أظن العدى أن ارتحالي ضائري ... ضلالًا لما ظنوا، وهل يكسد التبر؟
ما زادني بعدي سوى بعد همة ... كما زاد نورا في تباعده البدر
وهل في ارتحالي عن بلاد تنكرت ... لمثلي أو للساكنين بها فخر؟!
وإن بلادًا ضاق عني فضاؤها ... لأرحب من أكنافها للعلى فتر
وأرضًا نبت بي وهي آهلة الربى ... هي القفر، لا، بل دون وحشتها القفر
وهل ينكر الأعداء فضلى وإنه ... لأسير ذكرًا أن يواريه الكفر؟
ألست الذي مازال كهلًا ويافعًا ... له المكرمات الغر، والنائل الغمر؟
وخائض وقعات بوارقها الظبى ... ووابل هاتيك البروق دم همر؟
يهول الردى منى تقحمي الردى=ويعتاده من جأشي الرابط الذعر وقال آخر:
بلاد جفاني الناصحون وملني ... صديقي، ولمن يحفل بذلك عودي
ولكن بلاد لو مرضت لعادني ... أوانس يكحلن العيون بإثمد
أوانس يشفين السقيم ملاحة ... وحسن حديث كالجمان المنضد
ولله قوم لم أفارقهم قلى ... كرام أولو عز وفخر وسؤدد
قال أبو عبد الله إبراهيم نفطويه: أنشدنا أحمد بن يحيى، النحوي لرجل من العرب كان أبوه يمنعه الاضطراب في المعيشة شفقة عليه:
ألا خلني أذهب لشأني ولا أكن ... على الناس كلًا، إن ذاك شديد
أرى الضرب في البلدان يغني معاشرًا ... ولم أر من أجدى عليه قعود
أتمنعني خوف المنايا ولم أكن ... لأهرب مما ليس منه محيد؟
فدعني أجول في البلاد لعلني ... أسر صديقًا أو يساء حسود
فلو كنت ذا مال لقرب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت: أنت سديد
وقال آخر:
سقيت أيافث من بلاد ... صوب الروائح والغوادي
كم قد تروت هامتي ... فيها وعول من وسادي
دعني لسبل غوايتي ... والزم سبيلك للرشاد
مرت بي هذه الأبيات في خبر أنا مورده لاستغرابي إياه، وإن لم يكن مما يقتضيه التأليف، والعهدة فيه على من رواه، وهو: عن ابن الكلبي عن أبيه عن أشياخ من أهل ذمار - من أهل اليمن - أنه سمعهم يخبرون عن رجل من حمير من ذي الكلاع - وكان رجلًا جلدًا شجاعًا يركب الأهوال، وينفرد في الأسفار يقال له: تحياوة بن عمير - قال: خرجت أريد حضرموت، فبت في بعض المفاوز بقراب روضة غناء في ليلة مقمرة، نمت أول الليل، ثم أيقظني حس فانتبهت، فإذا فتيان قريب مني قد جلسوا على شراب لهم، فأنكرت ذلك في نفسي، وقلت: والله ما يقرب من هذا الموضع قرية ولا ماء ولا حلة، فما هؤلاء؟ ثم نمت، فأقبل واحد منهم، فحركني برجله، فأنبهني، فقلت: ما تشاء؟ فقال: إنك قد نزلت بنا، ووجب علينا ذمامك، فقم بنا تصب من طعامنا وشرابنا. فقلت: أما الطعام فلا حاجة لي به، قال: فقم إلى الشراب إذن، فقمت فاستوثقت من عقال جملي، وأخذ سيفي ومضيت معه، فإذا فتيان تسعة، كأنهم الأقمار، فحيوا فرحبوا، فإذا بين أيديهم جفنة فيها شراب كدم الخشف تسطع منه رائحة المسك، فتناول فتى منهم قعبًا، فاغترف من الجفنة، فعب فيه حتى أتى على آخره، ثم قام، فأدار على القوم حتى صار إلي، فناولني القعب، فعببت فيه، ثم رددت إليه بعضه، فقال: اشرب، فشربت حتى أتيت على آخره، ثم قالوا للذي سقاهم: تغن يا تُحى، فرفع عقيرته وهو يقول:
ألا يا وادي العلجان أبشر ... ببارقة على وادي الغميم
لعل مصابها يدنى نوانا ... على عدوائه لنوى رميم
فشدا - والله - شدوا ما سمعت مثله حسنًا ولا صوابًا، فقلت له: يا أخي من يقول هذا الشعر؟ فقال: أنا والله قلته على لسان جذيمة المصطلق الذي منهم جويرية بنت الحارث زوج النبي ﷺ، فاستوحشت من قوله.
ثم قالوا لآخر: قم يا مسعر، فقام، ففعل كفعل الأول، حتى سقى القوم، ثم قالوا له: تغن، فقال:
تألق والدحى ملقى الجران ... بريق بين صاحة فالعران
كأن وميضه لمعان كف ... مخاطبة
على هول
الجنان
فكان غناؤه كغناء صاحبه وأحسن، فقلت: من يقول هذا يا أخي؟ فقال: أنا والله قلته على لسان علس ذي جدن.
ثم قالوا لآخر: قم يا مقروم، فقام، ففعل كفعل أصحابه، ثم قالوا له: غننا، فقال:
أبرزت من خلل البر ... د بنانًا كاللجين
1 / 60