وقوله ﷿: (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) أي دار الإقامة، وهي الجنة، وفي الفرق بين المقامة بالضم والفتح وجهان: أحدهما: أنها بالضم: دار الإقامة، وبالفتح: موضع الإقامة.
الثاني: أنها بالضم: المجلس الذي يجتمع فيه للطعام، وبالفتح المجلس الذي يجتمع فيه للحديث.
وقوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم) هم الأنصار ﵃ الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها، قيل: إنهم تبوءوا الدار من قبلهم، والإيمان من بعدهم، وقيل: تبوءوا الدار والإيمان من قبل الهجرة إليهم. (يحبون من هاجر إليهم) بمواساتهم بأموالهم ومساكنهم.
(ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا) أي حسدًا مما خصوا به من مال الفيء.
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) يعني أنهم يفضلونهم ويقدمونهم على أنفسهم ولو كانت بهم فاقة وحاجة، وفي إيثارهم قولان: أحدهما: أنهم آثروهم على أنفسهم بما حصل من فيء وغنيمة حتى قسمت في المهاجرين دونهم، وروى أن النبي ﷺ قسم للمهاجرين ما أفاء الله تعالى من النضير - وقيل من قريظة - من أموالهم، فقالت الأنصار ﵃: بل نقسم لهم من أموالنا، ونوثرهم بالفيء، فأنزل الله ﷿ هذه الآية.
القول الثاني: أنهم آثروا المهاجرين ﵃ بأموالهم، وواسوهم بها، روى بن زيد أن النبي ﷺ قال للأنصار: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد، وخرجوا إليكم، فقالوا: أموالنا بينهم قطائع، فقال ﷺ: أو غير ذلك؟ فقالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم التمر؟ يعمي مما صار لهم من نخل بني النضير، فقالوا: نعم يا رسول الله.
(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) قيل: الشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له، وقيل: منع الزكاة، وقيل: هوى النفس، وقيل: اكتساب الحرام.
روى الأسود عن ابن مسعود ﵁ أن رجلًا أتاه، فقالك إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله ﷿ يقول: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وأنا رجل شحيح، لا أكاد أخرج من يدي شيئًا، فقال ابن مسعود ﵀ ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل.
وعن النبي ﷺ: "يا عجبًا كل العجب من المصدق بدار الخلود وهو يعمل لدار الغرور".
عن أبي الدرداء ﵁ قال: خطبنا رسول الله ﷺ يوم جمعة، فقال: "أيها الناس توبوا قبل أن تموتوا، زبادروا الأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا، أيها الناس: إن أكيسكم أكثركم للموت ذكرًا، وأحزمكم أكثركم له استعدادًا، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور".
أنشد علي بن محمد بن ثابت الكاتب:
الدار دار مرازي ومصائب ... وفجيعة بأحبة وحبائب
ما ينقضي نهل بفرقة صاحب ... حتى أعل بفرقة من صاحب
وإذا مضى الآلاف عنك لطية ... والمؤنسون، فأنت أول ذاهب
1 / 63