خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - بالكوفة، فقال - في كلام له -: "سبحانك خالقًا معبودًا، تحسن بلاءك في خلقك، خلقت دارًا، وجعلت مأدبة ومطعمًا ومشربًا وأزواجًا وقصورًا وخدمًا وعيونًا وأنهارًا، ثم أرسلت داعيًا إلينا، فلا الداعي أجبنا، ولا فيما رغبتنا رغبنا، أقبلنا على جيفة نأكل منها، قد زاد بعضنا على بعض حرصًا عليها، وافتضحنا لما اصطلحنا على حبها، عميت أبصار صالحينا وفقهائنا فيها ولها، من في قلبه مرض فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة، وقد ملكت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وذهلت عليها نفسه، فهو عبدها، وعبد من في يديه منها شيء، حيثما زالت زال معها، وحيثما أقبلت أقبل إليها، ولا يعقل ولا يسمع، ولا يزدجر من الله بزاجر، ولا يتعظ من الله بواعظ، قد رأى المأخوذين على الغرة، حيث لا إقالة ولا رجعة، كيف فاجأتهم تلك الأمور، ونزل بهم ما كانوا يوعدون، وفارقوا الدور، وصاروا إلى القبور، ولقوا دواهي تلك الأمور، فإذا نزلت بقلوبهم حسرات أنفسهم اجتمعت عليهم خصلتان: حسرة الفوت، وسكرة الموت تفطرت لها قلوبهم، وتغيرت ألوانهم، وتردد فواقهم، وحركوا لمخرج أرواحهم أيديهم وأرجلهم، فعرقت لذلك جباههم، ثم ازداد الموت فيهم، فحيل بين أحدهم ومنطقه، وإنه لبين ظهراني قومه، ففكر بعقل بقي له فيم فني عمره؟ وفيم ذهبت أيامه؟ عن الأصمعي ﵀ قال: حججت فنزلت ضرية في يوم الجمعة، فإذا أعرابي قد كور عمامته، وتنكب قوسه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ﷺ، ثم قال: أيها الناس. إن الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، فخذوا من دار ممركم لدار مقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم، فإنه لن يستقبل أحد يومًا من عمره إلا بفراق آخر من أجله، وإن أمس موعظة، واليوم غنيمة، وغدًا لا يدري من أهله، فاستصلحوا ما تقدمون عليه، وأفنوا ما لا ترجعون إليه، وأخرجوا من الدنيا بقلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها خقتم، وإلى غيرها ندبتم، وإنه لا قوى أقوى من الخالق، ولا ضعيف أضعف من مخلوق، ولا هرب من الله إلا إليه، وكيف يهرب من يتقلب في يدي طالبه؟! (كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فار، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) .
عن عيسى بن مريم صلى الله عليه، أنه قال: (من ذا الذي يبني على موج البحر دارًا؟ تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارًا) .
وعن وهب بن منبه ﵀ قال: قال عيسى بن مريم صلى الله عليه: يا دار تخربين، ويفنى ساكنك، ويا نفس اعملي ترزقي، ويا جسد انصب تسترح.
قال رجل للحسن البصري ﵁ يا أبا سعيد: إذا جعت ضعفت، وإذا شبعت وقع على البهر، فقال: يا ابن أخي هذه الدار ليست توافقك، فاطلب دارًا غيرها.
عن صالح المري ﵀ قال: لما غضب المنصور على المورياني، وخرب داره، دخلت إليها يومًا أطوف فيها، وأعتبر، فإذا أسود قد خرج علي من بعض الحجر، فقال لي: هذا سخط المخلوق، فكيف بسخط الخالق على المخلوق؟ وعن الحسن البصري ﵁ أنه قال: الدنيا دار عمل، فمن صحبها بالبغض لها، والزهادة فيها، والتهضم لها، سعد بها، ونفعته صحبتها، ومن صحبها بالرغبة فيها، والمحبة لها، شقي بها، وأجحفت بحظه من الله تعالى، ثم أسلمته إلى ما لا صبر له عليه من عذاب الله وسخطه، فأمرها صغير، ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب، والله ولي ميراثها، وأهلها يتحولون إلى منازل لا تبلى، ولا يغيرها طول الزمن، ولا العمر فيها يفنى فيموتون، ولا إن طال الثواء فيها يخرجون، فاحذروا - ولا قوة إلا بالله - ذلك الموطن، وأكثروا ذكر ذلك المنقلب.
نظر ابن مطيع إلى داره، فأعجبه حسنها، ثم بكى، ثم قال: والله لولا الموت لكنت بك مسرورًا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا، ثم بكى حتى ارتفع صوته.
روى الخطيب أبو بكر ﵀ في تاريخه بإسناده، قال: قال يعقوب بن شيبة: رأيت على باب دار خراب:
ربت دار بعد عمرانها ... أضحت خرابًا ما بها آهل
لم تدخل البهجة دار امرئ ... إلا وما يهدمها داخل
ما يأمن الدنيا وأيامها ... بعدي إلا أنوك جاهل
1 / 64