأداة للعمل.»
98
ويرى أن الخاصية الإجرائية لهذا المفهوم تمكنه من استعماله دون أن يثير أية مشكلة في علاقته مع موضوعه؛ ولهذا يقدم تعريفا لمفهوم القطيعة المعرفية يتجاوز به المفهوم الراديكالي الشمولي الذي اعتمده عبد الله العروي، يقول: «إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث، بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا من «كائنات تراثية» إلى «كائنات لها تراث»؛ أي إلى شخصيات يشكل التراث أحد مقوماتها، المقوم الجامع بينها في شخصية أعم هي شخصية الأمة صاحبة التراث»،
99
متجاوزا الطروحات الفاسدة المنادية بإلقاء التراث في المتاحف أو تركه «هناك» في مكانه في التاريخ.
ولهذا فإن رفض التراث بهذا الشكل الميكانيكي موقف لا علمي ولا تاريخي، ويعتبر هذا النقد أقسى نقد تتلقاه النظرة التحليلية الماركسية العربية التي يتزعمها عبد الله العروي، من خلال تأكيده على القطيعة الكلية النهائية مع تراث الأمة، ولا يرى فيه عامل استنهاض للهمم والعزائم بقدر ما يشكل عائقا نحو البناء، ويتهمه - أي الجابري - بالانحياز الكلي للتراث الأوروبي، يقول: «يطرح بعض المثقفين العرب الذين يبدو أن صلتهم ب «التراث» الأوروبي أقوى من صلتهم بالتراث العربي الإسلامي مشكلة استيعاب الفكر العربي المعاصر لمكتسبات الليبرالية «قبل وبدون أن يعيش مرحلة الليبرالية»، ويقصدون بالليبرالية: «النظام الفكري المتكامل الذي تكون في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي حاربت به الطبقة البورجوازية الأوروبية الفتية الأفكار والأنظمة الإقطاعية ... تلك هي إشكالية عبد الله العروي، وزكي نجيب محمود، وماجد فخري وآخرين كثيرين، منهم من يطرحها من منظور فرنسي ديكارتي، ومنهم من يطرحها من منظور أنجلوسكسوني تجريبي وضعي، وذلك حسب نوع «التراث» الأوروبي الذي يشكل منظومته المرجعية الثقافية والفكرية»،
100
وهنا لم تعد المشكلة - في رأي الجابري - مشكلة اختيار بين منهج «تاريخي» وآخر «وظيفي» وثالث «بنيوي» قد يصلح أحدها في ميدان وقد لا يصلح، وإنما لا تصلح إلا عندما يكون الموضوع منفصلا عن الذات، يتمتع بنوع من الاستقلالية، فتكون مشكلة المنهج في هذه الحالة هي - أولا وقبل كل شيء - مشكلة الموضوعية.
101
وتتجه القطيعة عند الجابري إلى دوائر تعبر عن طموحه ليس المعرفي فقط، بل الأيديولوجي، وعن الانتظارات المرجو إنجازها من خلال هذا المفهوم.
اتجهت القطيعة عند الجابري إلى القطع مع نماذج تراثية تنتمي إلى عصر الانحطاط العربي، ومع بنيتها الفكرية والمنهجية، فقد نادى ب «إحداث قطيعة إبستيمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر»؛
102
لأن هذا العقل ساهم في تشكيل بنيته عناصر متعددة على رأسها «الممارسة النظرية» (النحوية، والفقهية، والكلامية) التي سادت خلال هذه الفترة، وانحصر فيها هذا العقل في بنية فكرية أحادية وآلية منهجية وحيدة هي «القياس» الذي وقع الإفراط في استعماله دون التقيد بشروط صحة هذا النوع من الاستدلال.
وانتقلت هذه البنية الفكرية والشاكلة الثقافية من عصر الانحطاط إلى عصرنا الحاضر، فاستخدمها بعض المنادين بالإصلاح، فدعوا إلى «قياس الغائب على الشاهد»؛ الغائب هنا هو المستقبل، والشاهد هو الماضي المجيد؛ ليبرهنوا على أن «ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل»، وهذا - في نظر الجابري - غير ممكن، بل مستحيل اعتماده في تأسيس العرب مشروعهم النهضوي عليه، وإنما السبيل في استخدام وابتكار طرائق علمية موضوعية حديثة لتحقيق النهضة، من خلال تكسير هذه البنية الثابتة للعقل العربي وآليته المنهجية «القياس» في شكله الميكانيكي اللامتغير الذي يجمد الزمان ويلغي التطور.
103
ولهذا انصب عمله في اتجاه تكسير هذه الثوابت من خلال أدوات ومفاهيم هذه المرحلة العقلية بأدوات ذهنية قادرة على حل المشكلات التي طرحتها هذه المرحلة - وما تزال - على العقل العربي. وقد اتجه الجابري منذ بداية مشروعه إلى البحث - من خلال القطيعة المعرفية - عن «الفرقة الناجية»، ومن خلال توصيفات هذه القطيعة ولائحتها المفاهيمية في المخزون الفكري العربي، وكشف عورات «الفرق الضالة» - غير العقلانية - فيه التي لوثت فكرها بفكر خارجي غنوصي، ولم تستجب للمعايير الإبستيمولوجية والعقلانية الباشلارية.
فحازت الفرقة المغربية الأندلسية الرشدية عنده شرف التمثيل، وإنها الوحيدة المؤهلة لقيادة العقلانية العربية، وإنجاز القطيعة المعرفية، بل أكثر من هذا يتأسف الجابري على ضياع دولة ابن رشد التي شيدها على طريقة أفلاطون وزاد فيها من طموحاته، وأن الانتقال الديمقراطي في العالم العربي لا يتيسر إلا من خلال المشروع الرشدي العقلاني لمواجهة الحتمية الخلدونية التي تقول بالهرم وحتميته.
104
فالتقطيع الذي مارسه الجابري أفسد منهجه التحليلي الإبستيمولوجي في بعده الإجرائي على الأقل، كما حدده في خطواته المنهجية وبنائه الفكري، وصبغه بصبغة التحليل الأيديولوجي الانتقائي البراغماتي لخريطة معرفية دون أخرى أشبه - في نظري - بالتقطيع الجغرافي للخريطة العربية، فالتركيز على الفلسفة المغربية الأندلسية واستبعاد نظيرتها المشرقية فيه كثير من التجني.
ويعزز الجابري هذه القطيعة المعرفية وإعلان تحيزاته للفلسفة المغربية الأندلسية بنص، بعد أن انتقد الفلسفة المشرقية وخروجها أو إخراجها من دائرة الفلسفة العربية الإسلامية، لتدخل دائرة الفلسفة الإشراقية الفارسية، يقول: «لنول وجهنا شطر المغرب العربي إذن حيث سنجد الفلسفة العربية الإسلامية قد «قطعت» مع إشكالية المشارقة لتتبنى إشكالية المغاربة (في المغرب الأقصى والأندلس خاصة). هنا أيضا ستواصل الفلسفة نضالها من أجل نفس القضية؛ قضية العقل والعقلانية، لكن بعد أن طرحها من جديد بمنهج جديد وفي آفاق جديدة (...) كل ذلك كان بمثابة إعادة تأسيس للفلسفة في الفكر العربي والثقافة العربية، لقد فشلت الفلسفة في تحقيق حلمها في المشرق، وعليها الآن أن تبدأ من «الصفر» في المغرب.»
105
والبداية من الصفر حكم بالإعدام على ما سبق في التاريخ، وقطع لصلات الأجيال بعضها ببعض، حتى في علم الوراثة لا يجوز الفصل والقطع، فإذا كان يجوز في التراثات الأخرى - وهذا غير حاصل البتة، وإنما هناك استمرار - فإنه بالنسبة للتراث العربي مستحيل؛ لأن المفاهيم والمقولات تورث بين الأمة وأبنائها، على فرض الاختلاف والتباين في كثير من الأحيان، وهذا يتنافى مع ما أعلنه من الانخراط في التراث، فالثورة الحقيقية هي في التواصل والتلاقح بين المشرق والمغرب.
صحيح أن المغاربة أبدعوا ، لكن أيضا استفادوا من تجربة المشرق، وأسسوا عليها حسب خصوصياتهم، وتجربة ابن تومرت التي تحدث عنها كانت واحدة من التجارب التي انطلقت ثورتها من الفكر العقلاني العربي المشرقي في علم الكلام والخلافيات والمناظرات.
106
فالتأكيد على الخصوصية المغربية وتفردها مسألة في غاية الأهمية والحيوية، وكذلك البعد الجغرافي في الإبداع والأصالة لكن إلغاء الخصوصيات الأخرى والتأكيد على فشلها أفسد جانبا مهما في مشروع الجابري وشوش عليه؛ وهو التكامل في الجهود.
وقد ميز الجابري بين لحظتين تاريخيتين في الفلسفة العربية، بينهما من التمايز والاختلاف والقوة المنهجية والمعرفية، ما جعله يلغي ما لم يعنه في مشروعه. يقول: «لقد ميزنا في هذه الصيرورة بين لحظتين ألغت الثانية منهما الأولى وقطعت معها، اللحظة الأولى هي لحظة حلم الفارابي كما عاشه ابن سينا، واللحظة الثانية هي لحظة حلم ابن باجة كما طوره ابن رشد، فما تبقى من تراثنا لا يمكن أن يكون منتميا إلى اللحظة الأولى لأن اللحظة الثانية ألغتها تاريخيا. والتاريخ يؤكد ذلك، فكل من عاش أو يعيش لحظة ابن سينا بعد ابن رشد إنما قضى ويقضي حياته (الفكرية) خارج التاريخ، وبالفعل قضينا نحن العرب حياتنا بعد ابن رشد خارج التاريخ (جمود وانحطاط)؛ لأننا تمسكنا بلحظة ابن سينا بعد أن «أدخلها» الغزالي في الإسلام وعاش الأوربيون التاريخ الذي خرجنا منه؛ لأنهم أخذوا منا ابن رشد فعاشوا لحظته وما زالوا يفعلون.»
107
فهذا الربط بين تقدم أوروبا وأخذها للرشدية، وحضورها في التاريخ إلى اليوم وتخلفنا، هي دعوة إلى استعادة هذه الرشدية كما فهمها الغرب وشغلها رجال الفكر الغربيون في صراعهم مع اللاهوت الكنسي، ومواجهة سلطانه بمفاهيمها ومقولاته في الفصل بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية.
وترجع شهرة ابن رشد في نظر طه عبد الرحمن إلى «احتياج رجال الفكر الغربيين في القرون الوسطى إلى من يقرب لهم فلسفة «أرسطوطاليس»، كما يعينهم على مواجهة سلطان اللاهوت الكنسي، فقد أقبلت أوروبا في هذه الفترة على ترجمة كتب «أرسطو» النفسية والطبيعية وما بعد الطبيعية بعد أن لم تكن تعرف من كتبه إلا جزءا ضئيلا من منطقه. فوجدت في ابن رشد خير من يوضح ويفصل لها المضامين الجديدة لهذه الترجمات، لا سيما وأنه بدا أقدر من غيره على العودة إلى الأصول «الأرسطية»، كما أن دخول فلسفة «أرسطو» إلى «أوروبا» أدى إلى زعزعة السلطة اللاهوتية ذات التوجه «الأوغسطيني» في النفوس. وقد وجد أهل الفكر اللاتيني في ابن رشد خير من يستندون إليه ويحتمون به في تقرير وتمرير دعاويهم المناهضة لهذه السلطة، كما ترجع شهرته أيضا إلى انقسام المفكرين اللاتين بشأن فلسفته وإصدار الكنيسة لفتاوى تحرم الاشتغال بها، فقد انقسم هؤلاء المفكرون إلى فئتين متصارعتين: فئة الموالين، ويأتي على رأسهم «سيغردي برابنت» الذي دعا إلى تقديم أصول الفلسفة على أصول العقيدة، وفئة المعادين، وعلى رأسهم «ألبير الكبير» و«توماس الأكويني» وأصدرت الكنيسة قرارات تحرم الخوض في قضايا رشدية مخصوصة وتمنع تدريس مذهبه في الجامعات كجامعة «باريس»، فهذه العوامل المختلفة: «الحاجة إلى الشارح» و«الحاجة إلى الظهير» و«الدخول في الصراع» و«الإفتاء والتحريم» ساعدت كلها على ترسيخ اسم ابن رشد في الأوساط الفكرية والعلمية «الأوروبية»، ولما كان العرب المحدثون أصلا مقلدين لا مجتهدين، فلا تستغرب أن يجعلوا شهرة ابن رشد بين أظهرهم كشهرته بين الأوروبيين، سواء بسواء، ولو لم تواجههم العوامل التي واجهت هؤلاء ...»
108
فأي روح رشدية يمكن استعادتها كما يحلم الجابري وغيره من «العقلانيين» العرب؟ ويرى [الجابري] أن ما تبقى من تراثنا الفلسفي، أي ما يمكن أن يكون فيه قادرا على أن يعيش معنا عصره، لا يمكن إلا أن يكون رشديا فلننظر - يتابع كلامه - على ما تبقى من الرشدية كعناصر صالحة للتوظيف في حياتنا الفكرية المعاصرة.
109 (1)
ما جعل الرشدية تدخل التاريخ هو قطيعتها مع السينيوية في صورتها التي اختارها لها ابن سينا (...) ولنقطع بدورنا قطيعة تامة ونهائية مع الروح السينيوية «المشرقية» ولنخضها معركة حاسمة ضدها. (2)
القطع مع الطريقة والمنهجية التي عالج بها الفكر النظري - الكلام والفلسفة - العلاقة بين الدين والفلسفة، لقد رفض طريقة المتكلمين في التوفيق بين العقل والنقل ورفض طريق الفلاسفة الهادف إلى دمج الدين في الفلسفة، والفلسفة في الدين، ويبرر هذه القطيعة التي أنجزها ابن رشد - حسب تفسيره - بأن المتكلمين ضيقوا على العقل وشوهوا الواقع من خلال تحكيم عقلهم التجريبي التجزيئي في الدين، وأن الفلاسفة حكموا «العلم» في الدين وقيدوا العلم بالفهم الذي يكونونه لأنفسهم عن الدين. وابن رشد قطع مع هذا النوع من التفسيرات والتأويلات والعلاقة بين الدين والفلسفة وبدأ عصرا جديدا للتدوين وفق معطيات جديدة تؤسس لهذه العقلانية التي يدافع عنها الجابري ويبشر بها في مشروعه، لكن ابن رشد - في رأيه - لم يقطع فحسب بل قدم البديل، الذي يمكننا من توظيفه في بناء «العلاقة بين تراثنا والفكر العالمي المعاصر بشكل يحقق لنا ما ننشده من أصالة ومعاصرة (...) فلنقتبس منه هذا المنهج في تعاملنا مع تراثنا من الداخل ومع الفكر العالمي المعاصر (...) فنبني لأنفسنا فهما علميا موضوعيا للجانبين معا يساعدنا على الربط بينهما في اتجاه تحديث أصالتنا وتأصيل حداثتنا.»
110
هكذا أسس الجابري لعلاقة التنافر بين عقلين ومجالين، مجال البيان الذي يمثله ابن سينا ومجال البرهان الذي يمثله ابن رشد، فالقطيعة التي «صورها بينهما تمس كلا من الإشكالية والمنهج والمفاهيم، معتبرا أن الأول فكر داخل إشكالية هي غير إشكالية الآخر وبجهاز معرفي يختلف عما لدى نظيره، مؤكدا أن ابن رشد حقق تقدما على ابن سينا في الحقل الذي ينتميان إليه،
111
على مستوى المقدمات والمنطق الاستدلالي المعتمد، مع أن التاريخ والمسار بين الرجلين وبين تيارات التراث الفكري للأمة يبين أن هناك مشتركات تجمع بينهما، فمنهج القياس لم يكن منهج فئة دون أخرى، والعقلانية لم يختص بها مجال دون آخر.
لكن المنهج الانتقائي الذي سلكه الجابري شوش بين مجالات التراث، وخلق في وعي القارئ حالة من الانفصام بين حقول معرفية شكلت فيما بينها حلقات متناغمة وإن اختلفت في طرق الاستمداد، ولا يمكن أن نفسر هذا المنهج عند الجابري إلا بثقل البعد الأيديولوجي في قراءته للخريطة الفكرية العربية الإسلامية لإشباع حاجات حددت سلفا، فيتجه إلى التراث متوسلا به قصد إشباعها، فيختار لهذا البعد خريطة معرفية محددة تشبع في نظره هذه الحاجات المعاصرة، ويعتبر بلقزيز هذه الانتقائية «فضيحة» مست العقل العربي الناقد في علاقته مع التراث العربي، ويمثل الجابري قمة هذه الانتقائية.
112
إن الانتساب إلى ابن رشد وفلسفته - كما يؤكد طه عبد الرحمن - سواء عندنا أو عند الغرب هو «بث روح العلمانية في نفوس المسلمين والعرب كما هي مبثوثة في الفكر الفلسفي الغربي، والدليل على ذلك دليلان:
أحدهما:
أن الرشدية «اللاتينية» في القرن الثالث عشر اشتهرت بخروجها عن الفلسفة اللاهوتية للكنيسة، وقد استندت في هذا الخروج إلى فهم علماني لفلسفة ابن رشد؛ حيث جعلت فيها فلسفة قائمة على ضربين من المبادئ، كلاهما يصادم الفلسفة اللاهوتية المقررة: مبادئ مادية تخالف ما تقرر في المجتمع المسيحي من معتقدات دينية (...) إنكار العناية الإلهية، الحرية وخلود النفس، والمبادئ المنهجية القائلة بتكافؤ الحقيقة الدينية والعلمية الذي يترتب عليه العمل بإحدى الحقيقتين دون الأخرى، فصار الرشديون «اللاتين» إلى الاستغناء بالفلسفة «الأرسطية» عن اللاهوت المسيحي.
أما الدليل الثاني:
فإن روح الرشدية «اللاتينية» التي تنبني على مبدأ الفصل بين الدين والفلسفة استمرت إلى غاية القرن السابع عشر، ممهدة على التدريج لظاهرة التحلل من الدين التي انتشرت بين أصحاب عصر التنوير، والتي تواصل تأثيرها وانتقل إلى المحدثين، فحينئذ لا عجب أن ينصب ابن رشد إماما للعقلانيين والعلمانيين والحداثيين، وبهذا يتبين أن إرادة الانتساب إلى ابن رشد إنما هي إرادة الانتساب إلى العلمانية كما تجلت في أطوارها الثلاثة: «اللاتيني» و«الأنواري» و«الحداثي».»
113
صحيح أن للجابري - رحمه الله - مواقف من العلمانية ومن المركزية والحداثة الغربية ما يفوق بها غيره من المفكرين العرب، واحترامه للأسس العقدية الإسلامية، ولم يعلن مصادمته للثوابت، كما فعل غيره، وهو الذي أعلن غير ما مرة أن العلمانية غير ذات موضوع في تاريخنا الفكري والثقافي، لكن ابتكر لها بديلا هو الديمقراطية والعقلانية للتخفيف من الحساسيات التي يثيرها المفهوم ومآلاته في الوعي الشعبي العربي، وهو ما عبر عنه سابقا بنوع من الذكاء المنهجي الذي سلكه الجابري في محاورة إشكالات الوعي العربي.
إن انبعاث الأمة وانبثاقها من جديد لن يكون عن طريق عقلانية ابن رشد وفلسفته مهما بلغت من النضج؛ لأنها عقلانية عبرت عن طموحاتها في سياقها التاريخي، وهي عقلانية نسبية محكومة بالزمان وبالأفق الفكري الذي فكرت فيه ومن خلاله. إن الأمة أكبر من عقلية ابن رشد وغيره وتاريخها لا يعبر عنه ابن رشد وحده، وإنما تتجدد بمقوماتها وأسسها الفكرية المطلقة - الوحي - وبعقلية مستوعبة لجميع مدارس الأمة الفكرية والقدرة على استثماره، وفق المعطيات الجديدة التي تحياها، ويعبر طه عبد الرحمن عن هذا النفس بقوله: «فإني أنصرف عن ابن رشد وعن الرشدية، وأنا مطمئن إلى صواب انصرافي عنهما لتمام إيقاني بأن انبعاث الأمة العربية الإسلامية لن يكون عن طريق فكر ابن رشد، ولو استنفر الرشديون عددهم وعدتهم كلها لبثه في النفوس بالترغيب أو الترهيب، إلا أن ينسلخوا عن جلدتهم ويلبسوا غيرها، فيذوبوا في أهلها ذوبان الثلجة في البحر، أما أن يطمعوا في أن يحققوا لهذه الأمة انبعاثها بواسطة هذا التقليد مع بقائهم هم أنفسهم عربا مسلمين متميزين عمن يقلدون، فذاك أمر دونه ولوج الجمل في سم الخياط.»
114
ولم يكتف الجابري بالدعوة إلى القطيعة بين مفكر وآخر، بل القطيعة حتى داخل الشخصية الواحدة، كما هو الحال مع ابن خلدون بين عقلانيته ومنهجه في التفكير وبين أسسه المرجعية التي استند إليها في قانونه التاريخي، وأن عقلانيته لا علاقة لها بالمرجعية الإسلامية، وهو يعالج إشكالية الذاتي والموضوعي في فكر ابن خلدون، بعد أن فصل بينه وبين ابن رشد في النظر إلى أحداث التاريخ وتشكلها، فهو يرى أن ما يميز ابن خلدون عن «غيره من المؤرخين السابقين له (...) هو صدوره في عمله التاريخي عن دوافع تختلف اختلافا جذريا عن تلك التي وجهت غيره إلى التأليف التاريخي، فبينما نجد كبار المؤرخين في الإسلام اتجهوا إلى التاريخ بدوافع وأغراض دينية أو سياسية أو مجرد التسلية أو من أجل إبراز دروس وعبر معينة، الشيء الذي يعني أن اهتمامهم بالتاريخ كان من أجل شيء آخر، لا من أجل التاريخ ذاته نجد ابن خلدون يصدر، بالعكس من ذلك، عن وعي تاريخي حاد جعل اهتمامه بالتاريخ لذات التاريخ لا لشيء آخر»،
115
ويجرده - في أماكن أخرى - من القواعد المنهجية العلمية الإسلامية التي اعتمدها في مقدمته يقول: «هناك حقيقة لا بد من أخذها بعين الاعتبار الكامل، وهي أن فكر ابن خلدون كان مؤطرا أشد ما يكون التأطير بالقوالب المنطقية القديمة الأرسطية الأصولية»،
116
وأن هذا المشروع الخلدوني اعترته عوائق إبستيمولوجية حالت دون امتداده؛ وظل سجينا لقوالب فوق-واقعية؛ ولهذا لم يكن صاحب المقدمة «ذا منهج تجريبي بالمعنى الحديث للكلمة (...) صحيح أن ابن خلدون قد اعتمد الاستقراء، ولكن لا لاستخلاص النتائج بل لتأييد «النتائج» التي يضعها أولا (...) هذا المنهج الاستقرائي التاريخي-الاستنباطي التجريبي قد أدخل كثيرا من التشويش، وغير قليل من الغموض على الخطاب الخلدوني، وجعله لا يعطي ما فيه مباشرة بل يقدم نفسه للتأويل منذ الوهلة الأولى.»
117
يلاحظ على الجابري في تعامله مع فكر ابن خلدون وابن رشد نوعا من التعامل الازدواجي على مستوى المفاهيم والأطر المرجعية المؤطرة لكل توجه. ففي الوقت الذي يعزز مرجعية ابن رشد يتعامل مع علم ابن خلدون بنوع من التشويش والمأساوية كما يسميها.
وما يفسر هذا أنه عندما تستعصي شخصية معينة على أدواته وآلياته المنهجية يلجأ إلى هذا النوع من التفسير الذي يغلب عليه التناقض أحيانا، كما سنرى أيضا بعد قليل في التصنيف المعرفي الذي اعتمده على مستوى الخريطة الفكرية للأمة. ولهذا فإن الذين اشتغلوا بالعقلانية داخل الفكر العربي - ومنهم الجابري - هيمن عليهم المسح الغربي والجغرافية الغربية، محاولين تركيب العقول من عقل واحد، وهذا مستحيل ومن مفارقات «الذين دافعوا عن العقل والعقلانية دفاعا حازما ذهبوا (...) إلى حد الإيغال في تحويل العقلانية إلى عقيدة فكرية لا سبيل إلى مساءلة بديهياتها، الأمر الذي قضى بتحويل «الدوغما» العقلانية نفسها إلى ممارسة فكرية لا عقلانية (...) دون أن يخضعوا قواعد العقلانية نفسها لفحص عقلاني. ويقع ضمن ذلك الفحص معرفة ما إذا كانت العقلانية نظرية مطلقة أم نسبية، قائمة على نظام أكسيومي (فرضي، استنباطي) أم على مسلمات غير قابلة للمراجعة، مثلما يقع ضمنه التفكير في ما إذا كانت العقلانية ثمرة نظام من المعرفة خاص بثقافة معينة وبحقبة من تاريخ الفكر معينة، أم أنها كونية: مفارقة للزمان وللجغرافية الثقافية؟»
118
يغيب هذا النوع من الأسئلة في الوعي العربي المعاصر - كما يذكر بلقزيز - تاركة مكانها لخطاب مغلق استهلاكي لمنظومات، ومفاهيم العقلانية الوافدة من ثقافات وأزمنة مختلفة معبرة عن نفسها في نصوص عربية متباينة المراجع: أرسطية، ديكارتية، اسبينوزية، كانطية، وهيغلية، الجامع بينها رفض مساءلة قواعد العقلانية.
119
وهي الفسيفساء التي جمعها الجابري من مرجعياته المنهجية، وحاول من خلالها إعادة تصنيف المعرفة الإسلامية، وتجاوز التصنيف التقليدي القائم على معيارية معينة، فالحاجة إلى حلم النهضة فرضت عليه استئناف النظر في تصنيف المعرفة وفق حاجات الحاضر لا وفق حاجات الماضي، فانتهى به التحليل إلى رصد ثلاث أنظمة معرفية متمايزة ومتصادمة في الثقافة العربية - حسب تعبيره - وذلك منذ بداية تمثلها، كثقافة عالمية مع عصر التدوين والترجمة. نظم معرفية يقدم كل منها رؤية خاصة للعالم، ويوظف مفاهيم معينة وآليات في إنتاج المعرفة:
النظام المعرفي البياني الذي تحمله اللغة العربية، وعلى أسس ومفاهيم منهجية قائمة على النحو واللغة والفقه والكلام والبلاغة، كرس رؤية للعالم قائمة على الانفصال واللاسببية، ومنهاجا في إنتاج المعرفة قوامه قياس الغائب على الشاهد أو الفرع على الأصل؛ فهذه القاعدة الإبستيمية في نظره هي أصل الخلل في بنية العقل العربي.
النظام المعرفي العرفاني (الغنوصي) الذي كرس رؤية خاصة للعالم قوامها المشاركة والاتصال الروحاني المباشر بالموضوع.
120
النظام المعرفي البرهاني الذي ارتبط دخوله إلى الثقافة العربية بعهد الترجمة في عصر المأمون، وأسس لنفسه من خلال العلوم والفلسفة اليونانية الأرسطية، وكرس رؤية للعالم مبنية على الترابط السببي وعلى إنتاج معرفي قائم على ربط النتائج بمقدماتها.
121
وقد عاشت هذه الأنظمة في تاريخ الثقافة العربية على إيقاع التداخل والتصادم، ابتداء من عصر التدوين والتأسيس؛ لأن كل نظام معرفي كان يسعى إلى تأسيس نسقه وترتيب مقولاته وبناء منهجياته والدفاع عن أطروحاته، وقد كان هذا التداخل يتخذ طابعا محدودا، دون أن يفقد كل نظام خصوصياته، وحصل هذا الأمر في لحظات الدفاع عن الأيديولوجيات الدينية التي كانت ذات علاقة مباشرة بالعقيدة الإسلامية.
122
فهذا التداخل بين البيان والبرهان في لحظات تاريخية أفقد العقل محدداته المنهجية والمعرفية من خلال ما أسماه بالتداخل التلفيقي
123
بين النظامين. ويبقى النظام البرهاني المعرفي في نظر الجابري متميزا، منهجا ورؤية عن البيان والعرفان بكونه يعتمد منهج أرسطو، ويوظف جهازه المفاهيمي والهيكل العام للرؤية التي شيدها عن العالم، وعن الكون والإنسان والله، مما جعل منه عالما معرفيا خاصا يختلف عن عالم البيان والعرفان ويدخل معهما، وبكيفية خاصة مع البيان في علاقة احتكاك وصدام
124
لاختلاف طرائق النظر وتحصيل المعرفة.
فالبيان يتخذ من النص والإجماع والاجتهاد سلطات مرجعية أساسية، ويهدف إلى تشييد تصور للعالم يخدم عقيدة دينية معطاة هي العقيدة الإسلامية أو بالأحرى نوعا من الفهم لها، بينما البرهان يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية، من حس وتجربة ومحاكمة عقلية، وحدها دون غيرها.
125
هكذا يفصل الجابري بين مناهج وأنظمة معرفية ليؤسس لنظام أحادي التصور والرؤية، ويراهن عليه في تحقيق حلم النهضة، ويجرد العقل العربي من كل القيم المعيارية، وافتعل صراعا بينها، في الوقت الذي ينبغي أن ننظر إلى هذه الأنظمة على أنها بنيان متراص ومتكامل يعبر عن ثراء هذا الفكر، وحيوية عقله المنتج.
إن هذا المثلث المعرفي الذي أقامه الجابري يعكس التصور، والتحليل الأيديولوجي رغم التأكيدات التي قدمها والجدارات التي أقامها بين التحليل المعرفي والأيديولوجي، فإن هذا الأخير ظل ملازما له في كل خطواته التحليلية، ولم يستطع أن ينفك عنه؛ لأن الشواغل اليومية التي كان يحياها والانتماء الحزبي له أرغماه على استصحاب هذه الرؤية ومحدداتها المنهجية والمعرفية، فوجود هذه الأنظمة المعرفية في الثقافة العربية القديمة وامتدادها في الحاضر شكل في رأي الجابري أزمة الفكر العربي المعاصر، أزمة الإبداع فيه؛ لأنه محكوم بسلطة السلف وآلياته الذهنية.
لهذا كانت القطيعة عنده «استراتيجية معرفية» في أفق بناء الذات بالشروط التي يراها مناسبة لتجاوز الأزمة؛ أزمة العقل العربي المعاصر. أزمة «عقل قوامه مفاهيم ومقولات وآليات ذهنية تنتمي إلى ثلاث نظم معرفية متنافرة تكلست وجمدت فيها الحياة باكتساح الطرقية الصوفية ورؤاها السحرية الخرافية للساحة الاجتماعية الثقافية اكتساحا.»
126
ورهان الجابري في تجاوز هذه الأزمة هو نشر المعرفة «العلمية» على أوسع نطاق ومفاهيمها وطرائق التفكير المؤسسة لها، ولتأسيس هذه المعرفة يرى ضرورة قيام «إنتلجنسيا عربية جديدة: عربية بانتظامها في التراث العربي لتجديده من الداخل، وجديدة بانتظامها في الفكر العالمي المعاصر ومواكبتها له بقصد توظيف أدواته المنهجية ورؤاه العلمية في إعادة بناء الماضي وتغيير الحاضر وتشييد المستقبل. إنه دون هذه النخبة سيبقى الفكر العربي سجين المعارف القديمة يجترها على أنها جديدة، وسيظل يعاني ليس من أزمة الإبداع فقط بل ربما من سكرات الموت وخطر الانقراض.»
127
فالأفق الذي يخطط له الجابري يرتكز على تأسيس عقلانية نقدية تتحرر من التبعية للآخر، التي لا تتم إلا عبر التحرر من هيمنة التراث
128
فتتشابك عنده الحلقتان، وتتعانقان من أجل تدشين عصر تدوين جديد من خلال الدعوة إلى كتابة تاريخنا الثقافي بصورة عقلانية نقدية.
إن المنطق التحليلي الذي استند عليه الجابري، والمهووس بالبعد الأيديولوجي، يحمل في طياته كثيرا من الثغرات، حين عمد إلى شل قدرات التراث العربي، وتمزيق أوصاله وتفكيك آلياته، وبانتقائية مفرطة وتعسفية لا تنسجم، ومنطق التكامل الذي أعلنه ولا تستجيب للضرورة المنهجية المعرفية التي بشر بها منذ البداية، فالنهضة التي ناضل من أجلها الجابري من خلال سلاح النقد للعقل العربي لا يمكن أن يحققها البرهان العقلي الذي دافع عنه، وحاول التشابك معه وتبيئته في الثقافة العربية، اعتبارا لكونيته، والذي تنعدم فيه الصفات الوراثية لأمة تنهض من خلال نظام فكري معياري.
ولطه عبد الرحمن رأي مخالف للتقسيم الثلاثي الوارد في متن الجابري، حين اعتبره تقسيما فاسدا، ودلل على فساده بازدواجية المعايير التي اعتمدها، في مقابل ذلك يقترح تقسيمات تعتمد معايير جديدة، إما بحسب اللفظ أو المضمون أو بحسب الصورة الاستدلالية. يقول: «هذا الازدواج الذي لا يؤدي إليه إلا عدم تحصيل الملكة في العلوم الصورية والمنهجية؛ ولو أن الجابري اعتمد معيارا موحدا، لكان له الخيار في تقسيمات متعددة، كل تقسيم منها يقوم على معيار معين، كالتقسيم بحسب المضمون (العقل والعلم والعرفان مثلا) أو التقسيم بحسب الصيغة اللفظية (القول والعبارة والإشارة مثلا ) أو التقسيم بحسب الصورة الاستدلالية (البرهان والحجاج والتحاج)، وهو أقرب التقسيمات إلى العمل بمعيار العقلانية المجردة التي ظل الجابري يناضل من أجلها، فيكون «البرهان» هو نظام الآلية الاستنباطية، و«الحجاج» هو نظام الآلية القياسية، و«التحاج» هو نظام الآلية التناقضية.»
129
فهذا التقسيم حسب طه «البرهان والحجاج والتحاج» يفيد ترتيبا استدلاليا صحيحا، وهو التقسيم نفسه الذي باشره الجابري في أبحاثه، لكنه - حسب تقدير طه - أساء صوغه باتخاذه لتقسيم مغالط.
هو اختلاف مرجعي منهجي أساسا بين عالمين، لكل منهما شأن مقدر في سياق البحث عما يعين على الخروج من ورطة التخلف، وليس في سياق التناحر، والتنابز بالألقاب، قد نتفق معهما في جانب، ونختلف معهما في جوانب، وتلك حيوية الفكر والمنهج، واختلاف زوايا النظر لا ينقص من قيمتهم، ولا يرجح كفة أحدهما على الآخر، خصوصا وأن عقل الأمة في حاجة إلى كل الجهود المبذولة، على فرض الاختلاف والتناقض في بعض الأحيان، المهم تلك الحركة الفكرية التي تحرك الرواكد، وتستشرف المستقبل، وتستوعب الحاضر والماضي.
تتحقق النهضة بكل مكونات الأمة الجغرافية والتاريخية والفكرية، أما الاختزال فأعتقد أنه واحد من العوائق المعرفية والنفسية في تراجع الفكر العربي المعاصر، كما تعكس أزمة العقل الناقد بآليات وأدوات، ورؤى خارج الذات، وغير مستوعبة للتحولات الفكرية الداخلية والخارجية، إنها أزمة الأسس والمرجعيات. (4) المبحث الرابع: ملاحظات نقدية حول الأسس المنهجية والمرجعية في مشروع الجابري
أثبتنا في الصفحات السابقة من هذا الفصل أهمية المشروع الفكري والمنهجي الذي أنجزه الجابري؛ الأهمية التي تفسرها المشاريع الفكرية التي أنجزت وكتبت حول المشروع على اختلاف مرجعياتها وأطرها الفكرية، منها ما اتجه إلى البحث عن مصادر مادة المشروع وأدواته المنهجية والمعرفية محاولة سد الثغرات والنقائص التي اعترته والتصويب في إطار حوار «العقلانية النافعة والروح الجماعية الصالحة»
130
لربح رهان المستقبل، ومنها ما اتجه إلى التحامل والتشكيك
131
والاتهام في بعض الأحيان».
وسبيلنا في هذا المبحث أن نتتبع بعض هذه الملاحظات حول الآليات المنهجية التي شغلها الجابري في مشروعه، ملتزمين قدر الإمكان بما يخدم الموضوع وينمي الأفكار ويقرب المسافات، ويبحث عن نقاط القوة في المشروع؛ لتحصيل التراكم في مجال البناء المعرفي والمنهجي، وعن نقاط الضعف لتجاوزها والتنبيه عليها، وإن كانت المباحث السابقة قد تعرضت لجزء من نقائص المشروع وأشارت إليها، وبعض نقاطه المضيئة؛ فإن هذا المبحث يواصل هذا النقد على مستويين: مستوى المفاهيم والنقد الإبستيمولوجي الذي اختاره الجابري في مشروعه. (4-1) على مستوى المفاهيم
إن «الصراع» اليوم يكاد ينحصر بين الحضارات والثقافات حول الأفكار ومفاهيمها ومناهجها؛ لأن امتلاك المزيد من المفاهيم وإنتاجها والسيطرة عليها والقدرة على ترويجها والتمكين لها، تمكين للمشروع الحضاري لمجتمع هذه المفاهيم؛ ولهذا كانت وما تزال المشكلة المنهجية المعرفية في الفكر المعاصر هي مشكلة المفاهيم والمناهج وتحولاتها من حقل معرفي إلى آخر، وقد شهد الغرب هذا النقاش والصراع بين مفاهيم الكنيسة ومفاهيم الطبيعة - المادة، سالت فيها الدماء، وبعد ذلك انتقل الصراع بين العلوم الحقة (الفيزياء - الرياضيات - العلوم الطبيعية) التي شهدت نقلة نوعية على مستوى إنتاج المفاهيم والمناهج إلى درجة أغرت علماء الإنسانيات باستعارتها؛ لأنها في رأيهم أقدر على تحقيق «العلمية» و«الموضوعية» وتحقيق أفضل النتائج. لكن هذه الاستعارة لم تسلم من انتقادات الاتجاهات الرافضة لفكرة «الوحدة المنهجية بين العلوم الطبيعية والإنسانية أمثال «ريكرت» و«فندلباند» رافضين النظر إلى العلوم الطبيعية كمثل أعلى للفهم العقلي للواقع، فهم يؤكدون على وجود تعارض بين علوم؛ مثل الفيزياء أو الكيمياء أو الفسيولوجيا تهدف إلى تعميمات عن ظواهر متكررة ومطردة ويمكن التنبؤ بها وبين علوم التاريخ تريد إدراك الخصائص الفردية لموضوعاتها.»
132
فالوحدة المنهجية والمفاهيمية مرفوضة لأنها قائمة على افتراض غير مؤكد فحواه أن المنهجيات الموظفة من قبل علماء الطبيعة هي وحدها المتصفة بالعلمية، فهذا التداخل بين المفاهيم والإنزال القسري لها في مجال العلوم الإنسانية ودراسة النظم الثقافية شكل حلقة من حلقات التخلف في الفكر الغربي، وكانت ضريبته قاسية عبر عنها ماركوز ب «إنسان البعد الواحد» في هذا الفكر حيث تم اختزاله في البعد المادي ، وعبر عنها عبد الوهاب المسيري بالواحدية المادية أو «النموذج التراكمي الذي يؤمن بأن كل المشتركين في العلوم (...) يفكرون بالطريقة نفسها ويسألون الأسئلة نفسها، مما يعني أن ثمة حقيقة موضوعية ثابتة واحدة نحاول الوصول إليها جميعا وبالطريقة نفسها، وهذا ما يؤدي إلى تراكم الإجابات وتشابكها على مستوى الجنس البشري بأسره، وهذا التراكم والتشابك سيؤدي إلى التزايد التدريجي لدائرة المعلوم، وبالتالي تقلص دائرة المجهول.»
133
ظل موضوع «المفاهيم وبناؤها واستثمارها موضوع بحث لا يكل في حقول نشاطه الفكري والمعرفي، لذلك تعددت وسائط المعرفة وتنوعت أشكالها، وصار التفكير والتفسير بواسطة الملكات يبنى على تشكيل المفاهيم، سواء كان التشكيل بواسطة التجريد أو بواسطة التعميم، ثم شمل التشكيل بواسطة الحكم ما يخص استعمالات المفاهيم واستثماراتها، فأصبحت صناعة المفاهيم الجديدة شغل الفلسفة والفن ومختلف العلوم.»
134
فالمفاهيم التي ابتكرها الغرب لم تخضع لمسطرة، ولنمطية واحدة في التفسير والاستقرار المفهومي، بل أصبح لكل مرحلة تاريخية في الفكر الغربي مفاهيمها ومصطلحاتها، فمفاهيم العصر الوسيط ليست هي مفاهيم العصر الحديث، ومفاهيم الحداثة ليست بالضرورة هي مفاهيم ما بعد الحداثة.
يعكس هذا التحول وعدم الاستقرار المفهومي حاجات هذا المجتمع، وقدرته على التوليد وفق هذه الحاجات، ووفق نسقية معرفية كمية تراكمية، بل لم تكن هذه المفاهيم على درجة واحدة في قبولها والاشتغال بها ابتداء من القرن الثامن عشر على أقل تقدير، وهو ما يطرح صعوبة تداول هذه المفاهيم التي استقوى واستنجد بها الفكر العربي المعاصر في تحليله لأنظمة الثقافة العربية، وينشد بها النهضة.
فكثير من هذه المفاهيم والمنهجيات التي كانت ثمرة طبيعية لتطور الآخر استقرت في بنية هذا الفكر، فلم نعد نتصور المناهج ومفاهيمها إلا لائحة محددة من المفاهيم والأدوات الجاهزة، وربطت مصير الأمة وشعوبها بقدرتها على تمثل هذه اللائحة، والانخراط في تفاصيلها، مما جعل الفكر العربي المعاصر يفقد الزمان والرؤية والمنهج في هذا الشأن - النهضة - بتقمص لسان الآخر وعقله وروحه.
وما تزال هذه واحدة من المعضلات والمعيقات الكبرى في الفكر النقدي العربي المعاصر، بكل ألوانه: النقد الأدبي، والرواية، والمسرح، والشعر، والقصة، والفن التشكيلي ... حيث يتم توظيفها بشكل يشوش على القارئ، ويفصل بينه وبين الموضوع، وبين الفكر والواقع، وبين الإمكان والممكن.
وأعتقد أنه لا يمكن مواجهة هذه المعضلة بمقدمات يكتبها الجابري
135
أو العروي
136
أو حسين مروة
137
أو طيب تزيني
138
وغيرهم ممن اهتم بمشكلة المنهج في الفكر العربي المعاصر ومحاولة تجاوز الكائن منها، مثنى وثلاث ورباع، بل القضية - في رأيي - أعمق وأخطر، تحتاج إلى جهود علمية مؤسساتية تنهض بأهمية الترجمة، والتبيئة من خلال دراسات مستوعبة لحركة المفاهيم الوافدة والمنقولة من فضاءاتها المتعددة ومآلاتها قبل نقلها.
فنقل مفهوم فقد صلاحيته في موطنه الأصلي - الأفكار والمفاهيم الميتة بتعبير مالك بن نبي - ومحاولة إعادة الحياة إليه في فكرنا المعاصر يعتبر إهانة «للعقلانية» العربية الناقلة والقارئة على حد سواء، وإهانة للجهد المبذول وتبديده، أما إذا كان المفهوم ما يزال يحافظ على فعاليته وقدرته على التوجيه فمسطرة المرور والانتقال والاستعمال تحتاج إلى خبراء لتجنب الفوضى في ميدان الفكر، والعلم الذي ينبغي أن يكون أول من ينتظم؛ لأنه الحلقة الأقوى في تاريخ الحضارات، وفي التشكيل والتشكل.
فالانتظام في نسقية هذه المفاهيم وتاريخيتها ووضعيتها الإبستيمولوجية، وفهمها هو الذي «سيؤدي بنا إلى إدراك عملية النقل والترجمة وفهم فهمنا لها حينما نقوم بنقلها، مما سيتولد عن ذلك تأويلات تبحث عن (...) الانسجام لهذه المفاهيم في أوضاعنا الإبستيمولوجية، وأيضا قدرة ذلك الفهم على استنبات تلك المفاهيم المنقولة كلا «أو بعضا».»
139
وما لم ننجز هذا العمل تبق مفاهيمنا مفاهيم مبهمة وملتبسة بعيدة عن الفعل، وتعرض الذات للانسلاخ عن هويتها.
ومشروع محمد عابد الجابري واحد من المشاريع الفكرية التي انفتحت على المفاهيم المعرفية الغربية ومناهجها، واعتمدها في الدراسة كمداخل أساسية في صياغة الرؤية والمنهج، وتحديد المحددات المنهجية، لكن أول ما يلاحظ أن سعي الجابري إلى تبيئة مفاهيم موضوعاته التي استعارها من الفكر العالمي المعاصر - الفرنسي بالدرجة الأولى - لم يأخذ منه كبير عناء ووقت، بل اكتفى بالتأكيد على أهميتها في مجالها الأول والبحث عن علاقتها بمجالها الثاني - العقل العربي - مع إجراء تعديلات طفيفة على المستوى النظري تبقى في نهاية التحليل قاصرة عن الوفاء بالغرض رغم تأكيداته يقول: «(...) ونحن عندما نستعير مفهوم «اللاشعور السياسي» من دوبري لا نأخذه بكل حمولته ولا بنفس مضمونه، بل نتصرف فيه بالقدر الذي يفرضه موضعنا الذي يختلف اختلافا غير قليل عن موضوعه.»
140
فالكم الهائل من المفاهيم المرجعية التي نجدها في مشروعه (البنيوية، الإبستيمولوجية، العقلانية، الجدلية، التفكيكية ...) يطرح صعوبة توحيد هذه المفاهيم في موضوع واحد، مما سيكون له أثر سلبي على مستوى النتائج، فتناقض هذه المرجعيات وتعدد خلفياتها الفلسفية يخلق فوضى على مستوى التحليل، والقدرة على التحكم في مسار البحث.
وهي الملاحظة والمؤاخذة التي سجلها طه عبد الرحمن في مشروعه النقدي على الجابري حين قرر أن «الآليات المنقولة التي توسل بها الجابري لا تشكل نسقا متماسكا؛ وذلك بسبب تضارب اقتضاءاتها المنهجية والمعرفية فيما بينها، ولعدم إيراد المعايير التي بمقتضاها تم له تخير هذه الآليات من مجالات متنافرة؛ مثل: البنيوية والتكوينية والعقلانية والجدلية (...) انعكست آثار اضطرابها وتفرقها التجزيئية على تحليله للثقافة العربية»،
141
من خلال آليات أربع: «آلية تخصيص العقل»، و«آلية المتابعة»، و«آلية التقسيم»، و«آلية المماثلة».
142
فهذا «الفيض» الهائل من المناهج الذي وظفه الجابري في دراسة الفكر العربي، والتنظير للمجتمع أنزلت إنزالا قسريا، فلم تخضع للدراسة النقدية الكافية قبل تشغيلها؛ ولهذا فالمنهج العقلاني الذي اختاره قضيته الأساسية، وتوجه إلى تبيئته في الفلسفة العربية خضع إلى منطق الاختزال والتجزيء، فكان يختار وفق هذا المنهج من النصوص العربية ما يلبي هذا الطموح العقلاني «لزم في نظره تحقيقه والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلع إلى المستقبل، وما كان منها مجانبا أو مخاصما لهذه العقلانية وجب عنده تركه، وإن دعت الضرورة إلى تحقيقه قصد المقارنة والمقابلة فليجتزأ منه بعينات تؤخذ منها العبرة ويحصل بها الاتعاظ.»
143
ويعترض طه عبد الرحمن على هذه المنهجية الانتقائية التفاضلية من خلال ثلاثة اعتراضات:
أولا:
أنها لم تبرهن على تحصيل الدربة في استخدام الآليات العقلانية المنقولة؛ من مفاهيم مصطنعة، وقواعد مقررة، ومناهج متبعة، ونظريات مسطرة، فضلا عن أن تبرهن على الإحاطة بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائيتها.
ثانيا:
أنها لم تمهد لإنزال هذه الآليات العقلانية (...) بنقد كاف وشامل لها حتى تتبين مدى كفايتها الوصفية وقدرتها التحليلية وقوتها الاستنتاجية.
ثالثا:
أنها لم تجر النقد على العقلانية المعاصرة من حيث هي اختيار منهجي مخصوص، لا سيما وأن المراجعة قد أخذت تتطرق إلى هذا الاختيار، وأن حدوده أخذت تفقد دقتها ووضوحها في موطنه الأصلي عند من وضعوا أصوله ورتبوا مسائله.
144
كما اعترض على المفاهيم التي وظفها الجابري في مشروعه؛ نحو: «مفاهيم القطيعة» و«النظام المعرفي» و«البنية» و«اللامعقول» و«الأكسيومية» (...) فإن إقحامها في التراث لا بد أن ينعكس عليه بما لا يوافق بنيته في كليتها؛ فمعلوم أن هذه الآليات وضعت في أصلها لموضوعات مغايرة لموضوع التراث، وعلى مقتضى شروط مخالفة لشروطه، فيكون إنزالها على التراث من غير ممارسة أشد أساليب النقد عليها سببا في التصرف فيه بغير أحكامه اللازمة له، فيؤدي هذا التصرف إلى إخراج التراث على صورة لا تحافظ على بنيته في تداخل أجزائها وتساند عناصرها، إن لم تفصل بين هذه الأجزاء والعناصر فصلا، ونقابل بينها مقابلة ضاربة بعضها ببعض.»
145
وتبدو هذه الاعتراضات التي قدمها طه عبد الرحمن واحدة من الثغرات المنهجية الكبرى «للعقلانية» العربية، فالغرب لم يعرف عقلانية واحدة بل عقلانيات فلسفية تصل في كثير من الأحيان إلى حد التنافي، عبرت عن طموحاتها في كل مرحلة وبأدوات مفاهيمية منهجية مختلفة، فكان منطق التجاوز هو المتحكم في هذه المراحل التاريخية-الفكرية، ونشاط الاتجاهات النقدية في الفكر الغربي المعاصر خير معبر عن هذا التحول والدينامية، وقد كانت اللحظة الأقوى في تاريخ الفكر الغربي العقلاني مع ديكارت في كتابه «مقال في المنهج» مرورا بكانط ونقد العقل الخالص (النظري) إلى هيغل والفهم الغائي للعقل إلى مدرسة فرنكفورت مع هابرماس في نقده للعقل الأداتي الأنواري، وتأسيسه لمفهوم العقل التواصلي ودريدا ونقد تمركزات العقل.
لهذا فالنقد الذي خضع له مفهوم العقل وشتى تمظهراته وإرهاصاته «يجمل في اتجاهين رئيسيين؛ الأول: يرمي إلى تخليص المفهوم مما ألحقت به الميتافيزيقا من حمولات ومركبات الخارجة عنه وعن طاقاته وقدراته، وامتد هذا إلى نقد الحداثة ومذهبيات القداسة والمطابقة. والثاني: هدفه الحفاظ على مكتسبات العقل وإبقاؤه الموجه للحداثة بوصفها مشروعا لم يكتمل، لكن هذين الاتجاهين، وما بينهما كثير، أكسبا مفهوم العقل دلالات ومعاني كثيرة، متحولة ومتغيرة بتغير الحقب التاريخية والظروف الاجتماعية والمعطيات العلمية، ولا يخفي هذا التحول والتغير المصادرات التي لحقت مفهوم العقل كما لا يخفي الحمولات الإضافية التي لحقت به (...) وهذا ناجم عن التوظيفات المتعارضة له بوصفه تجليا للقوة والسلطة.»
146
فتتكاثر دلالاته ومفهومات في أرضيات ثقافية حسب المنطلقات والمحددات الفلسفية والتوظيفات الراهنة له، وقد يحط رحاله في أرض أخرى دون مكملات ومصححات وظروف نفسية واجتماعية وثقافية؛ مما يجعله يفقد صلابته وقدرته على التحرك والفعل.
وإن كنا نسجل - ونحن بصدد ملاحظات حول عقلانية الجابري - أن عقلانية الجابري تختلف عن العقلانيات العربية الأخرى السائدة في الفكر العربي المعاصر - كما عند العروي ومحمد أركون - عقلانية تحاول أن تؤسس لنفسها من داخل التراث من خلال استعادة الرشدية والخلدونية والشاطبية كي تبني عليها إضافات مطابقة لحاجات العصر والتاريخ
147
مع الاستعانة بمنجزات العقلانية الغربية خصوصا اللحظة الديكارتية وعقلانية عصر الأنوار بشكل عام.
رغم التأكيدات التي نجدها في كتابات الجابري واختياراته العقلانية وانتظامه في التراث، ظل التشبث والتوسل بالعقلانية المنقولة عنده مبدأ ومنهجا ورؤية، رغم الاعتراضات التي بسط بعضا منها أثناء تبيئة مفاهيمه، لكنها لا تقوى في نظر طه عبد الرحمن في النقد الموجه للعقلانية، وغير كافية في بيان الصفات السلبية لهذه العقلانية التي تبناها؛ كفحش التجريد ونقص التوجيه،
148
وقد أدى هذا الإنزال القسري لهذه الآليات العقلانية - في نظره - إلى أمرين اثنين: (1)
استبعاد أجزاء من التراث بحجة ضآلة درجتها من العقلانية أو انعدامها منها. (2)
حمل أجزاء منه على وجوه من التأويل تفصلها عن بقية الأجزاء الأخرى،
149
وكان هذا العمل واضحا في التقسيم الثلاثي الذي اعتمده الجابري - البياني والعرفاني والبرهاني - وإقصاء البيان والعرفان لانعدام شرائط العقلانية فيها رغم استنادهما إلى سلطة النص «الوحي» واعتماد البرهان الذي استوفى في نظره هذه الشرائط، مما جعله يسقط في نسقية مغلقة منذ البداية ومحاولة تعميمها في المرحلة الموالية، بل يرغم العقل العربي على التبني الإلزامي للعقل البرهاني الأرسطي.
هذه «الإطلاقية البرهانية الأرسطية» كما يسميها طه، أريد لها أن تكون هي المعيار في تقويم علوم الأمة، وأن كل إنتاج علمي خارج سياق تلك العقلانية قليل القيمة والأهمية، فيعاب على الجابري هذه الإطلاقية وإخضاع العقل المعرفي العربي للتقنين البرهاني الصارم.
150
في الوقت الذي ينبغي - حسب طه - أن يمتد في الأنساق الأخرى، التي تعينه على الإبداع والخلق، بدل هذا الحصر المضر، لهذا فإن «تجاهل الجابري للوظيفة التوحيدية للعقل المكون قد جعله يبني تحليله للعقل العربي جعله يبني تحليله على أساس قسمة هذا العقل، لا على أساس وحدته. وبدلا من أن يرد مختلف تجليات هذا العقل في مجالات الفقه وعلم الكلام والتصوف والفلسفة إلى البنية العضوية الواحدة التي تصدر عنها، فإنه سيعمد إلى تشطير هذا العقل تشطيرا ثلاثيا وقطعيا إلى عقل بياني وعرفاني وبرهاني. وهو لن يكتفي بأن ينزل كل «عقل» من هذه العقول منزلة الجوهر الفرد القائم بذاته والمنغلق على نفسه، بل سيدير بين هذه الكيانات الجوهرية حرب مواقع وخنادق.»
151
وهو مما قلل من القوة الإبستيمية في مشروع الجابري؛ لأن الأصل في معانقتها الانتقال من التجزيء إلى التكامل، وهو ما لم يحدث في أجزاء كبيرة من مشروعه الفكري، وإن أكد على ذلك في مقدمات كتبه المنهجية البنائية.
وقد اتخذت العقلانية عن الجابري مسارات دشنها انطلاقا من الاتكاء على التمييز الذي اعتمده لالاند في تقسميه للعقل، بين العقل المكون والعقل المكون ثم مسار العقلانية اليونانية التي كان لها السبق في هذا النوع من التفكير، فالطبيعة موضوع هذه العقلانية، يقول: «فالطبيعة بأسرها - في نظر أرسطو؛ قمة الفلسفة اليونانية - قابلة لأن يتعقلها العقل على الرغم مما يكتنفها من فوضى ويرافق حوادثها من غموض، ذلك لأن العقل - بمعنى النظام - هو أساسها، ولأن من ينظر إليها بعين العقل لا يرى فيها إلا العقل، ومن هنا كان العقل في التصور اليوناني الأرسطي هو «إدراك الأسباب».
152
وفي الاتجاه والمسار نفسه سارت الفلسفة الحديثة في أوروبا، مستعرضا التطورات الحاصلة في هذه العقلانية وعن طبيعتها الثابتة الكونية، والمحاولات التي جرت في هذا التاريخ لتحقيق ما أسماه نوعا من المطابقة بين الطبيعة والعقل، بل أيضا إلى المصالحة بين الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية إنقاذا لوحدة الحقيقة ووحدة العقل معا.
153
فالعقل عنده «لعب حسب القواعد» التي مصدرها الواقع لا غيره، وأن العلم لا يؤمن بمصدر آخر للعقل، ويستند في ذلك - كعادته - إلى التعريف الذي قدمه أولمو للعقل «ليس القواعد التي يعمل بها العقل هي التي تحدده وتعرفه بل قدرته على استخلاص عدد لا نهائي منها، والتي تشكل ماهيته، والعقلانية بهذا الاعتبار تغدو ليس الإيمان بمطابقة مبادئ العقل مع قوانين الطبيعة وحسب بل الاقتناع بكون النشاط العقلي يستطيع بناء منظومات تتسع لتشمل مختلف الظواهر.»
154
فهذا الانبهار بالعقلانية - بل التعبير السليم النزعة العقلانية؛ لأن بينهما فارقا في الفكر العربي المعاصر - تجد اعتراضات قوية من التيارات نفسها، من داخل هذا الفكر تعبر عن مفارقات الوعي العربي، حين اعتبرت التشبث بالعقلانية الغربية بكل أوصافها ومحدداتها نكاية في العقلانية العربية التي تتميز بخصوصياتها وأوصافها ومحدداتها الذاتية، فالذين دافعوا عن العقلانية الغربية وحاولوا تبيئتها ذهبوا إلى حد الإيغال في تحويلها إلى عقيدة فكرية، إلى سبيل مساءلة بديهياتها، الأمر الذي حولها حسب هذا التحليل، إلى ممارسة فكرية لا عقلانية.
155
والمفارقة الثانية التي نجدها عند الجابري أثناء تحديد تعريفاته للعقل العربي، يسجل مفارقة بينه وبين العقل اليوناني الأوروبي؛ حيث العلاقة بين العقل العربي والطبيعة هي علاقة تأملية تبسيطية، وليست «اكتشافا للعلاقات التي تربط ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، ليست عملية يكتشف العقل نفسه من خلالها في الطبيعة، بل هي التمييز في موضوعات المعرفة (...) بين الحسن والقبيح، بين الخير والشر. ومهمة العقل ووظيفته، بل وعلامة وجوده، هي حمل صاحبه على السلوك الحسن ومنعه من إتيان القبيح.»
156
وإن كان للجابري من فضل في اكتشاف العلاقة الترابطية بين العقل والقيم الأخلاقية في المنظومة الإسلامية والحقيقة الواقعية كما ينص على ذلك في قوله «إن معنى «العقل» - ويضعه بين قوسين - في اللغة العربية وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساسا بالسلوك والأخلاق.»
157
إلا أن هذا الاكتشاف معيب عنده عندما جرد هذا العقل من القدرات الاستكشافية لقوانين الطبيعة، ومن بعده التجريبي، وإبقائه في دائرة التأمل.
فالمفهوم الذي تحدده النصوص القرآنية وتقدمه النصوص التراثية للعقل - الجاحظ والشهرستاني - يتعارض مع «النظرة الموضوعية التي هي نظرة تحليلية تركيبية تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه.»
158
وهي النظرة التي يجب أن نحتكم إليها في قراءتنا للتراث العربي - حسب الجابري - فالعقل الذي تحدث عنه القرآن وقدمته لغته ولغة الجاحظ والشهرستاني؛ إنما هي لغة عقل الجاهلية أساسا.
159
فجرى هذا المنهج الذي اقتبسه الجابري في الثقافة العربية بوسائل «فوقية متعددة من مجالات ثقافية غربية مختلفة: فقه العلم التكويني (بياجي) وفقه العلم العقلاني (لالاند وباشلار) والبنيوية وفلسفة التاريخ الهيجلية والماركسية، مع ما يرد من انتقادات على هذه الوسائل المنهجية. ومن الممكن رد هذه الوسائل إلى صنفين أساسيين؛ وسائل عقلانية: آلية القطيعة المعرفية، وآلية التقابل، وآلية التنسيق الاستنتاجي، وآلية التأسيس وإعادة التأسيس وآلية التأزيم (أي اصطناع أزمة الأسس)، وآلية التفكيك، وآلية ترتيب وإعادة الترتيب، أما الوسائل الفكرانية (الأيديولوجية) المقتبسة: آلية التوظيف، وآلية الدمج، وآلية التصارع، وآلية الانعكاس والتبرير (السياسي والتاريخي والمادي) وآلية الاستعارة التي زودت خطاب الجابري برصيد هام من الألفاظ والتعابير ذات الأصل السياسي أو العسكري مثل «التحالف» و«المصالحة» و«المناصرة» و«الاصطدام» و«فك الارتباط» و«صد الهجمات» و«لحظة الانفجار».
160
لا يعني هذا النقد وهذه الملاحظات التي قدمها طه عبد الرحمن الرفض المطلق لهذه الآليات الخارجية - كما يسميها - أو أنها مذمومة وغير صالحة، وإنما يشترط في نقلها وتشغليها أن يتقدمها النقد، ومدى ملاءمتها، ومناسبتها للموضوع المدروس - تراثا كان أو فكرا معاصرا - وإنما الاعتراضات الواردة على هذه الآليات المنهجية «تنبني على قرارات تجعلها تنظر في الظاهرة المدروسة - لا من جهة موجبات بنائها الداخلي - وإنما من جهة متعلقاتها الخارجية فحسب، حتى لا يكاد يبقى من هذه الظاهرة عند بعض المتمسكين بهذه المنهجيات المادية إلا اعتبارات تاريخية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية (أسباب خارجية)، أما أسبابها الداخلية التي تجعل لها ذاتا متميزة عن التاريخ أو الاجتماع أو السياسة والاقتصاد فلا علم لهم بها.»
161
وقد انصب اهتمام الجابري أثناء اشتغاله في تحديد محدداته المنهجية على الفصل بين الموضوع، والذات ويراها الخطوة الأولى في تحقيق الموضوعية، واللحظة الأولى من المنهج الذي اقترحه ويحاول تطبيقه «لحظة الموضوعية أو تحقيق الانفصال عن الموضوع»
162
فلا يكتمل النقد العقلاني عنده إلا بتبني هذا الطرف الملازم للموضوعية، والتحرر من المسبقات والرغبات الحاضرة لمواجهة الموضوع مباشرة؛ لأنه مادة مستقلة غير واعية.
إن مفهوم الموضوعية كما تبلور في الفكر الغربي، يعتقد أن للموضوعات وجودا مستقلا عن ذواتنا وأن الحقائق يجب أن تظل مستقلة عن قائلها ومدركيها، وبهذه الطريقة يمكن أن نصل إلى تصور موضوعي دقيق للواقع يكاد يكون «فوتوغرافيا»
163
يرغم الباحث أن يتجرد من «ذاتيته وخصوصيته الحضارية بل والإنسانية، ومن عواطفه وحواسه وحسه الخلقي وكليته الإنسانية، بحيث يمكنه أن يسجل ويصف بحياد شديد لدرجة تموت معها الأشياء، ويتشيأ الإنسان، ويرصد من الخارج كما ترصد الأشياء»؛
164
ولهذا تستبعد الموضوعية فكرة المعنى وتقرأ الألفاظ.
ويبرر الجابري هذا الالتزام بالموضوعية في التحليل بأن المكتسبات المنهجية للعلوم الألسنية المعاصرة - البنيوية - تقدم لنا طريقة في التعامل الموضوعي مع النصوص التي يلخصها في هذه القاعدة «يجب تجنب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ (...) والتحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة، يجب وضع كل ذلك (المسبقات والرغبات) بين قوسين، والانصراف إلى مهمة واحدة وهي استخلاص معنى النص من ذات النص نفسه، أي من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه.»
165
واتخذت هذه الموضوعية عنده مستويين من العلاقة:
المستوى الأول:
مستوى العلاقة الذاهبة من الذات إلى الموضوع، وتعني فصل الموضوع عن الذات.
المستوى الثاني:
مستوى العلاقة الذاهبة من الموضوع إلى الذات، وتعنى فصل الذات عن الموضوع.
ويعزز هذه الخطوة بثلاث عمليات كبرى من خلال «المعالجة البنيوية» و«التحليل التاريخي» و«الطرح الأيديولوجي». فهذا المستوى من التصور في رأيه هو القادر على حل معضلة اللاعلمية وتحقيق العلمية والعقلانية في الدراسة، والتفسير للتراث وفق نموذج العلوم الألسنية والإنسانية.
تعتبر مشكلة الموضوعية واحدة من المشكلات في هذا الفكر، فإذا رآها الجابري مدخلا أساسيا لحل إشكال المنهجية التي لم تعد عنده مسألة «اختيار بين منهج تاريخي وآخر وظيفي وثالث بنيوي، قد يصلح أحدها في ميدان وقد لا يصلح، وإنما لا تصلح إلا عندما يكون الموضوع - منفصلا عن الذات - يتمتع بنوع من الاستقلالية، فتكون مشكلة المنهج في هذه الحالة هي أولا وقبل كل شيء مشكلة الموضوعية.»
166
فإنها في نظري تزيد من تعميق المشكلة بدل حلها، فالموضوعية لم تتحقق حتى في أدق العلوم الفيزيائية والطبيعية، ويؤكد هذا الكلام حركة الاحتجاج والرفض للوحدة المنهجية والدعوة إلى الفصل بين النسقين، على اعتبار أن بين مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية فروقات كبيرة، ولهذا استحالت الموضوعية في هذه العلوم ولم تجن ما كان منتظرا منها وأن «المحتويات المعرفية لتلك العلوم، بما فيها من فروض ونظريات لا تنجو من تأثيرات الأنساق الثقافية، فما يراه عالم الطبيعيات في الظاهرة التي يعاينها يتحدد على نحو وفق تصوراته واهتماماته السابقة، التي لا تستبعد أن يكون للسياقات الثقافية ضلع في تحديدها.»
167
فوقع بين المناهج الكمية والنوعية نوع من الاستقطاب الحاد - حسب تعبير المسيري - بين الموضوعي (في تأليه الكون وإنكار الذات) والذاتي (في إنكار الكون وتأليه الذات)، وبين فريق من فلاسفة القرن العشرين حاول حل إشكالية ثنائية الذات والموضوع عن طريق إلغائها تماما،
168
فالفصل بين الذات والموضوع هو اغتيال مزدوج للذات والموضوع معا، كما هو واضح عند اتجاه البنيوية الذي عرف بموت الإنسان أو فلسفة موت الإنسان.
169
فالمنهج الخارجي أو الأسباب المضمونية الخارجية - بتعبير طه عبد الرحمن - مطلوب في توصيف الظواهر لكن غير كاف في الحكم على الموضوع، بل لا بد من آليات داخلية ونظرة معيارية قيمية للموضوع خاصة بكل نسق معرفي، هكذا تتكامل الأبعاد بين التحليل الخارجي والمعيارية الداخلية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالثقافة العربية الإسلامية؛ ولهذا «فلا موضوعية لمن يجعل الصنفين صنفا واحدا والسببين سببا واحدا.»
170
ولتجاوز النموذج الموضوعي المتلقي في التفسير يقدم المسيري نموذجا تفسيريا اجتهاديا بديلا عن هذا النموذج؛ لأنه يفقد للإنسان خصوصياته، ويميت المعرفة ويغتالها، ف «الافتراضات التي يستند إليها الفكر الموضوعي تنبع من العقلانية المادية لعصر التنوير، وقد ثبت أنها افتراضات إما خاطئة تماما أو بسيطة إلى درجة كبيرة؛ ولذا فمقدرتها التفسيرية ضعيفة»،
171
ولهذا أخفق الجابري إلى درجة كبيرة في تحقيق الوفاء بمنظومته المنهجية التي حددها فلم يكن الحياد الموضوعي سبيله في تحليل النظم الثقافة العربية ولا المنهج العلمي العقلاني غايته، ولا الانتظام المنهجي العقلاني عائده الحضاري، فانتقل من تجاوز أنساق منهجية كانت سائدة إلى نسق مغلق اختزالي تجزيئي.
للمنهجية انتماء حضاري وذاكرة تاريخية وشعور ذاتي وفلسفة خاصة وعمق ثقافي مرتبط بالعقيدة وطموحات كل حضارة؛ ولهذا فإن «انتساب الأدوات المنهجية المهيمنة إلى بيئات ومنطلقات معرفية معينة من شأنه أن يجعل منها ألحانا ناشزة، إذا ما تم إقحامها دون ضبط أو توليف وربما إعادة تأليف على «النوتات» التي تعزفها الجوقات البحثية في بيئات حضارية مغايرة.»
172
فالمفاهيم لكي تكتسب مصداقيتها ومشروعيتها، لا بد أن تتبلور داخل سياق ثقافي وتطور اجتماعي يستمد فاعلتيه من منظومة ثقافية مهيمنة وموجهة لحركة المجتمع وإلا ظل مفارقا لموضوعه أشبه بزرع عنصر غريب في جسم إنسان وإعادة «قراءته على ضوء كل قضية منفردة حسب واقعها وظروفها الخاصة [وهذا هو الأهم] وهذه هي القضية الشائكة التي يتجنبها معظم الباحثين الذين يستسهلون تبني أيديولوجيا تعطي تصورات شاملة وتقدم حلولا جاهزة وأحكاما تفصيلية وقطعية مسبقة تريح الباحث وتعفيه من عبء التحليل الموضوعي والتحري الدقيق لكل قضية يتصدى لها على حدة.»
173
أما مجرد «انتظام المفهوم بمقولاته النظرية و«عقلانية» أهدافه فغير كاف للتعبير عن حقيقة الواقع المادي، والإنساني المتسم بخصائص حركية غاية في التعقيد، بل إنه في هذه الحالة لا يخدم سوى تقديم صورة مشوهة للواقع عبر عملية اختزال وتبسيط؛ لذلك فإن استنساخ أو سلخ المفاهيم الغربية عن واقع نشأتها وعن بنيتها الثقافية، ومن ثم إسقاطها على واقع اجتماعي حضاري مغاير كالمجتمع العربي الإسلامي، في محاولة لتفسير أو لمعالجة إشكالاته وظواهره السياسية والاجتماعية يحول دون إنتاج فكر متفاعل مع واقعه ومعبر عنه.»
174
وتتحول إلى نسق مغلق غير منفتح على المفاهيم الأخرى، وتدخل معها في تصادم؛ تصادم هوية المفاهيم المنقولة الخارجية مع هوية المفاهيم الأصلية الداخلية.
وهو ما تفسره تلك الثنائيات المتناقضة في الفكر العربي المعاصر، ثنائيات تعبر عن أزمة الهوية والأسس والمرجعيات داخل هذا الفكر، لهذا فإن «عملية اقتباس المفاهيم الغربية ليست مجرد ترجمة لغوية بسيطة، وساذجة لكلمات ومفردات ذات دلالات واضحة، بل هي علمية معقدة يجب أن تخضع لتحليل نقدي تفكيكي يفصل بين المفهوم وأبعاده الفلسفية العميقة المرتبطة بمنظومات فكرية وعقدية وثقافية شاملة تعكس في جوهرها التصورات (السائدة في المجتمع الغربي حول الكون والإنسان والحياة) المغايرة لما هو سائد في المجتمعات العربية الإسلامية.»
175
لقد ظلت هذه المنهجيات تعبر عن طموحات خارج طموحات الأمة، ومجسدة لأزمة الانتماء الحضاري، ومشوشة على المشاريع التي طرحت في الساحة الفكرية العربية، فكانت الخلاصة التي انتهى إليها مالك بن نبي أنه عندما «يسيطر التشويش وانعدام التماسك على عالم الأفكار تظهر علاماتهما في أبسط الأعمال»،
176
فيسود الاضطراب المنهجي والفوضى المفهومية، وتتعطل الأعمال الكبرى.
ونختم هذه الملاحظات بما أثير حول النقد الإبستيمولوجي عند الجابري، لكن هذه المرة من داخل شاكلة ثقافية وفكرية تنتمي إلى تيارات مختلفة من المغاربة بالتحديد، زملاء للجابري، الأمر يتعلق بمحمد وقيدي وكمال عبد اللطيف ونور الدين أفاية وسعيد بن سعيد، خلال الندوة التي نظمتها مجلة الوحدة ونشرتها في العدد المزدوج 26-27 سنة 1986م تحت عنوان «العقلانية والمشروع العربي: نقد العقل العربي في مشروع الجابري». (4-2) على مستوى الاختيار الإبستيمولوجي
فمن الملاحظات المسجلة على مشروعه ما قدمه محمد وقيدي حول تعاطيه مع مفهوم الإبستيمولوجية داخل هذا المشروع، فيرى أن الجابري لم يوظفها بمفهومها المعاصر بقدر ما اكتفى بطابعها الحديث، يقول: «إن تطور الإبستيمولوجيا في مشروع الجابري لا تحضر كإبستيمولوجيا، وإنما تختزل قبل أن تحضر، تختزل في مجموعة من المفاهيم التي أخذها عن باشلار أو عن بياجي أو عن غيرهما وهي مجموعة محدودة من المفاهيم، وبعد هذه المرحلة أصبحنا نجد أن الاهتمامات بالإبستيمولوجيا بدأت تتضاءل في قوتها بالنسبة للجابري، وأصبحت الاهتمامات بالتراث هي الطاغية، بقدر ما اتسعت دائرة الاهتمامات التراثية ضاقت دائرة الاهتمامات الإبستيمولوجية، وأصبحت هذه الاهتمامات ملخصة في جملة من المفاهيم.»
177
ويتساءل وقيدي بعد هذه الملاحظة عن درجة الانسجام بين مفاهيم الإبستيمولوجية، والمفاهيم الأخرى المختلفة الأصول، والقيمة المعرفية التي استند إليها الجابري في مشروعه، وإلى أي حد يمكن القول إن أصول هذه المناهج اختفت، وأخذت مكانها ضمن بنية منهج جديد داخل هذا المشروع.
وشعور وقيدي بنوع من الضبابية المفهومية المستعارة، وقضايا الفكر العربي المعاصر، وهمومه؛ جعله يتساءل عن السبب الذي من أجله لم تنشأ عندنا فلسفة عربية مستقلة، ليس بمعنى الاستقلال المطلق عن التراث الغربي، لكن بالمعنى الذي تكون فيه تعبيرا عن الذات، والمنحى نفسه نجده عند طه عبد الرحمن في كتابه «فقه الفلسفة»، هذه الفلسفة التي ظلت رهينة القوالب والمقاسات المنهجية الغربية، فالترجمة لا تنتج فلسفة ولا فكرا ولا منهجا، فهي غير كافية في الإنتاج المعرفي، فهي في أحسن الأحوال تكرار لمفاهيم غربية بلغة عربية.
أما الأستاذ كمال عبد اللطيف فقد اتجه إلى كشف بعض تناقضات المشروع، أثناء نقده لنماذج فكرية وفلسفية واستعانته بنماذج في التفكير أو البرهنة أو في النتائج المتوصل إليها يقول: «لقد انتقد الجابري المنظومة المرجعية الغربية الليبرالية والماركسية الدوغمائية وقد أطلق عليها اسم «سلف الليبرالي والماركسي العربي» وانتقد المنظومة العربية الإسلامية وسماها «سلف الشيخ» وأثناء نقده للمنظومات المرجعية المذكورة كان يستعين بالتراث الفلسفي الغربي في أبعاده النقدية، ويدعو إلى تتميم ما بدأته الرشدية والخلدونية ومباحث الأصول التي أنتجها الشاطبي، فهل يتعلق الأمر بتوفيقية جديدة؟ وهل «الاستقلال» المقصود مزيج من قبيل ما ذكرنا؟ وفي سياق هذه الكتابة، يضيف الباحث: نجد أنفسنا أمام اختيارين؛ [أولا:] التفتح الفكري الفلسفي الذي يتيح للباحث معاصرة بلا حدود، [ثانيا:] التقوقع الأيديولوجي القومي الذي لا يتوقف عن التذكير بالحدود والفواصل والأزمنة داخل الزمان.»
178
ويؤاخذ كمال عبد اللطيف الجابري على هذه التوفيقية وما يشوبها من التباس، والحسم - يقصد بالدرجة الأولى موقف العروي من التراث، الذي خالفه الجابري - في الاختيار لنموذج نقدي، دون نماذج أخرى باسم الاستقلال والخصوصية؛ فإنه لم يولد في نظره سوى العقم، وتدعيم التأخر، هكذا تكلم كمال عبد اللطيف، في سياق الدفاع عن أطروحة العروي النقدية التي حسمت مع التراث، من خلال طي صفحته.
أما الرؤية النقدية الثالثة فيمثلها سعيد بنسعيد الذي اتجه إلى العمق التحليلي نفسه الذي اعتمده الجابري، النقد الإبستيمولوجي وتحدث عن البلبلة التي أثارها ويثيرها انتقال المفاهيم المنهجية من العلوم الحقة (مجال الرياضيات والفيزياء) إلى العلوم الإنسانية في الفكر الغربي، وصعوبة تداولها في الفكر العربي، حين نقل المفاهيم كما ولدت وجربت عند المشتغلين بالعلوم الإنسانية في العالم الغربي وفي فرنسا بصفة خاصة إلى مجال اشتغاله،
179
فالمفاهيم التي اشتغل عليها الجابري في مشروعه - حسب تقدير بنسعيد - مرت في انتقالها من مراحل شوشت على طراوتها المعرفية والمنهجية، من مجالها الأصلي (الفيزياء) إلى مجال العلوم الإنسانية في الغرب، ثم إلى مجال التراث العربي، وهو ما يقوي من إمكانية تقويض المفهوم المنقول لبعض وظائف المتن التراثي العربي.
أما ملاحظات نور الدين أفاية فقد مست غموض النقد الإبستيمولوجي عند الجابري، وأنه غير محدد بما فيه الكفاية، وأن النقد عنده يتداخل مع القراءة التشخيصية وأحيانا يدل على استراتيجية تهدف إلى تأزيم الثقافة العربية من خلال ما أسماه ب «أزمة الأسس وإعادة التأسيس»، ومن خلال الكشف عن مناطقها، ومكوناتها التأسيسية.
180
هي محاولات نقدية جريئة تؤمن بضرورة إعادة التأسيس، والتدقيق في مخرجات المشروع النقدي للعقل العربي، هي نقد النقد في سياق تطوير وتثوير المشروع الجابري، حيث كشفت عما اعتبرته جنوحا في فكره. وآلياته التفسيرية عبرت عنه المفاهيم الإبستيمولوجية التي تبناها مثل مفهوم القطيعة الذي شوش على مشروعه، وإن سلك في استدراكاته على المفهوم مسلك التوسط بعيدا عن القطيعة الكبرى كما نجدها عند التيارات اليسارية الماركسية «العروي وحسين مروة»، وتنشيط هذه الآليات وفق مطامحه الأيديولوجية.
وأنقل له نصا يعبر عن هذا النزوع الأيديولوجي وغلبته، وأنه المحدد الأساس في عملية الانتظام في قراءة مضامين التراث العربي الإسلامي، وهو الخوف من اكتساح الساحة الفكرية المعاصرة من قبل ما أسماه بقوى «رجعية» و«ظلامية» و«تغريبية» وإن كنا نقدر هذا النزوع، ونتفهم دوافعه، لكن أن يكون هو المحدد فهذا مما يختلف حوله. يقول: «فلماذا لا نملأ ساحتنا الثقافية بقضايا من تراثنا لها علاقة مباشرة باهتمامات شعوبنا؛ اهتمامات النخبة والشباب والجماهير: قضايا اللغة وتجديدها، وقضايا الشريعة، وشروط التجديد فيها، وإمكانيات تطبيقها وتطويرها، والعقيدة وأنواع الانحلال الملصقة بها الفكرية والسياسية، أضف إلى ذلك قضايا التاريخ والأدب والفلسفة التي يزخر بها تراثنا. قد يقول البعض: هذه قضايا ميتة، تنتمي إلى زمن ثقافي مضى وانقضى (...) ونحن لا نحتاج إلى أن نذكر هؤلاء باكتساح التيارات الرجعية والاغترابية لساحتنا الثقافية»،
181
هو خطاب نقدي لتيارات القطيعة مع هذا التراث.
لكن لا عيب عندي أن تستبطن هذه المناهج وهذه الآليات أبعادا أيديولوجية - ليس بمفهوم الإقفال والإلغاء - بمقادير معينة، وأن تستبطن هذه الأخيرة أبعادا معرفية منهجية، فثمة علاقة تفاعلية، وإنما الخلاف فيما ذهب إليه عبد الإله بلقزيز واشتغلت عليه تيارات الفكر العربي المعاصر هو أن يصبح البعد الأيديولوجي هو القابض على المصير المعرفي، يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه، وهي نقطة شكلت ثغرة وعيبا منهجيا ومعرفيا في تاريخ الفكر العربي المعاصر، يلزم ترتيب العلاقات بينهما.
إن المشروع الفكري الذي قدمه الجابري بقي حلما معلقا، فلا هو حقق عقلانية ابن رشد ولا أسس دولته ولا استنبت حداثة الغرب؛ لأن المشروع لم يستند في كثير من تفاصيله إلى أسس مرجعية ذات صلة بالأمة، مرجعية الإسلام كقوة مؤطرة وموجهة لحركة الفكر والنهضة والحضارة وإلى عمقها التاريخي. لكن رغم ما قيل عن المشروع وما قدمنا من ملاحظات حول المسار النقدي في مشروع الجابري، يبقى فكره - في رأيي - واحدا من المشاريع الفكرية القليلة في الفكر العربي المعاصر التي استطاعت أن تجد لنفسها مساحة محترمة مع جميع الاتجاهات الفكرية: يمينية - يسارية - إسلامية، بدرجات متفاوتة.
ويمكن الاستعانة به خصوصا في الجانب المتعلق بموقفه من المركزية الغربية وحداثتها، وكشفه لانزلاقاتها وسوء التوظيف لهذه الحداثة، وما راكمه على المستوى المنهجي يمكن البناء عليه في بلورة مشاريع مستقبلية؛ كما يمكن أن يشكل نقطة ارتكاز في مواصلة مسيرة النقد وتصحيح الاختلالات التي طرحها برؤية تأصيلية وأكثر انسجاما مع الذات، وأكثر جرأة في التعامل مع المناهج والمفاهيم الوافدة، كما يشكل مشروعه نقطة مضيئة في بيان عورات الخطاب العربي المعاصر وتفكيك آلياته وعوامل فشله من خلال إبراز تناقضاته.
182
كما أحسن عندما وضع التراث في ميزان النقد وحرك العقول الراكدة بحرارة تجربته وبحسه المنهجي الراقي، ونقل الإنسان العربي من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث تملكه ولا يملكها، فردود الفعل اتجاه مشروعه مؤشر على هذا التحول، في المعرفة التراثية، لكن بإمكان المشروع أن يتحول إلى فاعل أساسي، لو ارتبط أكثر مما ذكرنا؛ أي الانتقال من «تشخيص العيوب ونقدها إلى وضع آلية نقدية بديلة؛ أي إن تتويج العمل كان ممكنا بتأسيس معرفة بديلة يمكن بها قراءة التراث دون المساس به، فما كان ينقص الجابري - حسب نقاده - أن يتخذ موقفا محددا من التراث بدلا من هذا النفس القلق بإزائه، وهذا الدمج بين التراث والحداثة.»
183
صحيح أن الجابري قدم مقترحات في هذا الاتجاه، لكنها تبقى دون طموحات النهضة والواقع العربي، وهو الاعتراف الذي عثرنا عليه في كتاباته الأخيرة «لماذا فشلنا في تحقيق حلم النهضة؟» أما الجواب عن الفشل، فالسؤال يحمل جزءا منه، أما الجزء الآخر فيكمن في الأدوات التي اشتغلت عليها تيارات الفكر العربي المعاصر، حين راهنت على خلطة هجينة من المناهج النقدية الغربية، وانتقائية من التراث، في تقويم إشكالات الواقع العربي واستشراف آفاقه، دون امتلاك رؤية ناظمة لأعطاب ذلك الواقع.
خلطة كشفت عن وعي مقلوب لعقل هذا الفكر، وعن استمرارية تبعيته لعقل الآخر إذ «يبدو أن النقاد العرب الذين تناصت نقودهم مع المنهجية الغربية وفاقا لحالة الاندماج لم يستطيعوا أن يختاروا حالة منهجية تصلح للتبني والتحليل، إذ غالبا ما تبرز الانتقائية والتلفيقية في خطاباتهم النقدية، مما يدل على أن الخطاب النقدي العربي المندمج مع الغرب لم يتمكن من استبانة الملامح النظرية النقدية الصالحة للدراسة، وأن المرجعية المسيطرة تظهر بشكل إرادي أو لا إرادي في بنية المعرفة النقدية.»
184
وهو اتجاه بدأ يتقوى ويدرك حجم المعاناة التي يحياها الخطاب النقدي العربي المعاصر في فلسفته النقدية الذي مثل نسخا مشوهة عن التجربة الغربية.
185
لا تخرج الانتقادات الكثيرة - على اختلاف في درجتها ومرجعياتها وأدواتها - التي وجهت لمشروع الجابري في رأيي عن الرغبة في تجويد أطروحات الفكر العربي المعاصر، والرفع من منسوبها في مواجهة التحديات، وتنويع أدواتها التفسيرية. انتقادات لا تنقص من قيمة المشروع وصاحبه، بل تزيد من قوته وتأكيد على استمرار الروح النقدية العقلانية التي دشنها في تحليله لنظم الثقافة العربية، واستئنافها وفق معطيات الواقع المعاصر، لهذا فنحن لا نؤسس رؤانا واختياراتنا، على أساس انتكاسة الآخرين وفشلهم، أو لعيوب في فلسفاتهم؛ بقدر ما نؤسس على أساس نوع من تراكم خبرات عقول الأمة، وتجاربها الفاشلة والناجحة، كما نؤسس على معيارية ذاتية قائمة على منطق داخلي، أثبت جدارة عطائه على امتداد التاريخ الحضاري للأمة، والانفتاح الواعي على كل الممارسات الإنسانية الراقية وعطاءاتها المتواصلة، تراعي خصوصيتها وخصوصيات الآخرين، وتعترف بنسبيتها ضمن النسق الحضاري الإنساني العام.
الفصل الثاني
المدرسة العلمانية في الفكر العربي المعاصر: الأصول المرجعية
والمنهجية
ننطلق في هذا العمل من رؤية مؤسسة وبانية من خلال أصولنا المعرفية والمنهجية، ومن رؤية واقعية تستكشف حاجيات الأمة، وتتجاوز الاختلالات التي رافقت هذا الاتجاه في فكرنا العربي المعاصر: مرجعياته التأسيسية، ومحدداته المنهجية، واختبار مدى فعالية المفهوم في واقع الأمة وإمكانيات استمراره أو تجاوزه أو البحث عن طريق ثالث يتيح فرص الحوار والنقد والبناء، ومن منطلق يستوعب التحديات الراهنة التي تواجهها خصوصا بعد مرحلة ما سمي بالربيع الديمقراطي، والإقرار بالتعددية الفكرية والثقافية ضمن الوحدة الجامعة، ما دام الوضع الحالي لا يقبل غير هذه القسمة، فتجديد المفاهيم وتعبئتها بمضامين جديدة أصبح عند كثير من النخب العربية من الخيارات الممكنة في إعادة تدبير إشكالات المرحلة وتدويرها.
أعادت تحولات المنطقة العربية شبكة من المفاهيم إلى درجة الصفر، على مستوى الحوار الفكري والسياسي، مما فتح وسيفتح مساحات أوسع بين النخب للبحث في العلاقة الطبيعية بين المفاهيم المتداولة في حقل الفكر العربي المعاصر، ومدى مصداقيتها الإجرائية، وعن علاقتها بمفاهيم الأمة.
من هذه المفاهيم الإشكالية: إشكالية الدين والدولة، الدين والسياسة، الدولة الدينية أم الدولة المدنية العلمانية، الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، إشكالية المعرفة والقيم الدينية، الثابت والمتحول في هذه المعرفة، المرجعية الدينية والزمانية، المطلق والنسبي.
ثنائيات إشكالية بدأت تأخذ حظها في النقاش المعرفي من جديد، وهو ما يستدعي فتح ملفات علمية بعيدة عن التحيزات الأيديولوجية، والنظر إلى أفق أوسع يرتبط بشكل أدق بمصير المنطقة العربية الإسلامية، والعوامل المنتجة للنهضة الحقيقية بدل السير في دروب مظلمة.
أنا لست ضد التعدد المذهبي الأيديولوجي والفكري المنهجي، لكن ما يهمنا هو الحكم على خلاصات كل شكل من أشكال هذا التعدد ما قدم وما أخر لهذا المجتمع، فالأفق والمآل هو المعيار الحاسم لكل اتجاه فكري فلسفي أريد أن يساهم في معالجة إشكالات المجتمع العربي، في الوقت ذاته إقصاء أي تيار يمكن أن يساهم في البناء من مرجعية مغايرة يساهم في تكرار تجارب الماضي القريب، ويكرس مظاهر العنف الفكري ويعمق جراحات الأمة. إنما السبيل الأقرب إلى الصواب البحث عن مناطق توحد هذه الطاقات لتساهم في نحت مشروع عربي إسلامي حضاري يتجاوز فجوات الجيل الأول والثاني.
إن المقصد الذي انتدبنا أنفسنا إليه في هذا الفصل يتوخى فتح حوار معرفي مع أنموذج فكري عرف عنه الالتزام الصارم بقيم العلمنة في المجال المعرفي، ومن خلال الدعوة المتكررة إلى تبني هذا النموذج بكل آلياته المنهجية والمعرفية؛ لأنه ثورة عقلية تنويرية، لا مستقبل للعرب والمسلمين إلا بالانخراط الطوعي فيه، ساعتها «سيتم الاعتراف بنا في هذا العالم كأمة وحضارة وشعوب حين نناضل من أجل عالم علماني يعترف فيه الجميع بالجميع بمعزل عن فرضيات الدين والمعتقد. وسنتمكن من تحرير الأرض والوعي والحضارة من الاحتلال والاستيطان، ومن تحصين مجتمعاتنا من الطائفية والفتنة يوم نناضل من أجل الحريات الفردية والكرامة الإنسانية والمساواة بين بني البشر، ونقاوم من أجل قيم التنوير والحداثة والعقلانية والعلمانية، والتي هي غنيمتنا المنسية منذ معاركنا الوطنية ضد الاستعمار»،
1
ليعود من جديد من بوابة الفكر والثقافة العلمانية، مهما حاول دعاتها التحرر الكاذب من أسطورة النموذج الغربي، والارتباط بالوطن.
الإصرار على هذه السبيل إصرار على التقليد والتبعية وقلب للحقائق والمعطيات، إنه أنموذج المفكر الجزائري الأصل الفرنسي الجنسية محمد أركون الذي تحمل عناء النضال الفلسفي المشبع بالقيم العلمانية الفرنسية في نقد العقل الإسلامي، من خلال الدعوة إلى فك الارتباط بأصول هذا العقل، وتحريره من «أسطوراته التاريخية»، ومعانقة أسباب التحرر التي تتيحها العقلانية الحداثية الغربية، التي يرى فيها منجاة «العرب من الخسران والضياع والتخلف عن ركب الأمم والتقدم»،
2
ومن خلال أدوات تأويلية للتراث العربي الإسلامي (النسبي والمطلق). أو من خلال استيراد ما سمي بعلم التأويل «الهرمينوطيقا» في قراءة النصوص، وهي ظاهرة فكرية منهجية بدأت تأخذ حيزا مقدرا في مناهج قراءة النصوص المقدسة أو النسبية على حد سواء.
ويهمنا في هذا الفصل أن نعالج موقف أركون وجهوده في بناء نموذجه المعرفي والمنهجي الذي يعتبره المدخل الطبيعي في تحقيق التنوير العقلاني الإسلامي بعيدا عن المنهجية الإسلامية، المنبثقة من أصولها التأسيسية (الوحي) التي اعتبرها مسئولة إلى حد كبير عن تشظي العقل الإسلامي وتخلفه عن فتوحات الحداثة العقلية، من خلال ثلاثة مباحث أساسية نراها تجيب عن جزء مهم من الإشكالات المنهجية في الفكر العلماني العربي المعاصر. (1) المبحث الأول: أصول ومرجعية البناء المنهجي في الفكر العلماني
3
العربي المعاصر
في الوقت الذي سعى فيه الجابري من خلال مشروعه إلى تبرير اختياراته المعرفية والمنهجية في تشريح مكونات العقلية العربية الإسلامية، من خلال المكونات القومية للذات العربية مع تلفيقية مبررة بينها وبين إنجازات الغير، والبحث في التراث عن مسوغات لهذه التوجهات، إن كنا قد اعترفنا بفضلها في إثارة إشكالات حقيقية مرتبطة بعلاقة العقل العربي بتراثه حين حاولت أن تنقله من مجرد موضوع إلى إشكالية معرفية ومنهجية، في وقت حسمت اتجاهات أخرى الموضوع واتجهت نحو الاستلاب الثقافي والمنهجي رغم مرارة هذا القرار وتبعيته ، نجد المدرسة العلمانية في الفكر العربي المعاصر - خصوصا مع محمد أركون - قد نحت المنحى ذاته، حين سعت إلى تثبيت منهجية العلوم الإنسانية في نسختها الغربية لتعمق هي الأخرى من جراحات وآلام العقل العربي، وتوسع الهوة بينه وبين مرجعياته، بدل تقريبها منطلقة من أرضية الحداثة وعقيدتها المنهجية.
فخاضت معركة المفاهيم مع ثقافة الأمة وأصولها المرجعية، معتبرة المعركة على مستوى العلوم الإنسانية المدخل الأساس لعلمنة المجتمع العربي الإسلامي، ومن خلال الوصل بين لحظات انطلاق الحداثة الغربية وثوراتها المنهجية الفكرية، حين قوضت أسس التفكير الكنسي الديني وفككت مؤسساته، وأعلنت ميلاد نمط جديد على مستوى آليات التحليل والنقد، وبين اللحظة التاريخية للعقل العربي الإسلامي لتحريره من كل القيود العقدية والتاريخية التي حالت - حسب تحليلها - دون تحقيق الإنجاز المطلوب.
لعل أبرز معالم الحضارة الغربية الحديثة توجهها العلماني الداعي إلى فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، بل «يرتبط بروز الفكر العلماني الذي تبناه مفكرو الأنوار الغربيين بإدراك المفكر الغربي الحاجة إلى الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية في المجتمع الغربي لتحقيق السلام الداخلي، وتطوير مجتمع سياسي متعدد الأديان يسمح بتقويم الأفراد بناء على إنجازاتهم الفردية ومساهماتهم في تطوير المجتمع السياسي، بدلا من التعويل على انتماءاتهم الدينية؛ لهذا الغرض اقتنع قادة المجتمع الغربي ومفكروه أن لا طريق لإحلال السلام بين الفرق الدينية المتصارعة ما لم يقبل الجميع بالاحتكام إلى عدد من المبادئ السياسية المشتركة التي تسمح بإحقاق الحقوق وتوفير العدل، وتحول بين سيطرة فرقة دينية محددة على السلطة، ومن ثم استخدامها لفرض رؤية ضيقة على الجميع. وهكذا لاقت فكرة الدولة العلمانية قبولا واسعا في المجتمعات الغربية الناهضة بدءا من القرن الخامس عشر الميلادي.»
4
لكنه فصل معكوس تماما للعلاقة بين السلطتين، ففي الوقت الذي كانت المعادلة تنطلق من السلطة الدينية نحو السلطة السياسية مستغلة نفوذها، أصبحت المعادلة عكسية، من السلطة السياسية إلى السلطة الدينية، فظلت العلاقة بين السلطتين علاقة مد وجزر حسب السياقات التاريخية والأهداف الموجهة لكل واحدة منها؛ لهذا ف «إن تلازم الوعي الديني والنهوض الحضاري حقيقة تاريخية وشرط موضوعي. فالحضارات الإنسانية عبر التاريخ تعود في جذورها إلى وعي ديني ورؤية كونية متعالية، بدءا من حضارات الهلال الخصيب ومصر الفرعونية، ومرورا بالحضارات الصينية والهندية والفارسية والإغريقية والرومانية، وانتهاء بالحضارتين الإسلامية والغربية. ولقد وثق المؤرخ الغربي الشهير أرنولد توينبي العلاقة بين الدين والحضارة وأظهر في كتابه دراسة الحضارة أن العلاقة بين الدين والحضارة علاقة المقدمة بنتيجتها».
5
السياقات التاريخية التي أفرزت الصراع بين الكنيسة والفكر الغربي الحر ليست قاعدة ثابتة في الحكم وتعميم النتائج، فما قام به بعض مفكري الغرب من «تسفيه للإله، فلا يمكن بحال أن يعزل ذلك عن جو التغميض الديني، وما ارتكبت بعض الأنسقة الكنسية من أخطاء، وما مارسته من قهر أو تبنته من شكليات، وبالتالي لا يمكن أخذ هؤلاء المفكرين المناهضين لإله الكنيسة، والمعبد كقاعدة في تقييم كل الأديان وعبر كل العصور وفي كل المجتمعات»؛
6
لأن التعميم تعمية وتعطيل لأركان المنهج السليم الذي يقر بالاختلاف والتعدد في السياقات. (1-1) الفكر العلماني العربي المعاصر ومراحل إعادة بناء المفهوم (أ) الاتجاه الإسقاطي الخارجي
ونعني به الاتجاه الذي سار إلى تبني تاريخ الغرب والانخراط في مساره وتفاصيله وإسقاطه على تجربة الأمة، وانتهى إلى تبني تلك الخلاصات التي انتهى إليها الفكر الغربي في صراعه مع الكنيسة والاجتهاد في تنزيلها على واقع اجتماعي وفكري، يختلف أشد الاختلاف عن موطن النشأة، وسلك في ذلك كل الوسائل الممكنة والمتاحة، فحاول افتعال الصراع داخل السياق العام لثقافة الأمة والبحث عن تناقضاتها بين الجوانب «العقلانية» و«اللاعقلانية».
ومحاولة فك ذلك الارتباط الوثيق وتلك الجدلية الطبيعية بين الوحي والعقل والواقع بأدوات منهجية أصبغ عليها صبغة «العلمية» مشبعة بعقائد أصحابها ومرتبطة بمعادلات اجتماعية نفسية يصعب في غالب الأحيان الفصل بينها إذا لم يؤت الإنسان سعة من العلم وبسطة في الفهم، فاستند إلى أطروحة مفادها أن تحقيق حلم النهضة والتحديث والتقدم إنما يتوقف بشكل كبير على استصحاب التجربة الغربية المسيحية ويتأسس على ما فعلته أوروبا مع الفكر الكنسي، إذ لم تتقدم وتتحرر إلا بعزلها لهذا الفكر وأدواته التفسيرية الخاطئة . والنهضة العربية الفعلية - إذا ما أريد لها أن تحصل - تتطلب الاتصال بهذه المرحلة من الفكر الغربي وتطبيقاته المنهجية.
7
وهو الشرط الذي وضعه هذا الاتجاه للخروج مما أسماه بالمرحلة الأرثوذكسية الجامدة، فحاولوا معارضة الإسلام ومنهجه بنفس المركبات الذهنية التي واجه بها رواد الإصلاح في الغرب الفكر الكنسي.
وبهذا «يجعلون المعركة الدائرة هنا امتدادا للمعركة التي دارت هناك، ومن ثم تقرر النتيجة في هذه المعركة كما تقررت في تلك.»
8
وهي إقصاء الإسلام من المجال الحياتي والمؤسسات المجتمعية واعتباره عائقا معرفيا، وسلطة ضاغطة على العقل تكبله بتوجيهاتها الإيمانية «الخرافية»، وتحول بينه وبين الإبداع الخلاق والإنتاج الحضاري، فيحاولون «فرض التطابق على غير التطابق وفرض التشابه على غير التشابه، ويحولون البلاد العربية الإسلامية إلى مسرح يكرر أداء تمثيلية جرت وقائعها في بلاد أخرى وضمن ظروف ومعطيات مختلفة (...) أما ما هو أنكى فكونها تمثيلية فاشلة في محتواها.»
9
فعلى غرار «تجربة المناهج الغربية في نضالها المرير ضد التفكير الديني قام الاتجاه الوضعي في بلادنا ليبني أفكاره على أساسها متجاهلا الفروق التاريخية والثقافية الموجودة بين البنية الفكرية المسيحية وبين البنية الإسلامية.»
10
وظهرت دعوة هذا الاتجاه قوية في تبني مقولات المناهج الغربية وامتدت لتشمل كل ميادين البحث: الإنسانية، والاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية ... فجعلوا التجربتين المسيحية والإسلامية تشتركان على مستوى المقدمات المعرفية، وتصوراتها لكثير من الحقائق المعرفية والكونية والإنسانية، واعتمادهما على المنحى نفسه في التحليل؛ لهذا نجد عند هذا الاتجاه إصرارا غير مسبوق في الدعوة إلى قراءة مقدمات انتقال أوروبا من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، كما حاول افتعال الصراع بين التحليل العقلي العلمي والتفسير الديني في ثقافة الأمة، وبين مدارسها الفكرية.
فالذي وقع في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية إنما هو نوع من الثراء الفكري فالصراع ليس «صراعا بين عقل ولا عقل، وإنما هو صراع فيما بين مقولات يحمل كل منها عقلا محددا، ومن ثم يمكن تحديد الخلافات الجوهرية بين المقولات (...) ولهذا فمن الخطأ أن تسحب التجربة التاريخية الأوروبية فيما يتعلق بالصراع بين الكنيسة وخصومها على ما يجري من صراع في ساحتنا، فالسمات هنا مختلفة في حالة المتصارعين حين تقارن بالسمات التي مثلت المتصارعين هناك.»
11
ف «العقل الذي يعتمد على منهج القياس كأسلوب وحيد للمعرفة والمحاجة يتحول بين الأشلاء الناتجة عن عملية التفكيك. لا ثقافة العرب ولا حضارة الغرب تدخل في وعيه كعملية متكاملة أو كسيرورة تاريخية، كماض وكمستقبل. إنها تلغي التاريخ والمستقبل، لا ترى من تراث الشرق أو الغرب إلا لحظات متقطعة من قبلها ومما يليها، فهي لحظات ثابتة راكدة راهنة. الحاضر وحده هو الزمن بالنسبة لهذا الوعي.»
12
وقد مثل هذه المرحلة من التفكير أغلب اتجاهات الفكر العربي المعاصر من القوميين واليساريين والعلمانيين، قبل أن تحدث بعض الارتدادات الإيجابية النسبية من هذه الاتجاهات، فالقومية العربية كانت في بداية تشكلها تيارا علمانيا قبل أن تعدل من مفردات خطابها وتنقحها من بعض المشوشات وترتبط بالماضي العربي، وتاريخه ورموزه مع إيمانها بضرورة الاستفادة من الآخر، وفق هذه المحددات (اللغة، التاريخ، المصير المشترك) مع ارتباط محتشم بالدين أثناء مراجعات هذا التيار لأطروحاته تعتبره ضمير الأمة الجمعي، لكن دون أن يكون عنصرا فاعلا في النهضة والتحديث.
أما تيار الاستقلال عن التصورات الدينية (الإسلام) وتكريس قطيعة نهائية مع التفسيرات العقائدية ومفارقات العقل السلفي. فتيار اليسار الماركسي العربي الراديكالي الذي يرى في الانخراط الكلي في الآخر، وفي مشروعه ومدارسه من خلال تبني المدرسة الماركسية بأدواتها ومفاهيمها مدخلا أساسيا في معالجة مشكلات العجز، والتأخر التاريخي كمنهج مطبق لا كمنهج لتطبيق - بتعبير الجابري.
أما الوجه الآخر لهذا التيار الإسقاطي الذي جعلناه أنموذجا للاشتغال، فالأمر يتعلق بالمفكر الجزائري محمد أركون من خلال مشروعه الفكري (نقد العقل الإسلامي) والدعوة إلى علمنة المجتمعات العربية الإسلامية.
مشروع تؤطره مجموعة من الهواجس والإشكالات منذ البداية هي منطلقه ومرتكزه في إنجاز ما أسماه ب «إحياء الاجتهاد في الفكر الإسلامي المعاصر» وتأسيس تاريخي منفتح وتطبيقي لهذا الفكر متجاوزا كل الحدود والحواجز التي فرضتها العقلية الوثوقية و«منفتح على علوم الإنسان والمجتمع ومناهجها وتساؤلاتها كما هي ممارسة عليه اليوم في الغرب، وتطبيق عملي في نفس حركة البحث ؛ لأنه يهدف إلى تلبية حاجيات وآمال الفكر الإسلامي المعاصر وسد نواقصه منذ أن اضطر هذا الفكر لمواجهة الحداثة المادية والعقلية .»
13
فقد أراد - كما يؤكد دائما - أن «ينقض أخطر مشكلة تواجه العرب والمسلمين عموما، ألا وهي مشكلة «الحداثة العقلية والفكرية». إنها مشكلة دخول العصر بكل ما للكلمة من معنى، وبكل ما يتضمنه ذلك من إشكاليات وعقبات وآلام ومخاضات.»
14
هذا هو الأفق المعرفي الذي خطط له أركون وسعى إلى تثبيت أركانه في الساحة العربية والإسلامية، وقد ظل هاجس العلمنة واحدا من الإشكالات والأسئلة الكبرى التي شغلت هذا الفكر واتخذ مستويات متعددة وتعبيرات مختلفة حسب تعدد السياقات.
فارتبط بإشكالات مفاهيمية كالديمقراطية والتقدم والحداثة، لكن قبل الشروع في رهانات العلمنة مع أركون نقف عند لحظاتها في الفكر العربي المعاصر، حددها الأستاذ كمال عبد اللطيف في ثلاث لحظات أساسية.
15
اللحظة الأولى: دولة الإسلام ودولة العلم والمدنية
ويمثلها الحوار الذي دار بين محمد عبده وفرح أنطون على صفحات «الجامعة» و«المنار» حول تاريخ الإسلام والمسيحية، حيث دافع عن ضرورة الفصل بين متطلبات الدين ومتطلبات الدنيا بالإضافة إلى تلويحه بشعارات التسامح والمواطنة. ويرى أن الخلاصة الأساسية لهذا الجدال تتجلى في المعالجة المباشرة والصريحة لمسألة العلمنة في الخطاب العربي المعاصر، وإعادة بناء المفهوم والتفكير فيه من جديد وفق معطيات جديدة.
اللحظة الثانية: نحو تأريخ وضعي للسلطة السياسية في الإسلام
ويمثل هذه المرحلة علي عبد الرازق (1888-1966م) بنصه الشهير «الإسلام وأصول الحكم» 1925م الذي يعرض فيه موقفا نقديا من مسألة إحياء الخلافة الإسلامية. وهذه اللحظة امتداد لجدل اللحظة الأولى: أصلها وتطورها. كما أقام تمييزا فاصلا بين النبوة والممارسة السياسية، ويدافع عن ضرورة الاحتكام في مجال السياسة إلى ما يسميه بأحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة.
ويدافع كمال عبد اللطيف عن هذه اللحظات التاريخية وعن الاختيارات التي دافع عنها فرح أنطون بحماسة كبيرة وعقلية أنوارية ورجحان كثير من جوانب البرهنة التاريخية لعلي عبد الرزاق، كما مثلت هذه المرحلة اتجاهين اثنين: الاتجاه الليبرالي مع فرح أنطون، الذي يرجع له الفضل - في رأيه - إلى إدخال مفهوم الخلاص الأنواري الوضعي لتجاوز الخلاص المسيحي الأخروي بل الخلاص الديني على وجه العموم، بهذه التسوية يتكلم كمال عبد اللطيف، ثم التجربة الكمالية التي قدمت - في نظره - كثيرا من المعطيات الواقعية لفهم نص الإسلام وأصول الحكم.
اللحظة الثالثة: إعادة بناء المفهوم
وهنا المحاولات والمساهمات التي حاولت داخل الفكر العربي الإسلامي المعاصر أن تؤسس لهذا الموضوع من داخل البنية الفكرية للأمة، باعتباره موضوعا داخليا وانشغالات نابعة من واقعية وراهنية الواقع العربي والإصرار على اعتبار العلمانية أساس الوحي الإسلامي وليست ظاهرة طارئة، وأن التجربة التاريخية تقدم براهين على أصالة هذا المفهوم، وتبرز في هذا الاتجاه بشكل قوي اختيارات محمد أركون أنموذجا لإعادة بناء هذا المفهوم وتركيبه في إطار أفق فلسفي تاريخي جديد داخل دائرة أوسع يتجاوز الدائرة السياسية، أفق ساهمت فيه معه ثلة من المفكرين العرب على اختلاف أطرهم المرجعية واختياراتهم السياسية لكن يتسلحون بنفس الآليات المعرفية والتاريخية، أمثال العروي والجابري وحسن حنفي وحليم بركات وعبد الإله بلقزيز.
16
فكيف ينظر أركون إلى هذا الموضوع؟ وما هي المقاربات التي يقدمها، ما هي رهاناته وأفقه؟ أسئلة نحاول أن نعالجها في هذا المطلب. (1-2) أركون ورهانات العلمنة في الفكر العربي المعاصر
في سياق إعادة بناء مفهوم العلمنة يقدم أركون مفاهيم جديدة وأوسع مما هو متداول عند أغلب الاتجاهات العلمانية في الفكر العربي المعاصر، من خلال تحطيم منطق الثنائيات وتوسيع مجال التفكير فيها، ومن هنا «الحاجة إلى ضرورة إعادة النظر في المفاهيم التي ترتبط بهذا المفهوم، والتي غالبا ما ترتب في إطار تقابلات ثنائية حدية وحادة من قبيل حق ديني، وحق طبيعي، وعقلي، وروحي، وعقلاني، وخيالي. إن تفكيك المفاهيم المذكورة داخل بنيتها الروحية المتقاطعة يتيح إمكانية بناء وتأمل جديد، وبالتالي إمكانية بلورة نتائج جديدة خاصة وأن المسيحية لم تنقرض، وأن الإسلام يعرف انتفاضات متشنجة وحادة هنا وهناك.»
17
هكذا فكر أركون في الموضوع وانتقد المداخل التي تم اعتمادها في مقاربة إشكالات العرب ومخاضاتهم المعاصرة. أما المدخل والمقاربة الأركونية المفضلة فتتجاوز «مجرد التفريق البسيط للمفهوم بين الشئون الروحية والشئون الزمنية»
18
إلى تأسيس مفهوم جديد غير مفكر فيه، وهو المعنى الفلسفي والمعرفي والإيجابي، من خلال علمنة العقل العربي الإسلامي الذي يسيطر عليه البيان والوجدان، وإنتاج عقل قادر على المساءلة والنقد، فهي موقف منفتح للروح إزاء قضايا المعرفة وقضايا المجتمع، هذا الموقف يتعارض مع عقل أبدي خالد منسجم تماما بشكل مسبق مع تعاليم الوحي الجامع، «عقل يبدو متعاليا وخاضعا لتحديدات كلام الله المعنوية وإكراهاته في آن معا»،
19
ويقدم مقاربات للمفهوم تتركز على الحاجة إلى الفهم ومواجهة كل المطلقات والقيود التي تحجم العقل والإنسان عن الإبداع.
فالعلمنة كما يفهمها «تتركز في مجابهة السلطات الدينية التي تخنق حرية التفكير في الإنسان ووسائل تحقيق هذه الحرية (...) ولهذا فإن مهامها في إلحاحها الشديد على الفهم والنقد داخل توتر عام في الإنسان وبمواجهة «ضابط» ما موجود دائما، وضرورة أن يوجد سواء كنا نعيش في مجتمع الدولة-الكنسية أم في مجتمع الدولة القومية الحداثية.»
20
إنه التحلل الكامل من كل ضابط قيمي يضبط سلوك الإنسان، ويرشد تصرفه والتمرد على الأخلاق والعقائد والدعوة إلى الاستقلال العقلي، وهذا ما يتطلب في رأيه افتتاحا باستمرار في اتجاه الشك المستمر، يشبه الشك الذي افتتحه كل من ماركس ونيتشه في القرن التاسع عشر اتجاه المسيحية «وهذا النقد قابل تماما للتطبيق على الإسلام»،
21
فدفع بكل مقولاته إلى نهايتها، كالوفاء بحقوق العقل كاملة غير منقوصة، إذ ليس هناك حقيقة خارج هذا العقل.
لهذا فالعلمنة عنده «قفزة نوعية في تاريخ المجتمعات البشرية، فهي التي نقلت البشرية من الفضاء العقلي للقرون الوسطى إلى الفضاء العقلي للتقدم والحداثة.»
22
هذا صحيح بالنسبة لأوروبا، أما التعميم كمقياس غير أخلاقي فلم تكن البشرية كلها تشترك في المقدمات المعرفية، وليست على خطة تاريخية واحدة، لكن آليات الاشتغال وأفقه المعرفي كانت عاملا أساسيا في هذه التحديدات والاستنتاجات.
ورهان أركون في أفق العلمنة هو الانخراط الكلي في الحداثة، ويطرح السؤال: من أين نبدأ في دراسة هذا الموضوع، من الإسلام أم من الحداثة؟ فيجيب: سوف نبدأ وبالضرورة من الحداثة، لأنها خياره الأول والأخير ولأننا - يقول: «غاطسون ومنغمسون في المناخ الذي خلقته الحداثة.»
23
أما الإسلام فلا «يمكن لأي شخص عاقل أن يقول إنه يمثل حاليا الحداثة»؛
24
لأنه أصبح يمثل نوعا من التقليد والتراث، ومن تراكم المعارف والمواقف الثقافية المكرورة، ولا يقوى على تحريك التاريخ الذي حركه لحظة انبثاقه الأول، فالإسلام في «زمن النبي ولحظة انبثاق الخطاب القرآني كان يمثل تغيرا، بل وتغيرا جذريا بالقياس إلى ما قبله، وكان يمثل حركة تاريخية مندفعة بكل قوة وانطلاق، وعلى الأصعدة كافة.»
25
وكان «يمثل لحظة حداثة حقيقية لا شك فيها، أي لحظة تحريك وتغيير لعجلة التاريخ.»
26
لكن لما «ترسخت الدولة الإسلامية (...) تم تشكيل - تدريجيا - فكر ثابت تحول بالتدرج إلى أرثوذكسية؛ أي تحول من طاقة تغيرية انبثاقية إلى تصور ثابت وثبوتي للحقيقة، إلى تصور ملجوم ومسجون للحقيقة»،
27
يمنع الدخول في المساءلة والنقد، ويضع حواجز المرور إلى عالم ظل في رأيه غير مفكر فيه داخل هذه الثقافة، إنه عالم الغيب.
فهو يصر على اختياراته الفكرية لإنجاز هذه المهام من خلال الاستعانة بمنجزات العلوم الإنسانية، والفتوحات التي دشنها المثقفون الفرنسيون، أمثال: فوكو ورولان بارت وغريماس وبيير بورديو وجورج بالاندييه واعتناق الإبستيمولوجية الجديدة، التي لا تميز بين إنسان وآخر بسبب العرق أو الدين أو بين المجتمعات البشرية أمام مناهج العلوم الإنسانية ونظرتها المنفتحة إلى أبعد الحدود.
ولهذا السبب يرى أننا «مجبرون منهجيا على الانطلاق من ساحة الحداثة العقلية والفكرية؛ لأن الحداثة أضافت مشاكل جديدة لم تكن تطرح سابقا وافتتحت منهجيات جديدة تتيح لنا توسيع حقل المعرفة دون إدخال يقينيات دوغماية تعسفية، هذا هو الشيء الجديد فعلا، وهنا يكمن جوهر الحداثة»،
28
حداثة الشك الشامل والقطيعة الكلية مع مقومات الذات، والانغماس في الآخر وتراثه.
ويميز أركون بين الحداثة والتحديث؛ لأنهما مصطلحان غير متطابقين، لا يدلان على الشيء نفسه. «فالحداثة هي موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، إنها موقف للروح أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع. أما التحديث فهو مجرد إدخال للتقنية والمخترعات الحديثة الأوروبية الاستهلاكية وإجراء تحديث شكلي أو خارجي لا يرافقه أي تغير جذري في موقف المسلم للكون والعالم.»
29
وينتقد بشدة الاتجاهات النقدية في الفكر العربي المعاصر، التي عجزت عن إدخال تغييرات جذرية في موقف المسلم حين فشلت في إنجاز مهمة الشك «المنهجي والعلمي» وزحزحة اليقينيات المنهجية، كما فشلت كل التجارب العربية والإسلامية مثل نموذج الجزائر، وتجربة شاه إيران؛ لأنها مارست التحديث «دون حداثة عقلية أو فكرية أو ثقافية».
30
يطرح أركون مشكلة الحداثة من خلال التاريخ المقارن للثقافات والعقائد والتجارب، أي من خلال التجربة اللاتينية المسيحية فالغربية من جهة، ثم من خلال التجربة العربية الإسلامية،
31
وارتبط عنده هذا الرهان الحداثي العلماني بضرورة الاطلاع ودراسة التاريخ التطوري والتصاعدي لتجربة الحداثة الراهنة في مهدها الأصلي، من خلال مسيرة القرون الأربعة الأخيرة (ق16م حتى نهاية ق20م).
وينتقد - كعادته - التيار «التنويري» في العالم العربي الإسلامي بالقصور في فهم وهضم هذه المسيرة التنويرية الغربية. يقول: «فمعرفة مثقفي عصر (النهضة) العربية والأجيال التي تلتهم حتى الآن بأوروبا وحداثتها كانت على الرغم من فائدتها وإيجابياتها ناقصة ومبتورة، وأحيانا أخرى مشوهة وغير واقعية على الإطلاق.»
32
والسبب في رأيه هو طغيان الأيديولوجيا على مستوى التفسير، والمقاربة لكثير من القضايا العربية، مما حال دون فهم موضوعي للذات، ولتجربة الآخر.
ومشروع العلمنة عند أركون في المجتمعات العربية لا يمكن «الحديث عنه [القول للكاتب] إذا كنا لا نمتلك نظرة معقولة ومقبولة عن ظاهرة التقديس والعامل الروحي، والمتعالي والأنطولوجيا»،
33
ويعول على الحداثة العقلية والفكرية لتأمين مستقبل العلمنة، ورهانه في ذلك علمنة التعليم وتعميم المنهج المقارن للأديان والمذاهب، يقول: «الحل يكمن في تعليم تاريخ الأديان والأنثربولوجيا الدينية على الطريقة الحديثة، والتوقف كليا عن إعطاء حق الكلام في الفضاء المدني العام للمجتمع لذلك الخطاب التقليدي الطائفي الذي يفرض نفسه وكأنه الدين الوحيد.»
34
هكذا يصادر الحق في الاختلاف ويناقض مبادئ الحداثة الغربية في نسختها الفرنسية والاعتراف بالآخر، فتكون العلمنة عنده تشريع اللامعنى واللامنطق واللاواقع، وإقصاء للفكر المخالف، فمعالجة المشاكل الحارقة والصعبة يكون عن طريق المنع من اختيار مذهب ضد آخر أو دين ضد دين آخر.
35
فهذه الدعوة غير مقبولة حتى عند أشد المتشددين في الغرب وأكثرهم تطرفا؛ لأن لكل مجتمع تحيزاته كما لكل فرد تحيزاته أيضا، فلو قيل هذا الكلام في المجتمع اليهودي لكانت الضريبة غالية والمصير مجهولا، فهذا التصور يسلم الأمة للرياح العاتية، وللغموض والتطبيع الثقافي والمسخ الحضاري، وإنكار لخصوصياتها الحضارية.
لاستكمال مشروع العلمنة اتجهت جهود أركون إلى نقد المفاهيم وفتح المعركة مع القاموس اللغوي للعقل الإسلامي الذي شكله نص الوحي؛ لأن الإبقاء على لغة تاريخية مغلقة لا يقودنا إلى الانخراط الفعلي في الحداثة بقدر ما يخلق حالة من التشويش والإرباك على مستوى الفهم والاستيعاب.
ومن ثم وجب استبدال بمعجم هذه اللغة الإيماني «اللاهوتي الدوغمائي» التقليدي معجما قادرا على استيعاب مفردات الحداثة ومعطيات العصر وإشكالاته، فهذا المعجم يقول: «أصبحت كواهلنا تنوء تحت ثقل أكياسه (...) فهو أثقل من أن تتحمله أو تستطيع حمله بعد الآن.»
36
ويميز في هذا بين أنواع الخطابات المتداولة على أساس معايير تبدو غير دقيقة وغير علمية بين الخطاب العلمي الفلسفي والخطاب الديني الذي يستند في أطروحاته إلى مادة لغوية خاصة (العربية) وعلى أسلوب تعبيري بياني ويعتمد الإثارة الخاطفة والضربة البيانية الصاعقة والمجاز الباهر المدهش.»
37
مما يجعل التعبير بهذه اللغة عن موضوعات يحاول أركون مقاربتها، مثل موضوع الظاهرة الدينية، يبدو في نظره شديد الصعوبة بالقياس إلى اللغات الأوروبية الحديثة التي سبقتها إلى العلمنة وافتتاح الحداثة، وتخلصت من التأثيرات الدينية والشحنات الدينية التي تضغط على الفكر وتسجنه في سياج ضيق ومحدود؛
38
لهذا لا تقوى العربية على إنجاز مهام كبرى في تاريخ العرب والمسلمين كالتي أنجزتها اللغات الأوروبية.
والسبب في رأيه أن هذه اللغات لم ترتبط بنص الإنجيل، ولم تتقيد بمصطلحاته ومفاهيمه، عكس العربية التي ظل جهازها المفاهيمي يتمتع بعدم الاستقلالية عن الوحي يصعب معها بلورة المصطلح العربي بطريقة علمية كما يحصل في اللغات الأخرى وإعادة تشغيله. كما أن إنجاز الحداثة لا يمكن التفكير فيها داخل هذه اللغة وبرموزها إلا إذا حررناها من ثقل المعجم اللغوي ومن شحنته الدينية، ولإنجاز هذه المهمة فنحن - يقول: «بحاجة إلى اشتقاق المصطلحات الجديدة، والاختراعات اللغوية الجديدة في العربية من أجل أن نستوعب الحداثة الفكرية في العلوم (...) وإلى حركة ترجمة واسعة لا تقل أهمية عن حركة الترجمات الكبرى التي سادت في العصور الكلاسيكية زمن المأمون وأدت إلى ازدهار الفكر العربي»،
39
مع بطلان التسوية بين التجربة التاريخية التي يدعو إليها أركون لتدشين الحداثة العقلية العربية المعاصرة.
فالتجربة الأولى فعل اختياري صدر عن إرادة وإثبات الذات وتحقيق إمكاناتها الواسعة مارسها أهلها وهم في موقع قوة، إذ شرعوا في تأسيس هوية ثقافية وشخصية حضارية خاصتين بهم، وتتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية بينما التجربة التي يدعو إليها لا يتوفر فيها الحد الأدنى من هذه الشروط.
40
ولتسهيل هذه المهمة نخضع نص الوحي للنقد التاريخي، ونقله من إطاره اللاهوتي - كما يقول - إلى المجال اللساني التداولي يخضع لما يخضع له أي نص أدبي بشري دون اعتبار لأصله السماوي.
ويميز أركون بين مستويين من الوحي: الوحي المكتوب «المصحف» وهو في نظره لا يمثل الحقيقة المطلقة؛ نظرا لارتباطه بالأيديولوجيات التأسيسية، ووحي «شفهي» وهو الأهم في نظره، لم يفكر فيه داخل بنية الفكر الإسلامي المعاصر، ويشكك في الروايات الرسمية التي اعتمدت النسخة الأخيرة للمصحف، فهو لا يفهم معنى الوحي، إنها «كلمة شديدة الخطورة والأهمية لا يمكننا استخدامها بسهولة، بمعنى أننا لا نفهمها جيدا وهي بحاجة لأن تخضع لدراسة جديدة لا تقدم أي تنازل للتصورات التي فرضتها العقائد الدوغمائية الراسخة (...) ولا توجد أي مكتبة في العالم ولا أي كتاب في أي لغة من لغات العالم يطرح مشكلة الوحي على طريقة العقلانية الحديثة ومنهجيتها.»
41
فإن وجدت فإنها صممت وأنجزت ضمن منظور التيولوجيات التقليدية، ويقدم تعريفا له يمتاز بخصيصة فريدة - كما يقول - أنه «يستوعب بوذا وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة وكل الأصوات الكبرى التي جسدت التجربة الجماعية لفئة بشرية ما من أجل إدخالها في قدر تاريخي جديد، وإغناء التجربة البشرية عن الإلهي. إنه يستوعب كل ذلك ولا يقتصر فقط على أديان الوحي التوحيدية»،
42
وهكذا يمكننا - يتابع الكلام - أن نسير في اتجاه فكر ديني آخر غير السائد، يتجاوز كل التجارب المعروفة للتقديس، فلا شيء ثابت.
مما يجعل الوحي ظاهرة لغوية ثقافية تسري عليها كل التعديلات والتأويلات، لأن الحداثة التي انطلق منها أدخلت منهجيات جديدة وطرحت إشكالات وتساؤلات لا قبل للعرب بها، وتتيح إمكانية توسيع حقل المعرفة عنده وكذا توسيع دائرة التشكيك في المفاهيم الثابتة التي بناها الوحي، واعتبرت من قواعد البناء المعرفي والمنهجي، فدون إجراء هذه العملية يبقى التحليل ناقصا يقول: «بدءا من الاستخدام الذي كان القرآن قد أجراه، فإن مصطلح الإسلام كان قد امتد تدريجيا، واتسع لكي يشمل مجالات شديدة الاختلاف. إنه لم يعد يكفي لتعريفه القول بأن الأمر يتعلق بدين مميز من قبل شعائره، أو هو «دين الإسلام» أو أن الإسلام هو الدين الذي أتى به محمد. نحن نرى فيما يخص تحليلنا أن مفهوم الدين نفسه ينبغي أن يعاد التفكير فيه على ضوء المنجزات العديدة للعلم المعاصر.»
43
فالعلم بالمفهوم الذي يقدمه أركون وبالأفق الذي اشتغل عليه، ليس هو الحل الوحيد لمشكلات الإنسانية، وغير قادر على ذلك، بل هو «أحد الطرق للاقتراب من الحقيقة، وليس مهيمنا على الدين والفلسفة والفن»،
44
وبالتالي فالتغيير الذي يطالب به أركون خارج حدود العلم ذاته ومنطقه الحجاجي البرهاني، فإذا جاز هذا المنطق في نموذج ثقافي معين، فإنه لا تقبله النماذج الأخرى، وهذا جار في كل النماذج والأنساق الفكرية العالمية.
يعبر منهج أركون عن «خلط لا يطاق بين الثوابت اللغوية واللغة القابلة للتطور والتطوير، ذلك أن الوحي المسطور (لغة ومفاهيم ومعاني الكلمات) يشكل دائرة من الثبات، حيث تعد المفاهيم النابعة منه مقصودة لذاتها؛ لأنها تعبير عن مفاهيم شرعية لا يجوز التنازل عنها بأي حال ولا التفريط فيها وعدم تبديدها؛ لأن ذلك يشكل جزءا من مهمة أساسية في بناء المفاهيم الإسلامية وإلا فقدت هذه المفاهيم وظيفتها (...) إنه تبديد مع سبق الإصرار والترصد لتلك المفاهيم، وهو موقف يعبر عن استخفاف وتصرف بالحقائق الشرعية والمفاهيم الدينية بصورة ليست هي بالتجديد، وإنما هي في حقيقتها تقع من حيث هدفها ومحتواها في دائرة التبديد الخطير وطمس حقيقة الثابت اللغوي الشرعي والنابع من حقيقة أساسية وهي حفظ الذكر.»
45 (1-3) الأساس الأنطولوجي (الوجودي) للعلمنة «التأصيل الداخلي»
عندما لا تسعف الإسقاطات الخارجية ، وتضعف حجج الإقناع في التمكين للمشاريع والتصورات والقناعات، يتم اللجوء إلى المنطق الداخلي وتغليف تلك القناعات بمسوغات ومبررات داخلية، وإن الأمر ليس فيه استيراد من الخارج ولا إسقاط تعسفي.
لهذا ينطلق محمد أركون في التأسيس للعلمنة والبحث عن الشرعية من نقطة الخلافة الإسلامية باعتبارها المسوغ التاريخي لعملية بناء العلمنة في المجتمعات العربية، مستعرضا جملة من التطورات والوقائع التي وقعت بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
وما جرى في تاريخ الصحابة، وأن «السلطة على مدار التاريخ الإسلامي كلها كانت سلطة زمنية مضبوطة و«موجهة» من قبل السيادة الدينية»،
46
وأن تاريخ العرب والمسلمين لم يخل من محاولات للعلمنة. يكفي أن نلجأ إلى تفكيك كتابة التاريخ حتى نستطيع الوصول إلى مراحل التدشين الأولى لها، هكذا اختار وبعناية ثلاثة مفاهيم مركزية تعينه في بلوغ المقصد «الخليفة، والإمام، والسلطان»، فالخليفة يقابل بالفرنسية كلمة
vicaire ، فالخليفة هو نائب النبي الذي يضمن استمرارية وظائفه، أما الإمام فهو الذي يقود المؤمنين أثناء الصلاة ويحدد اتجاه مكة ويتقدم عليهم، إنه قائد روحي، أما السلطان فيعني الشخص الذي يمارس السلطة بالمعنى السياسي الدنيوي.»
47
ليستقر اختياره على المفهوم الأخير لارتباطه بالسلطة الزمنية ويجد مبررا للفصل بينه وبين الروحي، ومسوغا تاريخيا لدعوته، حين يؤكد ذلك بقوله: «لقد وجدت سابقا في المجتمعات المدعوة إسلامية تجارب معمقة يمكن أن نصفها بالعلمانية لم تصل إلى درجة الوعي الواضح بذاتيتها، ولم تلق في يوم من الأيام لها تنظيرا.»
48
وهو العمل الذي شرع أركون في خطواته الأولى مستعملا منهج الباحث الأركيولوجي (الحفر التاريخي)، وهو يفترض أن العلمنة ملازمة لتاريخ البشرية وليست خارجة عنها، ولو في صورة ضعيفة وغير مؤكدة، والاعتراضات التي نشأت في الأمة إلى فترة الفتنة وعملية الاغتيالات وبروز التشيع والخوارج التي يفسرها بصراعات وخلافات سوسيولوجيا وثقافية وبتنافس على اقتناص السلطة وممارستها.»
49
وبالمنهج التفكيكي الذي يخلصنا من الأوهام التي ارتبطت بهذا التاريخ ، ونستطيع أن نصل إلى ما حدث بالفعل منذ بدء التجربة التأسيسية للخلافة وإعادة كتابة التاريخ وفق المنهجيات الجديدة للحداثة، لهذا «ينبغي أن نفكك الأرثوذكسية المغلقة من الداخل، ولن يتم ذلك إلا ببحث تاريخي محرر يمكن له وحده أن يوصلنا إلى أبواب العلمنة في الإسلام.»
50
وإعادة كتابة التاريخ ينبغي أن تبدأ عنده بإعادة كتابة قصة تشكل النص القرآني من خلال دراسة نقدية؛ أي نقد القصة الرسمية للتشكيل التي رسخها التراث (الوحي) المنقول نقدا جذريا كما حدث في قراءة الروايات المتعلقة بالإنجيل والتوراة.
وما لم يجر تفكيك هذه الأنظمة اللاهوتية التيولوجيا «المسلمة، والمسيحية، واليهودية» المغلقة فلا أعتقد - يقول الكاتب - أن هناك حلا حاسما، بل ستبقى هذه الأنظمة وتظل تمارس أنواعا من الاستبعاد والنفي المتبادل، ما لم نتمكن ونتدرب على المنهجيات التاريخية الحديثة لتفكيك بنياتها «التي صممت وعاشت طيلة قرون وقرون بصفتها التعبير الأعلى والنهائي عن الحقيقة الواحدة المطلقة.»
51
فهو يراهن على الانفتاح المنهجي، وعلى كل السلالات المفاهيمية التي أنتجها الغرب، وعلى القلق الإبستيمولوجي (المعرفي) ويعتبره السلاح الأقوى في المضي نحو هذا التدشين المعرفي في العقل الإسلامي، أما الارتهان إلى الماضي ومصطلحاته فهو ضرب من الحمق الفكري والغباء المنهجي.
ويعاتب زملاءه من المفكرين العرب على سوء تشغيلهم لهذه المنهجيات، يقول: «انظروا كيف يطبق المنهج الماركسي والمنهجي البنيوي ومنهج علم النفس على الثقافة العربية والآداب العربية، النتائج خطيرة ومخيبة للآمال في معظم الأحيان»؛
52
لأنها لم تمارس النقد الجذري لأصول هذه الثقافة. هكذا يدعو أركون إلى تزييف الوعي، وتفكيك أنظمة التفكير العربي الإسلامي، دون أن يعيد التفكير في البناء وفق معطياتها الذاتية، وهذه واحدة من العيوب الأساسية في هذا المشروع لأنه يفكك دون أن يركب، بل أكاد أجزم أن التركيب لم يكن في الاعتبار وغير مفكر فيه عنده.
لتعزيز التوجه إلى العلمنة، يتابع أركون الحفر في ذاكرة الأمة التاريخية وتجاربها الحديثة، مستشهدا بتجربتين تاريخيتين: لبنان وتركيا، ويشيد بالتجربة التركية وبجرأتها في افتتاح وتدشين مسار جديد داخل العالم الإسلامي، وطرح مسألة العلمنة بشكل قوي، وفي الوقت نفسه ينتقدها لأنها لم تصل إلى عمق المجتمع؛ أي العلمنة الفكرية المعرفية والوجدانية. وبالفعل كانت المقدمات الحضارية والعقائدية للمجتمع التركي رغم مظاهر الانحلال عائقا معرفيا وتاريخيا في امتداد مشروع العلمنة، وما تعيشه تركيا اليوم يعبر عن هذا العمق الحضاري لشعبها.
أما النموذج الثاني فهو نموذج لبنان باعتباره المناخ المناسب للعلمنة، وحلا للطائفية والتوترات الدائمة التي تحياها. لهذا يكتسب لبنان أهمية قصوى في مشروعه نظرا لمشاهد التطرف التي يحتضنها، وما يحدث في هذا البلد - يقول - يمكن ملاحظته في مصر وسوريا والعراق، حيث توجد أقليات مسيحية. إنها مسألة التعايش بين الطوائف المختلفة.
53
هذه النماذج يراها صالحة لطرح مشكلة «الإسلام والعلمنة» فالتعايش يكمن في نظره في إلغاء الخصوصيات الدينية - على الأقل في المجتمعات التي تعرف الطائفية - وعلمنة الحياة، ويرتبط عنده وجود الإسلام واستمراره في الحياة بإنجاز هذه المهمة.
إن التجارب التي قدمها أركون لا تنهض دليلا ولا مسوغا على دعواه، كما أن مسوغ الطائفية والأقليات المسيحية معيار غير علمي وغير ديمقراطي - بالمفهوم الثقافي والسياسي - وغير مقنع حتى للمسيحيين أنفسهم وللطوائف الدينية الأخرى. وأعتقد أن التعايش لا يكمن في الإلغاء، وإنما في الاحتفاظ بالخصوصيات والبحث عن المشتركات، وهي نقطة خلاف بينه وبين الجابري الذي رفض تعميم المشكلات الخاصة بكل قطر عربي.
ويؤكد على ضرورة علمنة التعليم في المجتمعات العربية والإسلامية ويطالب بإلغاء البرامج التربوية السائدة والطرق اللاتاريخية والعقائد التبشيرية لتعليم الدين في المدارس العامة وإحلال تاريخ الأديان والأنثروبولوجيا الدينية محله، وتدريس تاريخ الأنظمة التيولوجية بصفتها أنظمة ثقافية، وليس بصفتها أنظمة من العقائد المطلقة التي يستبعد بعضها بعضا
54
في أفق الأنسنة وتخريب الأديان وتشريع للامعنى واللعب الحر والرقص على الأجناب والقول باللانص، كما ترى التفكيكية. هذا هو العائد المعرفي لأركون ومن سار على دربه من الاتجاهات في الفكر العربي المعاصر.
وفي سياق تعزيز اختياراته «العلمنة» ينبغي التأكيد على نقطتين أساسيتين في رأيه:
الأولى:
تتعلق بالدولة الإسلامية، وأنها كانت في الأساس علمانية معتمدا على رسالة ابن المقفع «رسالة الصحابة» التي يجد فيها مسوغا تاريخيا في تثبيت توجهاته.
أما الثانية:
فمتعلقة بالشريعة، ويحاول أن يجيب عن سؤال طرحه: كيف حصل أن اقتنع ملايين البشر أن الشريعة ذات أصل إلهي؟ للإجابة عن السؤال احتمى أركون كعادته بالمنهج التفكيكي - التحليلي «العلمي» - المحرر في كتابة التاريخ، فيرى أن الشريعة حسب الرواية الرسمية قد «تشكلت تدريجيا بفعل ممارسة القضاة الذين كان عليهم مواجهة حل مسائل المسلمين المتفرقة والعديدة (...) تنتسب هذه النصوص الفقهية القضائية إلى أربعة رؤساء: مذهب مالك بن أنس، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهذه هي المدارس الأرثوذكسية التي تقاسمت العالم الإسلامي.»
55
لكن الأمور في نظره جرت على غير العادة، وإن «عمل القضاة كان يستوحي أساسا الأعراف المحلية السابقة على الإسلام، والتي كانت تختلف حسب الأماكن، وكان الرأي الشخصي للقضاة هو الذي يفصل في المسائل المطروحة في نهاية الأمر، أما الرجوع إلى القانون القرآني فلم يحدث إلا بشكل متقطع، وليس بشكل منتظم كما حاولت الرواية الرسمية أن تشيعه.»
56
فجاءت استنتاجاته على شاكلة الاستنتاجات الاستشراقية للرواية الرسمية التي وضعوها تحت ما يسمى محك النقد التاريخي، أمثال غولدزيهر وشاخت، وأن الأشياء في نظرهم قد جرت بشكل مختلف وأن الرواية التي اخترعها التراث ليست إلا وهما، وذلك من أجل إسباغ الصفة الإلهية على قانون أنجز داخل المجتمعات الإسلامية وبشكل وضعي كامل.
57
فالمبادئ الأربعة التي اعتمدها الإمام الشافعي في أصوله التشريعية (القرآن، الحديث، الإجماع، القياس) غير قابلة للتطبيق، فقراءة القرآن قد أثارت اختلافا تفسيريا كبيرا. وأما الأمر مع الحديث فإن القضية أشد عسرا.
58
فأركون لم يستوعب - كما يقول المسيري - الدرس المعرفي الإسلامي والمسافة الفاصلة بين المطلق والنسبي وأن ما حدث في التاريخ لا يمكن أن يفسر وفق نمطية معرفية ومنهجية أحادية التصور والرؤية، ووفق نماذج معرفية مناقضة للنموذج المعرفي الإسلامي القائم على معايير تعترف بالكلي مقابل الجزئي، ويظل هذا التفسير الذي قدمه أركون للمعطيات السابقة بنماذجه المعرفية - الفرنسية بالضبط - وبثوابت كلية ونهائية مستمدة من النموذج المعرفي العلماني الشامل
59
للحضارة الغربية ونهاياتها الفكرية والمنهجية والفلسفية التي لا تقوى على أن تكون معيارا عاما ووسيطا مرجعيا تفسر كل الأحداث. (1-4) أدوات وآليات الاشتغال المنهجي في مشروع محمد أركون
نرصد في هذه النقطة أهم الآليات والأدوات المنهجية التي اشتغل عليها أركون في مشروعه، والمرجعيات التي اعتمدها في بناء منظومته المفاهيمية؛ لأن معرفة الخريطة المرجعية، وأدوات الاشتغال من شأنها أن تعين الباحث على معرفة كثير من خبايا الموضوع، والتحكم في مفاتيح النقد والتحليل والتجاوز، وتحقيق الاستقلال الفكري والمنهجي الذي نتوخاه، دون الارتهان لأدوات عبرت عن نفسها في مراحل تاريخية، وعن قضايا وإشكالات مجتمع ناهض وفق نسقية حضارية معينة هو المجتمع الغربي.
إذا كان الجابري قد حدد مداخل ومحددات لرؤيته المنهجية، وشواغله الفكرية، وقضايا الفكر العربي المعاصر، وخريطة عمله «العقل العربي»، وآليات اشتغاله مستعينا بالمرجعيات التي تحدثنا عنها في الفصل الأول، فإن الأستاذ محمد أركون - رحمة الله عليهم جميعا - قد اختار هو الآخر مجال اشتغاله «العقل الإسلامي» - على اختلاف في المسافات بين المشروعين - وأدواته المنهجية تقترب من أدوات الجابري أحيانا، وتبتعد عنها في الأفق المعرفي الباحث عنه. أدوات يرى ضرورة استيعابها وهضمها لولوج عالم الحضارة المعاصرة، وتجاوز حالات التيه والتخلف العلمي والمعرفي للعرب والمسلمين.
فإن كانت هذه الأدوات أكثر وضوحا عند الجابري من خلال المقدمات التي دبج بها مشروعه، فإن الأمر يختلف في مشروع أركون، فهي لا تبدو واضحة إلا من خلال تتبع مسار أفكاره، وترقب خطوات بحثه، مع ما يطبع عمله من تكرار في الأفكار والمعطيات حتى لا تكاد تميز بين هذا الكتاب أو ذاك، إلا من خلال العنوان وبعض الجزئيات، لكن نستطيع أن نحدد المرجعية الكبرى لمنهجياته وأدواته ومحددات الرؤية عنده، إنها مرجعية الحداثة، وهي الأرضية التي فضل الانطلاق منها؛ فهي الخيار الأفضل عنده والقاسي لأننا - يقول: «مجبرون منهجيا على الانطلاق من ساحتها العقلية والفكرية؛ لأنها أضافت مشاكل جديدة لم تكن تطرح سابقا، وافتتحت منهجيات جديدة تتيح لنا توسيع حقل المعرفة دون إدخال تقنيات دوغمائية تعسفية. هذا هو الشيء الجديد فعلا، وهنا يكمن جوهر الحداثة.»
60
ويحدد موقفه المبدئي والمنهجي من خلال تأثيث مشروعه بكل السلالات المفاهيمية والمنهجية ، التي أنجبتها تجربة الحداثة الغربية، ويدعو إلى إنزالها وتطبيقها إلى أبعد الحدود، وكسر الحواجز بين الحقول المعرفية، ودون اعتبار للخصوصيات، بل ويراهن عليها في تحقيق وإنجاز مهام استعجالية داخل الفكر العربي الإسلامي، من خلال تأسيس تاريخ منفتح وتطبيقي له، فكل ما أنجزه وينجزه يسير في هذا الاتجاه الطويل والصعب ومنفتح على علوم الإنسان، ومناهجها وتساؤلاتها كما هي ممارسة عليه اليوم في الغرب.
61
لهذا نجد أن أحد مرتكزات الفعل المنهجي والنقدي التي استند إليها تتمحور حول «زعزعة المشروعية الدينية والسلطة العقدية، من أجل العمل على إحلال المشروعية البشرية مكانها، وفرض قطيعة حاسمة بين ما يسميه بالذروة الإلهية للسيادة من جهة وبين الذروة البشرية، التي تقوم على السيادة الشعبية من جهة ثانية.»
62
لا يعتمد أركون على منهج واحد بعينه، بل يختار المنهجية المتعددة الاختصاصات يجمع فيها بين خليط من العقائد والأيديولوجيات الفكرية؛ لأنها تستجيب لطموحاته، حيث يتداخل التحليل الاجتماعي والتاريخي والمنهجية الألسنية والأنثروبولوجية والتفكيكية والمنهجية الحفرية ... لكنه تداخل أضر لا شك بمشروعه وجر عليه كثيرا من الانتقادات المنهجية والعلمية.
لنتحدث قليلا، وبشيء من التفصيل عن هذه المنهجية المتعددة الاختصاصات. (أ) المنهجية التاريخية
تتيح هذه المنهجية للباحث التوصل ل «فهم أفضل للماضي وإرساء قواعد صلبة لفكر وممارسة تاريخية، تكون أكثر احتراما ومراعاة للواقع الحقيقي»،
63
وتعين على دراسة ما حدث بالضبط في تاريخ العرب والمسلمين، فهي وحدها - يقول - القادرة على رصد هذه التحولات بموضوعية نادرة ف «أنا [الكلام لأركون] أنظر إلى مجموعة الأحداث كما حصلت في التاريخ بالضبط، وأراقبها كما يراقب العالم الجيولوجي الهزة الأرضية»،
64
دون تدخل الميولات والعواطف، وترك الأحداث والأشياء تتكلم بحرية.
وهو ما يقصده بالروح المستقلة نحو الأحداث، ولافتتاح هذه الروح يتطلب نضالا طويلا ومريرا للذات ضد الذات، والتمرين على المنهجيات، وكيفية استخدام المفاهيم والأدوات السائدة في مختلف العلوم، وتحرير العقل الإسلامي من كل التفسيرات الأيديولوجية التي رافقته منذ أن دخلت الظاهرة القرآنية مسرح التاريخ، التي لم تقدم حلولا واضحة وقاطعة لكل المشاكل. فهو يصر ويلح على اتباع المنهجية التاريخية، قبل شيء آخر؛ لأن لها القدرة حسب رأيه في كشف ما حصل، وهكذا نجدها تحتل مكانة محورية في مشروعه العام «نقد العقل الإسلامي».
65
ويفضل هذه المنهجية على النقد المنهجي الفلولوجي الذي لا يزال يصر عليه التحليل الاستشراقي في دراسة التراث العربي الإسلامي؛ لأنها تهمل في نظره الاهتمام بالخيالات والأساطير والأحلام التي رافقت الأحداث داخل النص (الوحي). إنها تهمل ما يسمى بالسيكولوجيا التاريخية.
66
تتيح أولوية هذا النقد التاريخي لأركون الوصول إلى مرحلة ما قبل الإسلام، و«تحرير الفكر من كل أشكال التصور والإدراك التي فرضتها الأدبيات الإسلامية، التي رمت في ظلمات الجهل والجاهلية كل جوانب المجتمع العربي السابق على الإسلام»،
67
وإلى جانب هذا التحليل وهذه المنهجية يجيء «التحليل الأنثروبولوجي لكي يقوي ويوسع ويعمق من نتائج التحري التاريخي والدراسة التاريخية».
68
الغرض هو تحليل التجربة الدينية واستكشاف مجال التقديس في التاريخ، فكل الدراسات التي أنجزت لم تستطع أن تصل إلى هذا العمق التاريخي، وظلت سمتها الأساسية البعثرة والتفتيت؛ ولهذا يحتاج هذا الواقع «دراسة آنية بنيوية تمفصلية تاريخية تبين لنا منشأ هذا التقديس».
69
فالنص المقدس (الوحي الإسلامي) في نظره يشترك مع النصوص كافة في انتمائها وخضوعها جميعا لمنطق التاريخ، فهي من «التاريخ ولدت وفيه تقدست وبه انفعلت وفيه أثرت. فالتاريخ مجالها، وفي التاريخ أسرارها ومكامنها، ومن التاريخ أساطيرها وأسطورتها. كما أن في العلوم التاريخية والإنسانية الحديثة مفاتيحها.»
70
فكانت مهمته تتركز في الشروع بكتابة تاريخ التقديس عند العرب، ثم بشكل أوسع لدى كل المجتمعات التي اعتنقت الإسلام، وذلك ضمن تشكيل أنثروبولوجيا دينية وثقافية
71
فينتهي بنا التحليل إلى أسئلة غير مألوفة في تاريخ التقديس العربي وغير مفكر فيها. (ب) المنهجية التفكيكية
يفسر هاشم صالح هذه الآلية المنهجية بأنها «تعرية آليات الفكر الذي ولد النظريات المختلفة والتشكيلات الأيديولوجية المتنوعة والتركيبة الخيالية والأنظمة الإيمانية والمعرفية، وكل ذلك من أجل نزع البداهة عنها وتبيان منشئها وتاريخيتها وبالتالي نسبيتها.»
72
فالانفتاح على الحداثة ونتائجها وعقلانيتها لن يتم بشكل جيد وفعلي ودائم وناجح إلا بتفكيك مفهوم الدوغمائية والأرثوذكسية الملازمتين للتراث العربي الإسلامي، فالتزام هذه المنهجية من شأنه أن يفتح سراديب في هذا الفكر كانت مغلقة منذ القرن الرابع الهجري ويؤهله للانفتاح على منجزات الحداثة، فمرحلة التفكيك عنده «مرحلة استكشافية داخلية للتراث لم يسبق لها مثيل».
73
ومن خلال هذه المنهجية - يقول هاشم صالح - استطاع أركون أن يحدث زحزحات عديدة لا زحزحة واحدة، داخل ساحة الفكر الإسلامي العربي، خلخلة وزحزحة الأسس والمنطلقات والتصورات الراسخة في الذهنية الإسلامية من أن الإسلام لا يفصل بين الروحي والزمني. وأثبت بجهده الخاص، ومن خلال هذه المنهجية، ضعف هذه الاعتقادات، وزحزحة للذهنية الاستشراقية التي اعتمدت المقولات نفسها في دراسة التراث العربي الإسلامي، متأثرا بأعمال هايدغر ودريدا رائدي المدرسة التفكيكية، لكن دون أن يقدم براهين على ضعف هذه الاعتقادات. (ج) المنهجية الأركيولوجية
لا تؤدي التفكيكية أدوارها إلا من خلال تعزيزها بالمنهجية الحفرية الأثرية للوصول إلى الحدث التأسيسي الأول للعقل الإسلامي ف «النص القرآني قد ولد عشرات التفاسير والأدبيات التأويلية منذ ظهوره وحتى اليوم (...) وتراكم التأويلات يشبه تراكم الطبقات الجيولوجية للأرض فوق بعضها البعض، فنحن لا نستطيع أن نتوصل إلى الحدث التدشيني الأول لهذا العقل في طراوته وطزاجته الأولية، إلا إذا اخترقنا كل الطبقات الجيولوجية المتراصة، وكل الأدبيات التفسيرية التي تحجبه عن أنظارنا.»
74
وهي المنهجية ذاتها التي شغلها ميشيل فوكو من خلال كتابه: «في الكلمات والأشياء» (1966م) وأركيولوجيا المعرفة (1969م)، والضجة التي أحدثها في أوروبا ضد المنهجية التقليدية الديكارتية، فسار أركون في المسار ذاته، مع تعديلات واختلاف في الموضوع، لكن دون إجراءات نقدية صارمة فتركها مائعة، كما تأثر بمؤسس مدرسة الحوليات الفرنسي لوسيان فيفر، الذي يعتبره إحدى الحلقات الكبرى التي فتحت الطريق أمامه على صعيد المنهج، واعتبر مدرسته ومنهجه بمثابة الصاعقة أو الوحي الذي نزل عليه، يقول: «ولولا مجيء لوسيان فيفر من باريس وإلقائه لتلك المحاضرة العصماء وحضوري إياها بطريقة تشبه الصدفة لربما بقيت نائما كغيري دون أن أحس بشيء.»
75
لكن هذه المدرسة لم تستمر في إشباع طموحه المنهجي، بالرغم من إنجازاتها الضخمة فتطرفت في اتجاه معاكس، فراح يبحث عن أرضية منهجية جديدة تلبي هذا الطموح، ولهذا تحظى منهجية علم النفس التاريخي باهتمام خاص عنده، لأنها «تركز على الخيال والمخيال والأسطورة والوعي الجماعي؛ كعامل أساسي ومحرك في التاريخ الإسلامي بالإضافة إلى الاقتصاد والماديات.»
76 (د) المنهجية الألسنية السيميائية
يفضل أركون الاشتغال بالنقد الألسني في تحليل النص الديني «الوحي»، هذه المنهجية التي كانت صاعدة بقوة في الستينيات مع أسماء وازنة في هذا المجال، أمثال فرناند دو سوسير وجاكبسون وبنفنست، وتكتسي عنده أهمية كبرى، وخاصة بحكم اشتغاله المستمر على النصوص القديمة خصوصا النص القرآني، لهذا تعينه على كيفية القراءة من خلال تفكيك لغته ألسنيا يقول: «[و]لكي أعرف كيف تشكل، ولكي أسائله على صعيده الأول المباشر: صعيد اللغة العربية والإسلامية الكلاسيكية، ولهذا السبب أقول: إن لعلم الألسنيات أهمية عظمى فيما يخص مجالنا المعرفي، مجال تاريخ الفكر الإسلامي، ومن يقوم بكتابة تاريخ التفسير في الإسلام، يجد فائدة كبيرة في المنهجية الألسنية.»
77
فالهدف من هذا الاختيار المنهجي هو تحرير القارئ من هيبة النص الديني، ومن سلطته المتعالية فوق الزمان والمكان؛ لكي يتساوى مع أي نص آخر بشري يخضع لكل التعديلات وتجريده من قدسيته، وإدخاله في ظروفه التاريخية، ليصل إلى ما كان يخطط له، أنسنة الدين، وإرجاعه إلى الإنسان وإحلال الأساطير محله.
يشكل «التحليل السيميائي عند أركون رياضة عقلية ومران منهجي يحمل صاحبه على التحلي بالنزاهة والموضوعية والانسلاخ عن رواسب الذات، حتى تكون المسافة بين المؤول والنص على مستوى من البعد والتناهي لا يسمح بإسقاط الأحكام التيولوجية»
78
على النص المؤول، فهو يمثل عنده «فضيلة ثمينة جدا خصوصا أن الأمر يتعلق هنا بقراءة نصوص محددة كانت قد ولدت وشكلت طيلة أجيال عديدة الحساسية والمخيال الجماعي والفردي، وعندئذ نتعلم كيف نقيم مسافة منهجية اتجاه النصوص، أو بيننا وبين النصوص المقدسة دون إطلاق أي حكم من الأحكام التيولوجية التي تغلق باب التواصل مع المؤمنين فورا».
79
و«تنزع القراءة الألسنية عند أركون بإفراط إلى إسقاط خصائص النص الأدبي البشري على النص الموحى، وإلغاء كل مميزات النص الموحى، حتى باتت خصائص المرسل مصدر النص متطابقة عنده في الحالتين، وحيث إن النص الأدبي الذي أنتج في سياقات معينة يصعب إيجاد الانسجام في متنه، إذا استمر تأليفه ردحا من الزمن، نظرا إلى فعل الزمان والمكان في الإنسان المبدع، فكذلك الشأن في القرآن.»
80
فإذا كان الواقع الغربي قد قبل هذا المغامرة الفكرية في لحظة من لحظاته التاريخية فإن «الواقع العربي يرفض هذا الترف الفكري، [وتلك المغامرة] يرفض أن تسحب مظلة الحداثة، بمفاهيمها الغربية والمدارس والمشاريع النقدية التي أفرزتها، على النصوص الدينية بصفة محددة لأنسنة الدين (...) ويمثل خطأ منهجيا في استخدام أدوات نقدية مثيرة للجدل في تحليل نصوص غير أدبية (...) ويحدث فوضى دلالية داخل واقعنا الثقافي الحضاري.»
81 (ه) الزحزحة المنهجية
لمزيد من التشكيك والهدم، يلجأ أركون إلى هذه الآلية، ويفسر فائدتها في تعرية الآليات السوسيولوجية الحقيقية التي حافظت في كل مكان على التعارض الأولى الذي ذكره القرآن؛ أي التناقض والتضاد الذي أنجزه بين المجتمعات «المتوحشة» والفكر «المتوحش» من جهة وبين المجتمعات المدجنة والإسلامية التي أرادها الله وحماها وقادها [جاهلية/إسلام].
82
في محاولة توسيع دائرة النقاش حول الإشكالات القديمة، وإخراجها من إطارها الضيق، وإما تغييرها كليا وطرح إشكالية أخرى عن طريق النظر للمشكلة من زاوية جديدة واستخدام منهجية جديدة، ورفع الستار عن الأصول الخادعة التي تختبئ وراء الشعارات «الدينية» المستبطنة على هيئة حقائق منزلة.
83
فزحزحة هذه اليقينيات يؤسس في نظره لمساحة أوسع للحوار بين الأديان والأصوات الحرة الأخرى، ويبقي دائرة التواصل الكوني واسعة منفتحة. وهذه مهمة الأنثروبولوجيا السياسية لكن أركون - وكعادته دائما - ينتظر من يشغل هذه الآليات، وإعادة تنشيطها من أجل دراسة الفكر الإسلامي وتجديده، ولا يعادل هذه الزحزحة إلا الشك الشامل والهدم الكلي للثوابت والأصول حتى نتواصل.
وأعتقد أن الأمر لا يسير وفق هذه المنهجية المعكوسة، وليس بالسهولة التي يعتقدها، فالحوار والتواصل لا يتم إلا على أساس ثوابت واضحة وأصول واعتقادات راسخة، قد لا نختلف مع أركون على مستوى مفهوم الآلية المنهجية وأهميتها، لكن موطن الاختلاف في وظيفتها التي أراد أن تؤديها، والمهام المنوطة بها لإنجازها، وهي معضلة المفاهيم المستعارة وعسر انسيابها في مجال تداولي مخصوص ومغاير. (و) المنهجية السلبية
يوظف أركون هذه المنهجية في «دراسة كل ما حذفه العقل المؤسس والمؤسس على هيئة إطلاقية نهائية من ساحة اهتمامه راميا إياه في مهاوي البدع والضلال. إن الكشف عن هذه القارة المجهولة من تاريخ الفكر العربي الإسلامي يمثل اليوم ضرورة فكرية ومنهجية قصوى من أجل «انطلاقة» الفكر العربي المعاصر»،
84
أي دراسة اللامفكر فيه في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وإثارة بعض الإشارات المجهرية التي وقعت في تاريخ الأمة، وإحياء بعض الاتجاهات المحذوفة والمطموسة، والمضطهدة والمنسية - حسب اعتقاده - في إطار التحقيق التاريخي متأثرا بجوزيف فان هيس في الدراسة التي خصصها لابن الرواندي المنبوذ، ويدعو إلى تعميم هذه المنهجية على كل تاريخ العقل الأرثوذكسي منذ القرن الرابع الهجري إلى اليوم.
85
يريد أن يجعل تاريخ الأمة تاريخ مروق وخروج عن الثوابت والأصول، وإعلان العصيان على المقومات الذاتية الحضارية للأمة، يوظف هذه المنهجيات كمنطلقات في إطار تأسيس ما سماه ب «الإسلاميات التطبيقية» التي استوحاها من كتاب «الأنثروبولوجيا التطبيقية» لروجيه باستيد، متجاوزا الإسلاميات الكلاسيكية [المنهج الاستشراقي]، التي تناولت الفكر الإسلامي في القرن 19م، والثغرات المنهجية والمعرفية لهذا المنحى التحليلي، فهي في غالبها دراسات اصطبغت بصيغة تبشيرية كولونيالية تعكس جهد نظرة خارجية ورؤيتها وتسبح في المحيط العام لهذه العرقية المركزية.
86
ويعتبرها نقطة الانطلاق الإجبارية لكل تحليل، ويبقى باب هذه المنهجية مفتوحا في وجه الجميع، ليس بالضرورة أن يكون الباحث فيها مسلما، والمهم أنه يكون منتميا إلى قدر ومصير تاريخي محدد، بغض النظر عن المعتقدات والانتماءات، أي إنجاز دراسة مجردة عن التحيزات الأيديولوجية والحرص على التحقيق «العلمي الموضوعي».
ويحدد أركون مهام هذه المنهجية دون ماهيتها - فهو لم يؤسس لهذا العلم، وإنما اكتفى بتركيبه من مصطلحين متناقضين مرجعيا ومعرفيا كما يقول المختار الفجاري - في إعادة المفاهيم وتعريفاتها ونقدها نقدا فلسفيا يحررها من الحمولات الدينية والتفسيرات الإيمانية العتيقة
87
وخلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي محرر من المحرمات العتيقة والميتولوجيات البالية، ومحررا من الأيديولوجيات الناشئة حديثا، كما تتجه هذه المنهجية إلى دراسة الإسلام ضمن منظورين متكاملين:
88 (1)
كفعالية علمية داخلية للفكر الإسلامي، تستبدل التراث الافتخاري والهجومي الطويل الذي ميز موقف الإسلام من الأديان الأخرى بالموقف المقارن. يتطلب الأمر هنا جهدا كبيرا من أجل تحرير هذا الفكر، طبقا للفكرة الباشلارية التي تقول بأنه لا يمكن أن يتقدم الفكر العلمي إلا بتهديم المعارف الخاطئة الراسخة. (2)
كفعالية علمية متضامنة مع الفكر المعاصر كله، إن الإسلاميات التطبيقية تدرس الإسلام ضمن منظور المساهمة العامة لإنجاز الأنثروبولوجيا الدينية.
يخضع أركون بهذا العمل القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن والتحليل الألسني التفكيكي وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وتحولاته وانهدامه، لمواجهة ما يسميه بفرضيات الموقف الإيماني أو اليقينيات العدوانية للخطاب الأيديولوجي بالمسار «المضمون للفكر العلمي».
89
كما تسعى أيضا إلى الكشف عن العلاقة المتبادلة ما بين المصير التاريخي للمجتمعات العربية الإسلامية، وتقدم الحداثة في الغرب كانت قد تجاهلتها الإسلاميات الكلاسيكية، واكتفت بالدراسة الإيجابية لتاريخ الإسلام
90
فيلجأ إلى المنهجية السلبية ضمن منظور الإسلاميات التطبيقية على إنجاز اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه، وتبقى هذه المسلكية المنهجية هي القادرة في نظره على الإمساك بمعضلات المجتمعات العربية، وإنتاج خطاب يلائم المرحلة، وعلى طرح مشكلات حقيقية مرتبطة بمسار العرب الإبستيمولوجي، مسار مرتبط أيضا بالاكتشاف المتدرج للحداثة وبتساؤلاتها حول المنسي، والمتنكر واللامفكر فيه ضمن ماضي العرب، ويعتبر موضوع «الإسلام والعلمنة» إحدى الإشكالات الكبرى التي تعالجها الإسلاميات التطبيقية وإعادة تنظيم وترتيب العلاقة بين المفهومين، وتأسيس إطار نظري فكري يتيح مواجهات كل الصعوبات والمشاكل المعيشة في الواقع العربي المعاصر.
لقد راهن محمد أركون في التمكين لهذه الآليات في مجال الثقافة العربية الإسلامية للخروج من الانغماس في الحداثة الاستهلاكية، إلى الانغماس في الحداثة الفكرية والعقلية، لكنه رهان لم يلج إليه من بابه الطبيعي، وهو تأكيد أسبقية الذات العربية الإسلامية بمفاهيمها الحضارية ومقولاتها وثقافتها المنهجية على الغيرية التي جعلها المقياس والأولوية في إنشاء هذه الحداثة.
كما أن هذا التعدد المنهجي الذي نصادفه في متنه الفكري فبدل أن يتحول إلى عامل قوة، تحول إلى عامل ضعف في مشروعه، فالخلط العقائدي لهذه المناهج حول النص الإسلامي - الوحي والتراث - لا شك أنه أضر بمساره التجديدي، فلم يستطع معه تحقيق وإنجاز عملية الإبداع التي راهن عليها، فإذا «كان الاعتداد بالزاد العلمي والمنهجي محمودا عند البعض ومنبئا عن استقلال الكيان، وتفرد الشخصية، فإنه في قراءة أركون جرحة موجبة للقدح، لا مزية جالبة للمدح».
91
فالقارئ لخطابه النقدي «لا يكاد يتبين خطابه المستقل الذي يتميز به بين الخطابات الأخرى، لكثرة اللغات التي يتحدث بها، والمناهج التي يستخدمها، والأعلام الذين يتقمصهم، ومن فرط ما يحشده من المفاهيم والأدوات»
92
لهذا كان الشغل الشاغل لأركون وهمه الدائم هو «جلب برامج الحداثة الفكرية والإعلان عنها والترويج لها والتوصية بالاستفادة منها. ومن هنا كان الرجل مستوردا ماهرا وعارضا جيدا، ولم يكن صاحب حدس أصلي ورؤية ثاقبة»
93
دون أن يعني ذلك غمط حق الرجل في بعض الإشارات الإيجابية، والجدة التي جاء بها مشروعه، كما أومأ إلى ذلك طه عبد الرحمن.
لكن لم يكن ذلك كافيا في رأي نقاده من الشاكلة الثقافية نفسها، الذين يرون في المشروع خروجا عن بعض القواعد المنهجية.
فإذا كان «هاجسه: الجدة والتنوع إلى حد أن تآليفه تكاد تكون معرضا للحداثة الفكرية على تعدد مجالاتها واختلاف مذاهبها ومناهجها، بيد أنه إذا كانت مواكبة كل تطور يحصل في مجال العلم والفكر أمرا مطلوبا ومحمودا فإنه لا ينبغي للجدة أن تطغى على الأصالة، ولا التعدد أن يطمس الوحدة. وبكلام آخر: لا ينبغي للانفتاح على الجديد والمتعدد والطارئ والمتحول أن يتم على حساب الصرامة الفكرية. فلا بد لكل عمل فكري أن ينطوي على قدر من الوحدة والترابط، ولا بد لكل مبحث من أن يراعي شرائط الوثوق والإحكام. نقول ذلك [الكلام لعلي حرب] لأننا نلحظ أن قراءة أركون العلمية تفتقر إلى الوحدة المنهجية.»
94
بل أكثر من ذلك يعتبر علي حرب استنجاد أركون بالحداثة وإفرازاتها لا يكفي لكي تكون القراءة التي يقدمها منتجة أو علمية. صحيح أنه لا يمكن تجاوز الإمكانات المنهجية والمعرفية التي تقدمها الحداثة، لكن الاعتداد بها كليا واستخدامها ليس دليلا على أنها القراءة الأصح.
95
لهذا فإن قراءة أركون، من خلال الاختيارات التي استقر عليها، لا تبدو فيها أصالة الإبداع والاستقلال المسئول المطلوب من المثقف العضوي داخل مجتمع يعاني من مركبات الأزمة؛ ويسعى إلى تجاوزها، رغم تأكيداته المتكررة حول الإبداع، لكنه سقط في فخ التكرار، دون أن تكون له لغته التحليلية المستقلة المعبرة عن الإشكالات الحقيقية التي يسعى إلى معالجتها؛ لذلك نلمس عنده «تضخما في الأجهزة والأدوات التي يستخدمها هناك فعلا آلية مفهومية جبارة - ولكن يتم ذلك على حساب لغة أركون وخطابه - ذلك أن لغته تكاد تضيع بين اللغات الأخرى».
96
هذه بعض الانتقادات القاسية التي طالت متن أركون ومنهجيته المتعددة المداخل، مما يعبر عن خلطة هجينة من المناهج ضاعت فيها ومعها لمسات الإبداع التي كنا في أمس الحاجة إليها لتجاوز أعطاب التخلف ومركبات التأخر. (2) المبحث الثاني: اختبار المفهوم في التداول الثقافي المعرفي والاجتماعي العربي المعاصر
اختبار تداولية المفاهيم وترحالها من مجال إلى آخر أصبح علما قائما بذاته في كل العلوم والحقول المعرفية. وفي سبيل تحقيق هذا الغرض أنشئت المختبرات العلمية في كل التخصصات لوضع عينات من المفاهيم المرتبطة بتخصصاتها تحت مجهر الاختبار والنقد والتمحيص والتشريح - ليس بالمعنى العضوي للمفهوم، إنما بالمعنى التحليلي النقدي التفكيكي - والوقوف عند مسيرتها ومشاقها ومتاعبها وأوزارها وذنوبها المعرفية والمنهجية، ليس في عالمنا العربي الإسلامي، بل في عالم الأمم والحضارات قديما وحديثا ومعاصرا. بل تكاد هذه القضية تطبع أغلب الأعمال الفكرية لكبار المفكرين بعناوين واضحة تبرز مركزية المفاهيم في كبريات المشاريع الفكرية، والتحكم في مساراتها المنهجية ومآلاتها في الإنسان والطبيعة.
ويعتبر مفهوم العلمانية واحدا من المفاهيم المركزية التي شغلت مساحة واسعة في الفكر الغربي منذ وقت مبكر، وبلغ ذروته خلال القرن الثامن عشر الميلادي، وما يزال إلى اليوم والشيء ذاته في الفكر العربي المعاصر، وفي وعي النخب العربية، بل دارت حوله كثير من المعارك الثقافية، والمعرفية، والاجتماعية والسياسية، وتشابكت النخب العربية فيما بينها حول تداولية المفهوم، وقدرته على تثبيت وجوده المعرفي والثقافي، من خلال جدل التراث والحداثة، ومفاهيم التجاوز والقطيعة، والاستمرارية، حين دفع بمنظومته الفكرية والنفسية في اتجاه التدمير الممنهج لمقومات العقل العربي الإسلامي، وتخريب دفاعاته ضد التبديل والتغيير.
فتحولات المفهوم في الفكر العربي المعاصر مؤشر على صعوبة التداول، وعدم الرضا الذي قوبل به في الذاكرة العربية الإسلامية، بل في أوساط ثقافية لها اعتبارها المقدر حين رأت في تداولية المفهوم قلبا للحقائق وتشويها للمشكلات الحقيقية للعرب، لكن قبل الحديث عن تداولية المفهوم وإجرائيته في الفكر العربي المعاصر، نقف عند المفهوم في موطنه الأصلي، ليس من باب التأريخ، لكن من باب تحولاته وموقف التيارات الفكرية منه، قبل أن نناقش موقعه في فكرنا المعاصر، وموقف تياراته منه. (2-1) اختبار تداولية المفهوم في الفكر الغربي
ما ميز تاريخ الأفكار في الغرب كما تؤكد أكثر من دراسة،
97
أو أغلبها هو هذا التنوع والتعدد في المدراس الفكرية التي نبتت على تربته الجغرافية، تنوع صاحبته قدرة هذه المدارس على مراجعة ما تنتجه من مفاهيم وأفكار ومناهج، لهذا «يلاحظ أن مراجعات العلمانية والحداثة في العالم الغربي بلغت أبعادا لربما لم تصلها بين العلمانيين العرب»
98
لأسباب ذات ارتباط بطبيعة تلك المدارس واختلاف انتماءاتها المرجعية العقدية، وأخرى ذات ارتباط بخلاصات ما أنتجه الغرب ذاته، من مواقف واتجاهات معادية للإنسان واختياراته الكبرى.
وقد نال مفهوم العلمانية، ومشتقاته في الغرب حظه من المراجعة، والنقد الإبستيمولوجي، بعد أن ظهرت نتائجه السلبية على مستويات متعددة من حياة المجتمعات الغربية، لهذا فإن الكشف عن هذه المراجعات لا شك أنه يرينا حجم ما تحدثه المفاهيم في كينونة الإنسان أفرادا وجماعات.
تأتي في مقدمة هذه المراجعات أعمال المفكر الأمريكي اليهودي إرفنج كريستول الذي يصف الرؤية العلمانية بالرؤية الدينية لأنها «تحتوي مقولات عن وضع الإنسان في الكون وعن مستقبله لا يمكن تسميتها علمية، ذلك لأنها مقولات ميتافيزيقا لاهوتية. وفي هذا الدين [العلماني] يصنع الإنسان نفسه أو يخلقها [تأليه الإنسان]، كما أن العالم ليس له معنى يتجاوز حدوده، وبوسع الإنسان أن يفهم الظواهر الطبيعية وأن يتحكم فيها وأن يوظفها بشكل رشيد لتحسين الوضع الإنساني. ذلك أن المقدرة على الخلق، التي كانت من صفات الإله، أصبحت في المنظومة الدينية العلمانية من صفات الإنسان، ومن هنا ظهرت فكرة التقدم.»
99
وقد وصلت هذه العلمنة إلى مستويات تجريد العقائد الدينية من مقوماتها، وحولتها إلى نوع من المهدئات النفسية لمواجهة تحديات العقيدة الجديدة [العلمانية]، لكن رغم هذه الهيمنة التي مارستها على جميع المؤسسات، فإن إرفنج كريستول يقدم مقدمات فلسفية مفادها أن هذه العقيدة بدأت تفقد مصداقيتها بالتدريج، ويعود ذلك في رأيه إلى سببين اثنين:
100 (أ)
بإمكان الفلسفة العقلانية العلمانية أن تزودنا بوصف دقيق للمسلمات الضرورية لتأسيس نسق أخلاقي، ولكنها لا يمكن أن تزودنا بهذا النسق نفسه. فالعقل قادر على تفكيك الأنساق الأخلاقية، ولكنه ليس قادرا على توليدها، إذ إن الإنسان يقبل الأنساق الأخلاقية من منطلق إيماني غير عقلي، والعقل المحض لا يمكن أن يتوصل إلى أن جماع المحارم خطأ (...) فظهرت أجيال قلقة لا تجد لنفسها مخرجا من الوضع غير الطبيعي الذي صنعته العقيدة الجديدة، لهذا يتحدث كريستول عن البربرية العلمانية. (ب)
لا يمكن أن يكتب البقاء لمجتمع إنساني إن كان أعضاؤه يعتقدون أنهم يعيشون في عالم لا معنى له. والواقع أننا منذ القرن التاسع عشر - يقول كريستول - نجد أن تاريخ الفكر الغربي رد فعل الإحساس بأن العلمانية أدت إلى ظهور عالم لا معنى له، وهي تحاول أن تحل هذه المشكلة، بأن تؤكد للإنسان أنه يسيطر على نفسه وعلى الطبيعة من خلال الاستقلال والإبداع، وهو أمر يراه مجرد خداع للنفس.
فالتيارات التي ظهرت في الغرب لم تعد تؤمن بالعقيدة الإنسانية [الهيومانية] من التفكيكية إلى ما بعد الحداثة التي أعلنت موت الإنسان. وهو اعتقاد بدأ يأخذ موقعه في المجتمع الغربي، فالانتماء الديني بدأ يتزايد في هذا المجتمع، وتتسع مساحته، بعد أن شعر بالحرمان وفقدان المعنى، وظهور علامات مفارقة لهذا المعنى.
ويشبه هذا المنحى النقدي الذي انتهى إليه كريستول، ما انتهى إليه أيضا مفكر من حجم ريتشارد ترناس
101
في تحليله لمراحل تطور الفكر الغربي، من الصيغة الإغريقية القديمة إلى ما بعد الحداثة
102
وبروز لحظة «متميزة بحشد من الصراعات الدرامية المثيرة والحلول المذهلة من طاليس وفيثاغورث إلى أفلاطون وأرسطو (...) من بيكون وديكارت إلى كانط وهيغل، من جميع هؤلاء إلى دارون وأينشتاين، وفرويد ومن بعدهم.»
103
لحظة وصفها بالتراجيديا التي صنعت الفكرة الغربية وأسسها المرجعية.
أما المراجعة الثانية التي يقدمها المسيري فتتعلق بجهود الباحثة الهنغارية أجنيس هيلر
Agne Sheller (1929م) حين أكدت أن الحضارة الغربية تلاقى فيها مصدران: المصدر الإغريقي والمصدر المسيحي، وأن هذا التلاقي أدى إلى علمنة الحياة اليومية والمساحة الأخلاقية، والعلمنة في تصورها تفكيك للعلاقة بين الإيمان والالتزام والكنيسة (أي الدين) بحيث لا يعد أحدهما شرطا للآخر.
و«قد أخذت العلمنة شكل تمحور الفلسفة حول مبحث الإنسان، وإدخال مبحث الإله في هذا العالم؛ أي تماهي مبحث الإنسان والطبيعة (الكون).»
104
وهي الفكرة التي عبرت عنها هيلر بإحلال أسطورة الأصل الإغريقية، محل أسطورة الأصل الدينية، وعبر عنها المسيري بوحدة الوجود، لتصل إلى الأنسنة الشاملة [الطبيعة والأديان] وتأليه الإنسان.
تحولات أدت حسب المسيري إلى إسقاط سؤال نشأة الكون ومصدر العالم ليبرز سؤال: ماذا يفعل الإنسان في العالم؟ وما حدود قدراته؟ فتهاوى النسق المطلق لصالح السياق الاجتماعي الذي تم تكريس نسبيته ونسبية معاييره.
ففقدت بذلك المعايير والقيم الضابطة للسلوك الاجتماعي الإنساني. ودخل العالم (الإنسان والكون) مرحلة جديدة من خيبة الأمل والظن وظهور نزعة تشاؤمية بمستقبل هذا العالم، إنها «أزلية علمانية خالية من المعنى»
105
كما يعبر ماكس فيبر.
أما المحاولة النقدية الثالثة التي قدمها المسيري، فترتبط بموقف عالم الاجتماع زيجمونت باومان
106
الذي يرى أن مشكلة المشاكل التي تعانيها الحداثة هي مشكلة أخلاقية، فقد سقط ملف الأخلاق من الحداثة مع تزايد النسبية الكاملة، وغياب المطلق وهيمنة فكرة الجسد، فغابت فكرة الجماعة والمجتمع والهوية الجمعية التي تشترط تجاوزا للذات/الجسد.
107
انتهت الدراسات النقدية لفكرة العلمانية في الفكر الغربي إلى استحالة اجتثاث الدين من حياة الناس، وهزيمة العلمانية أو على الأقل «لم تف بوعودها لا في العالم الأول (حيث تنتشر العنصرية والجريمة والنسبية الفلسفية) ولا في العالم الثالث (حيث تحالفت العلمانية مع الفاشية والقوى العسكرية)؛ لذا فقد نحت مصطلح ما «بعد العلمانية» (...) وكلمة «ما بعد» هنا تعني في واقع الأمر «نهاية» (...) كما تعني أن نموذج العلمانية قد دخل مرحلة الأزمة، لكن لم يحل محله نموذج آخر.»
108
ويكشف واقع الغرب اليوم عن أزمة هذا المفهوم، تعبر عنه مؤشرات العلاقات الإنسانية والاقتصادية والبيئية، واقع يكشف أيضا عن اختلاط دلالات المفهوم،
109
الذي أنتج مفاهيم ذات علاقة بهذا الواقع الذي وصفناه، مثل ««التسلع» و«التوثن» و«التشيؤ» التي تستخدم لوصف بعض الظواهر التي أفرزتها المجتمعات العلمانية الحديثة»،
110
تتجه كلها إلى تجسيد نموذج كامن يوجه الفكر العلماني في كل مراحله، لهذا جاءت صفارات إنذار من كبار الفلاسفة في الغرب تحذر من هذا الدين الجديد، الذي جرد الإنسان من كل خصائصه الفطرية، ورمى به في ساحة العبث والتمرد على اليقينيات والثوابت، حيث ظهرت نماذج من الإنسان لا نموذج واحد، إذ لكل فلسفة نموذجها الإنساني، الأمر الذي حمل هؤلاء الفلاسفة إلى اعتبار المعرفة التي ينتجها الإنسان سبب هذه المشكلات والانقسامات التي تحياها الإنسانية المعاصرة.
فتاريخ الغرب - كما يذكر المسيري - هو تاريخ العلمنة للطبيعة والإنسان من خلال الحملات الإمبريالية التي شنها على شعوب العالم، بل ما تزال تجليات هذه العلمنة طاغية في علاقة هذا الغرب مع هذه الشعوب، على مستويات متعددة (الاقتصادية - السياسية - الفنية والإعلامية والرياضية ...)
ويمكن الإشارة في هذا السياق أيضا إلى دراسة حديثة تأريخية حول موضوع العلمانية والدين في ثلاث مناطق أساسية في العالم وهي: مصر، والهند، والولايات المتحدة الأمريكية، للمفكر الأمريكي سكوت هيبارد.
وتقف الدراسة عند منحنيات التدافع والصراع بين الدين والسياسة في هذه البلدان الثلاثة وعوامل الأفول والصعود، مستشهدا بأمثلة من حضور الخطاب الديني والقيمي في السياسة الأمريكية المعاصرة وفي جل خطابات رؤسائها إلى اليوم - من فرانكلين روزفلت إلى عهد أوباما - حيث «ظل الدين خاصية محورية للسياسة الأمريكية. وعلى الرغم من وجود انفصال مؤسسي ما بين الكنيسة والدولة، ظل الدين - تحديدا الدين المسيحي البروتستانتي - متأصلا داخل القومية والثقافة الأمريكية»
111
التي ترفض التقليد العلماني، وترى نفسها دولة مسيحية على نحو واضح .
ف «على الرغم من غرس القيم والأفكار العلمانية في الدستور الأمريكي، أواخر القرن الثامن عشر، ظلت القومية الدينية الصريحة مؤثرة على نحو هائل.»
112
لتنتهي الدراسة من خلال عناوينها الكبرى إلى سقوط العلمانية في هذه البلدان - بمفهوم من المفاهيم التي استعرضها الكاتب - والتشديد على أن الدين بإمكانه أن يكون مصدرا للوحدة والسلام، لا مصدرا للخلاف والنزاع.
وهو الموقف ذاته الذي يتبناه آلان تورين حين بدأ يراجع العلاقة بين العلمانية والدين داخل المجتمع الفرنسي، وبالخصوص داخل المدرسة الفرنسية، رافضا للحدود الوهمية الفاصلة بين الدين والسلوك الاجتماعي، معتبرا عودة الدين إلى التأطير والتوجيه براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، وتعقيداته، وبعد أن تعثرت الباراديغمات القديمة في تقديم الحلول، خصوصا الباراديغم السياسي والاجتماعي والعسكري، وفي اعتقاده أن «معرفة الواقعة الدينية أمر ضروري للغاية؛ أولا: لأن تاريخ الديانات يساعدنا على فهم تاريخنا وحاضرنا.»
113
فلا يرى حدودا فاصلة وقاطعة بين الحياة العامة، والحياة الخاصة؛ لأن ذلك في رأيه يسيء إلى الفكر والعمل الدينيين، وأيضا السياسيين، ولأن لكل الديانات نشاطات ورؤية عامة.
114
ويختم تورين بدمغة تاريخية، واقعية تعزز عنده فرضية هذا التحول الباراديغمي في التحليل، بأن ثمة «عددا كبيرا من طرائق التحديث الحالية يجمع في الغالب بين مكونات دينية وأشكال قديمة من التنظيم الاجتماعي والحياة الثقافية.»
115
فالتشابك بين الديني والتربوي والاجتماعي في المدرسة الفرنسية هو البراديغم الجديد القادر على شحذ القيم التربوية في المجتمع الفرنسي، ويكسبه القدرة على السير نحو جوهر الحداثة، وليس العكس، فهو يلح أن «على المدرسة [الفرنسية] الرسمية ألا تتجاهل الواقع الديني عامة والمعتقدات المتنوعة والطقوس الدينية خاصة.»
116
أعتقد أن هذا جزء يسير من المراجعات التي يطالعنا بها هذا الفكر؛ التي تعبر عن العمق الأصيل للإنسان وعلاقته الأزلية بالتدين، أيا كان شكل هذا التدين، وهو عبرة لمن لا يزال يصر على طريق الخطأ،
117
في إقصاء الدين من المجال العام، وبالأخص في مجال تأطير السلوك المعرفي والاجتماعي. (2-2) اختبار تداولية المفهوم في الفكر العربي الإسلامي المعاصر: دراسة في بعض المواقف
لم يكن الفكر العربي المعاصر في معزل عن المراجعات التي عرفتها المدارس الغربية، ليس تقليدا لقانون المراجعة في الغرب، بل لأن ظروفا عربية واقعية أرغمت الجميع على الاستجابة لقانون المراجعة الشاملة للمفاهيم التي غزتنا في عقر دارنا، قانون تحكم فيه أيضا نفاذ منسوب هذه المفاهيم على مستوى إجرائيتها وفاعليتها الواقعية.
ونرصد في هذه النقطة مجموعة من المواقف الفكرية العربية ذات العمق العربي الأصيل والمنهجي الرصين، التي تصدت لمفهوم العلمانية في الفكر العربي المعاصر، متجاوزين المواقف السجالية والتبجيلية للمفهوم لأنها لا تخدم الموضوع ولا تفي بالمقصود، كاشفين لثغراته المنهجية والمعرفية والثقافية.
ويأتي نقد محمد عابد الجابري - رحمة الله عليه - في قائمة الرافضين لتداولية المفهوم بالمعنى الذي نشأ وطرح في الغرب، حين أكد أن هذا الطرح لا علاقة له بعموم الوطن العربي لهذا لا يستسيغ الجابري طرح المسألة بهذا الاسم وتحت هذا العنوان ف «ليس هناك في أي قطر عربي ما يبرر طرح العلمانية فيه، بالمعنى الذي تفهم به هذه المسألة في أوروبا، والذي يتمحور أساسا في «فصل الدين عن الدولة»، هذا الفصل الذي لا معنى له، في أوروبا من دون الكنيسة التي كانت تتقاسم السلطة مع الدولة، السلطة على الأفراد. أما في الوطن العربي الحديث والمعاصر، وطن الدول العربية (...) فليس هناك ما يبرر طرح المشكل بهذا الاسم وتحت هذا العنوان»،
118
بل إن واقع العلوم الإنسانية والاجتماعية - باعتبارها الحاضن الأساس لقيم العلمنة - في الغرب والعالم العربي لم تعد تتحمل هذا الخرق القاتل بين الظواهر الاجتماعية والإنسانية والقيم المجتمعية، بعد أن اتضح حجم الكوارث في منظومة القيم والعلاقات الموجهة لسلوك الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة. وموقف الجابري من المفهوم لا يعني التخلي عنه بشكل نهائي، وإنما ليعيد تركيبه وفق مطامح أيديولوجيا جديدة ومن خلال مرجعية مغايرة مستبدلا إياه بمفهومي العقلانية والديمقراطية؛ لأنهما أقدر على التعبير عن طموحاتنا من مفهوم العلمانية.
لكن تبقى ملاحظاته في العمق المنهجي الذي نتوخاه، وتكشف عن صعوبة تداول المفهوم في الفكر العربي المعاصر، وتعري جانبا من الصراعات الفكرية، والمرجعية التي عاشها عقل هذا الفكر، ويؤكد أن هذا الشعار ما يزال مدعاة للبس وسوء الفهم في الفكر العربي المعاصر، وحصل فيه نوع من الشطط في استعماله يقول: «إن مسألة «العلمانية» في الوطن العربي مسألة مزيفة ، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة هي حاجات موضوعية فعلا، إنها مطالب معقولة وضرورية في وطننا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها بل مشروعيتها عندما يعبر عنها بشعار ملتبس كشعار «العلمانية».»
119
بل ذهب الجابري أبعد من ذلك حين اعتبر الأسئلة التي طرحها مفهوم العلمانية في الوطن العربي أسئلة مزيفة وضلالا فكريا، إذ «لا شيء يعتم الرؤية ويوقع في التيه الوجداني والضلال الفكري كالأسئلة المزيفة. الأسئلة المزيفة هي كأسئلة الأطفال، أسئلة تطرح مشاكل مزيفة يعيشها الوعي على أنها مشاكل حقيقية. وخطورة السؤال المزيف تكمن في أنه يستدعي جوابا مزيفا يثير بدوره مشكلة أو مشكلات مزيفة؛ ذلك لأن كل سؤال لا يطرح إلا ويحمل معه مشروع جواب (...) والأسئلة المزيفة هي في الغالب أسئلة لا تستمد إشكاليتها من الواقع، بل هي تعبر عن إشكالية فكر حالم، أو فكر مجرد، ميتافيزيقي (...) مشكلة تستقي مضمونها وتحديداتها من مجال آخر. وثنائية الدين والدولة في الفكر العربي الحديث هي من هذا النوع الأخير من المشاكل. ذلك أن السؤال «هل الإسلام دين ودولة؟» سؤال لم يسبق أن طرح قط في الفكر الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى أواخر القرن الماضي، وإنما طرح ابتداء من منتصف القرن الماضي بمضمون لا ينتمي إلى التراث الإسلامي، مضمون نهضوي يجد أصوله وفصوله في النموذج الحضاري الأوروبي الذي كان العرب وما زالوا يطمحون إلى تحقيقه في أوطانهم، وبالخصوص ما يتعلق بالتقدم والنهضة.»
120
فهو لا يمل في مطالبة الفكر العربي المعاصر بضرورة مراجعة مفاهيمه وتدقيقها وتطويعها حتى تستجيب لحاجاتنا الموضوعية وإشكالاتنا الحقيقية والواقعية، بدل الاستمرار في الأسئلة، والأجوبة المزيفة، والمضاعفة لزيف الوعي العربي المعاصر. فاختلاط المفاهيم في نظره أحد العوائق الإبستيمية في تطور العقل العربي المعاصر، وفشل مشروع النهضة.
ويزيد الجابري توضيحا لهذا الإشكال - المفهوم، حين اعتبر مشكلة ترتيب العلاقة بين الدين والدولة ليست مشكلا عربيا يعم الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، بل هو مشكل قطري محلي يعني مناطق بعينها، قاطعا الطريق على أنصار التعميم لأطروحة المفهوم، كاشفا عن السياق التاريخي لهذا التخصيص، من خلال الصراع القائم بين عرب المشرق، والسلطة العثمانية التي حكمت باسم الإسلام بلدانا عربية فيها أقليات دينية غير مسلمة، مما جعل المسألة تتخذ في رأيه «طابع الاضطهاد الديني: اضطهاد «دولة» الأغلبية المسلمة، أو التي تحكم باسمها، لأقليات دينية وطنية لها الحق نفسه، في الوطن الذي لغيرها من السكان. في هذه الأقطار كان من المقبول تماما أن تطرح المسألة على أنها مسألة «دين ودولة» ونوع العلاقة الواجب إقامتها بينهما، ولكن لا على أنها مشكلة «العلمانية» بالمفهوم الأوروبي للكلمة، بل على أنها مشكلة الديمقراطية، أعني أنها مشكلة تنظيم السلطة داخل دولة وطنية حديثة.»
121
ونداء الكتلة التاريخية الذي أطلقه يعبر عن هذا المنحى التوافقي في فكر الجابري بين تيارات المجتمع، بعد تحريره من المفاهيم المشوشة.
122
إن طرح المفهوم في الساحة الثقافية العربية بهذا الشكل السلبي يزيد من تعميق المشكل بدل حله، ويوسع دائرة الخلاف بين تيارات الأمة الفكرية، وبالتالي انعدام إمكانية أي حوار بناء ومستقل بينها لتجاوز الوضع المقلوب للمفاهيم، في النسق الفكري والمنهجي للعقل العربي المعاصر.
في السياق ذاته تأتي محاولات طه عبد الرحمن، بعمق فلسفي جديد أخذت طابعا أخلاقيا منطقيا، من خلال مفهوم منهجي، هو مفهوم السياق التداولي للمفاهيم، وشرائط الحوارية النافعة بينها وبين هذا السياق التداولي.
مراجعة كشفت هي الأخرى عن ظاهرة التقليد المنهجي، والمعرفي التي ابتلي بها الفكر العربي المعاصر في علاقته مع المفاهيم الغازية. هو تقليد الفصل بين الدين والقيم الأخلاقية الإسلامية وشئون الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والعلمية.
وهو ما رصده في متونه النقدية بآليات منهجية معرفية في غاية الدقة المنطقية والواقعية، فصل أضر حسب طه بكثير من المقولات المرتبطة بحياة الإنسان، منها صعوبة تعريف الإنسان ذاته. يقول: «وقد تجلى نسيان العلمانيين لوجود الإنسان غير المرئي في إطلاقهم لمقولات عدة تضافرت على تضييق هذا الوجود، جاعلة الإنسان أشبه بالحيوان الزاحف منه بالحيوان الطائر »
123
حين فصلت بين العالم المرئي وغير المرئي لهذا الإنسان، منتقدا بشدة هذا الفصل حين ظهر له «أن الإنسان محاط بالغيب إحاطة الشهادة به، بل إن إحاطته به فوق إحاطتها؛ وما ذاك إلا أن الإنسان لا تنحصر ذاته في «النفس»، بل تتعدى إلى «الروح»، ولا تنحصر رؤيته في «البصر»؛ فإذا كان يحيا بنفسه في العالم المرئي، فإنه يحيا في العالم الغيبي، لا يني يرتحل من أحدهما إلى الآخر موسعا وجوده؛ وإذا كان يرى ببصره المباني المرئية، فإنه يرى معانيها الغيبية، فلا تنفك تترقى معرفته، وتأتيه بيقين من بعد يقين.»
124
وجاءت جهود طه لإبطال مسلمات دعاة العلمنة في الفكر العربي المعاصر، وبيان قصورها المنهجي، وصعوبة تداولها الثقافي والمعرفي، مهما اجتهد أصحابها في البرهنة، وإيراد الشواهد.
ونقد طه للعلمانية يستوي مع التصور الذي اعتمده المسيري «العلمانية الجزئية» ويسميها بالعلمانية الأدنى، و«العلمانية الشاملة» يسميها بالعلمانية المتصاعدة التي تبلغ حد إنكار العالم غير المرئي «الغيبي»، فيكون المفهوم عند طه قد ضيق الوجود الإنساني، ومنعه من الامتداد في العوالم الأخرى، وهو ما أطلق عليه اسم مسلمة «قصور الوجود الإنساني» في الفكر العلماني، ليس هذا فقط بل أمعن هذا التيار «العلماني» وأوغل في إنجاز فصل ثان (بعد الفصل الأول، بين السياسة والدين) هذه المرة بين الدين والأخلاق واصفا هذا الفصل ببؤس فكري شنيع ابتلي به المقلدة من المفكرين العرب.
ب «ذلك يجنون على عقولهم بما لا يجنيه عليهم عدوهم (...) إذ يضيقون مجال أفكارهم ومسرح خيالاتهم ويقطعون عن أنفسهم أسباب الإبداع والإثراء التي تنطوي عليها مناحي ثقافتهم عند مقابلتها بمناح من ثقافة غيرهم، كما يضيعون فرص الاستقلال بفكرهم والتحرر مما يرد عليهم، بل يستبعدون كليا إمكانات تصرفهم في الوارد عليهم، لا تصحيحا ولا توسيعا ولا توجيها، قانعين بأن يظلوا عيالا على غيرهم من مفكري الحداثة».
125
فصاغ طه رده على شكل دعاوى، منها دعوى انحصار الأخلاق في التعامل بين الأفراد، فهذه الدعاوى «تختزل الأخلاق في التعامل بين أفراد البشر بعضهم مع بعض. وفي هذا الاختزال إفقار للأخلاق بما لا يزيد عليه؛ لأن تعامل الإنسان يتعدى تعامله مع الآخرين إلى التعامل مع سائر المخلوقات (...) بحيث يتعين عليه أن يأخذ بالقيم الأخلاقية في تصرفاته معها ...»
126
وثمة محاولة علمية ثالثة، لكن هذه المرة من خارج جغرافية الفكر العربي، محاولة جاءت من الفرس لا تقل أهمية عن المحاولات التي قدمنا، هي محاولة الفيلسوف والفيزيائي الإيراني مهدي كلشني الذي يؤكد على «محدودية الرؤية العلمانية ومعطياتها المرفوضة في الإطار العلمي، وأنه ينبغي للعلم أن يستعيد طابعه وخصوصيته الدينية، من أجل التمهيد لتبلور مختلف الأبعاد الوجودية للإنسان»
127
ف «يصبح العلم والإلهيات - الدين - في إطار هذه الرؤية - يقصد التكامل - محاولة كبيرة لفهم الكون ولإدراك ذواتنا، مع أن لكل من الاتجاهين فقهه الخاص، غير أن الجانب المشترك بينهما يتمثل في أهداف واسعة. يشكل العلم محاولة لاكتشاف النظام الكوني، بينما يسعى الدين لاستيعاب المعنى أو المضمون الكوني، ويشهد كلاهما تحديد طبيعة العلاقة بين الأبعاد المتنوعة للكون، وفيما لو نجحنا في ذلك فإنه ينبغي أن يتوحدا في النهاية.»
128
فالأسئلة التي يطرحها العلم، والصورة التي يكونها عن الكون تكون خارج إطار الحركة التي يصنعها العلم، ويبقى الدين هو الوحيد المؤهل للإجابة عنها، لهذا فإننا في حاجة للحصول على فهم متكامل
129
للأبعاد بين المرجعية الدينية والعلمية، خصوصا بعد موجة النقد للأسس الفلسفية والنظرية للعلم التي دشنها العقل المعاصر، وبدأت التحذيرات حول خطورة تعميم نتائج العلم، وإقصاء منظومة القيم الدينية، من ساحة التوجيه، التأويل والتفسير للظواهر.
في حين يرى رشيد الغنوشي أن «العلمانية انتهت إلى عملية تصحر إنساني تحول المجتمع البشري في نهايتها إلى مجتمع ذئاب (...) [وأن] فكرة العلمانية في المحصلة النهائية ضد المجتمع المدني، بل هي موت الإنسان، لأنها ضد الغيرية، بينما المدنية هي الغيرية، هي الإيثار هي ثمرة لتصعيد الدوافع والاستعلاء الروحي والخلقي والجمالي.»
130
يضيف: «لقد حررت العلمانية العقل الغربي إلى حد كبير من الأساطير والأوهام ومن تسلط الكنيسة ودكتاتورية الإقطاع، وأعادت للنشاط الدنيوي اعتباره، ونادت بالإنسان مركزا للكون والسيادة الشعبية، وأسست للحداثة بما هي تطور للعلوم والتقنيات، وتسخير للطبيعة وإعادة تنظيم المجتمع على أسس عقلية، غير أنها اقترنت بسلبيات أخرى مثل المركزية الغربية ومركزية الدولة واختزال الإنسان في بعد واحد، ولكننا كمسلمين لا نحتاج لهذه العلمانية من أجل تحرر العقول والمجتمعات من الأوهام والتسلط وتقدم العلوم والتقنيات، ففي الإسلام ما يغني عنها وفي شكل أعمق وأوسع.»
131
ونختم جملة هذه المواقف بموقف فلسفي في غاية الدقة المنهجية والعلمية، إنه موقف سيد نقيب محمد العطاس في دراسته الموسومة ب «مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية» وهي دراسة ذات عمق منهجي مقارن بين مرجعيتين حضاريتين: المرجعية الغربية وخلاصاتها الفكرية، والمنهجية، وفلسفتها الوجودية، وبين المرجعية الإسلامية وما أنتجته من رؤى حول العالم، ومنظومات قيمية، ينفي فيها أن تكون المنهجية الغربية قادرة على حل المشكلات الإنسانية بالعمق الفلسفي العلماني نفسه الذي أنتجته، يقول: «ونحن لا نعتقد أبدا أن هذه المزاعم الخاصة بالعلمنة وما يتعلق بتجربة الإنسان الغربي ووعيه ومعتقداته، يمكن أن تكون ممثلة لأوضاعنا أو أن تنطبق عليها؛ ذلك لأن العلمنة التي تتضح حقيقتها جلية عندنا تستخدم في وصف الإنسان الغربي وثقافته وحضارته لا يمكن القبول بصحتها إذا أريد لها أن تكون وصفا لما يحدث في العالم أجمع وللإنسانية كلها (...) إن الإسلام يرفض أن تطبق عليه مفاهيم علماني وعلمنة وعلمانية؛ لأن هذه المفاهيم غريبة عنه، ولا تنطبق عليه البتة. إن هذه المفاهيم تنتمي إلى التاريخ الفكري الأوروبي وهي نتاج طبيعي للتجربة الدينية والوعي الديني للإنسان الغربي.»
132
وهكذا «تتأكد وجاهة اعتراضنا بأن المرجعيات التي أقام عليها الغربيون فهمهم وتفسيرهم لشئون الحياة والوجود الإنسانيين لا معول عليها، ولا يمكن قبولها وخاصة ما دام الأمر يتعلق بالدين.»
133
ومن أجل ذلك يدعو العطاس إلى تحرير المنهجية المعرفة الإسلامية والإنسانية من تأثيرات المرجعية الغربية العلمانية، ومن مفاهيمها، وخلفياتها. يقول: «لقد واجهت الإنسانية في مسيرتها المضطربة عبر الأجيال تحديات عديدة، إلا أنه لم يكن منها ما هو أكثر خطورة على الإنسان وهدما لحياته من التحدي الذي تمثله الحضارة الغربية. إني لأجازف بالقول إن التحدي الأكبر الذي يخترق وجودنا في هذا العصر إنما هو تحدي المعرفة، ولكن ليست المعرفة في مقابل الجهل وإنما المعرفة كما تم فهمها وتصورها ونشرها في العالم بواسطة الحضارة الغربية. إنها المعرفة التي أصبحت هي نفسها مسألة مشكلة، إذ إنها قد فقدت غايتها الحقيقية بسبب تصورها غير القويم، بحيث إنها جلبت الفوضى والاضطراب في حياة الإنسان بدل أن تكون سبب أمن وسلام وعدل (...) إنها معرفة جلبت - لأول مرة في التاريخ - الفوضى والاضطراب في مملكات الطبيعة الثلاث، أعني مملكات الحيوان والنبات والجماد»
134
بسبب اختياراتها الفلسفية والمنهجية الخاطئة، الكامنة في إبستيمولوجية الفصل بين الإنتاج المعرفي ومنظومة القيم.
الفصل الذي دشنته الفلسفة العلمانية بكل فروعها وتخصصاتها. فلسفة عملت على إسقاط ل «سؤال نشأة الكون ومصدر العالم، ليبرز سؤال: ماذا يفعل الإنسان في العالم؟ وما حدود قدراته؟ وبذلك تهاوى النسق المطلق لصالح السياق الاجتماعي الذي تم تكريس نسبيته ونسبية معاييره. وهكذا تراجعت مفاهيم مثل العار والحياء والانحراف. بسبب غياب أية معيارية، وحل محلها تحقيق الذات».
135
خلاصة هذه القراءة - المتعددة المنظورات - انتهت إلى أن مفهوم العلمانية مفهوم ملتبس متعدد الدلالات سواء تعلق الأمر بموطنه الأصلي - الغرب - أو في العالم العربي، بل داخل هذه القراءة قناعة راسخة بإفلاس النموذج العلماني على جميع الصعد. فإن كان هذا النموذج قد ساهم في تحرير العقل الغربي من خرافات الكنيسة، وأطلق خياله في الإبداع، فإنه في المقابل قتل فيه المعنى والقصدية من الحياة وألغى الأسئلة الكلية من حياته، بل ثمة تشديد على ضرورة عودة الدين والقيم إلى التفاعل بين الإنسان وساحة تحركه الفنية والاقتصادية والسياسية والمعرفية.
كما تكشف لنا أيضا عنصر أساسي داخل الفكر العربي المعاصر، هو تناقض مرجعيات هذا الفكر، وهي إحدى العوائق التي عملت على تعميق الهوة بين هذه النخب ومجتمعاتها مما يحفزنا على ضرورة إعادة التفكير العربي المعاصر إلى قواعد الحوار المثمر والنافع حول الإشكالات الحقيقية للأمة ، وتسعيرها التسعيرة الحقيقية والواقعية، وفي مستوى التحديات الراهنة، بدل البقاء في أزمنة الغير وإشكالاته المزيفة، والتحلي بالجرأة الكافية في معانقة هموم الذات، ومراجعة السنوات العجاف التي أنشأها هذا التيار في فكرنا المعاصر.
ثمة ملاحظة جوهرية لا ينبغي أن تحجب عنا، ونحن نعالج إشكال العلمنة في الفكر العربي المعاصر، وهي ضرورة إدراك المسافة بين المفهوم كما هو في الواقع وتمظهراته وتعقيداته، وبين رفض النخب له أو تبنيه، فلا تخلو مجتمعاتنا من مظاهر للعلمنة، فلا الدولة العربية ومؤسساتها علمانية كما ينادي دعاة العلمنة، ولا هي إسلامية كما ينادي دعاة الإسلامية، وهي القضية التي دفعت الجابري إلى استشكال المفهوم على مستوى الواقع العربي بين دعاة العلمنة والأسلمة للدولة العربية على حد سواء، فلا «المطالب بالعلمانية محق في وصفه الدولة العربية القائمة اليوم بأنها غير علمانية، بالمفهوم الأوروبي للكلمة، ولا المطالب بالدولة الإسلامية محق هو الآخر في وصفه للدولة العربية القائمة اليوم بأنها «غير» مسلمة بالمعنى الذي يتصور به الدولة المسلمة، الطرفان محقان فيما ينفيان، ولكنهما غير محقين فيما يثبتان».
136
مواقف تعبر كلها عن أزمة حقيقية تعيشها النخب العربية حول شكل ومفهوم الدولة العربية الإسلامية، ساهم فيها الوسيط المرجعي لتيارات الفكر العربي المعاصر ف «التدخل الاستعماري واختراقه المفضوح والقوي للنخب العربية أوقعا مشروع هذه الدولة في أزمة أخلاقية منكرة لم تكن ضرورية جرتها عليها القطائع المتعددة التي أحدثها الاستعمار وآثاره الباقية»،
137
بل مشروع النهضة والكيان الحضاري للأمة هو المتضرر الأكبر من عملية الاختراق هذه، وما تزال ضريبته قاسية على الأمة إلى اليوم.
يستبطن واقع الأمة كثيرا من مظاهر العلمنة في وجدانه وطقوسه الدينية، وموقفه مما يجري من الأحداث والتحولات وما يتلقاه من وسائل الإعلام، وما يختزنه من كل ما يرد إليه من السلع والماركات المسجلة، فهو يستبطن ما سماه عبد الوهاب المسيري ب «العلمنة البنيوية الكامنة» التي تتسرب إلينا وتتغلغل في وجداننا دون أي شعور منا من خلال منتجات حضارية يومية وأفكار شائعة وتحولات اجتماعية تبدو كلها بريئة، أو لا علاقة لها بالعلمانية أو الإيمانية، ولكنها في واقع الأمر تخلق جوا خصبا مواتيا لانتشار الرؤية العلمانية الشاملة للكون وتصوغ سلوك من يتبناها وتوجهه وجهة علمانية».
138
هي إذن معركة ثقافية بامتياز ليس في اتجاه النخب، وإنما في اتجاه المجتمع ومؤسساته الحاضن الأقوى لقيم العلمنة رغم بعض مظاهر التدين التي تظهر في سلوكاته، وبعض مواقف الرفض التي يعلنها الشارع العربي ومؤسساته. (3) المبحث الثالث: ملاحظات نقدية حول الاشتغال المنهجي في الفكر العلماني العربي المعاصر
إن الإلغاءات القسرية التي مارسها تيار العلمنة في الفكر العربي المعاصر لا شك أنها أضرت بكثير من قناعات عقل هذا الفكر، وتركت آثارها السلبية على جزء كبير من منظومة التفكير للإنسان العربي المسلم، وشوهت معالمه الثقافية ودفعته في اتجاه التفكيك والتشتيت؛ تفكيك للعروة الوثقى بين الأبعاد المادية والقيمية في سلوكه، وتدمير مركبات الوعي حين حولت الدين إلى دوائر هامشية مستقلة وفي زاوية ضيقة لا علاقة له بصناعة أشكال الوعي المتعددة.
فصل أنتج أيضا قلقا معرفيا شديد الحساسية، انتهى إلى بدء رحلة جديدة في مسار طويل من تاريخ الفكر العربي المعاصر، هي رحلة الهوية الحضارية المتكاملة الأبعاد، جعلته يعيد تقليب الملفات الكبرى التي أرغمته على تلك الرحلة الفاشلة والمتعبة، رحلة الوعي العكسي من الغيرية إلى الذات، إلى الوعي السوي من الذات وأفقها إلى الغيرية وعلاقتها بالذات. ليس هذا فحسب في عالمنا العربي الإسلامي؛ بل في عالم الغرب الذي لم يعد يطيق عوالم متعددة في عالم واحد؛ لهذا فإن مراجعة هذه المدرسة على مستوى مرجعياتها وآلياتها يرينا حجم الدمار الذي تعرض له عقل الفكر العربي الإسلامي، وكذا حجم المعاناة التي عاناها جراء هذا التبني غير الشرعي لفكر الغير واحتضانه.
إن «الخطاب العلماني خطاب حلولي، هو خطاب يؤله الإنسان، وحينما يؤله الإنسان نفسه فإنه يلغيها»،
139
وهو ما يفسر الاهتمام المتزايد لدعاة العلمانية بوحدة الوجود عند كل من الحلاج وابن عربي وأبي حيان التوحيدي، وهي مقدمة العلمانية، حيث تعتبر الإنسان مرجعية ذاته.
ف «التفسيرات الحرفية التي تطابق بين النص القرآني والواقع التاريخي أو الحقائق العلمية تسقط فيما يسمى عصر الربوبية، وهي الدعوة التي ظهرت في القرن الثامن عشر في أوروبا فيما يسمى عصر العقل والاستنارة، والتي ترى أنه بوسع الإنسان أن يصل إلى حقيقة الكون وإلى منظومات أخلاقية ومعرفية وجمالية دون حاجة لوحي، وإنما من خلال عقله.»
140
تسربت هذه الربوبية إلى فكرنا وإلى الدراسات القرآنية المعاصرة من خلال المطابقة بين الوحي والواقع، فيتداخل المطلق مع النسبي دون إدراك للمسافة الطبيعية بينهما، وقد انتشرت التفسيرات الحرفية ذات التوجه العلماني «ثمرة أزمة حضارية تتعلق بمحاولة اللحاق بالغرب وفقدان الثقة بالذات ...»
141
فدخل الفكر العربي المعاصر في حالة من التعبد بالمفاهيم والمقولات الغربية؛ أي التماهي معها إلى حد القداسة والتقديس، تقديس الإنسان، هذه الرؤية التي نجد لها أصداء في فلسفة نيتشه حين أعلن «موت الله» وإطلاق شعار «الإنسان الأعلى».
إن إصرار الاتجاه العلماني على إبعاد التصورات الدينية-الإسلامية من حقل الدراسات المعرفية والمنهجية، على اعتبارها من العوائق المانعة للإبداع في الفكر العربي المعاصر وعلى طول التاريخ، استرجاعا لصدى الصراع الذي شهدته الساحة الفكرية الغربية، لتبرير جزء من عجزه الفكري الإبداعي في الساحة العربية المعاصر، إلا أن هذا الإصرار تنقضه الأدلة الواقعية لتاريخ هذا الغرب (النموذج)، كما تنقضه الشواهد والنماذج الفكرية ذات التوجه الديني في التأسيس لإبستيمولوجيا عربية معاصرة بمواصفات منهجية تجمع بين تجربتها الحضارية وأصولها المعرفية والمنهجية، وبين التجربة الإنسانية الغنية دون استلاب من الماضي العربي الإسلامي أو الحاضر الغربي.
إن تفسير الفقر الإبداعي في الفكر العربي المعاصر بالمؤامرة بين أهل السياسية و«رجال الدين» من قبل الاتجاه العلماني يخفي وراءه كثيرا من التناقضات التي يعبر عنها ويحملها مشروعه الفكري، ويعترض أبو يعرب المرزوقي على هذا الادعاء المزيف من خلال تاريخ الغرب نفسه، كاشفا قلق حجج هذا الاتجاه وضعف منطقه التبريري، يقول: «هل يمكن لمن يعلم تاريخ الغرب الحالي من بدايات نهضته إلى الآن أن يجهل الحروب الدينية التي عرفها الغرب؟ لم نعرف حتى واحدا في المئة. هل لنا حرب المئة عام؟ وحرب الثلاثين سنة؟ والحرب بين الكاثوليك والبروتستانت؟ أوليست الحرب الدينية سارية المفعول إلى الآن في موطن الفلسفة الإنجليزية ذاتها؟ كل ذلك لم يمنع من وجود الإبداع الفلسفي؟ لماذا لم يقل أحد إن هذه الحروب هي بين الظلامية والتنويرية لو كانت التنويرية العربية فعلا تنويرية؟»
142
فهذا الجو الذي عاشه الغرب لم يمنع من ظهور مبدعين من حجم ديكارت ونيوتن، ليفضح أوهام الفكر الفلسفي العربي المعاصر التي استند إليها في معركته المنهجية مع التيار البنائي العربي المعاصر، ولعل الثنائيات التي روج لها وبثها في عقل الأمة تمثل قمة هذه الأوهام «الدين» و«الدولة»، «العلم» و«الغيب».
لهذا فإن «فهمنا الفكرين الفلسفي والديني هذا الفهم لم يعد بوسعنا أن نعود إلى الخصومة الساذجة بين عقل بلا نقل ونقل بلا عقل، لكأن معتقدات الفلسفة القديمة والكلام الساذج ما تزال سارية المفعول، ولكأن الفكر العربي المعاصر لم يسمع بالثورة التي حدثت في إبستيمولوجيا العلوم الطبيعية من خلال ما وجهته إليها إبستيمولوجيا العلوم الإنسانية منذ نهايات القرن التاسع عشر، بل وحتى (إبستيمولوجيا) الفنون الأدبية والجماليات منذ النصف الثاني من القرن العشرين ...»
143
كأن الغرب - يقول المسيري - لم يشهد تداخل الديني والزمني.
إن الاتجاهات النقدية التي ظهرت في الغرب واستطاعت أن تؤسس لإبستيمولوجيا معاصرة هي اتجاهات دينية، فالثورة التي شهدتها العلوم الإنسانية والتي دشنها كثير من الفلاسفة الرافضين للوحدة المنهجية بين العلوم الطبيعية والإنسانية، إنما منطلقها الاعتقاد الديني الذي يرى صعوبة المماثلة بين الظاهرة المادية الصرفة، والظاهرة الإنسانية المعقدة في تركيبها النفسي والاجتماعي. وتمس قضايا هذا المبحث قضية المفاهيم والمرجعية في مشروع أركون. (3-1) على مستوى المفاهيم
إن القارئ لمشروع أركون يقف عند شبكة من المفاهيم السائبة السيالة التي يستعملها في كثير من الأحيان، ليس لبناء نسق معرفي متكامل الأركان، إنما كل مسعاه التشكيك في الأصول، والمرجعيات المرتبطة بالذات، والاتجاه نحو المرجعيات المغايرة؛ لهذا يقع «المشروع الأركوني في فخ المشاريع اليتوبية التي تعتقد بأنها أقدر من غيرها على تحرير العقول من أسر الفكر المنغلق، وبأنها تملك الحقيقة التي بها يتم فعل التحرير والتجاوز. فمشروعه في المحصلة لا يعدو أن يكون وهما من أوهام الحداثة التي فضح المشروع التفكيكي زيفها وبطلان دعواها.»
144
بل «أضحى جليا (...) أن الخطاب الأركوني مسكون بهاجس التحرير والتبشير؛ الأمر الذي جعله يتناقض مع ما يروم تحقيقه، وكأني به يعيد ما حاول «مارتن لوثر» فعله، في محاولة لتجديد العقل اللاهوتي الغربي، فهو إن نهج العلمية في نقد العقل المعياري فإنه لم يبرح أرض هذا العقل، أي العقل الدوغمائي؛ لأن العقل النقدي يرفض النعوت والتسمية والنمذجة، وهو ما يفتقر إليه خطاب أركون».
145
إن «المتأمل في آليات المنهج الأركوني يجد أنه يتبنى التفكيك استراتيجية لنقد هذا العقل، والتفكيك - كما هو معروف - مشروع نقدي جاء لتصحيح مسار الحداثة وإعادة الاعتبار لخطاب الاختلاف وثقافة المغايرة،
146
وذلك بتقويض كل الخطابات المركزية التي تدعي امتلاك الحقيقة، والحفر فيما سكت عنه بفعل الحضور؛ أي إبراز اللامعقول واللامفكر فيه.»
147
فالعدة المنهجية التي راهن عليها أركون في قراءة العقل العربي الإسلامي والحفر في تراثه هي منهجية نسبية احتمالية في مفاهيمها وسياقاتها وبراهينها، إذ ليست كل منهجية مستحدثة علمية استدلالية برهانية.
ما استحدثه الغرب من مناهج ارتبط بفترات من تاريخه الحديث والمعاصر، سياقات تكشف عن أيديولوجياتها وفهمها الوهمي والمغلوط والمشوه لكثير من الأنساق المعرفية والحضارية - الأنثروبولوجيا - على سبيل المثال لا الحصر - فجدير ب «القراءة العلمية أن تخلق فضاءها البرهاني الذي يكون عنوان مسيرتها في البحث عن حقائق الأشياء، هي القراءة التي تولد أدواتها وتثبت قدرتها على مجابهة القراءات المعادية لها، أما تلك التي تركب العلمية متهمة الخطابات المناهضة - تراثية كانت أم معاصرة - بالمعيارية والدوغمائية والأرثوذوكسية، ثم ترتد على عقبيها وتنحو المنحى نفسه، فتتحول إلى دوغمائية جديدة أشد ضراوة، وأبلغ مذهبية، لهي زائفة ومخاتلة تزيد من غربة العقل العربي في التمرد على ثوابته، والوقوع فريسة العقل الغربي».
148
فدعاوى التأويلية في الفكر العربي المعاصر هي «دعاوى في المحصلة، قتل للذات المؤولة في العقل العربي، وحبس لأنظمة الثقافة العربية الإسلامية في سجن الثقافة الغربية التي ترى نفسها المركز الذي يملك المعرفة الخالصة والتفكير العلمي الموضوعي، أما غيره فهامش وأطراف ، بل المتخلف الوحشي، هو الشرق السحر، الأسطورة والخرافة، التي يجد فيها فضاء للتجريب وإثبات «نظرية المخيال» كرؤية نقدية تنظر إلى الآخر - الشرق من الخارج ضمن ما عرف بالدراسات الاستشراقية»،
149
رغم إعلانه الرفض لهذا النوع من الدراسات التي هيمنت على حقل الثقافة العربية الإسلامية في كل مراحلها، إلا أن هذا الإعلان سرعان ما ينهار أمام ضغط الأيديولوجية، ليتجه نحو تجديد آليات التحليل الاستشراقي في سياق علمنة الفكر النقدي العربي.
إن الخروج من الأوهام المنهجية لعقل الفكر العربي المعاصر لا يتأتى بالانخراط غير الواعي في فكر الغير، ونقل معاركه إلى ساحتنا المعاصرة والانشغال بها، إنما الخروج يتأتى من خلال وعي الذات وما تملك من قدرات وطاقات فاعلة، وتجاوز القراءات الأيديولوجية الاستهلاكية الباحثة عن الدليل لاعتقاداتها، وهي القراءات التأويلية المدرسية التي أفسدت المعنى، وأصلت للفوضى واللامعنى في التأويل، قديما وحديثا، فتأويلية أركون تأويلية اللامعنى وتشتيت الذات والموضوع معا.
لهذا جاء جهده مشتتا بين «غايات لا يمكن حصرها أو تحقيقها، فهو خطاب يعمل على إقحام العلمية الموضوعية في فضاء الدين الإسلامي، الذي يعتقد أنه يسيطر بدوغمائيته لإنشاء تيولوجيا جديدة تحت ستار مشروع «سيميائية اللغة الدينية» كهاجس معرفي يرمي من خلاله المشروع الأركوني إلى المحافظة على السلطة الرمزية لهذا الدين، وهو ما يجعله يناهض طروحاته العلمية التي ترفض المتعالي والمقدس والمطلق مثلما يتأبى الخطاب القرآني في جوانب كثيرة منه على الصرامة الموضوعية.»
150
يعبر المنحى الذي سار عليه أركون في مشروع نقد العقل الإسلامي عن أزمة العقل العربي المعاصر في علاقته مع خلاصات العقل الغربي، ويعبر عن سوء تدبير لطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تسود بين خلاصات التجربتين: تجربة العقل الغربي وتجربة العقل الإسلامي بين ثوابتهما ومتغيراتهما، فطريقة القياس على العقلانية الغربية ومنهجياتها، والإصرار على تبني شاكلتها الثقافية «لا تبني نظاما معرفيا، ولا تقود إلى تشكيل وعي شمولي حول ثقافة المجتمع العربي ولا حول ثقافة الغرب؛ وبالتالي فهي لا يمكن أن تقود إلى نقد أي من النظامين أو دراستهما دراسة مقارنة. إنها تفكك النظامين وتتركهما دون إعادة تركيب»؛
151
لهذا فإن القياس الحضاري وعي منهزم.
يمثل محمد أركون في الفكر العربي المعاصر أحد الاتجاهات التمجيدية والتبجيلية لفكر الحداثة ومنجزاتها، ويدعو إلى الانخراط غير المشروط في أدواتها وتجاوز الماضي العربي وتراثه ومنطلقاته،
152
ومصطلحاته ولغته؛ لأنها غير قادرة على المواكبة، ومرتبطة بنص (الوحي) مما يعوق عملية الإبداع عكس اللغات الأوروبية.
فعمل على إنزال - كما قلنا - كل السلالات المفاهيمية للحداثة لافتضاض العقل الإسلامي، وتخريب ثوابته والتشكيك فيها، وزحزحتها؛ لهذا كانت واحدة من الثغرات المنهجية في هذا المشروع؛ عجزه عن صياغة مفهوم نقدي عربي قادر على قراءة مشكلات الفكر العربي المعاصر، مما يجعل أركون عبارة عن «تقني يطبق وينفذ المناهج الغربية على التراث العربي الإسلامي»،
153
دون إخضاعها للمساءلة والنقد، وهو قادر على ذلك - لو أراد - في صرامة متناهية، لكن الانبهار بالحداثة والتقليد المرذول حال دون هذه العملية، وكان موقفه - كما جميع الحداثيين العرب - أكثر ضعفا من المواقف التي وصفها بالأرثوذكسية والسلفية؛ لأنه فشل في تقديم بديل أو بدائل مقنعة.
وقد كان هذا الموقف يلازمه في كل خطوات بحثه، من أن المناخ الثقافي العربي غير مستعد لقبول هذه الأطروحات، وإن كان كمال عبد اللطيف ذهب عكس ما قلناه، حين أكد أن أركون على المستوى المنهجي كان أشد حرصا على «التجديد المنهجي في المقاربة والمعالجة، وعلى كتابة مقالات ذات طابع منهجي صرف، أكثر مما نلاحظ وقوفه على نتائج وخلاصات نهائية»،
154
لكن هذا الحرص المنهجي بقي محدودا في عطائه، وملتزما بمجال غير مجال الفكر العربي الإسلامي بعيدا عن اهتماماته وانشغالاته؛ ولهذا يعاب على أركون - كما يقول الجابري - هروبه إلى الأمام وغموضه على مستوى الرؤية والمآلات من خلال تأسيسه لعلاقة تنافر وعداء مع أصول الثقافة العربية الإسلامية.
فإذا كان كمال عبد اللطيف يرى في جهوده تأصيلا منهجيا ومساهمة في تأسيس مقالة قوية في المنهج
155
من خلال محاولاته تفكيك أصول التراث بالنقد والتحليل والهدم، فإننا نرى أن التأصيل المنهجي لا يكون باستعارة أدوات خارجية ومخاصمة للأدوات التي أنتجتها هذه الثقافة؛ ولهذا لا اعتبار للخلاصات التي انتهى إليها كمال عبد اللطيف إلا من باب التسويق لهذا النموذج، ومحاولة تبديد الجهود واستغفال العقول، فالتأمل في الأدوات التي اشتغل عليها أركون لا يعدو أن يكون تكرارا لما ألفه تاريخ الفكر الإسلامي في الدراسات الاستشراقية من نصب العداء لهذه الثقافة وتحنيط لمقوماتها وتحييدها عن جهود البناء والمعركة الحضارية التي تخوضها الأمة، إذ لا مجال للتحديث والتجديد إلا من داخل أصولنا ومرجعيتنا الفكرية، مع الانفتاح الواعي والناضج على الآخر الإنساني - لا الغرب وحده.
صحيح أن أركون اجتهد على مستوى المنجزات النظرية، وتعامل مع المدارس المنهجية الفكرية الغربية تعاملا يوحي بهضمه لهذه الآليات، وهو الذي اشتغل أزيد من ثلاثين سنة في السوربون باحثا ومنظرا حتى لقب برائد ومجدد الفكر الإسلامي، لكن جهوده النقدية اتجهت - للأسف - ليس إلى البناء كما روج له بعض المعجبين به،
156
وإنما كان غرضه التفكيك؛ تفكيك آليات العقل الإسلامي على غرار التجربة الغربية التي انخرط في مشروعها منذ هايدغر مرورا بدريدا الذي طور آليات العبث والتبديد للمدرسة التفكيكية في جو غير جو المجتمع الفرنسي الرافض لهذا النوع من المغامرة في تبديد معطيات الثقافة الفرنسية وأسس ثورتها، فإذا «فشل البنيويون في تحقيق المعنى، فإن التفكيكيين نجحوا في تحقيق اللامعنى، ورفضوا كل شيء ولم يقدموا بديلا أو بدائل مقنعة»،
157
فسار الخطاب النقدي العربي الحداثي مسير نظيره الغربي شكلا ومضمونا، ويستخدمون المصطلح النقدي الغربي بكل دلالته، وهو مشبع بتصورات الفلسفة الغربية، ومتحيز لمركزيته ف «يصلون إلى نفس النتائج التي توصلت إليها الحداثة الغربية في تعاملها مع النصوص: فلا نص ولا دلالة ثابتة، لا تفسير نهائي للنص، لا تفسير مفضل أو موثوق به، كل القراءات إساءة قراءات ...»
158
هكذا «فشل النقاد الحداثيون في بحث مصطلح نقدي خاص بهم، تمتد جذوره في واقعنا الثقافي العربي، وفي تنقية المصطلح الوافد من عوالقه الثقافية الغربية، وعن مناخه الفكري والاجتماعي والسياسي، الذي أنتجه (...) وهنا تكمن الأزمة الحقيقية للنقاد الحداثيين العرب»،
159
كما يؤدي نقل هذا المصطلح إلى إحداث فوضى واضطراب في حقله الثقافي التداولي الثاني و«يتعارض أحيانا مع القيم المعرفية التي طورها الفكر العربي المختلف».
160
وقد دخل الاتجاه الحداثي عندنا في متاهات مفاهيمية وفي كثير من الأحيان مفاهيم سمتها الأساسية الغموض وإشارات شديدة التعقيد، في الوقت الذي يمكن فيه التعبير عن كل هذه الالتواءات بأبسط العبارات وأبلغها
161
حين أغرقونا بمقولات منقولة ومحرفة لسنوات لا نكاد نرى فيها الحقائق كما هي إلا من خلال مراياهم. (3-2) على مستوى المرجعية
ثمة حقيقة مؤلمة في الفكر الحداثي العربي تعبر عن جوهر الأزمة المرجعية الحداثية العربية هي «ازدواجية الولاء، التي تفسرها عملية الانشطار الدائمة والتناقضات القائمة والمستمرة عند الحداثيين العرب الذين يضعون قدما في المشرق العربي وقدما في الغرب الأوروبي والأمريكي»،
162
فيعيشون «حالات التأرجح بين ادعاء الأصالة وإنشاء حداثة عربية، تختلف عن الحداثة الغربية في مقولاتها ومصطلحها النقدي، في الوقت الذي تكشف فيه كتاباتهم بصفة مستمرة عن تأثرهم الواضح - إن لم يكن نقلهم الصريح - عن الحداثة بمفهومها الغربي.»
163
الهروب من الماضي العربي لا يفسره إلا السقوط المريب والمخزي في الماضي الغربي، فهم في كلتا الحالتين ماضويون.
وهذه أخطر حالات الاغتراب، فكان أمرهم عجيبا؛ فهم يدعون إلى «الانقطاع عن تراثهم، ويمجدون تراث غيرهم، وتهربا من مواجهة حاضرهم أو ماضيهم ينتقدونه جملة وتفصيلا لتبرير اتباع حاضر غيرهم، فالحداثة تعني عندهم انقطاعا عن الماضي إذا كان هذا الماضي هو ماضي الذات العربية، أما إذا كان ماضي الغرب فهي اتصال واستمرار وثيقان، هما آفتان خطيرتان تلازمان هذا الفكر: آفة الانقطاع وآفة الاتصال»،
164
مما يجعل الدعوة إلى الانخراط في التراث وحل مشكلات المجتمع العربي دعوى فارغة من محتواها، وغير ذات موضوع في الخطاب الحداثي.
وبفعل الغفلة والتغافل عن الشروط الذاتية لاستنبات الحداثة وتأصيلها ساد الاضطراب المنهجي والازدواجية في كل المشاريع الفكرية التي قاربت مشكلة التأخر والتخلف العربي الإسلامي. وهكذا لم يتمكن «الحداثيون العرب من بلورة مفاهيم وأطر فكرية وثقافية لتطلعهم الفكري والسياسي بعيدا عن النموذج الغربي، وانحصرت جل أطروحاتهم ومشاريعهم في تمثل التجربة الغربية، واعتبر بعضهم (...) أن التغريب شرط ضروري لا بد منه للتحديث»،
165
وكتابات أركون وعبد الله العروي لا تخرج عن هذا السياق، بل أكثرها دعوة لتسليم الأمة إلى رياح التغريب وتخريب المناعات الذاتية لها.
إن عملية «التحديث كعملية مجتمعية ليست مرتبطة بمركز الغرب ومحوريته بشكل عفوي وكامل، فهو ليس وحده الذي وصل إلى مستوى متقدم من التحديث، فالكثير من الشعوب، قديما وحديثا وصلت إلى مستوى متطور من الحداثة والتحديث بعيدا عن مركزية الغرب ونمطه الحداثي»،
166
لكن رغم ذلك بقي التعميم السمة الغالبة لهذه الكتابات لنموذج معرفي محكوم بظروف داخلية وتاريخية غير قابلة للتكرار، وبهذا فإن مفتاح الحداثة عندنا ليس على هذه الشاكلة، وإنما من خلال «استنفار الجهود العقلية والعلمية الذاتية في اتجاه التطوير والنهضة، وكل تحديث لا ينطلق من الذات بإمكاناتها وآفاقها سيتحول إلى مشروع يناقض الحداثة.»
167
فنحن لسنا ضد الحداثة كما يتوهم البعض، بل نحن في أمس الحاجة إلى حداثة، لكنها حداثة «تهز الجهود وتدمر التخلف وتحقق الاستنارة، لكنها يجب أن تكون حداثتنا نحن، وليست نسخة شائهة من الحداثة الغربية»،
168
وهو التوجه الذي نجده عند التيار البنائي في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، الذي يرى ضرورة التأسيس الداخلي والنقد للفكر الحداثي كما نشأ في الغرب، فنحن «لا نستطيع أن نصنع التاريخ بتقليد خطى الآخرين في سائر الدروب التي طرقوها، بل بأن نفتح دروبا جديدة (...) كما لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بأفكار أصيلة تستجيب لسائر المشكلات على الصعيد الأخلاقي، أو على صعيد الأفكار الفعالة؛ لتجابه مشكلات التطور في مجتمع يعيد بناء نفسه.»
169
فبدل أن يتصدى هذا التيار لمشكلات الأمة من خلال الإطار العقدي والحضاري، الذي تكونت فيه عبر تاريخها، نجده يتجه كليا وفق نمطية استلابية لهذا الوافد الفكري، الذي لم يستطع معه أن يقدم لواقع الأمة خطابا موضوعيا وإيجابيا عن الآخر وعن الذات. فظلت مشكلتهم - كما يقول ابن نبي - هي الخلط بين «أمرين: الانفتاح الكامل على كل رياح الفكر وبين تسليم القلعة للمهاجمين كما يفعل الجيش الخائن، فهؤلاء مردوا بإدمان على تقليد الآخرين؛ ليس لديهم أي مفهوم عن ابتكار هذا الغير، ولا عن دوافع هذا الابتكار وعن تكاليفه في جميع المجالات التي يقلدونهم فيها، وكان الأجدر بهم أن يبتكروا هم أنفسهم وفق دوافعهم الخاصة بدل أن يقلدوا.»
170
ف «إذا صح أن الواقع الحداثي الغربي (...) يتميز بقطع الصلة بكل ماض وقديم، صح معه أيضا أنه يفتح آفاقا مستقبلية، ويطرق أبوابا جديدة لا يمكن أن يتطلع إليها من يبقى متمسكا بما مضى وما قدم، ومن هنا يكون هذا الواقع الحداثي ممارسة إبداعية مستمرة وشاملة، ولو أنها ممارسة إبداعية تخص أهل الغرب، ولا تلزم غيرهم من الأمم، وإذا نحن تأملنا هذه القراءات - يقصد القراءات الحداثية للوحي - في ضوء هذه الحقيقة تبين لنا أن أصحابها لم يمارسوا فيها الفعل الحداثي في إبداعيته، ولا انطلقوا فيه من خصوصية تاريخهم، بقدر ما أعادوا إنتاج الفعل الحداثي كما حصل في تاريخ غيرهم مقلدين أطواره وأدواره، ويتجلى هذا التقليد في كون خططهم الثلاث
171
المستمدة من واقع الصراع، الذي خاضه «الأنواريون» في أوروبا مع رجال الكنيسة، والذي أفضى بهم إلى تقرير مبادئ ثلاثة أنزلت منزلة قوام الواقع الحداثي الغربي.»
172
وهذه المبادئ الثلاثة هي: (1)
الاشتغال بالإنسان وترك الاشتغال بالإله. (2)
التوسل بالعقل وترك الوحي. (3)
التعلق بالدنيا وترك التعلق بالآخرة.
وإذا دققنا - يقول الكاتب - في الخطط التي اتبعها أهل القراءة الحداثية في الفكر العربي المعاصر، وجدناها مأخوذة من هذه المبادئ الضابطة للواقع الغربي، مع ما في هذا الإنزال من «عيوب منهجية صريحة تفقد التحليلات الحاصلة قيمتها، كما تفقد النتائج المتوصل إليها مصداقيتها»،
173
فالمنهجيات والنظريات التي وظفت في دراسة الوحي وفق الخطط الثلاثة «فخطة التأنيس اختصت عندهم بنقل الوحي من وضعه الإلهي إلى الوضع البشري قاصدة إلغاء القدسية منه، فصارت على تقرير المماثلة اللغوية بين القرآن وغيره من النصوص البشرية، كما اختصت خطة التعقيل بالتعامل مع الآيات القرآنية بجميع المنهجيات والنظريات الحديثة، قاصدة إلغاء الغيبية منها، فانتهت إلى تقرير المماثلة الدينية بين القرآن وسواه من النصوص الدينية، واختصت خطة التأريخ بوصل الآيات القرآنية بظروفها وسياقاتها المختلفة، قاصدة إلغاء الحكمية فيها.»
174
ولعل هذه الخطة تنطبق على الآليات المنهجية التي اشتغل عليها أركون من خلال المنهجيات التي ذكرناها من المنهجية الألسنية والتاريخية والأنثروبولوجية الدينية والزحزحة والمنهجية التفكيكية.
هكذا ظلت انشغالات أركون خارج انشغالات الذات وهمومها، مما جعل مفكرا في مستوى الجابري يطرح مشكلة الإبداع وأزمته في الفكر العربي المعاصر، لكن مدخل تحليل الأزمة لم يكن موفقا، إذ انتهى إلى أن أزمة هذا الفكر في ارتباطه بنموذج - هو نموذج السلف - وبآلياته الذهنية.
175
ليست الأزمة في الارتباط بهذا النموذج، كما ليس منطلقها عدم الانفتاح على الآخر، بل العكس؛ هذا الانفتاح غير المعقلن وغير المنضبط والراشد هو الذي أضر بعملية الإبداع وعمق الأزمة، بل إن «عمليات الإبداع والتطور في كل المجتمعات الإنسانية كانت وليدة ظروف التفاعل المنطلق مع منهج الذات الحضارية (...) فلا إبداع معرفي واجتماعي وثقافي في إطار التقليد والجمود، كما لا يتم - أي الإبداع - في إطار الانسلاخ والاستلاب والقطيعة التامة والشاملة مع الذاكرة الحضارية للأمة».
176
لنخرج إذن من عقدة التقليد والنقل الأعمى ومن الإصرار على مركزية الغرب، بل «يمكن القول إن الذين يعيشون في الهامش وحدهم هم الذين ما زالوا يعتقدون - لفرط إحباطهم وحرمانهم - أن الاتصال بالحضارة والوصول إلى سعادتها مرتبط بتقليد الغرب أو الذهاب إليه في الوقت الذي أصبح يسد عليهم في الداخل وعلى الصعيد العالمي كل الأبواب للنفوذ بالفعل إلى ثمار هذه الحضارة.»
177
هكذا عبرت الاتجاهات التغريبية - العلمانية - عن شكل من أشكال احتضان القيم الثقافية الغربية، وعن وعي سياسي زائف وضعها خارج اهتمامات الشعوب، وركبت مركبة الأنظمة وسارت معها «ويكفي أن نقارن في ذلك خريف الفكر العلماني وهامشيته في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، بالرجوع إلى بداية تشكل وظهور مجموعة من النخب التي تبنت الأنماط الإصلاحية للمجتمع العربي، وكيف أن العزل والتهميش رافقها منذ البداية، وأن القوة والإشعاع اللذين كانت تتمتع بهما في بداية ظهورها قد تحللا على الهامش التاريخي لأحداث الأمة وتطوراتها تماما، كما كان موقعها، بل حتى التي تحملت فيها مسئوليات الحكم في فترات لاحقة، لم تستطع تثبيت نفسها أمام الرفض الشعبي إلا بواسطة القهر والغلبة والنفوذ السلطوي الاستبدادي.»
178
فتحولت هذه الأيديولوجية - كما يقول برهان غليون - إلى عقائدية من نوع وطبيعة عقائديات القرون الوسطى، وإلى علموية جافة منحطة، احتلت الموقع الذي كان يحتله نظام المعرفة الوسطوي النص اللاهوتي ،
179
وبقاء النظام المعرفي لهذه النخبة متعاليا، وطبيعة العلاقة بينها وبين الأمة متباعدة، وهو الاتجاه الذي أكده منير شفيق حين فرق بين النخبة الغربية والنخبة العربية المتغربة، يقول: «إن النخبة في الغرب ابنة تجربته وحضارته، وهي وإن نزلت لفئاته الشعبية من خارجها إلا أنه نزول من فئات أعلى تنتسب إلى المجتمع نفسه وإلى الحضارة نفسها. أما النخبة المتغربة فسمتها أنها هبطت من خارج المجتمع إلى فئاته الشعبية، وهذا ما أخرجها من الدائرة الحضارية كليا قبل أن تناقش نخبويتها بالنسبة إلى الفئات الكادحة، وإن هذا الفرق بين النخبة في الغرب والنخبة عندنا فرق جوهري وأساسي؛ ولهذا فقدت «نخبتنا» الهوية التي احتفظت بها الجماهير، مما يشكل المصدر لأزمة عميقة، والمنبع الأول لأخطاء النخبة وعجزها؛ الأمر الذي فرض العودة إلى طرح موضوع الهوية، وإعطائه الأولوية.»
180
يبقى موضوع الهوية الحضارية واحدا من الشواغل الأساسية في العودة إلى الذات، والقدرة على القبض على المشكلات الحقيقية للأمة بمفاهيمها ومناهجها.
يبقى مشروع أركون واحدا من المشاريع الفكرية العلمانية في الفكر العربي المعاصر، التي لم تستطع أن تحدث خلخلة في بنية الذات العربية بالشكل الإيجابي، وقوبل في كثير من الأحيان بالرفض المطلق ليس في العالم العربي فحسب؛ بل في الغرب أيضا، حين حاول أن يتجرأ على الفكر الفرنسي، ويمارس النقد «العلمي» فاتهم بالأصولي المتزمت، إذ لم تشفع له سنوات الانتماء لهذا الفكر من التهمة بالأصولية، وهي الفرضية التي تؤكد أن الولاء للغرب خدعة انطلت على نخبنا الفكرية، فهم كاسحات ألغام ليس إلا، وهي الاعترافات التي عبر عنها أركون نفسه عندما امتلك الجرأة في نقد الفكر الفرنسي، اتهم بالأصولي المسلم المتزمت.
مشروع بنى ذاته على صيغ مفاهيمية غير قابلة للتواصل مع تيارات الفكر العربي والإسلامي، ولا تشجع على التفاهم، صيغ سالبة احتقارية للذات، والعقل العربي الإسلامي من خلال استعارة مفاهيم من الحقل المعرفي الغربي مثل الأوصاف التي وصف بها هذه الذات: «الوثوقية - اللاهوتية - العدوانية - الخرافية - الدوغمائية - الأرثوذكسية - الانغلاقية ...» كما يفتقر مشروعه إلى نوع من الذكاء المنهجي والمعرفي؛ إذ اتجه مباشرة إلى إعلان الحرب على المقدسات وتخريبها، عكس الجابري، الذي احتاط لهذا الأمر وعقد مع الإسلام علاقة ود واحترام وتقدير، بل أعاد تنظيم مشروعه على أساس العلاقة معه
181
وفق تصوراته، المهم عنده هو عدم إثارة الحساسيات، وتجنب الدخول في مربع الخداع الذي دخل فيه أركون والتيارات «الحداثية» التغريبية، وأنجزت قطيعة كلية مع هوية الأمة.
وأعتقد أن هذا النوع من المشاريع لم يعد قادرا على التفاعل مع الذات مهما حاولت الانتساب إليها، خصوصا بعد التحولات النسبية لبعض رموز هذا التيار نحو الهوية الحضارية للأمة ومحدداتها المنهجية والفكرية ومفاهيمها، وكذا التحولات التي تشهدها المنطقة، وعودة الدين إلى الحياة.
إن إبداع الأمة وعطاءها المأمول والمنشود لن يكون إلا من خلال إطارها العقدي والحضاري، وكل خروج عن هذا الإطار ضياع للجهد وضلال منهجي، ف «نموذج المجتمع العربي الإسلامي يختلف اختلافا بينا وجوهريا عن نماذج المجتمعات التي عرفتها أوروبا، فهذا يجعل منذ البداية عملية تطبيق مناهج الغرب على تحليل المجتمعات العربية الإسلامية نهجا غير علمي وانحرافا عن سواء السبيل.
لا ينفصل المنهج العلمي عما يحمل من مفاهيم ومعايير ونماذج مجتمعية، كما أن الذي يقرر علمية نتائج أي بحث هو مدى رؤيتها للأشياء كما هي، ومدى دفعها إلى أخذ موقف صحيح إلى جانب ما هو حق وضد ما هو باطل، لا انتسابها إلى هذا المنهج أو ذاك من المناهج الغربية التي تدعي احتكار العلمية»،
182
كما «أخفق المشروع العلماني في تحقيق أهدافه المعلنة، رغم الجهود التي رفدته، ورغم تعدد أسباب الإخفاق، فإن العامل الحاسم يكمن في إصرار النخبة العلمانية على فرض مشروعها التحديثي وإقحام الثقافة وأساليب الحياة الغربية في الممارسات المحلية باستخدام الإرغام والقوة (...) وعجزها عن إدراك حقيقة أساسية وهامة، وهي أن محرك التغيير والتجديد يرتكز في التحليل الأخير على الجوانب النفسية والثقافية للمجتمع، وهي جوانب لا يمكن التأثير فيها إلا من خلال الحوار الحر الهادف إلى إقناع الجمهور بقيمة وصواب الأفكار والممارسات المقترحة، لا من خلال الإكراه والترويع.»
183
ف «في الواقع، مهما كانت الخلافات بين الأيديولوجيات المتعددة المستدخلة وتلاوينها، فإنها في العمق تبقى دائما مستنسخة عن مفاهيم ومعايير تاريخ وهوية المركزية الغربية، ومن خلالها تفسر وتؤول وتحاكم مفاهيم ومعايير السكان المحليين.»
184
هكذا أعد هذا الاتجاه كفنه بيده، ومنطق التاريخ يخبرنا أن الأمم لا تنطلق في نهوضها من أفكار الآخرين واعتقاداتهم، فإن حدث فبمقدار، ويأتي في المرتبة التالية. وإنما من رأسمالها الذاتي (نموذج ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، اليابان، المنطقة الآسيوية)، كما أن منطق الطب الشرعي يخبرنا أن استعارة الأرحام مخالف للفطرة وللموجهات المنهجية للأمة، فلا إنجاب خارج الرحم الأصلي، وإلا فقد الجنين معادلاته الاجتماعية والنفسية والعاطفية وانتماءه للوطن، فلكل أمة حواملها الفكرية والمنهجية والثقافية.
ف «استرفاد الحداثة وجلب مناهجها التأويلية ليس كافيا للارتقاء بالقراءة إلى أفق الإبداع، ومرتبة البرهانية؛ بل لا بد من إعادة الصوغ والعجن، وإضفاء الوسم الذاتي على فتوحات العلم الحديث من خلال السبر والكشف والحدس المتبصر، فيستقل الباحث بلغته، ويجدد في أداته، ويفتح لنفسه مجال حرث مبتكر»
185
وجديد، وهو الاعتقاد السائد بين الباحثين.
الحاجة إلى الأدوات التحليلية والمناهج المعرفية لا تبرر التقديس الأعمى لها، بل قد نشأت عبر محاولات الفهم والتجربة والخصوصية والخطأ، وطرأ عليها طارئ التغيير والتبديل، الحذف والتعديل، وهو ما تؤكده كثير من التجارب البحثية، و«تظل كفاءة هذه المناهج مرهونة بعدة شروط، أهمها: تماثل الظاهرة والظروف المحيطة بها مع الظواهر التي نشأت تلك الأدوات لدراستها، فإذا تغيرت تلك العوامل أصبحت الوسائل قاصرة عن الوفاء بغايتها ووجب التدخل فيها بالتعديل والتطوير أو الاستعانة بأدوات مكملة، بل إن تلك الوسائل قد تهجر لأسباب لا علاقة لها بكفاءتها، بل بشيوع فلسفة عامة أو رؤى ومفاهيم مغايرة للعالم من قبل نخب علمية ناشئة.»
186
إن ما كتبه محمد أركون عن الفكر والمعرفة والمنهج في الثقافة العربية المعاصرة لم يحرر العقل العربي في الاتجاه الذي خطط له، بل انعكس ذلك سلبا على هذا العقل حين أسس لردة فعل سلبية تجاه ما بذله من الجهد، في الوقت الذي كان ينبغي أن ينتج أكثر لو وعى بنية هذا العقل الثابتة والمتغيرة، ومقاصده وخصوصية مناهجه، إلا أن الاختيار الأيديولوجي-المعرفي لأركون حرمه من الامتداد في ثقافة الأمة، كما حرم اتجاهات أخرى ذات المنحى التفكيكي السلبي. (أ) في الحاجة إلى تحرير المنهجية المعرفية المعاصرة من الرؤية الغربية العلمانية
لقد بات من الأولويات المعرفية في فكرنا المعاصر أن تحرير مجموع الأمة إنما ينطلق من قدرتها على تحرير ذاتها من الرؤية الغربية للمعرفة، انسجاما مع ما أثبتناه في الصفحات السابقة أثناء الحديث عن إنجاز مرحلة جديدة في علاقتنا مع ما استحدثه الآخر من مناهج في قراءة واقعه ونصوص ثقافته.
التحرير الذي يحرر الأمة والإنسانية من شيطنة الحداثة، ومن غلوها المادي، ومن غطرسة العولمة ومكائدها.
التحرير الذي يجد مخرجه في معانقة المعرفة التوحيدية الكونية المؤمنة بالطبيعة الفطرية للإنسان، ومن ثم فإن اجتراح أفق معرفي جديد يمر عبر الآليات النقدية المنهجية لهذه المعرفة العلمانية التي أريد لها أن تكون هي الأساس في التوجيه، والوسيط المعرفي في قراءة مسارنا الحضاري العام، من خلال «زاويتين اثنتين: زاوية تلتزم مبدأ المسافة معها ومع منجزاتها الحضارية، وزاوية تفكر في شق طرائق أخرى لا تتعارض مع القداسة، ولا تركن إلى العلمنة، وتعيد بناء مفهوم جديد للعقل والعقلانية، يتنزل العقل بمقتضى هذا البناء في مكانه الحقيقي وتعطى تبعا لهذا دلالات أخرى لمفهوم رؤية العالم، وقيمة المعرفة والحقيقة، وجميع المفاهيم المتشعبة عنها.»
187
متجاوزين من خلال هذا المنظور المفهوم البسيط للعلمانية إلى معالجة المفهوم المركب، أو ما سماه المسيري بالعلمانية الشاملة التي اعتبرها «أيديولوجية كاسحة، لا يوجد فيها مجال للإنسان أو القيم (...) وهي فصل القيم والغايات الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة، وعن مرجعيتها النهائية، وعن حياة الإنسان العامة والخاصة، وتطبيق القانون الطبيعي المادي على كل مناحي الحياة، وتصفية أي ثنائية، بحيث يتم تسوية كل الظواهر الإنسانية بالظواهر الطبيعية، فتنزع القداسة تماما عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية، يمكن إدراكها بالحواس الخمس، كما يمكن لمن عنده القوة الكافية لهزيمة الآخرين أن يوظفها لصالحه. ونتيجة لهذا يظهر العلم والتكنولوجيا المنفصلان عن القيمة والغاية»،
188
بذلك سقط ملف القيم من برنامج الحداثة العلمانية.
لا شك أن تحرير المعرفة من هذه الألغام الكاسحة الحالقة سبيل إلى إعادة المعنى للحياة وما ينتجه الإنسان من خلال الاستناد إلى قيم الوحي الثابتة؛ لأن «المعرفة التي يتم الآن نشرها في العالم بصورة منهجية منظمة ليست بالضرورة معرفة حقيقية وصحيحة، ولكنها مصطبغة بخصائص ثقافة الغرب وحضارته، ومشربة بروحها، ومكيفة وفق غاياتها، وإذن فهذه العناصر هي التي يجب تشخيصها وفرزها، ثم فصلها وعزلها عن هيكل المعرفة ومادتها بحيث تميز المعرفة مما أشرب بتلك العناصر.»
189
فالمعرفة الحقيقية والصحيحة - يقول العطاس - هي التي يدرك فيها الإنسان كينونته، ويجد فيها جوابا لأسئلته النهائية، ويدرك سعادته فيها، معرفة تتضافر وتتكامل فيها كل المعطيات المادية والغيبية، السننية والكونية. تحرير يعيد قراءة الوسيط المرجعي - الغرب - ولهذا التيار مقولاته ومفاهيمه، ووضعها موضع النقد والتحليل والتفكيك من أجل فهمها وإعادة إنتاجها. إنها «اللحظة التي ينهض فيها العقل معلنا استقلاله وقدرته على تمثيل نفسه، ومنبئا عن انكسار المركزية الأوروبية والرأسمالية الغربية»،
190
استقلال يعترف بحق كل ثقافة في الاختلاف والتأويل لقضاياها. (ب) الحوار الإسلامي العلماني: من أجل رؤية مستقبلية
عطفا على ما تحدثنا عنه في مبحث اختبار تداولية المفهوم - العلمانية - في الفكر العربي المعاصر، والأثر السلبي للصراع الذي حدث بين تيارات هذا الفكر، وعموم الأمة واستمرار نزيف الجهود وتبديد الطاقات وتضييع الفرص، فإن الحوار بين تيارات الفكر العربي المعاصر - على اختلاف مرجعياتها - حتمية تاريخية وواقعية؛ نظرا للتحديات التي تواجه مجتمعاتها المعاصرة، فالهروب إلى الأمام أو الوراء بات سلاح الضعفاء؛ لأنه خيار يزيد من ضعف قدراتنا في تحقيق النهضة، إذ لم تعد الأمة تتحمل هذه الصراعات بين تياراتها الفكرية، في حين هي في أمس الحاجة إلى البحث عما يقويها ويسندها في مواجهة هذه التحديات.
لا سبيل إلى هذا الأمر الجلل إلا فضيلة الحوار بين تياراتها، حيث تتاح فرص اكتشاف مناطق القوة ومواقف الاتفاق، ومناطق الضعف ومواقف الاختلاف عند كل تيار، حيث عادت كثير من القضايا بين تيارات الأمة إلى الواجهة وإلى درجة الصفر، من قبيل : الدولة الدينية أم الدولة المدنية؟ مشكلة القيم؟ مشكلة الحريات الفردية أم مشكلة العنف؟ مشكلة الأسلمة أم العلمنة على مستوى المعرفة؟ خصوصا بعد صعود التيارات الإسلامية إلى الحكم أو المشاركة فيه مع التيارات ذاتها.
حوار يكتشف فيه التيار العلماني الوجه «الحقيقي للإسلام، ولطاقات مشروعه الحضاري وإمكاناته في تحقيق انتماء الأمة وتحريكها نحو أهداف التحرر والتقدم والقوة والانعتاق من أسر التخلف الموروث والاستلاب الحضاري (...) وللوجه المشرق للصحوة الإسلامية كتيار بعث وإحياء واجتهاد وتجديد، وتبديد الصورة الظالمة التي تصورها جميعا كرجعية وجمود وغلو (...) وأيضا اكتشاف الإسلاميين حقيقة موقف هذا الفصيل العلماني، وكيف أن علمانيته ليست (...) مرادفة للعمالة والكفر والإلحاد ... والكشف عما لدى هؤلاء العلمانيين من علوم وخبرات ومهارات وإمكانات من الأهمية بمكان [يمكن] توظيفها في خدمة المشروع الحضاري الإسلامي»،
191
وبالمناسبة فإن اتجاهات الفكر العلماني ليست على درجة واحدة في موقفها من مشكلات الأمة، ويمكن رصد ثلاث اتجاهات كبرى:
192 (1)
اتجاه الدعوة إلى الانخراط الكلي والشامل في النموذج الغربي والقطيعة مع التراث. (2)
اتجاه يدعو إلى التحديث حسب «قواعد» وخطوات التجربة الغربية، لكن من داخل قارة التراث والتاريخ الإسلامي. (3)
اتجاه يدعو إلى التجديد والنهضة من داخل التراث وبأدوات التراث، أو بما يناسبها مما يمكن استعارته.
قد ترد اعتراضات حول طبيعة هذا الحوار، مع أي اتجاه نتحاور؟ المسألة عندي تتعلق بجميع الاتجاهات، وبمنطق الربح والخسارة؛ ماذا نربح إذا أقصينا اتجاها دون آخر؟ وماذا نخسر؟ ماذا لو كان الحوار يشمل الجميع؟ لكن مع ترتيب الأولى فالأولى؟ إذا احترمت إرادة الأمة فالدعوة إلى الحوار مع تيار العلمنة «لا تعني بأية حال قبول مشروعه، ولكنها تعبر عن حرص على توفير حق التعبير لأصحاب الرأي المخالف؛ دفاعا عن صحة المجتمع وسعيا إلى إنجاح المشروع الوطني العام الذي هو ملك للأمة بمختلف قواها وتياراتها، وليس ملكا لفصيل سياسي دون آخر.»
193
حوار يستند إلى قاعدة الاعتراف برسالة الإسلام في النهوض والإصلاح، ليس على المستوى السياسي فقط؛ بل اعتراف يشمل رسالته الحضارية الإنسانية، ف «لا يمكن تحقيق تقدم معتبر على طريق النهضة والحداثة في الوطن العربي من دون الإسلام وبعيدا عنه.»
194
من شأن التحول في الرؤى بين دعاة العلمانية والإسلامية تقريب وجهات النظر في عدد من القضايا التي تعد من المختلف فيها - وهي غير ذلك - ومن خلال الاحتكام إلى مرجعية جامعة أن يكسب الأمة مناعة ضد التفسخ والانحلال المعرفي والقيمي والانسلاخ عن هويتها مهما اشتدت عليها الأزمات. لكن يبقى رأي النخب العربية حول عدد من القضايا حالة لا تمثل الأمة إلا من خلال قدرة هذه النخب على التمسك بمرجعيتها النهائية؛ لأن المشكلة الحقيقية في رأيي نابعة من عدم التوافق حول الإطار المرجعي الذي يوحد الجهود، ويبدد الخلافات، معيار القياس لإشكالاتها.
إن الرهان الذي عولت عليه تيارات الفكر العربي المعاصر في شقها «الحداثي» في تحديث الذهنية العربية الإسلامية لم ينتج إلا مزيدا من التأخر والتخلف، رغم بعض مظاهر الحداثة وشكلياتها، فالأصل هو أن تتجه الجهود إلى منابع المشكلات ومنابع الحل لا أن تحوم حولها، فقد انعكس المنظور الغربي للمناهج على أهم الدراسات العربية النقدية، فلم تستطع أن تنفك عن هذا المنظور إلا في أجزاء قليلة.
ونحن هنا نتفق مع الكاتب العراقي عبد الله إبراهيم فيما انتهى إليه على مستوى الآليات النقدية في الفكر العربي المعاصر، حين وصفها بأنها آليات سعت إلى انتزاع شرعيتها المعرفية من خلال تمثل «الآخر»،
195
فالاستنطاق لمتون هذا الفكر التي انتخبناها كشف عن ذهنية حاولت أن تقرأ الذات بمنظور الآخر و«صار عندها «المعيار الغربي» بمعطياته المنهجية هو الذي يحدد «موقع الذات» و«درجة الأهمية»، وهي صفة تلازم «التأثير السلبي» ولا تليق ب «المثاقفة الإيجابية»»
196
التي ينبغي أن تبصم مسار ثقافتين عريقتين: العربية الإسلامية والغربية، وهو «أمر لا يمكن تفسيره إلا بالإخلاص ل «الآخر»، والتعبير عن إشكالياته المعرفية، وليس توظيف كشوفاته توظيفا خلاقا في الممارسة النقدية الذاتية»
197
رغم ما يعتري هذا التوظيف من صعوبات منهجية وفنية، سواء تعلق الأمر بالمفاهيم أو بمرجعيات هذه المناهج.
كما أن الكشف عن مرجعيات التكوين والانطلاق في الإصلاح عند تيارات الفكر العربي المعاصر لا يعني إنكار هذه المرجعيات أو التقليل من شأنها، أو بيان ضعف قدراتها التدبيرية وعوارها التصوري المنهجي، أو اختلال نسقيتها بالنسبة لموطنها الأصلي؛ لأنها كسب إنساني مقدر ينبغي التعامل معه في إطار دائرة المشترك والمنجز الإنساني، لكن دون الانسلاخ عن ذواتنا ونكران معطياتنا الحضارية والتصورية، إنما وجه الاعتراض على هذه المرجعيات اعتبارها مرجعيات نهائية حاسمة، وإلزام عقل الأمة بالتبني القسري لها دون امتلاك حق السؤال والاعتراض، ودون مبرر واقعي تاريخي أو نفسي يراعي الخريطة التكوينية والإدراكية للإنسان العربي وتحيزاته ونماذجه المعرفية، وهو القرار المعرفي والمنهجي الذي يؤطر خطوات الفصل الثالث من هذه الدراسة.
الفصل الثالث
المدرسة البنائية التأصيلية في الفكر العربي المعاصر: الرؤية
والمنهج
(دراسة في نماذج)
عاشت الأمة العربية الإسلامية أطوارا حضارية متقلبة ومتناقضة في تشكيلها الفكري والمنهجي، وكانت مسرحا لتجارب فكرية ومشاريع إصلاحية منذ طرح سؤال النهضة، وأطوارا متنقلة بين مدارس فكرية غريبة الهوية والحضارة، لم تثمر ما كانت ترجو وتصبو إليه من تحقيق النهضة والتقدم والحضارة، فظلت متأرجحة في تصوراتها بين حقول معرفية ولدت لديها أزمة عميقة في نسقها الفكري وبنائها المنهجي، وشوهت معالمها الحضارية.
وكان الضعف التاريخي والحضارة سببا مباشرا في التمكين لمنظورات ومنهجيات متعددة في نسقها الفكري والمعرفي، وغياب بدائل داخلية من شأنها المنافسة والمزاحمة والتدافع الحضاري الإيجابي، فظلت خاضعة للبدائل الغربية ومركزيتها التي اختارتها «النخب» العربية بديلا وقبلتها المفضلة - رؤية ومنهجا - لا تبغي عنها حولا، معتقدة صوابية الوجهة والتوجه، فكانت الحصيلة كما يرى الجميع ويتفق، لا هي أمة أصالة ولا أمة معاصرة، لا هي حداثية ولا هي تراثية، أمة التناقضات والنماذج الفكرية والمنهجية المجربة والمخصبة خارج رحم الأمة، فترك التطبيق التعسفي لنماذج فكرية متأرجحة ولمنهجياتها آثارا مدمرة على الشاكلة الثقافية للأمة، وأفقدها استقلالها التاريخي والفكري، فضاعت كثير من الجهود في تحقيق حلم النهضة.
ونسوق شهادة وفاة واقعية موقعة لأحد رموز التيار القومي العربي، الدكتور محمد عابد الجابري، على الفشل الذي منيت بها تيارات الأمة، وكساد بضاعتها الفكرية وعدتها المنهجية، ويصوغ هذا الفشل على شكل تساؤلات: «هل تمكن العرب فعلا من تحقيق نهضتهم؟ وهل حققوا من التقدم ما يكفي لجعل مشروع النهضة يتحول فعلا إلى مشروع ثورة؟» إشكالات تعبر عن القلق، يقول: «ومهما تنوعت الآراء واختلفت الاتجاهات، فإن أحدا منا نحن العرب المعاصرين لن يجادل في مشروعية طرح مثل هذه الأسئلة، وفي هذا الوقت بالذات، ودون أن نستخلص من هذه الأسئلة أو من المعطيات - التي تستحثنا على طرحها - نتائج قد تكون أكبر مما ينبغي، فإن الواقع اليومي الذي يفرض نفسه علينا في الظروف الراهنة يجعلنا نشعر فعلا وكل يوم بأن «شيئا ما» لم يتحقق، أو لم ينجز في هذه «النهضة» العربية، وبالتالي نشعر بأننا لم ننجز بعد نهضتنا كاملة»،
1
لأنها مشاريع أسست على مقدمات خاطئة، ولافتقادها لإطار مرجعي جامع وموحد، يجمع شتات أفكارها ويرتبها في نسق حضاري جامع.
وقد شكلت هذه التيارات محور أزمة فكرية ومنهجية عميقة، ولهذا فإن «النخب الفكرية في واقعنا العربي الإسلامي لا يمكن أن تتوجه إلى الفعل الحضاري إلا بقدر تمسكها بمرجعية عميقة الجذور ومرتبطة بكيانها التاريخي (...) فالمجتمع الإسلامي المعاصر لا يمكن أن ينطلق إلى تأكيد ذاته من خلال مرجعية خارجية مستمدة من تاريخ مغاير، ومن فكر وافد (...) ومن ثم يغدو النهوض من خلال تأكيد الذات هو الخيار الحضاري الوحيد أمام كل البدائل الفكرية التي روج لها سدنة الغرب في واقعنا العربي المعاصر.»
2
ومن هنا برزت جهود البناء والتأصيل للخيار الحضاري العربي الإسلامي، وتجاوز الخيارات الاغترابية والمقارباتية والمقارناتية، وإشاعة المرتكزات المنهجية والفكرية والمعرفية الإسلامية القادرة على الإمساك بالمعضلات الحضارية للأمة، مع الانفتاح والتفاعل الإيجابي مع الخيارات الإنسانية المتاحة في ظل هذه المرتكزات والأصول، ومنهاجية مفاهيمية متحررة من إكراهات الماضي وثقله واستلابية الحاضر وضغطه.
ويمكن التأريخ لهذه الجهود من العمليات والمحاولات التي دشنها كثير من رواد وقادة الفكر العربي والإسلامي، محاولات تؤشر كلها - كما يقول طه جابر العلواني - إلى ضرورة بناء «فقه النقد» الإبستيمولوجي من عمليات التعامل والتفاعل مع الفكر الغربي، ونقد أسسه ومناهجه.
البدايات التي دشنها محمد إقبال، والندوي، ومالك بن نبي، وعلي شريعتي، وإسماعيل راجي الفاروقي، وسيد قطب، ومنير شفيق، وعبد الوهاب المسيري، وطه عبد الرحمن، وغيرهم، ممن كتب الله له أن يكتب في هذا المجال (مجال التأصيل الأصيل)، دون أن ننسى جهود المعهد العالمي للفكر الإسلامي في إطار «إسلامية المعرفة».
فانصبت كل هذه الجهود على إعادة الاعتبار للمنظومة الفكرية والنواظم المنهجية الإسلامية في عملية البناء المعرفي؛ أولا: لإعادة الثقة بهذه المنظومة وقدرتها، ثانيا: على البناء والتحرر والاستقلال الحضاري، وتقديم نموذج معرفي تفاعلي غير مستبد وغير متمركز، نموذج يحرر الإنسانية من تغول النموذج الغربي ومن مواليده الفكرية ونماذجه المنهجية. لكن طبيعة الموضوع تفرض علينا اختيار الاشتغال على نموذجين من نماذج هذا الخطاب التأصيلي البنائي الحداثي، أعتبرهما قد استوفيا الشرائط الفكرية والمنهجية في البناء الفكري المعرفي المنهجي المعاصر، من خلال استيعاب الأدوات الداخلية التي أنتجتها ممارسة الأمة التاريخية، وهضم الأدوات الخارجية والقدرة على تفكيكها ونقدها.
النموذج الأول:
نموذج مغربي دأب منذ وقت مبكر «بداية السبعينيات» على إبراز رسالة المدرسة البنائية الأصيلة في كشف كثير من عيوب مدارس الفكر العربي المعاصر واضطراب عباراتها وقلقها، وبناء منظومة فكرية تعيد للأمة عزتها بين الأمم، نموذج طه عبد الرحمن.
أما النموذج الثاني:
فهو نموذج مشرقي مصري عرف هو الآخر بدقة مفاهيمه ومعاركه الفكرية القوية، ومتابعته لمستجدات الساحة الفكرية العالمية. إنه نموذج عبد الوهاب المسيري، فبين الأنموذجين (طه عبد الرحمن، وعبد الوهاب المسيري) متحدات على مستوى مرجعيات البحث المعرفي والمنهجي، والتأسيس لنماذجهما الفكرية.
فكلاهما اتجها إلى نقد أطروحات الفكر الفلسفي الغربي، وتحرير الفكر العربي المعاصر من سطوة مفاهيمه ومرجعياته، وبناء مقدمات إبستيمية في التعامل مع الفكر الإنساني تتجاوز كل التحيزات الجغرافية والتاريخية.
نموذجان يشتركان في أفق اشتغالهما بالتجديد المنهجي المعرفي المرتبط بالرؤية التوحيدية الكونية، والتأسيس لحداثة إسلامية إنسانية معاصرة، حداثة ينتقل فيها الإنسان من إنسان الآلة - مجموع غرائز وماديات وشهوات وآلة مسخرة - إلى إنسان الآية - مجموع قيم ومقاصد.
فإبراز جهود هذه النماذج التوليدية البنائية لا يلغي السابق جملة، كما لا يقبله جملة، إنما يؤسس لتحيزات العقل العربي المعاصر، وفق أصوله التداولية وما تقتضيه الحكمة الإنسانية من الانفتاح الراشد على ثمراتها. (1) المبحث الأول: مشروع طه عبد الرحمن: الرؤية والمنهج
يندرج المشروع الذي نقدمه في إطار المحاولات الجادة الجدية التي تعرفها الساحة الفكرية العربية المعاصرة، وفي ظل التدافع بين قيم الإسلام ومشاريعه في مستوياتها المتعددة، وقيم الحداثة الغربية ومشاريعها بسلبياتها وبعض إيجابياتها، كما يندرج ضمن سياقات متعددة، لعل أبرزها الانتكاسات المتتالية للخطابات التغريبية، وفي سياق صياغة معادلة حضارية ناجعة ومتوازنة بين ضوابط الانفتاح ومخاطر الانغلاق.
محاولة من شأنها تحديد معالم منهجية ضابطة لحركة انتقال الأفكار والمناهج ومفاهيمها، مشروع عرف صاحبه بكفاءته الحوارية العالية مع كثير من القضايا الفكرية المعاصرة التي كانت إلى وقت قريب من المسلمات التي لا تتزعزع، وكان عليها الرهان أكبر في إنجاز تحولات كبرى.
فكان له مسار آخر إبداعي يتجاوز الآليات التحليلية التي استنبتت في ثقافة الأمة، مسار ينطلق من الإيمان العميق بقدرة العقلية العربية الإسلامية على الإبداع خارج القوالب الفكرية الخارجية التي ابتليت بها النخب العربية المقلدة.
وتبدأ هذه الممارسة البنائية الأصيلة عند طه عبد الرحمن من محورين أساسيين يراهما الأقدر على مواجهة التحديات الراهنة: «الروح العقلانية النافعة»، و«الروح الجماعية الصالحة»، اللتين ثورتهما الممارسة الحوارية الحاصلة على شرائطهما المعلومة، «فلا يحتاج مجتمعنا في القرن الجديد إلى شيء احتياجنا إلى هاتين الروحين المتكاملتين»
3
من خلال اختبار اختياراتنا الفكرية، وفتح آفاق واسعة للحوار، والتواصل والعمل المشترك النافع للأمة، بدل الاستمرار في ممارسة الشذوذ الفكري والمنهجي؛ لأنه طريق موصد وغير مثمر، داعيا إلى تثبيت الرحل أولا قبل البدء في الممارسة النقدية.
فكان اختياره على مستوى المرجعيات مخالفا لما ألفناه عند من سبقوه، إذ لم يكن طه عبد الرحمن ناقدا فقط، بل جمع بين النقد والبناء والإنشاء والإبداع، فقد توسل في عمله وسائل ومفاهيم وطرائق تضاهي في قوتها المنهجية وسائل الحداثيين العرب، إن لم تتعداها جدة ودقة؛ لأن مستنده لم يكن النظر العميق التقليدي، وإنما كان مستجدات البحث المنهجي الصريح.
4
استمد وسائله المنهجية ومفاهيمها النظرية من علمين دقيقين عرفا منذ زمن يسير «انقلابا» في أدواتهما ومبادئهما ومضمونهما:
5
علم اللسانيات بأقسامه الثلاثة: الداليات والدلاليات والتداوليات، التي اعتمد عليها في قسم كبير في كتابه «أصول الحوار» وأصبحت مصطلحا ملازما له في كل أبحاثه، باعتباره أوفى المصطلحات بالغرض من غيرها، واشتق منه مفهوم «المجال التداولي».
وهو من المفاهيم الإبداعية في منهجية طه، كما كانت اللغة العربية المرجعية الأم في اصطناع أدوات بحثه العلمية. يقول: «لقد غلب على الباحثين العرب في وضع مصطلحاتهم العلمية وبناء أجهزتهم الوصفية التفسيرية، الاشتغال بقوالب اللغة الأجنبية: الفرنسية والإنجليزية، فلا نكاد نجد عند معظمهم من المعاني العلمية إلا ما كان نقلا حرفيا لمصطلحات أجنبية من غير وعي بأصول بعضها النسبية، وفائدتها المحدودة. وبلغ سلطان هذه المعايير على هؤلاء درجة أصبحت معها ألفاظهم «أشكالا» منقطعة الصلة بدلالاتها اللغوية، وفاقدة لأسباب الإنتاج والتعبير في الفكر العلمي.»
6
فهذه الغلبة في المصطلح والتداول لم تغن الأمة ولم تحقق لها وظائفها. وسعيا في تحقيق الاستقلال عن المعايير الأجنبية وطرد هذا الاحتلال المفاهيمي في إنتاج المعرفة يقول طه عبد الرحمن: «اجتهدنا قدر المستطاع في الأخذ بأسباب اللغة العربية في التعبير والتبليغ، ووظائفها في التنظير (...) وتمهيد الطريق لممارسة علمية باللسان العربي في ميدان تحليل الخطاب.»
7
أما المرجعية الثانية التي اعتمدها فهي المنطق، فقد تدققت وسائله وتشعبت أبوابه وتعددت مستوياته واتسع مجاله، فاستعانت به مختلف العلوم في ضبط مناهجها وتنسيق نتائجها، واستفادت منه العلوم الإنسانية على الخصوص طرقا في البحث الدقيق والوصف المحكم. على ضوء هذه المرجعيات أنتج طه عبد الرحمن صيغا مفاهيمية وجهت مشروعه الفكري والمنهجي، وأغنت الحقل المعرفي العربي الإسلامي المعاصر، وأعادت له معماريته الفنية والجمالية.
لم تساهم الدراسات التغريبية في نظره إلا في إفقار الإنسان العربي المسلم من خلال إغراقه بمفاهيم إسقاطية، وتقليد لأهلها، فكل الدعوات التي شهدتها الساحة الفكرية العربية لم تساهم إلا في تكريس هذا الإفقار من خلال التقليد بدل الإبداع، أما «الواجب في دعوة التجديد الصحيحة هو أن تغني العربي أو المسلم، لا أن تفقرهما، ولا سبيل إلى تحقيق هذا الغنى لهما إلا بأن نترك محاكاة أصحاب هذا التقرير فيما يعتقدون ويفكرون ويقولون.»
8
كما كان للمنهجية الأصولية حضور متميز نظرا لما تتميز به من قوة في بناء الاعتراضات وردها، وصياغة الإشكالات، حيث اعتبرها هي العطاء المنطقي الإسلامي غير «الأرسطي» البارز في عموم التراث الإسلامي.
أما الاعتبار الثاني: أن هذه المنهجية أسهمت في دراسة الظاهرة الخطابية بما يثير الإعجاب، وضمنت أدوات علمية ما زالت تحتفظ بفائدتها الإجرائية، ثم إنها ذات طابع موسوعي، حيث تتداخل فيها علوم متعددة، وتتعاضد فيما بينها، حتى كانت أوسع المنهجيات الإسلامية على الإطلاق.
كما أن استئناف العطاء المعرفي الإسلامي يقتضي الصلة بالعطاء المعرفي الماضي من غير جمود عليه، وما وجدت في جوانب المنهجية الإسلامية عموما أصلح للقيام بهذه الصلة من المنهجية الأصولية؛ لما تتميز به من إبداع وتكامل وانفتاح.
9
هكذا شرع في بناء وتأسيس منهجه من خلال المحورين التاليين: (1-1) منهجية بناء المفاهيم والمصطلحات
تنطلق هذه المدرسة في عملية التجديد الفكري والمنهجي من نقطة ارتكاز في صناعة الأفكار وبناء المنهجيات، وتثبيت الأنظمة الفكرية، من بناء المفاهيم؛ إيمانا منها بأن المعركة اليوم هي معركة المفاهيم، إذا صحت صح الإنتاج المعرفي والمنهجي، وإذا فسدت فسد، وتعطلت مسيرة الأمة؛ ولهذا لا أحد ينكر أن «المجتمع المسلم اليوم يكابد من التحديات المعنوية مقدار ما يكابده من التحديات المادية، ويتصدر التحديات المعنوية ما يواجهه من تيه فكري ممثل في فتنة مفهومية كبرى لا يعرف كيف يخرج منها، إذ لا تفتأ تتوارد عليه كثرة متكاثرة من المفاهيم التي تضعها المجتمعات الأخرى، فيأخذ في التخبط في معاقدها ومغالقها، بل في متاهاتها وأحابيلها، لا قدرة له على استيعابها، ولا طاقة له على صرفها، والواقع أن المجتمع المسلم ما لم يهتد إلى إبداع مفاهيمه أو إعادة إبداع مفاهيم غيره، حتى كأنها من إبداعه ابتداء، فلا مطمع في أن يخرج من هذا التيه الفكري الذي أصاب العقول.»
10
فهذه الصناعة المفهومية هي التي تمنح للأمة حق الارتقاء - كما يقول طه - إلى رتبة الاستقلال في تقديم إجابات واقعية لمشكلاتها المعاصرة، ودفع التحديات التي تواجهها بعيدا عن تقليد تجارب الآخرين واستعارة ألسنتهم.
فقد خسرت الأمة معركتها الحضارية؛ لأنها خسرت معركة المفاهيم، وخاضت معاركها بأسلحة الغير لا بأسلحتها، كما تخوض الجيوش العربية معاركها - إن كانت لها معارك - بأسلحة مستعارة من الغرب، وهو يعلم مداها ومفعولها ومدة صلاحيتها، حتى إذا ما قدر لها أن ترد على الهجومات المباغتة أو المنظمة، فإن العدو يعلم أنها أسلحة خفيفة لا تقوى على المواجهة، وغير ذات مفعول في المعركة، ولهذا لم «تتعرض الأمة المسلمة في تاريخها لحرب مفهومية أو على الأصح لاعتداء مفهومي، تعرضها له في أيامنا هذه، وقد اتخذ هذا الاعتداء شكل إلزام الأمة بمفاهيم مخصوصة الغرض منها إعادة صياغة عقول المسلمين وأخلاقهم حتى يسهل قيادهم، سعيا وراء إفساد عاداتهم وطبائعهم (...) ويتبع «المعتدون المفهوميون» في هذا الإلزام أساليب عدة
11
ذكر منها ثمانية نماذج،
12
كلها تتجه إلى محو شخصية الأمة المفهومية الأصلية، وإدخالها في دائرة التزييف والاحتواء الحضاري والإملاء.
هذا الأسلوب «الذي ما فتئ أصحاب الاعتداء المفهومي يستحدثونها ويلقون بها إلى الأمة المسلمة كلما جددوا استراتيجيتهم في الهيمنة، معبئين لها كل وسائل الضغط والقهر التي يملكون، ويتولى ترويجها عنهم وكلاؤهم ووسطاؤهم من الإعلاميين والمثقفين، فيخدع بها الكثيرون من أبناء هذه الأمة.»
13
فكل هذه النماذج والأساليب التي قدمها من الاعتداء المفهومي، تدخل في إطار مساهمته فيما أسماه «دفع التحديات المفهومية التي تواجه أمتنا المسلمة، لكي تجد طريقها إلى فكر مستقل ومبدع، حتى إذا أخذت من غيرها لم يكن عن ضعف، ولا مع شعور بعقدة نقص، وإذا أعطت غيرها لم يكن عن متعة، ولا مع شعور بعقدة عظمة، وأفضى بنا هذا التفكير إلى أن نجهز أنفسنا لجهاد مفهومي في ساحة الفكر الفلسفي»،
14
في أفق تحرير المثقف المسلم من عقدة «الخوف من الإبداع»، والارتهان لشبكة مفاهيمية فقدت قيمتها، وبعث الهمة فيه لصناعة مفاهيم مخصوصة كما «يصنعها غيره، فيقابل المفهوم بالمفهوم والتعريف بالتعريف والتدليل بالتدليل، بل في نهاية المطاف يقابل التنظير بالتنظير، فيكون بذلك إيذانا بولادة أمة جديدة»،
15
تملك قرارها العلمي والمعرفي، وذات سيادة مفاهيمية تملك خرائط تفكيرها وأدوات إبداعها، إذ لا إبداع إلا في إطار هذا التنظير المفاهيمي الذي يراعي خصوصيات الأمة.
ويفتح طه عبد الرحمن في إطار هذه الاستراتيجية المفهومية ثغرات في الجهاز المفاهيمي المهيمن على حقل الدراسات العربية المعاصرة، ويخلق للقارئ مشاكل في أفق البحث عن طرق الحل، وسد الخلل، فهو يرى أنه «لا بد لعمل يعيد الصلة بهذه الآلة - آلة صناعة المفاهيم المنطقية واللغوية - أن يستصعبه القارئ العربي، نظرا لأنه يحدث انقطاعا في ما كان مألوفا له منذ أمد بعيد، فضلا عن الدقة البالغة التي تختص بها هذه الآلة، والتي تدعو أصلا إلى زيادة التركيز للذهن وتسديد للانتباه، ومهما يكن من أمر فإن هذا القارئ مطالب اليوم بأن يخرج عن مألوفه الذي لم يفلح إلا قليلا في زحزحته عن ركوده العلمي، كما هو مطالب بأن يجهد نفسه بما يبلغ نهاية طاقته، إن هو أراد أن يحدد عطاءه ويضمن استمراره، فلا اجتهاد بغير إجهاد ولا بقاء بغير عطاء»،
16
فيشرك معه القارئ في عملية البناء والتجديد المعرفي، فيكون الجهد جهدين: جهد الباحث وجهد القارئ.
هكذا يتصور المعادلة بين الباحث والأمة، لا طرف دون آخر، فكان وضع المصطلح والمفهوم في الإنتاج العربي الإسلامي أحد أهم انشغالاته؛ لتحرير المعرفة العربية الإسلامية مما أسماه بطور استهلاك المصطلح الأجنبي، بحيث ظل الإنتاج المعرفي العربي مشدودا إلى هذه المرحلة من الاستهلاك ناقلا لمحتوياته ومفاهيمه، والانتقال إلى طور جديد هو «طور إنتاج المصطلح الأصلي» البديل للمفاهيم المتداولة، وهو طور لا يبلغه الباحث إلا إذا اكتسب القدرة على ممارسة التنظير، أي إنه حصل الملكة المنطقية التي تؤهله لبناء المناهج والنظريات والنماذج حسب حاجته،
17
وإنتاج هذا المصطلح وبلوغ هذا الطور على مستوى الإنتاج ارتبط عنده باستيفاء ثلاث شرائط ومعايير:
18 (1)
العمل بأحدث الضوابط والشروط النظرية والمنهجية في وضع المصطلح العلمي. (2)
استثمار الإمكانات التعبيرية والتبليغية التي تختص بها اللغة العربية، والتي لم تقع الاستفادة منها على المستوى الفلسفي. (3)
مراعاة التوجهات العملية للتراث العربي الإسلامي، التي تجعل له خصوصية معينة.
الالتزام بهذه المعايير يمنح الباحث والبحث العلمي الفلسفي بالدرجة الأولى قدرة على الإبداع، إبداع المفاهيم، وإبداع على مستوى الإنتاج، أما «ملاحقة المصطلح الأجنبي فتحول دون فعاليته وإنتاجيته داخل الممارسة الفكرية التي وفد عليها، ذلك أن هذا المصطلح يبقى جاهلا لآثار أصله الأجنبي وداخلا في شبكات معرفية مرتبطة بهذا الأصل، بحيث يحتاج مستعمله العربي إلى إحضارها في ذهنه كلما اشتغل به، فيبقى غير قادر على الإبداع بواسطته»،
19
الأمر الذي جعله يصف الإنتاج العربي الفكري والفلسفي بأنه إنتاج مقلد لا غير، يخلو من أي صفة إبداعية، رغم ادعاء أصحابه الوصل بالإبداع؛ لأنه فكر بوسيلة غير وسيلته هو، وأنتج بغير آلياته.
ومسلك طه عبد الرحمن للمفهوم الأصيل وحل معضلة الفكر الفلسفي، الترجمة، باعتبارها أحد المداخل الأساسية التي أوتي منها الإبداع العربي الإسلامي قديما وحديثا تدشين طور جديد في هذا المجال بعد الطور الأول والثاني الذي تم في المرحلة العباسية والحديثة، لكن بمقاييس ومعايير جديدة، تتيح إمكانات إنتاج مفاهيم أكثر قوة وارتباطا بمجالها التداولي الأصلي. وما لم ينجز عقل الأمة هذه المرحلة وفق حاجاته يبقى استقلاله استقلالا منقوصا.
طور دشنه بنقد مسلمات الترجمة العربية الحديثة التي لم تسلم من عيوب واعوجاجات عطلت مسيرة النهضة الفكرية والفلسفية للأمة، لإخلالها بركن من أركان الترجمة هو «الاستقلال المسئول»، وظلت مرتبطة بالتطبيق الغربي ومبنية على مسلمات ذكر منها ثلاثا كلها باطلة:
أولاها: «مسلمة المماثلة بين التجربتين القديمة والتجربة الحديثة في الترجمة»، وبطلان هذه المماثلة من أوجه نذكر منها:
20 (أ)
أن التجربة الأولى للترجمة - في العصر العباسي - فعل اختياري صدر عن إرادة إثبات الذات وتحقيق إمكاناتها الواسعة، بينما التجربة الثانية انفعال اضطراري دفاعا عن النفس وحماية الحدود. (ب)
التجربة الأولى مارسها أهلها وهم في موقع قوة، إذ شرعوا في تأسيس هوية ثقافية وشخصية حضارية خاصتين بهم، بينما المتأخرون منهم يمارسون التجربة الثانية من موقع ضعف ولد لديهم شعورا حادا بتخلف مجتمعاتهم وعقدا نفسية تهدد هويتهم وشخصيتهم. (ج)
أن التجربة كانت تتخير النصوص التي ينبغي نقلها بحيث لا تصادم القيم الأخلاقية التي تشبعت بها الروح الإسلامية، بينما التجربة الثانية تتهافت على نقل كل النصوص، لا تبالي إن أضرت بالقيم الأخلاقية الإسلامية أو لم تضر بها. (د)
أن تجربة الترجمة الأولى نقلت نصوصا أنتجتها حضارة غابرة، ولو أن بعض آثارها باقية، في حين أن التجربة الثانية تنقل نصوصا تنتجها حضارة قائمة بيدها أسباب صنع التاريخ الإنساني في هذا العصر.
التجربة الأولى - في نظره - تتمتع بدرجة عالية من الاستقلال بوجود رغبة داخلية، بينما التجربة الثانية لا تتمتع بهذه الدرجة من الاستقلال، فهي مجبرة ومستضعفة. وهذا رد واضح على أطروحة الجابري التي دعا فيها إلى تأسيس وبدء عصر تدوين جديد، يشابه ويماثل عصر التدوين الأول، والتمكين للجوانب العقلانية من كلا التراثين من الاستمرار فينا: تراث الأمة وتراث الغرب.
21
أما ثاني هذه المسلمات ف «الترجمة الواحدة للكتاب الواحد»، مع ما في هذا العمل من ضياع للجهد وإهدار له، حيث تتعدد الترجمات لكتاب واحد. أما المسلمة الثالثة ف «الترجمة الواحدة للمترجم الواحد».
من شأن هذه الاعتراضات زعزعة أصول الترجمة المعتمدة في الفكر العربي المعاصر، وقدرتها على التشكيك في المفاهيم التي ترجمت واعتمدت أساسيات في التحديث والنهضة والتقدم، فتكون المشاريع التي اقترحت على الأمة من النوع الخارجي الذي لم تحصل معه فائدة؛ لأنه حصل وقف نماذج مقتبسة خارج المجال التداولي الأصلي، فقدم - وكعادته في الاستدلال والاعتراض وورود الشبهات، وهو أسلوب منطقي فقهي أصولي كان له شأن عظيم في صياغة الفروض المنهجية عند طه - شبها مختلفة على هذا الاقتباس الخارجي: «شبهة الخلط» و«ضعف الاستدلال» و«استبدال التراث» و«دوام الاقتباس» و«تمييع الهوية».
22
وكل «هذه الشبهات تبين أن محاولة تحديث الفكر الإسلامي العربي لا تخرج عن نطاق الأخذ بأفكار الآخرين وعن حد التشبه بعقولهم، ومعلوم أن الأخذ الذي ليس معه عطاء لا يكون إلا تقليدا، وأن التشبه الذي ليس معه استقلال لا يكون إلا اعتقالا، وحينئذ لا يكون تحديث الفكر الإسلامي العربي تحديثا حقيقيا، وإنما تحديث وهمي وحسب».
23
لقد ميز في هذا المشروع بين ثلاثة أنواع من الترجمة :
24 (أ)
الترجمة التحصيلية التي تتوخى الحرفية اللفظية، بحيث لا لفظ من ألفاظ النص إلا نقلته، وقد تزيد ألفاظها عن ألفاظ النص الأصلي. (ب)
الترجمة التوصيلية التي تتوخى الحرفية المضمونية، بحيث لا معنى من معاني النص إلا نقلته، سواء طابقت ألفاظ النص الأصلي أو باينتها، لكن الراجح أن تباينها. (ج)
الترجمة التأصيلية التي تتوخى التصرف في النص الأصلي، ألفاظا ومعاني بالقدر الذي يمكن المتلقي من اكتساب القدرة على التفلسف في النص والإبداع فيه، حيث تدخل المفاهيم في حالة تفاعل، ويكتسي المنقول صفة الإقامة الطبيعية، ويكتسب جنسيته، وقد كان مشروعه كله يتجه نحو إبداع عتاد مفاهيمي يقتدر به الإنسان العربي على الإبداع الفكري والاستقلال عن المفاهيم الغربية، تفوق المفاهيم المنقولة وأكثر ارتباطا بمجالها التداولي، ولهذا فإن بعض ما أنشأناه - يقول طه: «يبدو خيرا من مقابلاتها في أصولها الأجنبية، وما ذاك إلا أنه توفر لنا بصدد القضايا المعروضة في هذه الأصول، من وجوه التعبير في لساننا أو من عناصر المعرفة في ثقافتنا، ما لم يتوفر في هذه الأصول نفسها - الأصول الأجنبية - لا لقصور فيها، وإنما لوجود الاختلاف بين الأمم في طرق أداء المقاصد.»
25
بهذا العمل يفتح طه عبد الرحمن آفاقا واسعة للمعرفة العربية الإسلامية ويمكنها من آليات التثاقف الإيجابي المثمر، بدل الاستمرار في التقليد والتبعية واستنساخ التجارب، ولهذا ليس صحيحا ما ذهب إليه الأستاذ عمر كوش في كتابه «أقلمة المفاهيم» من اتهام مجهودات طه التأصيلية بأنها جهود مبنية على ميتافيزيقا ينغلق معها النص عنده على حقائق ومعان ليفسح المجال للمعنى (الوحيد).
26
كما تنطلق عنده عملية التأصيل - يضيف الكاتب - في إطار مشروعه الهادف إلى إحياء التفلسف العربي، من ثنائيات متقابلة: الأنا/الآخر، يضع الذات في مواجهة الآخر، مما يفسح المجال عنده إلى بروز منطق الإلغاء والإقصاء والتهميش، وأن جهوده تمثل الفكر المنغلق في الفكر العربي المعاصر ، مع في هذا الحكم من مصادرة الحق في الاختلاف، الأمر الذي جعل طه يتهم الناقد العربي بقلة العلم والاطلاع والمعرفة، فالناقد العربي يقرأ قليلا ويكتب كثيرا.
فنحن لا نحتاج - يقول عمر كوش - «ولا نفتقر إلى التأصيل بقدر ما نفتقر إلى الإبداع والخلق، أي سبر أغواره وطرح مشكلاته، دون أي تقابل ميتافيزيقي مع تراثنا أو مع الآخر (الغرب)، وبشكل يمكننا من خلق وتأسيس مفاهيم لها علاقة مع مشكلاتنا في هذه العصر وصيرورتنا».
27
لا أعتقد أن الإبداع والخلق يمكن إنجازه خارج التأصيل وفي استقلال تام عن جهود الاتكاء على ذات فاعلة، هي الذات والهوية العربية الإسلامية، وما يجعل كلام الأستاذ عمر كوش حول التأصيل غير ذي معنى وفارغا من محتواه ويجعل دعواه مردودة وباطلة، هو أن الغرب نفسه عندما خطط لانطلاقته أصل لذاته بالرجوع إلى العقيدة المسيحية وإلى التراث الإغريقي، وأسس لمركزيته من خلال هذا العمق التاريخي.
تسعى جهود طه عبد الرحمن البنائية لإخراج الأمة من النماذج الفكرية والمنهجية المتأرجحة الفاقدة لإطار مرجعي، إلى نموذج وسطي قائم على إطار مرجعي سمته الثبات والمرونة والاستيعاب، إطار الإسلام منهجا ورؤية وحضارة، وإكسابها القدرة على التواصل الحضاري الواعي الموصول بتاريخها وحاضرها ومستقبلها، ويخلص الأمة من الوصاية الخارجية، ويمكنها من تحقيق خصوصيتها، مجددة أسباب الاتصال بالآخر - عكس ما ذهب إليه عمر كوش في المقالة السابقة - وهي بهذا تضاد «الاستقلال المنقول، الذي يتعاطى فيه المرء تقليد الآخر في مقصد استقلاله ومسلكه، لا يقدر على أن يتبين بنفسه ما إذا كان هذا التقليد المزدوج ينفعه أو يضره»،
28
لتسلك الأمة بعد تحقيق استقلالها عن الوصاية الخارجية طريق الإبداع الموصول بإسلامها وتراثها واكتشاف الذات. ونقفل هذا المحور بقاعدتين منهجيتين اشتغل عليهما طه عبد الرحمن في وضع المفاهيم، وتفيدان في التمرس بالإبداع بقدر ما تفيدان كذلك في ممارسة النقد:
29
القاعدة الأولى:
كل أمر معترض عليه، حتى تثبت بالدليل صحته، وسماها ب «النقد الإثباتي»، ومثل هذا النقد يدفع عنا آفة الإسقاط التي يقع فيها مقلدة المتأخرين، وهم الذين لا قدرة لهم على نقد ما يرد عليهم من خارج مجالهم التداولي؛ ذلك أن تحصيل الأدلة المثبتة هو أحد الطرق الموصلة إلى إنتاج أمثال هذه المفاهيم في مجالها التداولي الأصلي، أو إعادة إنتاجها في غير هذا المجال، فيصبح المنقول الذي تثبت صحته بعزلة المأصول، وكلتا الحالتين - الإنتاج وإعادة الإنتاج - علامة على التوسل بأسباب الإبداع.
القاعدة الثانية:
كل أمر مأصول مسلم به، حتى يثبت بالدليل فساده، وسمى هذه القاعدة ب «النقد الإبطالي»، فهذا النقد يدرأ عنا آفة الإسقاط التي يقع فيها مقلدة المتقدمين الذين يقدرون على نقد ما يصدر من مجالهم التداولي، فتحصيل الأدلة المبطلة هو أحد الطرق الموصلة إلى إنتاج أضداد هذه المفاهيم في مجالها التداولي الأصلي.
وبهذا يتبين - يقول طه - أننا في ممارستنا المفهومية بعيدون عن تقليد المتقدمين بعدنا عن تقليد المتأخرين، إذ لا نعمد إلى تغطية المفاهيم المنقولة بالمفاهيم المأصولة، وإنما نعيد إبداعها بما يجعلها تحمل جديدا،
30
لتكون هذه المعركة هي معركة تأسيس الآليات المنهجية وفرشا نظريا لها. (1-2) التجديد في المنهج: القواعد والأسس
سعى طه عبد الرحمن منذ باكورة أعماله إلى إنجاز عمل إبداعي فكري منهجي تنفرد به الأمة العربية الإسلامية عن غيرها، وهذا حق من حقوق الاختلاف، والخروج من دائرة الاتباع إلى دائرة الإبداع موصولة بعقيدتها وتراثها، متجاوزا ما هو متداول في الساحة الفكرية العربية المعاصرة، فقد هاله ما يدور من سموم فكرية وأدوات أصابها الصدأ في تشريح التاريخ الفكري التراثي للأمة، واستبداله بتراث أجنبي أو التعامل معه وفق مطامح أيديولوجية فضفاضة.
عمل انطلق من تفحص أشهر الأعمال والمشاريع التي أنجزت في مجال الدراسات المنهجية المعاصرة في الفكر العربي المعاصر، فانتهى إلى أن هذه الأعمال تنكبت الصواب المنهجي في قراءة تراث الأمة؛ لأن أغلب النقاد توسلوا في دراسته بأدوات «البحث التي اصطنعها المحدثون من مفاهيم ومناهج ونظريات، معتقدين أنهم بهذا التقليد قد استوفوا شرائط النظر العلمي الصحيح ...»
31
فمحص هذه الآليات والوسائل المنهجية، فما وجدنا - يقول: «في أكثرها ما تناسب مقتضياته مقتضيات الممارسة التراثية»،
32
كما أن التمكن من «هذه المناهج لم يكن من نصيبهم، ولا التفنن في استخدامها كان طوع أيديهم.»
33
فكان الوضع المنهجي المعكوس محركا ومحرضا للكشف عن خفي الأوهام وعن دقيق التلبيسات التي انبنى عليها هذا الوضع، وقد جاء كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث» ليشكل نقلة نوعية في مجال البحث المنهجي المعاصر، ويزعزع بعض «الثوابت» المنهجية التي كانت إلى وقت قريب لا تناقش وغير قابلة للمراجعة.
مشروع قدم تصورا متكاملا لقراءة التراث وفق منهجية علمية صارمة ودقيقة وواضحة وغير مسبوقة، يقول: «لقد نحونا في تقديم التراث منحى غير مسبوق ولا مألوف، فهو غير مسبوق لأننا نقول بالنظرة التكاملية، حيث يقول غيرنا بالنظرة التفاضلية، وهو غير مألوف؛ لأننا توسلنا فيه بأدوات «مأصولة»، حيث توسل غيرنا بأدوات منقولة»،
34
فكانت محاولته لا مجرد انعطاف في الدرس التراثي، وإنما انقطاع حقيقي فيه. وذكر هنا ثلاثة مظاهر تبين هذا الانقطاع:
35
أولها:
إذا كان الغالب على الأبحاث السابقة هو النظر في التراث من أجل «تحديثه» أو «عقلنته» أو «استصلاحه» أو «تنقيته» تحت ضغط الاستعجال الثقافي والسياسي الظرفي، فإن بحثي لم يكن هدف هذا وذاك، وإنما كان هو معرفة التراث من حيث محدداته الموضوعية ومقوماته الذاتية على مقتضى موجبات النظر العلمي الخالص، إذ لا يجوز الاشتغال بتلك الأهداف إلا بعد تمام المعرفة بهذه المحددات والمقدمات التراثية.
ثانيها:
أن الدراسات السابقة تمسكت في دراسة التراث بالمضامين والمحتويات، باعتبارها أهم ما فيه؛ فإن دراستي - يقول - اشتغلت أساسا بالوسائل أو الآليات التي تم بها إنشاء هذه المضامين وتبليغها وتقويمها.
ثالثها:
أنه إذا كان الغالب على الأعمال السابقة تقسيم التراث أقساما متعددة وتفضيل بعضها على بعض، ثم الانتهاء إلى حفظ أقل قسم منها بحجة أنه هو الذي يستجيب لمتطلبات الحداثة، فإن عملي لا يقسم ولا يفضل ولا ينتهي إلى حذف ولا إلى استثناء.
هكذا اجتهد طه عبد الرحمن في الاحتفاظ بنوع من التوازن والانسجام بين التراث وأدوات القراءة، فلم ينقلها من تراثات أخرى قديمة ولا حديثة، بل أدوات من داخل هذا التراث، حرصا على «استيفاء المقتضى المنطقي الذي يوجب أن يكون المنهج مستمدا من الموضوع ذاته لا مسلطا عليه من خارجه»،
36
وسمى هذه الأدوات باسم «الآليات المأصولة» مقابل «الآليات المنقولة»، لكن دون عد كل أداة منقولة مذمومة - حتى لا يتوهم المتوهمون - أو غير صالحة، وإنما اشترط كل نقل شرائط مرور، وأن يتقدم هذا النقل نقد كاف يمتحن فائدة الآلية المنقولة ومناسبتها للموضوع.
ولا يكاد يخلو فصل من فصول الكتاب من «ممارسة منهجية، إما وضعا لمفاهيم أو إنشاء لتعاريف أو صوغا لدعاوى أو تقريرا لقواعد أو تحريرا لأدلة أو إيرادا لاعتراضات»،
37
فتوجه بنقده إلى الآليات المنهجية المنقولة في دراسة التراث، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك قصور هذه الآليات في تحقيق أغراض الدراسة؛ لأنها توسلت بآليات خارجية سماها ب «الآليات الاستهلاكية» أو «الآليات الفرعية» أو «الآليات الفوقية»، وحصرها في صنفين أساسيين: صنف «الآليات العقلانية» وصنف «الآليات الأيديولوجية» أو الفكرانية باصطلاحه.
38
وخصص جانبا مهما في كتابه لنقد الآليات العقلانية في قراءة التراث، ووقف عند حدود استعمال الآليات المجردة في النقد، واختلاف «العقلانيين» اختلافا شديدا في تحديد الشرائح التراثية التي تمثل أفضل تمثيل النموذج العقلاني.
فتوزعت اهتماماتهم بين النصوص الفقهية، والفلسفية، واللغوية، والكلامية، ومنهم من يجمع بين أجزاء هذه النصوص، فما كان من هذه «النصوص واضح الانتساب إلى العقلانية، لزم في نظرهم تحقيقه والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلع إلى المستقبل، وما كان منها مجانبا أو مخاصما لهذه العقلانية، وجب عندهم تركه، وإن دعت الضرورة إلى تحقيقه قصد المقارنة والمقابلة، فليتجزأ منه بعينيات تؤخذ منها العبرة، ويحصل بها الاتعاظ.»
39
وينتقد طه أصحاب هذا التوجه، وأنهم لم يبرهنوا على تحصيل الدربة في استخدام هذه الآليات، ولا أحاطوا بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائيتها، كما لم يقوموا بنقد كاف وشامل لها حتى تتبين مدى كفايتها الوصفية وقدرتها التحليلية وقوتها الاستنتاجية»،
40
كما انتقد الآليات المسيسة لقصورها هي الأخرى في تحقيق أغراض التراث لأن النص التراثي أقرب إلى «التأنيس»، ويقصد بالتأنيس «إيلاء الجانب الأخلاقي والمعنوي والروحي وظيفة رئيسية في النهوض بالفكر، فتكون قيمة النص المقروء من جهة التأنيس كامنة في الفوائد العملية والآثار المعنوية التي يولدها عند القارئ أكثر مما تكمن في الجوانب التسييسية والمادية، فالنص التراثي هو على الحقيقة «وحدة تأنسية» وليس وحدة تسييسية ، كما يعتقد الفكرانيون،
41
ليؤسس لنظر تكاملي وفق آليات منهجية تتجاوز الثغرات التي خلفها الاشتغال السياسي والعقلاني المجرد، فجاء بناؤه المنهجي مستوفيا للشرائط والقواعد التي قعد لها، ليس في قراءة التراث فحسب بل في كل قراءة.
42
أولاها:
ينبغي للقراءة أن تعتني بآليات النص التراثي اعتناءها بمضامينه، وأن نتوسل بهذه الآليات في فهم هذه المضامين؛ لأن هذا التراث مشبع بهذه الآليات على قدر كبير، ولا سيما اللغوية والمنطقية.
ثانيها:
ينبغي اعتماد المستجدات في باب المناهج، لا في طمر هذه الآليات التراثية أو طمس معالمها، وإنما استخراجها وتحديث إجرائيتها.
ثالثها:
إجراء النقد والتمحيص الكافيين لكل آلية مقتبسة من تراث أجنبي قبل تنزيلها على التراث العربي الإسلامي، حتى نتبين كفايتها الوصفية أو التفسيرية؛ الآليات العقلانية على سبيل المثال.
رابعها:
أنه ينبغي ألا يتخذ تنقيح - أو تلقيح - الآليات اتجاها واحدا، فتنقح الآليات الإسلامية العربية بواسطة الآليات الغربية من دون العكس، بل ينبغي إجراء هذا التنقيح في الاتجاهين معا، فتنفتح الآليات الغربية بواسطة الآليات الإسلامية العربية؛ لأن من شأن هذا الجهد أن يفتح طريق الإبداع للمفكر العربي، فيخصب الآليات الأصلية ويبعث فيها الحياة، ومن جهة ثانية يفتح في الآليات الحديثة آفاقا لم تخطر على بال واضعيها.
هذه هي أمهات القواعد التي أسس عليها طه عبد الرحمن عمله الاجتهادي المتواصل في استئناف العطاء المعرفي الإسلامي المعاصر المبني على النظر المسدد بأخلاق الدين ومقاصده، ولأن «النمط المعرفي الحديث غير مناسب إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية؛ لأن مناهجه العقلية ونتائجه العلمية تنبني على أصلين؛ أحدهما: فصل العلم عن الأخلاق، ويتفرع عليه مبدأ الموضوعية الجامدة، ومبدأ التساهل المسبب. والثاني: فصل العقل عن الغيب، ويتفرع عليه مبدأ السببية الجامدة، ومبدأ الآلية المسيبة»،
43
فتحتاج الأمة إلى نمط معرفي محفوظ من هاتين الآفتين: آفة الانقطاع عن الأخلاق، وآفة الانقطاع عن الغيب.
وقد زاوج في مساره النقدي بين الآليات المادية والمعنوية، تكاملية من شأنها أن تعيد للعقل العربي الإسلامي صفاءه وفاعليته في النهوض الحضاري المعاصر، ف «ينهض على تطهير نفسه من الطبقات العقلية والمحلية الموروثة عن النمط المعرفي المتداول، كما تعيد إليه رسوخ وحدة النظر، فينهض إلى تجديد المعرفة تجديدا يزداد فيه عملا بعلمه وكمالا بعقله، فيكون علمه نافعا وعقله كاملا».
44
ولأول مرة - على مستوى المنهج - تصدر دراسات ذات عمق منهجي تتخذ من الإسلام مرجعية الانطلاق في الفكر العربي المعاصر، في مساءلة النمط المعرفي الغربي الحداثي خارج الآليات المعهودة، و«أخلاقيات السطح»؛ لأن أمر الحداثة وفتنتها واعوجاجاتها بلغت مبلغا لا ينفع في تقويمها اعتماد هذه الآليات المنهجية، فدفع هذه الأسباب المؤذية التي خلقتها الحداثة وما كسبت لا يكون إلا بقيم تعلو درجات على هذه الأسباب.
وجاءت الممارسة النقدية عنده تحمل عناصر الجدة والإبداع غير معهودة عند من سبقوه في هذا المجال. يقول: «جئنا بنقد أخلاقي غير معهود لمظاهر أساسية من الحداثة تعد عند سوانا سببا يحمله على تعظيم أمر الحداثة الغربية، في حين تعد عندنا سببا يدعونا إلى تعظيم حاجتنا إلى أخلاق الدين لحصول الانتفاع بهذه الحداثة»،
45
وإلا ظل الجهد ضائعا والتحليل والنقد خاليا من أية قيمة إنسانية، وبعد علمي يراعي حقوق الآخرين في السؤال والأخذ والرفض، واختيار أدوات الحكم على الأشياء والأفكار، أما الدعوة إلى تسوية المفاهيم المنهجية على عقل واحد فذلك تحكم ومصادرة للمطلوب. فيحدد اختيارات الأمة الكبرى التي لا تقبل المساومة (الإسلام) أرضية الإبداع والبناء والتوجهات، لا أخلاق علمية ولا علمانية كما يتوهم أهل الحداثة عندنا، ليؤسس لمشروع معرفي ناهض تحدده أخلاق الإسلام ونظامه المعرفي والمنهجي، مع الانفتاح الواعي والمبصر على مستجدات المعرفة الإنسانية ومناهجها.
وإذا كان من فضل لهذه المدرسة فإنها استطاعت أن تخرج الفكر العربي الإسلامي من النماذج الفكرية المتأرجحة الخارجية وتقترح بدائل واقعية وعملية، وأن تبدع في إطار الثوابت الفكرية والمنهجية للأمة، وتقدم قراءة جديدة لواقع الفكر العربي المعاصر، وتشخص أزماته المركبة، وأن مبلغ هذا الفكر هو تكرار وتقليد أقوال وأفعال الآخرين دون أن يمتلك الجرأة الكافية في أن يقول لنا منهجنا ولكم منهجكم.
إن المدخل الأساس والطبيعي لنهضة الأمة وتأسيس حداثة إسلامية راشدة هو مدى قدرتها على حصول قراءة جديدة للقرآن الكريم؛ ذلك أن «القرآن هو سر وجود الأمة المسلمة، وسر صنعها للتاريخ، فإذا كان هذا الوجود والتاريخ ابتدآ مع «البيان النبوي» أو قل «القراءة النبوية» للقرآن، قد دشنت بذلك الفعل الحداثي الإسلامي الأول إن جاز هذا التعبير في حقها، فإن استئناف هذا الوجود لعطائه ومواصلة هذا التاريخ لمساره، وبالتالي تدشين الفعل الحداثي الإسلامي الثاني، كل هذا لا يتحقق إلا بإحداث قراءة أخرى تجدد الصلة بهذه القراءة النبوية. ومعيار حصول هذا التجديد هو أن تكون هذه القراءة الثانية قادرة على توريث الطاقة الإبداعية في هذا العصر كما أورثتها القراءة المحمدية في عصرها.»
46
هكذا رفع طه عبد الرحمن قلم التحدي المعرفي والمنهجي ضد التغول الغربي وحداثته ووسطائه من أبناء هذه الأمة، وكشف قلق عباراتهم وتهافت أطروحاتهم، وفعلا كان تحديا قويا وناجحا إلى أبعد الحدود رؤية ومنهجا، فلم يكن طه عبد الرحمن في مشروعه الفلسفي عدميا تفكيكيا، بل كان تفكيكيا إنشائيا مبدعا، ومحاورا ذكيا، حجته البرهان العقلي والمنطق الأخلاقي والواقعي.
مشروع سعى من خلال عمقه التأويلي إلى تحرير الإنسان العربي من معتقد بمفاهيم الغرب إلى منتقد لها، فالانتقاد - كما يقول - دليل القوة، والاعتقاد دليل ضعف، والمنتقد مقاوم لكل مظاهر الفساد المعرفي والمنهجي، فينقل فعل التفلسف العربي من تقليد الغير، إلى إكسابه القدرة على إنشاء فلسفته الخاصة، ويحيي فيه أسباب الدخول في الحداثة المبدعة الراشدة لا المقلدة المشوهة. (2) المبحث الثاني: عبد الوهاب المسيري: رؤية معرفية منهجية بديلة
نقف في هذا المبحث عند تجربة فكرية غنية في مسارها، متميزة في أدائها، قوية في منهجها، إنها تجربة المفكر المصري عبد الوهاب المسيري رحمة الله عليه. متميزة لأنها حاولت تحرير الفكر العربي المعاصر من المسار المتحيز للفكر الغربي والاستقلال عن هذه التحيزات، والفكر الإنساني من الثنائيات المتناقضة ومن حداثة الغرب الداروينية.
وما يجعل هذا المشروع في صلب اهتماماتنا هو عمق التحليل الذي يقترحه في دراسة القضايا والإشكالات والبدائل التي يطرحها، على مستوى الآليات المنهجية البديلة أو النظام المعرفي البديل لما هو متداول منذ عصر النهضة العربية إلى اليوم.
بديل يرى فيه القدرة للخروج من مصائب الحضارة الغربية وتحيزاتها السلبية، لكن لهذا التأسيس وهذا البناء عند المسيري مقدمات واضحة ومعالم بارزة ينبغي التحكم فيها وفهمها، وإلا كان الأمر إعادة وتكرارا للتجارب الماضية. ومن المداخل التي اعتمدها المسيري في تأسيس بدائله نقد النموذج المعرفي الغربي كخطوة أساسية في توليد نماذجنا المعرفية العربية الإسلامية، وهكذا سنركز في هذا المبحث على خطوتين أساسيتين: (2-1) النموذج المعرفي الغربي: رؤية نقدية
يؤمن المسيري إيمانا عميقا بأن امتلاك رؤية معرفية منهجية بديلة مستقلة عن النموذج المعرفي الغربي إنما تبدأ عنده من تأسيس ما سماه ب «المحور النقدي للمشروع الحضاري الإسلامي»،
47
الذي تبدأ أولى خطواته بنقد المشروع الغربي المهيمن وكل نماذجه وتفكيك منظومته المعرفية، وقد ساعده على ذلك تمرسه بالآليات المنهجية وخبرته في التعامل معها على اختلاف تكويناتها العقدية.
وقد حدد المسيري موقفه القوي والصريح من هذه الحضارة وآلياتها، ودعا إلى إجراء نقد صارم وحاد. يقول: «إن ما أدعو له من نقد كلي وشامل للنموذج الحضاري الغربي الحديث واكتشاف تحيزاته لا يعني أن نقوم بتهنئة أنفسنا، فليس الهدف هو تمجيد التراث أو إسباغ الشرعية على الوضع القائم في بلادنا (...) وإنما تأكيد فكرة أن استيراد هذا النموذج لن يفيدنا كثيرا في محاولتنا الإصلاح والتغيير»،
48
كما تهدف الممارسة النقدية عنده إلى كسر ثوابت هذا الغرب.
كسر مركزيته وتأكيد نسبيته، وهو أحد المداخل الأساسية في كشف الخاص والعام في هذه الحضارة. إن النقد عند المسيري هو أساسا «عملية تهدف إلى الفهم المتعمق، أي يجعل من الممكن أن نعزل ما هو خاص بالغرب عما يصلح لأن يكون عاما عالميا، فما هو عالمي يعبر عن إنسانية مشتركة، ومن ثم لن يكون من الصعب تبنيه وفق شروط نسقنا النظري المستقل النابع من أسئلة واقعنا وقضاياه»،
49
ويراهن المسيري في هذا النقد أن يستعيد الغرب نسبيته وأن يتحول إلى مركز من المراكز، لا أن يبقى مركزا مسيطرا وموجها وحيدا للمراكز الأخرى.
فيواكب كسر هذا الثابت عنده نزع «صفة العالمية والمطلقية عن الحضارة الغربية، وتوضيح أن كثيرا من «القوانين العلمية»، التي يدافع عنها دعاة التغريب، باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان، هي نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد، وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة»،
50
وإنجاز هذا العمل لا يمكن أن يتم في نظره إلا من خلال استعادة المنظور العالمي المقارن، بحيث يصبح «التشكيل الحضاري الغربي تشكيلا حضاريا واحدا له خصوصيته وسماته مثلما لكل التشكيلات الأخرى خصوصيتها وسماتها»،
51
ولهذا لا اعتبار لمنهجية التعميم التي تحاول فرض نمط حضاري معرفي تشكل في ظروف ذاتية خاصة على تشكيلات حضارية خاصة لها مسار تاريخي معين، وقد فشلت كل محاولات التعميم في العالم العربي الإسلامي؛ لأنها لم تدرك هذه الخصوصيات.
ويجزم المسيري باستحالة تكرار النماذج في سياقات حضارية مختلفة، وتبنيها في توليد نماذجنا المعرفية والحضارية كمسلمة ثابتة، يقول: «يجب أن نعرف أن المشروع الغربي لسد كل الثغرات وللتوصل للقانون العام مشروع مستحيل من الناحيتين المعرفية والعلمية، فمن الناحية المعرفية يفترض هذا النموذج بساطة العقل وبساطة واقع الإنسان الطبيعي والاجتماعي، وبساطة الدال اللغوي، وبساطة المدلول الإنساني، وبساطة العلاقة بينهما، وهو يفترض بيقين كامل متعصب أن رقعة المجهول ستتناقص بالتدريج وستتزايد رقعة المعلوم، وأن تحكم الإنسان في الواقع سيصبح كاملا، وهو افتراض أقل ما يوصف به أنه طفولي سخيف.»
52
فأزمة هذا النموذج أزمة مركبة تنطلق - حسب المسيري - من أنه نموذج «يضمر نزعات عدمية معادية للإنسان، فهو مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في الكون (حتى تصفى كل الثنائيات)، وهو ينكر على الإنسان أي خصوصية، وينكر أن عقله مبدع فعال، ومن ثم ينفي مركزيته في الكون»،
53
فأنشأ نظام التماثل بين الظواهر الإنسانية والمادية الصماء، فلا فرق بين الإنسان عنده واليرقة، كما يقول المسيري.
فسقطت في هذا النموذج المعرفي كل الحدود الإنسانية ومعها كل الهويات، لإنجاز الوحدة المنهجية بين هذه الظواهر، والوصول إلى درجة عالية من اليقينية والشمولية في التفسير، مستبعدة الإنسان كعنصر فاعل ومؤثر في المعرفة ومسارها، وحولته إلى عنصر متلق سلبي، لتحقيق النظر الموضوعي؛ فينحصر عمل وجهد الإنسان المعرفي في عملية تراكمية، تلغي كل خاصية ذاتية له.
وينتقد المسيري العقلانية المادية الغربية أو ما يسميه بالموضوعية المتلقية، وهي النماذج الإدراكية والتفسيرية التي تبنتها الاستنارة الفكرية الغربية بعقلانيتها المادية، حين اعتبرت «المعرفة عملية تراكمية تتكون من مجرد التقاط أكبر قدر ممكن من تفاصيل الواقع كما هو تقريبا بصورة فوتوغرافية، وأن المعطيات الحسية تتراكم لتكون أفكارا بسيطة من تلقاء نفسها وبشكل آلي (...) فلا يختلف باحث عن آخر في إدراك الحقائق، فإن عملية التراكم هذه ستؤدي إلى التوصل إلى معرفة موضوعية خالية من التحيزات»،
54
فلا اعتبار لذاكرة الإنسان الباحث وآماله وأحلامه باعتبارها تشكل عائقا في طريق التلقي الموضوعي والرصد الفوتوغرافي، كل هذا يعني عند المسيري أنه لا يوجد «فرق بين الإنسان والطبيعة بين العلوم الطبيعية والإنسانية، ومن ثم استبعدت كل العناصر التي تتجاوز سطح المادة، أي استبعدت كل ما يميز الإنسان كإنسان، وانتهى الأمر باستبعاد الطبيعة البشرية ذاتها بوصفها نقطة مرجعية، وتم تأكيد أن البحث العلمي الحقيقي لا بد أن يستبعد الذات والخيال والقيم، فهو يجب أن يكون موضوعيا ومنفصلا عن القيمة»،
55
ويطلب من الباحث أن يتجرد من ذاكرته التاريخية. مما يجعل هذه الموضوعية المتلقية موضوعية منزوعة الجذور لا انتماء لها. لكن هذا النموذج التفسيري مني بإخفاقات؛ لأن «الافتراضات التي استند إليها الفكر الموضوعي تنبع من العقلانية المادية لعصر التنوير، وقد ثبت أنها افتراضات إما خاطئة أو بسيطة إلى درجة كبيرة، ولذا فمقدرتها التفسيرية ضعيفة»،
56
رغم ذلك يؤكد المسيري أن لهذا النموذج فعاليته في مجاله (عالم الظواهر الطبيعية)، لكنه يفقدها ويصبح أداة اختزال حين يطبق على الظواهر الإنسانية، كما عرف استقطابا حادا بين العلماء في الغرب انتهى إلى أزمة المنهج في الفكر الغربي، وواكبته احتجاجات وانتقادات منذ عصر النهضة، ومراجعات للأسس المنهجية التي أفرزتها العقلانية المادية الغربية الأنوارية في مجالات شملت كل ميادين المعرفة (النقد الأدبي - اللغة - الفلسفة - التاريخ - العلوم الطبيعية والإنسانية].
ويطالبنا المسيري بإعادة تعريف الغرب «وفقا لما يطرحه والنتائج التي يحصدها من هذا الطرح، وعدم الاكتفاء بتعريفه وفقا لما يفرضه هو من تحيزاته، ثم الوقوف والتحرك في الحاضر صوب مستقبل تسوده قيم الإنسانية المشتركة وليس الفردوس الأرضي المزعوم.»
57
من شأن هذه القدرة في إعادة التعريف وإنشاء خرائط إدراكية بديلة أن تعيد ترتيب العلاقة بين الغرب والأمة على المستوى المعرفي والحضاري، ونخرج من دائرة الموضوعية المتلقية السلبية الكسولة - بتعبير المسيري - التي سقطنا فيها أثناء بناء مشاريعنا الفكرية واختياراتنا المنهجية. هذا السقوط منعنا من رصد الجوانب السلبية في هذا النموذج، فعملية النقل السلبية التي مارسها رواد النهضة على تعدد توجهاتهم ومرجعياتهم تحولت - في رأي المسيري - إلى آلة فوتوغرافية أسكتت ذاكرة الأمة وقتلت مقدراتها وقدرتها على الإبداع والخلق.
فالخريطة الإدراكية للنخبة العربية، مع ما تعانيه من فقر - على مستوى المرجعيات - أدت إلى تصور أن نهضة الغرب هي نهضة الأمة على أساس هذا التماثل غير الطبيعي، فحين تتبنى أمة من الأمم النماذج الإدراكية لمجتمعات أخرى يتوقف عندها الإبداع والحلم (ولعل الجابري يشترك مع المسيري في المقدمات والملاحظات نفسها، مع اختلاف على مستوى الرؤية والمنهج)، فوقعت في التبعية الإدراكية،
58
أي إن الآخر هو الذي يصوغ المقولات والنماذج التحليلية والتفسيرية، واستبطانها بوعي أو بدون وعي ويعتبر «إمبريالية المقولات» تعبيرا عن هذه التبعية الإدراكية للغرب. يقول: «وأعتقد أنه يتحكم في رؤيتنا للعالم مخزوننا الإدراكي المشبع بالهزيمة. لقد قامت المقولات التحليلية الغربية بغزونا منذ نهاية القرن التاسع عشر وأصبحنا ننظر إلى أنفسنا من خلال المقولات الغربية.»
59
فهذا الإسهال المصطلحي والمفاهيمي - يقول المسيري - الذي أصابنا وأصاب جهاز التفكير عندنا هو «إحدى مشاكل الفكر العربي الذي ما يزال فكرا موضوعيا، أي يتعامل مع المضامين المباشرة ولا يصل إلى العلاقات الكامنة أو إلى النموذج الكامن»
60
في كل ما يستورده ويستهلكه من المعرفة والحضارة الغربية. ويرى المسيري أن النماذج المعرفية الإدراكية ليست معايير واحدة ومماثلة، إذ «لكل نموذج معرفي معاييره الداخلية (أو مرجعيته النهائية) التي تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق وتزوده ببعده الغائي، وهو جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد النموذج وضوابط السلوك، حلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق ونسبي من منظوره، فهي باختصار مسلمات النموذج الكلية أو مرجعيته التي تجيب عن الأسئلة الكلية والنهائية.»
61
وعلى ضوء هذه الحقيقة والمرجعيات يحدد المسيري مفهوم المنهج في البحث العلمي، إذ المنهج ليس هو مجرد آليات وإجراءات تقنية يوظفها الباحث في دراسة الظواهر، بل هو «إجراءات وآليات تتضمن تحيزات محددة وأعباء أيديولوجية»،
62
إذ من خلالها يتم «استبقاء بعض التفاصيل والمعطيات والمعلومات، واستبعاد أو تهميش البعض الآخر حسب خريطة الباحث الإدراكية، وحسب النموذج المعرفي الذي يحدد من خلاله الجوهري من الهامشي، وعليه فالمنهج هو تعبير عن طريقة تفكير الباحث ورؤيته للعالم.»
63 (يصدق هذا التحليل على النماذج السابقة القومية والعلمانية واليسارية أثناء تعاملها مع التراث ومخزون الأمة الحضاري ورموزها.)
فالمنهج عنده رؤية معرفية يبنى من خلال النموذج المعرفي لكل أمة، ومن خلاله تحدد الأسئلة والمقدمات ونحصل النتائج، وفي حالة عدم امتلاك هذه الرؤية وهذا المنهج سنجد أنفسنا نطرح أسئلة حددت لنا سلفا قد لا تعنينا كثيرا، ونصل في نهاية الأمر إلى نتائج تدعم وجهة نظر الآخر، وتهمل قضايا مصيرية في الأمة ونرغم على الدخول في حركة تاريخية خطية أحادية التصور والرؤية والنموذج، وتهمل التعددية والحق في الاختلاف.
فهذا الإحساس والإدراك بعدم براءة هذه النماذج والآليات المنهجية الموظفة في تحليل بنية المجتمع العربي الفكرية واستبطانها لنماذجها القيمية؛ جعل المسيري يدعو إلى ضرورة إخضاع المنهج الذي نستخدمه لعملية «تقييم حتى نكتشف تحيزاته وننقي آلياته منها، أو على الأقل نطوعها بحيث يمكن توظيفه وتوظيف آلياته داخل إطارنا المعرفي، فيمكن أن أستخدم المنهج البنيوي في التحصيل دون أن أصبح بنيويا معاديا للإنسان، وأن أستخدم المنهج التفكيكي دون أن أصبح تفكيكيا عدميا»،
64
داعيا إلى تجاوز الخطاب الاختزالي، وتبني الخطاب التفسيري التركيبي في تقييم النماذج المعرفية الغربية لأن «التوقف عند المستوى الجزئي مع بقاء البناء على حاله قد يؤدي إلى عملية ترقيع وتلفيق تفقدنا هويتنا دون أن نكتسب هوية جديدة.»
65
بهذه الرؤية يتجاوز المسيري النماذج المعرفية التفسيرية، التي عرفها تاريخ المناهج في الغرب وهيمنت على الفكر العربي الحديث والمعاصر، العلماني، القومي، المادي، ليؤسس لخريطة إدراكية ولنموذج معرفي يستمد مقوماته من النموذج المعرفي الإسلامي التوليدي. (2-2) النموذج المعرفي الإسلامي التوليدي، البديل: الأسس والمنطلقات
لم يقف المسيري عند نقطة الرصد لمنزلقات النموذج المعرفي الغربي وتحيزاته، وانتقاده للتيارات التغريبية في الوطن العربي وفشلها في صناعة نماذجها المعرفية الخاصة، بل فعل هذا بكفاءة عالية، لكن تجاوزه إلى اقتراح بديل معرفي لتجاوز مثالب النماذج المستعارة، من خلال الأسس المنهجية الآتية: (أ) الهوية العربية الإسلامية
شكلت الهوية العربية الإسلامية أهم عناصر النموذج الذي حاول المسيري «صكه للبناء وللإعمار، وهو نموذج مستلهم من البيئة العربية الإسلامية وغير مهزوم أمام الآخر»
66
من المرجعية الكبرى للأمة - الوحي - لا خارجها، ودفاعه عن هذه الهوية - المرجعية - ليس من باب «الكلام المرسل أو الشعارات التي يرددها بصدق كثير من مثقفي الأمة، وإنما عن دراية بسبل تأكيد الهوية، فأولى خطوات النهضة إنما تبدأ عنده بإعادة الثقة فيما نملك، فلدينا قيمة مطلقة من استخلافنا في الأرض، إلى جانب قيم واقعية متمثلة في الموروث الحضاري القيمي»،
67
نسمات هذا البديل نابعة من هذه المرجعية المطلقة: القرآن والسنة «اللذان يحويان القيم الإسلامية المطلقة والإجابة الإسلامية على الأسئلة النهائية»،
68
لكن لا ليكرر النموذج المرفوض - نموذج الموضوعية المتلقية - والوصول إلى قوانين صارمة نهائية وصيغ جبرية تفسر كل شيء، وتستبعد الذات الإنسانية، فالنموذج «المقترح لن يسقط في الموضوعية المتلقية، والتي تفترض عقلا قادرا على الإحاطة بكل شيء، وواقع بسيط يمكن الإحاطة به، كما أنه لن يسقط في الذاتية التي تعني ذاتا متمحورة حول نفسها لا تكثرت بتركيبة الواقع، وتحاول أن تملي رؤيتنا وإرادتنا عليه.»
69
ارتباط مفهوم الاجتهاد بهذا النموذج البديل عنده سيحول دون السقوط في المنحى الذي حاربه في النموذج المتلقي، لأن المنطلقات المرجعية مختلفة، فالنموذج الاجتهاد التفسيري تتسم فيه بالتوليدية والانفتاح والتركيب، عكس النموذج المتلقي الذي تتسم فيه بالتراكم والانغلاق والاختزال، وأن محاولة «المعرفة الكاملة والتحكم الكامل محاولة شيطانية مستحيلة؛ لأن الواقع الإنساني مركب ثري ولا نهاية لهذا التركيب وهذا الثراء.»
70
وأهم منطلقات هذا النموذج المعرفي هو إدراك أن «ثمة حيزا إنسانيا يترك فيه الإنسان ويمارس إنسانيته، ومن ثم يصبح مختلفا عن الكائنات الطبيعية، فهو كائن مركب وعنصر حر مسئول لا يتجاوز حتميات النظام الطبيعي المادي، ولا يمكن أن يرد في كليته إليه، ولا يمكن أن يمزج بالظواهر الطبيعية ويذوب فيها (...) وهذا يعني أن ثمة ثنائية أساسية تترجم نفسها إلى انفصال بين الإنسان المركب والواقع الطبيعي المادي.»
71
فالمقولة الإنسانية جوهر هذا النموذج بإمكانات هذا الإنسان وعلامات تميزه وتفرده كائنا فريدا مركبا، والعالم من «منظور النموذج البديل ليس مادة مصمتة، بل تتسم بثنائية لا يمكن تصفيتها، وبدلا من استخدام مقولات مادية تفسيرية وحسب، تفرض الواحدية على الواقع وتسوي الإنسان بالطبيعة، يمكن استخدام مقولات تفسيرية مادية، غير مادية، كمية/كيفية مستمدة من النظام الطبيعي متجاوزة له في ذات الوقت، ومن ثم يمكننا من خلالها التعامل مع ظاهرة الإنسان في كل تركيبتها.»
72
نموذج يعترف بكل الثنائيات، ولا يعمل على تصفيتها: ثنائية الإنسان والطبيعة، ثنائية الخالق والمخلوق، وهي الثنائيات التي استطاع المسيري أن يؤسس من خلالها نماذجه التفسيرية وخرائطه الإدراكية، ومن ثم استطاع قراءة الأحداث على تنوع مجالاتها وساحاتها (الفكرية والسياسية، والفنية والأدبية ...) من خلال وضعها داخل نماذج فضفاضة لا تنغلق على ذاتها.
73
وعلى هذا الأساس ف «الإنسان ووحداته الاجتماعية لا يمكن تصفيتها لصالح الدولة، والماضي لا يمكن إسقاطه أو تجاهله لصالح الحاضر، ولا يمكن إلغاء الحاضر لصالح الماضي أو المستقبل، والإنساني لا يمكن تجاهله لصالح الطبيعي»،
74
بذلك يزحزح المسيري كل العقائد المنهجية التي عرفها الفكر الغربي والعربي على حد سواء، ويعيد تركيب وصياغة المنهجيات والآليات التفسيرية، وفق النموذج المعرفي الإسلامي، ووفق الخريطة الإدراكية التي يؤسسها النموذج الذي سماه ب «نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي»، بمعنى أنه «يسمح بوجود ثغرات بين الأسباب والنتائج، بين الكل والجزء، وبين الأجزاء بعضها وبعض (...) ولذا لا يسقط في الواحدية أو التماسك العضوي.»
75
ووجود الله تعالى هو «ضمان ألا تسد هذه الثغرة وألا تصفى ثنائية الإنسان والطبيعة؛ إذ تظل هناك مقولة تفسيرية غير مادية تشكل ثنائية كبرى، هي ثنائية الخالق والمخلوق، تتفرع عنها كل الثنائيات الأخرى.»
76
فالإنسان في هذا الكون يتمتع بكامل الحرية دون أن يعني ذلك استقلاله عن الله تعالى وإرادته ومشيئته، فيكون النموذج الاجتهادي هو الذي يحدد المسافة بين المطلق (الله تعالى)، والنسبي (العقل الإنساني وإرادته) في تفسير الأحداث ورصدها وتركيبها. نموذج لا يطمح «للتحكم الكامل والمعرفة الكاملة أو التفسير النهائي أو اليقين المطلق، فإنه لن يحاول الوصول إلى نظرية كبرى شاملة نهائية، وإنما إلى نظرية كبرى وشاملة نسبيا أو داخل حدود ما هو ممكن إنسانيا».
77 (ب) تحرير المصطلحات والمفاهيم من التحيزات
في سبيل استكمال البناء، يطرح المسيري إشكالية المصطلح والتحيز، فبناء النماذج المعرفية والآليات التحليلية يفرض إدراك هذا التحيز المصطلحي، بمعنى أن ثمة اختلافات جوهرية تحددها اللغة الإنسانية، إذ لا توجد «لغة إنسانية واحدة تحتوي كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوناته، أي لا بد من الاختيار، وكل لغة مرتبطة إلى حد كبير ببيئتها الحضارية وأكثر كفاءة في التعبير عنها.»
78
ويدرك المسيري أهمية المعجم العربي في توليد المفاهيم وبناء النموذج المعرفي، لأن اللغة مرتبطة بحضارتها، فلا يمكن أن تنتج بلغة غيرنا ومفاهيمها، فجهاز مفاهيمنا ينبغي توليده وبالضرورة من هذه اللغة المتجذرة تاريخيا وحضاريا، فمعظم المصطلحات التي نستخدمها في العلوم الإنسانية تم استيرادها من الغرب «بأمانة وموضوعية دون إدراك للمفاهيم المتحيزة، ولهذا فقد الإنسان العربي القدرة على تسمية الأشياء، ومن لا يسمي الأشياء يفقد السيطرة على الواقع والمقدرة على التعامل معه بكفاءة».
79
والتحيز في المصطلح - كما يرى المسيري - تحيز مزدوج، تحيز سياقه، وتحيز من صاغه. ولهذا فإن «المصطلحات التي نستوردها تم سكها في العالم الغربي بعناية بالغة تنبع من تجارب تاريخية ونماذج تحليلية ورؤى معرفية ووجهات نظر غربية (...) ومرتبطة بسياقها الحضاري الذي نشأت فيه .»
80
ويدعو إلى تنقية المعجم المصطلحي والمفهومي المتداول منذ القرن التاسع عشر وإنشاء، وتوليد مفاهيم بديلة تعبر عن حقيقة الرؤى التي نحملها ونبشر بها وتحررنا من تحيزات الحضارة الغربية .
أما منهجية بناء هذه المفاهيم وتوليدها فتبدأ عنده بالدعوة إلى إلغاء الاعتماد على الترجمة للأسماء والأشياء ومعانيها، والنظر إلى الظاهرة في سياقها، بحيث تتم دراسة المصطلح الغربي الذي يشير إليها في سياقه الأصلي دراسة جيدة، والتعرف على مدلولاته، ومحاولة توليد المصطلح من داخل المعجم العربي، بحيث لا يكون ترجمة حرفية
81
دون أن يعني ذلك انغلاقا على الذات؛ لأن «الانفتاح الحقيقي هو عملية تفاعل مع الآخر نأخذ منه ونعطي ونبدع من خلال معجمنا؛ لأن الإبداع من خلال معجم الآخر مستحيل.»
82
لذا يرى ضرورة تفعيل المعجم العربي حتى نتمكن من توليد معارفنا ومناهجنا واكتساب القدرة على التواصل والتعبير عن هويتنا الحضارية، فمن الظواهر ما لا يمكن التعبير عنها بواسطة النماذج المستوردة بسبب حدودها الإدراكية.
وعندما نتمكن - الكلام للمسيري - من تحقيق الجهد التفكيكي النقدي الإبداعي للنموذج المعرفي الغربي، وتوضيح هويته وإعادة تركيبه، وزيادة القدرة التوليدية للنموذج البديل، وتحول الغرب إلى مركز من المراكز، سننظر إلى الغرب بدون قلق ودون مركب نقص، ليس كما فعل ويفعل دعاة التغريب، وإنما يمكننا دراسته كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات،
83
ونتعامل معه برؤية نقدية إبداعية منفتحة ووفق قيمنا الحضارية.
ما قدمناه من جهد لهذه المحاولة لا يعني أن الأمر قد صفي نهائيا، بل هي محاولة جريئة تنتظرها محاولات أكثر جرأة في إطار عمل مؤسساتي يحتضن الأفكار، ويمكن لها في مؤسسات المجتمع. تلك مشكلة المشاريع الفكرية في عالم العرب والمسلمين. لكن يكفي أن أفكار الرجل أعادت ترتيب كثير من القضايا على المستوى المنهجي ونفثت نفسا جديدا في العقل العربي المسلم، وقدم جهدا متميزا في منهجية بناء المعرفة، من خلال مفهوم مركزي في مشروعه الفكري، هو مفهوم التحيز، وإعادة تشكيل العقل العربي، من عقل تراكمي اختزالي إلى عقل تركيبي اجتهادي بنائي توليدي.
خاتمة
نصل إلى خاتمة الموضوع، وإلا فإن الموضوع من وجهة نظر الفكر المنهجي يمثل بداية وفاتحة مرحلة جديدة لاستئناف النظر في قضايا ما تزال فيها الجهود قليلة وفردية، فالمسألة ليست مسألة بحث يكتب في مرحلة من المراحل، بقدر ما هي قضية الأمة المركزية المطروحة على استمرار، التي تستدعي تكاثف الجهود؛ وتجميع الطاقات الإبداعية على اختلافها وتنوعها في الأمة، التي تقف اليوم على عتبة تحولات جوهرية تضعها بين مصيرين لا ثالث لهما:
إما المشاركة في تأسيس مشروع حضاري عالمي واستئناف عملها التجديدي، وإما التبعية الدائمة والمركبة للآخر. ولهذا كان سعينا في هذا العمل إبراز بعض الإشكالات المعرفية والمنهجية التي حالت دون الانطلاقة الطبيعية لها في مشروع استكمال استقلالها الاستقلال الفكري والمنهجي، لصياغة الحلول المناسبة لإشكالاتها وتوسيع أفق عملها وانتظاراتها المستقبلية.
وقد ميزنا في هذا العمل بين ثلاث مدارس في الفكر العربي المعاصر:
المدرسة القومية التي استشعرت مبكرا قضية التحيز لاختيارات الأمة وبرامج عملها، وحقها في المحافظة على تميزها الحضاري، بعد محاولات نقدية من الداخل، لكنها بقيت وفية في كثير من أطروحاتها على مستوى التحليل للإطار المرجعي للحضارة الغربية، ولم تستطع أن تنجز ما وعدت، لعجز في تصورها أو خلل في أدوات العمل عندها.
المدرسة العلمانية التي فضلت الإبحار خارج المياه الإقليمية والحدود الجغرافية والتاريخية للأمة، وانخرطت بشكل كلي في مشروع الآخر الذي رأت فيه الحل النهائي لأزمتها، فشرعت في استيراد النماذج الجاهزة والمعلبة، دون اعتبار للشروط الحضارية والتاريخية لهذه النماذج وللمجتمع المراد تحديثه، فافتقدت آليات التحليل عندها للزمن التاريخي وللوعي الحضاري، في حين أن عملية التحديث والنهضة عملية شاقة يرتبط فيها ما هو نفسي بالتاريخي والواقعي والعقدي.
أما النموذج الثالث الذي اشتغلنا عليه «المدرسة البنائية التأصيلية في الفكر العربي المعاصر» فقد توخى أن تسلك الأمة مسلكها الطبيعي الذي سلكته كل أمم العالم في مشاريعها النهضوية، مسلك الذات والهوية الحضارية العربية الإسلامية، لا مسلك المقايسة المعكوسة، دون أن يعني ذلك بخس جهود المدارس الأخرى.
وخلصنا في هذه الدراسة المتواضعة إلى نتائج تقريبية غرضها البحث عن سبل المواجهة لكل مظاهر القصور في الأمة، أكدنا فيها أن اهتمامات وانشغالات الفكر العربي المعاصر لم تكن تعكس حقيقة هموم الأمة بقدر ما كانت قضايا مستعارة، كانت نتيجتها الهزيمة، التي يقر بها رواد هذا الفكر (من القوميين واليساريين) على كل المستويات.
هذا الفشل يرجع في تقديرنا إلى طبيعة الفكرة التي يحملها هذا الفكر وضعف دلالتها الوظيفية الاجتماعية، أي إنها تفتقد إلى مبرر وجودها واستمرارها في الواقع والوجدان العربي، فطبيعة الفكرة الدافعة هي التي تقف وراء أي مشروع ومقدار قوتها في لحظة الانطلاق، وهذا ما افتقدت إليه الفكرة التي شكلت نقطة ارتكاز في مشروع هذا الفكر الذي نظر إلى مجتمعه بمركبات ذهنية خارج السياق العربي وبعنف في كثير من الأحيان.
وإن الأسس والمنطلقات المنهجية التي ابتكرها الغرب كانت استجابة ذاتية، ووفق منطق داخلي وتطورات تاريخية مرتبطة بالسياق الغربي، غير قابلة للتعميم الصارم، لهذا فإن أي تناول علمي لهذه الأسس، ومحاولة تقريبها إلى المجال التداولي العربي الإسلامي، ينبغي - وبالضرورة - أن يضع في الاعتبار هذا السياق التاريخي والحضاري.
كما حاولنا خلال هذا العمل أن نبرهن أن المشكلة المنهجية التي تواجه الأمة في حاضرها ومستقبلها هي مشكلة المفاهيم، حيث ظلت وإلى الآن تحت الاستعمار المفهومي الغربي (في التربية، والاقتصاد، والسياسة، والمعرفة وفروعها ...) دون أن تقوى على صناعة مفاهيمها الذاتية، وأن أي تخطيط للمستقبل إنما يبدأ من معركة المفاهيم وتحقيق الاستقلال على مستوى مقولات التحليل والتفسير، مع تطوير منهجية استيعاب المفهوم الوافد وتتبع آثاره في ثقافة الأمة ودرجة انسجامه مع أصولها؛ لأن فهم المنهجيات الوافدة واستيعابها هو ارتقاء في المواجهة وخروج من التبعية وقدرة على الإبداع.
إن حل القضايا الخلافية الفكرية والمعرفية بين دعاة التقليد للغرب والاستقلال الحضاري سبيله الحوار النافع بحثا عن نقاط الاتفاق وتعزيزها - لأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا - ونقاط الاختلاف وتقريب وجهات النظر فيها. ويبدو أن التحولات الراهنة للواقع أكبر تحد للنخب العربية على إجراء نقد ذاتي وعقلاني لبدء مرحلة جديدة حول المرتكزات الفكرية والمنهجية المخلصة لها من أمراض التقليد التاريخي والغربي.
التأصيل لقواعد المنهجية الإسلامية لا بد أن يرتكز على مكونات وعناصر متكاملة، وإغفال عنصر من هذه العناصر سيضر لا محالة بالموقف الفكري المنهجي السليم، ويفوت على الأمة توطين الذات، ويضعفها في ساحة المواجهة مع الاختيارات المنهجية الأخرى.
اختيارات ترتبط بالوحي إطارا منهجيا، ومرجعيا شاملا للمعرفة الإسلامية، وبناء التصورات والاختيارات الكبرى، ثم التراث بمدارسه المختلفة التي تعتبر ترسانة فكرية وخبرة منهجية لا يمكن تجاهلها في أي بناء فكري ومنهجي، فإذا جاز لأمم العالم أن تفرط في تراثها، فإنه لا يجوز للأمة العربية الإسلامية التي يشكل التاريخ ذاكرتها الحضارية، بشرط تطوير منهجية القراءة والاستيعاب. منهجية قادرة على استصحاب قيم الحق الثابتة فيه، والواقع وما يفرزه من إشكالات معرفية، ومعالجات منهجية لطوارئ الأحداث والقضايا.
كما لا تستغني عن الانفتاح على التراث الإنساني العالمي - لا الغربي - ومستجدات المنهجيات وفق منهجية تجنبنا تكرار التجارب الفاشلة.
هذه الدراسة جهد مقل أحسبه لبنة في الفكر المنهجي تنتظره لبنات أخرى، حاولنا فيه قدر الوسع والطاقة أن نلامس بعضا من الإشكالات المنهجية، ومجالات وأسباب القصور فيها في الفكر العربي المعاصر، وحاجة الأمة إلى وصفات منهجية تشفي العلل، وتزيد المناعة الذاتية قوة وصلابة.
والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل.
حرر ببني ملال، 13 من ذي الحجة 1439ه، الموافق 25 غشت 2018م.
د. عبد الله أخواض
لائحة المصادر والمراجع
(1)
ابن نبي، مالك: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط1، 1988م. (2)
إبراهيم، عبد الله: المطابقة والاختلاف، المركزية الغربية: إشكالية التكون والتمركز حول الذات، المركز الثقافي العربي، ط1، 1997م. (3)
أبي نادر، نايلة: التراث والمنهج بين أركون والجابري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2008م. (4)
الإدريسي، حسين: محمد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2010م. (5)
أركون، محمد:
الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان، 1987م.
الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، دار الساقي ط3، 1998م.
تاريخية الفكر العربي الإسلامي، مركز الإنماء القومي، بيروت ط2، 1996م. (6)
أمزيان، محمد: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، بيت الحكمة للترجمة والنشر ط3 ، 1996م. (7)
أنور علا، مصطفى: أزمة المنهج في العلوم الإنسانية، ضمن كتاب قضايا المنهجية في العلوم الإسلامية والاجتماعية، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة المنهجية الإسلامية (12)، ط1، 1996م. (8)
بارة، عبد الغني: الهرمينوطيقا والفلسفة: نحو مشروع عقل تأويلي، منشورات الاختلاف ط1، 2008م. (9)
بلقزيز، عبد الإله: أسئلة الفكر العربي المعاصر: السلسلة الشهرية المعرفة للجميع، عدد21 أكتوبر 2001م. (10)
بوحسن، أحمد: في المناهج النقدية المعاصرة، مكتبة دار الأمان للنشر والتوزيع، ط1، 2004م. (11)
ترناس، رتشار: آلام العقل الغربي، فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا إلى العالم، ترجمه إلى العربية فاضل جتكر، دار الكلمة، المملكة العربية السعودية ط1، 2010م. (12)
تزيني، طيب: مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق للطباعة والنشر. (13)
تورين، آلان: براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة ط1، 2011م. (14)
الجابري، محمد عابد:
في نقد الحاجة إلى الإصلاح، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2005م.
الخطاب النهضوي العربي مراجعة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية ط3، 2009م.
إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية ط6، 2010م.
الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1988م.
العقل الأخلاقي العربي، المركز الثقافي العربي، دار النشر المغربية، البيضاء، ط1، 2001م.
العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، المركز الثقافي العربي، ط1، 1991م.
تكوين العقل العربي، المركز الثقافي العربي، ط4، 1991م.
بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، المركز الثقافي العربي، ط2، 1991م.
مسألة الهوية العروبة والإسلام والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1995م. (15)
جبرون، امحمد: مفهوم الدولة الإسلامية، أزمة الأسس وحتمية الحداثة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2014م. (16)
الجراري، عباس: خطاب المنهج، منشورات السفير، ط1، 1990م. (17)
حرب، علي: نقد النص، المركز الثقافي العربي، ط4، 2005م. (18)
الحسن، العباقي: القرآن الكريم والقراءة الحداثية، دراسة تحليلية نقدية لإشكالية النص عند محمد أركون، أنوار للنشر والتوزيع، ط1، 2010م. (19)
الحصري، ساطع: أبحاث مختارة في القومية العربية: الأعمال الكاملة، سلسلة التراث القومي (17) طبعة خاصة، 1985م. (20)
حمودة، عبد العزيز: المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، عدد: 232، أبريل 1998م. (21)
الخطيب، سليمان: أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب، ضمن كتاب الحوار والغرب: آلياته - أهدافه - دوافعه، سلسلة التأصيل النظري للدراسات الحضارية (1)، 2008م. (22)
خليل، عماد الدين: مدخل إلى إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1991م. (23)
زويد، المطيري منصور: الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع: الدواعي والإمكان، كتاب الأمة، العدد 33، السنة 1413ه. (24)
سكوت، هيبارد: السياسة الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأمريكية، ترجمة الأمير سامح كريم، عالم المعرفة ع413، 2014م. (25)
سيف، عبد الفتاح إسماعيل: بناء المفاهيم الإسلامية ضرورة منهجية، المنهجية الإسلامية والعلوم السلوكية والتربوية، سلسلة ندوات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1992م. (26)
شبار، سعيد:
الاجتهاد والتجديد في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، دراسة في الأسس المرجعية والمنهجية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 2007م.
الحداثة في التداول الثقافي العربي الإسلامي نحو إعادة بناء المفهوم، منشورات الزمن ع36، 2002م. (27)
شفيق، منير:
الإسلام في معركة الحضارة، دار البراق للنشر والتوزيع، ط1، 1991م.
قضايا التنمية والاستقلال في الصراع الحضاري، ط2، 1992م. (28)
صالح، أماني: منهجية التجديد من خلال الاستفادة من بعض الاقترابات والمفاهيم والأدوات الغربية: نموذج لتوظيف الاقتراب البنائي الوظيفي، كتاب المنهجية الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار السلام للطباعة للنشر والتوزيع والترجمة، ط1، 2010م. (29)
عبد الباقي، لؤي: قراءة نقدية للمفاهيم الحديثة في الخطاب العربي المعاصر، أيديولوجيا الحداثة وثقافة فكر المستعار، مقال من الإنترنت، موقع الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب. (30)
عبد الرحمن، طه:
بؤس الدهرانية، النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2014م.
سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، ط4، 2009م.
في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، ط2، 2007م.
تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994م.
روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، المركز الثقافي العربي، ط1، 2012م.
الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005م.
حوارات من أجل المستقبل، منشورات جريدة الزمن، العدد 13، أبريل 2000م. (31)
عبد اللطيف ، كمال: التفكير في العلمانية: إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي، أفريقيا الشرق 2002، بيروت لبنان. (32)
ابن عدي، يوسف: قراءات في التجارب الفكرية العربية المعاصرة: رهانات وآفاق، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2011م. (33)
العطاس، سيد محمد نقيب: مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، ترجمة محمد طاهر الميساوي، المعهد العالي العالمي للفكر والحضارة الإسلامية، دار الفجر ودار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 2000م. (34)
غريغوار، منصور مرشو وخوان أنطونيو باتشيكو: العقلانية في الفكر العربي المعاصر، دار الفكر، دمشق ط1، 2012م. (35)
غليون، برهان: العقلانية ونقد العقل: ملاحظات منهجية، ندوة العقلانية العربية والمشروع الحضاري، (6) منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، سلسلة الندوات، الطبعة الأولى، 1992م. (36)
الغنوشي، رشيد: مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني، المركز المغاربي للبحوث والترجمة 1999م. (37)
فكار، رشدي: تأملات إسلامية في قضايا الإنسان والمجتمع، مكتبة وهبة، القاهرة ط2، 1987م. (38)
كلشني، مهدي : من العلم العلماني إلى العلم الديني، قضايا إسلامية معاصرة، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ترجمة سرمد الطائي، ط1، 2003م. (39)
كوش، عمر: أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله، المركز الثقافي العربي، ط1، 2002م. (40)
محفوظ، محمد: الإسلام، الغرب وحوار المستقبل، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2000م. (41)
محمد، يحيى: نقد العقل العربي في الميزان، دراسة مطارحات «نقد العقل العربي» للمفكر المغربي محمد عابد الجابري، أفريقيا الشرق، المغرب، 2009م. (42)
المرزوقي، أبو يعرب: آفاق فلسفة عربية معاصرة، بالاشتراك مع الطيب التيزيني، دار الفكر المعاصر، دمشق، ط1، 2001م. (43)
مروة، حسين: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، دار الفارابي، بيروت، لبنان. (44)
المسيري، عبد الوهاب:
رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، 2000م.
إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، تصدير المقدمة، تحرير المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة المنهجية الإسلامية (9) ط2، 1996م.
الثقافة والمنهج: تحرير سوزان حرفي، دار الفكر دمشق، ط1، 2009م.
العلمانية والحداثة والعولمة، تحرير سوزان حرفي، ط1، 2013م.
العلمانية الجزئية والشاملة، دار الشروق، ط1، 2002م. (1) المجلات والدوريات (45)
أركون، محمد: الإسلام والحداثة، ندوة مواقف، دار الساقي، الطبعة الأولى، 1990م. (46)
بلعقروز، عبد الرزاق : من عقلانية الحداثة إلى عقلانية الإيمان التوحيدي، مجلة إسلامية المعرفة، السنة التاسعة عشرة، ع76، 2014م. (47)
الربيعو، تركي علي: مدخل لدراسة أزمة النمط الحضاري المهيمن، مجلة منبر الحوار، ع30، 1993م. (48)
زكريا، خضر: الباحث الاجتماعي العربي والسياسة، مجلة الوحدة العربية، العدد 58-59، 1989م، منشورات المركز القومي العربي. (49)
سليمان، خالد محمد: المناهج النوعية والكمية، قراءة أولية في المنطلقات المعرفية، مجلة إسلامية المعرفة، السنة التاسعة، العدد 33-34، صيف وخريف 2003م. (50)
شبار، سعيد: في مفهوم «النخبة» ودور الوسيط أو المصدر الثقافي، مجلة الكلمة، ع25، السنة السادسة، خريف 1420ه/1999م. (51)
الشريف، ماهر: كي تتحقق النهضة لا بد من استكمال بناء القومية العربية، مجلة الطريق، مجلة فكرية سياسية تصدر مرة كل شهر أسسها أنطوان ثابت 1941م، السنة السادسة والخمسون، ع6، 1997م. (52)
شلق، الفضل: الاجتهاد وأزمة الحضارة العربية: مجلة الاجتهاد، مجلة متخصصة تعنى بقضايا الدين والمجتمع والتجديد العربي الإسلامي، دار الاجتهاد بيروت، العدد 8، السنة الثانية، صيف 1990م. (53)
الشهاب، أحمد: نحو تناول علمي لمفهوم العولمة، مجلة الكلمة، مجلة فكرية ثقافية إسلامية تصدر عن منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، السنة السادسة ، ع25، 1999م. (54)
صافي، لؤي: جدلية التنمية، حركة التجديد الحضاري بين الاتجاه الإسلامي والعلماني: مراجعة نقدية، مجلة منبر الحوار، السنة التاسعة، العدد 34، خريف 1994م. (55)
عمارة، محمد: الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، مجلة منبر الحوار، ع15، السنة الرابعة، خريف 1989م. (56)
غليون، برهان: هل يسهم تجديد الفكر القومي في بلورة مشروع نهضة عربية جديدة، مجلة الطريق، مجلة فكرية سياسية تصدر مرة كل شهر، أسسها أنطوان ثابت 1941م، ع6، السنة السادسة والخمسون 1997م. (57)
القاسمي، علي: مفهوم القطيعة مع التراث في فكر الجابري: مجلة الثقافة المغربية، تصدرها وزارة الثقافة، ع35، يناير 2001م. (58)
كوثراني، وجيه: الديمقراطية ومشكلة الأقليات في الفكرين القومي والإسلامي: حوار من أجل نظرة جديدة، منبر الحوار، ع34، السنة التاسعة 1994م. (59)
مجلة الوحدة العربية، العقلانية والمشروع العربي، ندوة «نقد العقل العربي في مشروع الجابري»، السنة الثالثة، ع26-27، 1986م. (60)
المسيري، عبد الوهاب: في أهمية الدرس المعرفي، مجلة إسلامية المعرفة، العدد العشرون، السنة الخامسة. (61)
المسيري، عبد الوهاب: نحو نموذج تفسيري اجتهادي (بدلا من النموذج الموضوعي المتلقي)، مجلة إسلامية المعرفة، ع16 السنة الرابعة، 1999م.
Unknown page