[20] وأيضا فإن الإدراك بالتأمل ليس يكون إلا في زمان، لأن التأمل إنما هو بالتمييز وحركة البصر، والتمييز ليس يكون إلا في زمان والحركة ليس تكون إلا في زمان، فالتأمل ليس يكون إلا في زمان. وقد تبين أيضا فيما تقدم أن الإدراك بالمعرفة والإدراك بالتمييز ليس يكون إلا في زمان، وإذ قد تبين أن إدراك المبصرات بالتأمل يكون بمجرد التأمل ويكون بالتأمل مع تقدم المعرفة، وأن ما يدرك بالتأمل وما يدرك بالمعرفة ليس يدرك إلا في زمان، فإنا نقول إن الإدراك الذي يكون بالتأمل مع تقدم المعرفة يكون في أكثر الأحوال في زمان أقصر من الزمان الذي يكون فيه الإدراك بمجرد التأمل. وذلك أن المعاني القائمة في النفس وحاضرة للذ كر ليس يحتاج في معرفتها عند حضورها إلى استقراء جميع المعاني التي منها تتقوم حقيقتها، بل يقنع في إدراكها إدراك معنى من المعاني التي تخصها. فإذا أدركت القوة المميزة من الصورة التي ترد إليها معنى من المعاني التي تخص تلك الصورة وكانت ذاكرة للصورة الأولة، فإنها تعرف بالخاصة جميع الصور التي وردت عليها، لأن كل معنى يخص الصورة فهو أمارة تدل على تلك الصورة.
[21] ومثال ذلك شخص الإنسان إذا أدركه البصر فإنه إذا أدرك تخطيط يده فقط قد أدرك أنه إنسان قبل أن يدرك تخطيط وجهه وقبل أن يدرك تخطيط بقية أجزائه. وكذلك إن أدرك تخطيط رجله. وكذلك إن أدرك تخطيط وجهه قبل أن يدرك بقية أجزائه. فمن إدراك البصر لبعض المعاني التي تخص هيئة الإنسان قد أدرك أن ذلك المبصر إنسان من غيرحاجة إلى إدراك بقية أجزائه، لأنه يدرك بقية أجزائه بتقدم المعرفة من الصور الحاصلة في النفس لهيئة الإنسان. وكذلك الشخص المعين الذي شاهده البصر من قبل إذا أدرك البصر بعض المعاني التي تخص صورته الجزئية كفطسة تكون في أنفه إن كان إنسانا أو زرقة في عينه أوقرنة في حاجبه أو غضون في جبهته، فإنه من إدراك بعض هذه الأمارات مع إدراكه لجملة صورته قد أدرك ذلك الشخص وعرفه. وكذلك الفرس <يعرفه> بشينة أو ببعض شينة <أو> ببلقة تكون في موضع منه أو بغرة في جبهته. وكذلك الكتابة فإن الكاتب الماهر بالكتابة إذا أدرك صورة أبجد فقد أدرك أنها أبجد من جملة صورتها، ومن قبل أن يستقريء حروفها حرفا حرفا قد أدرك أنها أبجد. وذلك جميع كلمات الكتابة التي تتكرر على الكتاب يعرفها الكاتب في حال إدراكها من إدراك بعض حروفها ومن قبل أن يستقريء كل حرف من حروفها.
Page 329