[73] فأما كيف إدراك القوة المميزة للبعد بالتمييز، فإن البصر إذا قابل المبصر بعدأن لم يكن مقابلا له أدرك المبصر، وإذا أعرض البصر عن ذلك المبصر والتفت عنه بطل ذلك الإدراك. وكذلك إذا فتح البصر أجفانه بعد أن كانت مطبقة، وكان مقابلا له مبصر من المبصرات، أدرك البصر ذلك المبصر، وإذا أطبق أجفانه من بعد إدراك ذلك المبصر بطل ذلك الإدراك. وفي فطرة العقل أن ما يحدث في البصر عند وضع من الأوضاع ويبطل في حال الالتفات ليس هو شيئا ثابتا في داخل البصر ولا محدثه في داخل البصر. وفي فطرة العقل أيضا أن ما يحدث عند فتح الأجفان ويبطل عند انطباق الأجفان ليس هو شيئا ثابتا في داخل البصر ولا محدثه في داخل البصر. وإذا أدركت القوة المميزة أن المعنى الذي يحدث في البصر الذي منه يدرك البصر المبصر ليس هو شيئا ثابتا في داخل البصر ولا محدثه في داخل البصر، فقد أدركت أن ذلك الذي يحدث في البصر هو شيء يرد من خارج ومحدثه خارج عن البصر. وإذا كان الإبصار يبطل عند انطباق الأجفان وعند الإعراض، ويحدث عند فتح الأجفان وعند المقابلة، فالقوة المميزة تدرك أن الذي يبصر ليس هو ملتصقا بالبصر. وإذا أدركت القوة المميزة أن الذي يبصر ليس هو في داخل البصر ولا هو ملتصقا بالبصر، فقد أدركت أن بينه وبين البصر بعدا. لأن في فطرة العقل أو في غاية الظهور للتمييز أن ما ليس هو في الجسم ولا ملتصقا به فإن بينه وبينه بعدا. وهذا هو كيفية إدراك حقيقة بعد المبصر بما هو بعد.
[74] وليس تحتاج القوة المميزة في إدراك البعد إلى التفصيل الذي فصلناه، وإنما فصلناه للتبيين. والقوة المميزة تدرك نتيجة هذا التفصيل في حال الإبصار من غير حاجة إلى تفصيل. فمن إدراك البصر للمبصر عند مقابلته وبطلان الإدراك عند الإعراض عنه أو عند انطباق الأجفان قد أدركت القوة المميزة في الحال أن المبصر خارج عن البصر وغير ملتصق بالبصر. وعلى هذه الصفة أدركت القوة المميزة أن بين المبصر وبين البصر بعدا. ثم لاستمرار هذا المعنى وتكرره استقر في النفس من حيث لم يحس باستقراره ولا بكيفية استقراره أن جميع المبصرات خارجة عن البصر وأن كل مبصر فبينه وبين البصر بعد. فبعد المبصر عن البصر إنما أدرك بالتمييز وباليسير من التمييز، وهو من إدراك القوة المميزة أن الإبصار الذي يحدث في البصر هو لمعنى خارج عن البصر. ثم استقر هذا المعنى في النفس، فصار كل مبصر يدركه البصر قد فهمت القوة المميزة أنه خارج عن البصر وبينه وبين البصر بعد.
[75] ومع ذلك فليس يدرك البعد منفردا كما ذكرنا من قبل، وليس يدرك البعد إلا مع غيره. وعند كلامنا في كيفية إدراك الوضع يتبين كيف يدرك البعد مع الوضع وكيف يدرك المبصر في موضعه.
Page 246