مقدمة التحقيق
بسم الله الرّحمن الرّحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ﷺ، وبعد، فهذا كتاب قيم في علم من علوم القراءات وهو علم الوقف والابتداء، أحببت أن أعلق عليه بما يفيد وأن أقوم نصه واعتمدت في ذلك على الطبعة الوحيدة للكتاب والتي طبعت بمطبعة الحلبي واجتهدت في إصلاح نصها وتحقيقه والتعليق عليها بما يفيد إن شاء الله قدر الإمكان والطاقة، والله خير مسئول أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكتب:
شريف أبو العلا العدوي
1 / 5
ترجمة المؤلف (١)
(القرن الحادي عشر الهجري- القرن السابع عشر الميلادي) هو أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن محمد بن أحمد بن عبد الكريم الأشموني الشافعي. فقيه، مقرئ. من تصانيفه: منار الهدى في بيان الوقف والابتداء، والقول المتين في بيان أمور الدين.
ــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
(١) انظر معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة (١/ ٢٧٥).
1 / 6
[مقدمة المؤلف]
[خطبة الكتاب]
بسم الله الرّحمن الرّحيم (١) الحمد لله (٢) الذي نوّر قلوب أهل القرآن بنور معرفته تنويرا، وكسا (٣) وجوههم من إشراق ضياء بهجته نورا، وجعلهم من خاصة أحبابه إكراما لهم وتوقيرا، فجعل صدورهم أوعية كتابه ووفقهم لتلاوته آناء الليل وأطراف النهار ليعظم لهم بذلك أجورا، فترى وجوههم كالأقمار تتلألأ من الإشراق
ــ
بسم الله الرّحمن الرّحيم قال سيدنا ومولانا قاضي القضاة، شيخ المشايخ الإسلام، ملك العلماء الأعلام، عمدة المحققين، زين الملة والدين، أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعيّ، متع الله
_________
(١) الباء فيها قيل: إنها زائدة فلا تحتاج إلى ما تتعلق به، أو للاستعانة، أو للمصاحبة، متعلقة بمحذوف، إما أن يكون فعل والتقدير أبدأ أو أفعل، أو متعلقة باسم، أو متعلقة بحال، أي ابتدئ متبركا ومستعينا بالله، أو مصدر مبتدأ خبره محذوف، أي ابتدائي باسم الله ثابت أو دائم، والله أعلم على الذات العلية الواجبة للوجود المستحقة لجميع المحامد، والرحمن الرحيم: اسما مبالغة مشتقان من الرحمة، على وزن فعلان وفعيل، وقيل: إن الرحمن: يعم جميع الخلق، والرحيم مختص بالمؤمنين، وانظر: «نهاية المحتاج» للشمس الرملي (١/ ١٦ - ٢٠) «القاموس المحيط» (٤/ ٣٤٤)، «شرح جوهرة التوحيد» (٣).
(٢) افتتح المصنف- ﵀ بعد التيمن بالبسملة بحمد الله، أداء لحق شيء مما يجب عليه نظير إنعام الله عليه بإنجاز هذا الكتاب، واقتداء بالقرآن الكريم، وبالسنة النبوية المطهرة، حيث كان رسول الله ﷺ يفتتح خطبه دائما بالحمد، ولم ينقل عنه غير ذلك، وأما حديث كل أمر ذي بال فقد اختلفت فيه أنظار النقاد والراجح: ضعفه وانظر «فتح الباري» شرح حديث «إنما الأعمال» رقم (١).
(٣) كسا: ألبس: أي جعل على وجوههم لباس النور دليلا على التقوى والطاعة.
1 / 7
وتبتهج سرورا، وقد أخبر عنهم الصادق المصدوق ممثلا بأنهم جراب مملوء مسكا وأعظم بذلك فخرا وتبشيرا، فيا لها من نعمة طهروا بها تطهيرا، وجاوزوا بها عزّا ومهابة وتحبيرا، فهم أعلى الناس درجات في الجنان تخدمهم فيها الملائكة الكرام عشيّا وبكورا، ويقال لهم في الجنة تهنئة لهم وتبشيرا، إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا فسبحانه من إله عظيم تعالى في ملكه عَمَّا يقول الظالمون عُلُوًّا كَبِيرًا، تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا أحمده ﷾ حمد من قام بواجب تجويد (١) كلامه ومعرفة وقوفه (٢) ونسأله من فيض فضله وإحسانه لطفا وعناية وتيسيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يغدو قلب قائلها مطمئنا مستنيرا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا ﷺ عبده ورسوله الذي اختاره الله من القدم حبيبا ونبيّا ورسولا، وأرسله إلى الثقلين بشيرا ونذيرا، وقد أخذ له العهد والميثاق على سائر المخلوقات وكتب له بذلك منشورا:
أما بعد (٣): فيقول العبد الفقير القائم على قدمي العجز والتقصير،
ــ
بوجوده الأنام، وحرسه بعينه التي لا تنام، بجاه سيدنا محمد أشرف الأنام، وآله وصحبه البررة الكرام.
_________
(١) التجويد: لغة هو التحسين، واصطلاحا: قراءة القرآن الكريم على نحو مخصوص بصفة مخصوصة كما نقل إلينا وتواتر.
(٢) الوقف: هو القطع لغة، واصطلاحا: هو قطع القراءة مع أخذ نفس، مع نية الاستئناف.
السكت: هو قطع القراءة بدون تنفس مع نية الاستئناف. وسوف يأتي تفريق المصنف بين هذه الأشياء.
(٣) أما بعد: لفظة تسمى: فصل الخطاب، وهي لقطع الكلام الذي قبلها عما بعدها انظر: السبع كتب المفيدة لعلوي السقاف (ص ٦٣).
1 / 8
الراجي عفو ربه القدير، أحمد بن الشيخ عبد الكريم ابن الشيخ محمد بن الشيخ عبد الكريم، عامل الله الجميع بفضله العميم، وأسكنهم من إحسانه جنات النعيم: هذا تأليف لم يسألني فيه أحد لعلمهم أني قليل البضاعة، غير دريّ بهذه الصناعة، فإني والله لست أهلا لقول ولا عمل، وإني والله من ذلك على وجل، لكن الكريم يقبل من تطفل، ولا يخيب من عليه عوّل، فإني بالعجز معلوم، ومثلي عن الخطأ غير معصوم، وبضاعتي مزجاة (١)، وتسمع بالمعيديّ خير من أن تراه (٢)، فشرعت فيما قصدت، وما لغيري وجدت، وذلك بعد لبثي حينا من الدهر أتروّى وأتأمل، وأنا إلى جمع ما تشتت من ذلك أميل، قادني إلى ذلك أمل ثواب الآخرة، سائلا من المولى الكريم الصواب والإعانة، متبرئا من حولي وقوّتي إلى من لا حول ولا قوّة إلا به، والمأمول من ذي العزة والجلال، أن ينفع به في الحال والمآل، وأن يكون تذكرة لنفسي في حياتي. وأثرا لي بعد وفاتي، فلا تكن ممن إذا رأى صوابا غطاه، وإذا وجد سهوا نادى عليه وأبداه، فمن رأى خطأ منصوصا عليه فليضفه بطرّته إليه والنصّ عليه. [البسيط]:
يا من غدا ناظرا فيما كتبت ومن ... أضحى يردّد فيما قلته النّظرا
سألتك الله إن عاينت لي خطأ ... فاستر عليّ فخير الناس من سترا
ــ
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وأصفيائه. وبعد:
فهذا مختصر المرشد في الوقف والابتداء الذي ألفه العلامة أبو محمد الحسن بن عليّ بن سعيد العماني- رحمه الله تعالى- وقد التزم أن يورد فيه جميع ما أورده أهل هذا
_________
(١) مزجاة: قليلة.
(٢) مثل مشهور عند العرب يقال عند ما يكون شخص ما له سيط وسمعة، ثم إذا رآه الإنسان اكتشف أنه غير ذلك تماما، وانظر: «مجمع الأمثال» للميداني (١/ ١٥٧).
1 / 9
فالموافق تكفيه الإشارة، ولا ينفع الحسود تطويل العبارة، وعلى الله اعتمادي في بلوغ التكميل، وهو حسبي ونعم الوكيل، وسميته:
منار الهدى، في بيان الوقف والابتداء (١) مقدما أمام المقصود فوائد وتنبيهات تنفع القارئ وتعينه على معرفة الوقف والابتداء ليكون على بصيرة إذا خاض في هذا البحر الزخار، الذي لا يدرك له قرار، ولا يسلك إلى قنته ولا يصار، من أراد السبيل إلى استقصائه لم يبلغ إلى ذلك وصولا، ومن رام الوصول إلى إحصائه لم يجد إلى ذلك سبيلا قد أودع الله فيه علم كل شيء، وأبان فيه كل هدى وغيّ، فترى كل ذي فنّ منه يستمد، وعليه يعتمد، جعله للحكم مستودعا ولكل علم منبعا، وإلى يوم القيامة نجما طالعا، ومنارا لامعا، وعلما ظاهرا، ولا يقوم بهذا الفن (٢) إلا من له باع في العربية، عالم بالقراءات، عالم بالتفسير، عالم باللغة التي نزل القرآن بها على خير خلقه، مزيل الغمة بعثه به بشيرا ونذيرا إلى خير أمة،
ــ
الفنّ، وأنا أذكر مقصود ما فيه مع زيادة بيان محل النزول وزيادة أخرى غالبها عن أبي عمرو عثمان بن سعيد المقري، وسميته:
المقصد لتلخيص ما في المرشد فأقول: الوقف يطلق على معنيين: أحدهما القطع الذي يسكت القارئ عنده.
_________
(١) حذف همزة كلمة «الابتداء» وهذا جائز على بعض لغات العرب، وقد ورد ذلك أيضا في كتاب الله الكريم في قراءة «حمزة» عند الوقف حيث إنه يحذف الهمزة عند الوقف، ووافقه في ذلك هشام.
(٢) شرع الشيخ يبين شروط من يتكلم في هذا العلم الشريف وبين أنه لا يتكلم فيه إلا متمكن من آلة هذه العلوم التي ذكر، وإن علمنا ذلك فينبغي علينا أن نتوقف عند علامات الوقف والابتداء المختلفة التي وضعها علماء القراءات وأن لا نتجاوزها، ولا نقيس ذلك بمجرد العقول والاستحسان، فالأمر أصعب مما قد يتخيل، فمن قال في القرآن برأيه وهو غير عالم فهو مخطئ وإن كان ما قاله صوابا.
1 / 10
شهد به كتابه المبين، عن لسان رسوله الصادق الأمين، جعله كتابا فارقا بين الشك واليقين، أعجز الفصحاء معارضته، وأعيا الألباء مناقضته، وأخرس البلغاء مشاكلته، جعل أمثاله عبرا للمتدبرين، وأوامره هدى المستبصرين، ضرب فيه الأمثال، وفرّق فيه بين الحرام والحلال، وكرّر القصص والمواعظ بألفاظ لا تمل، وهي مما سواها أعظم وأجلّ، ولا تخلق على كثرة الترديد، بل بكثرة تلاوتها حسنا وحلاوة ولا تزيد، قد حثنا على فهم معانيه، وبيان أغراضه ومبانيه، فليس المراد حفظ مبناه، بل فهم قارئه معناه، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فقد ذمّ الله اليهود حيث يقرءون التوراة من غير فهم فقال: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ (١) فعلى العاقل الأديب، والفطن اللبيب، أن يربأ بنفسه عن هذه المنزلة الدنية، ويأخذ بالرتبة السنية، فيقف على أهم العلوم وآكدها المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة، وهي بعد تجويد ألفاظه خمسة: علم العربية، والصرف، واللغة، والمعاني، والبيان.
ــ
وثانيهما: المواضع التي نصّ عليها القراء، فكل موضع منها يسمى وقفا وإن لم يقف القارئ عنده، ومعنى قولنا هذا وقف: أي موضع يوقف عنده، وليس المراد أن كل موضع من ذلك يجب الوقف عنده، بل المراد أنه يصلح عنده ذلك وإن كان في نفس القارئ طول، ولو كان في وسع أحدنا أن يقرأ القرآن كله في نفس واحد ساغ له ذلك، والقارئ كالمسافر، والمقاطع التي ينتهي إليها القارئ كالمنازل التي ينزلها المسافر، وهي مختلفة بالتامّ والحسن وغيرهما مما يأتي كاختلاف المنازل في الخصب ووجود الماء والكلأ وما يتظلل به من شجر ونحوه، والناس مختلفون في الوقف فمنهم من جعله على مقاطع الأنفاس، ومنهم من جعله على رءوس الآي، والأعدل أنه قد يكون في
_________
(١) في هذه الآية إشارة إلى أن المرء يجب أن يعقل ما يقرأ ويتدبره ولا يكتف بترديده فحسب بل يجب أن يعمل به أيضا، وإلا أصبح كاليهود عياذا بالله تعالى، كما قال ﷿ في آية أخرى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا.
1 / 11
فوائد مهمة تحتاج إلى صرف الهمة
الفائدة الأولى: في ذكر الأئمة الذين اشتهر عنهم هذا الفنّ وهو فنّ جليل:
قال عبد الله بن عمر- رضي الله تعالى عنهما-: لقد عشنا برهة من دهرنا، وأن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد ﷺ فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن، ولقد رأينا اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده وكل حرف منه ينادي: أنا رسول الله إليك لتعمل بي وتتعظ بمواعظي. قال النحاس: فهذا يدل على أنهم كانوا يتعلمون الوقوف كما يتعلمون القرآن حتى قال بعضهم: إن معرفته تظهر مذهب أهل السنة من مذهب المعتزلة (١)
ــ
أوساط الآي. وإن كان الاغلب في أواخرها، وليس آخر كل آية وقفا، بل المعاني معتبرة والأنفاس تابعة لها، والقارئ إذا بلغ الوقف وفي نفسه طول يبلغ الوقف يليه فله مجاوزته إلى ما يليه فما بعده، فإن علم أن نفسه لا يبلغ ذلك فالأحسن أن لا يجاوزه كالمسافر إذا لقي منزلا خصبا ظليلا كثير الماء والكلأ وعلم أنه إن جاوزه لا يبلغ المنزل الثاني واحتاج إلى النزول في مفازة لا شيء فيها من ذلك فالأوفق له أن لا يجاوزه، فإن
_________
(١) المقصود من ذلك أن كل واحد قد يوظف الوقف في القرآن العظيم على هواه إذا لم يكن عالما من أهل السنة، فإنه حتما سيقف على الجزء الذي يبرر مذهبه الفاسد، أما المثل الذي ضربه الشيخ، فهو يقصد به المعتزلة، لأنهم ينفون المشيئة لله في خلق أفعال العباد على مذهبهم الفاسد في نفى صفة خلق الله لأفعال العباد، وهم يرون كما هو معلوم أن العباد هم الذين يختارون ويخلقون أفعالهم بأنفسهم، وهذا كلام باطل، لأنه ليس معنى أن يختار العباد أفعالهم أنهم يخلقونها أو يفعلونها بمشيئتهم دون مشيئة الله فالله تعالى يقول: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، وليس هذا موضع بسط الكلام في هذه المسألة، ففيما قلنا كفاية والله أعلم، وللتفصيل عليك بالعقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية فقد
1 / 12
كما لو وقف على قوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ، فالوقف على يختار هو مذهب أهل السنة لنفي اختيار الخلق لاختيار الحق فليس لأحد أن يختار، بل الخيرة لله تعالى، أخرج هذا الأثر البيهقي في سننه. وقال عليّ كرّم الله وجهه في قوله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف. وقال ابن الأنباري: من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء، إذ لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن إلا بمعرفة الفواصل، فهذا أدل دليل على وجوب تعلمه وتعليمه. وحكى أن عبد الله بن عمر قد قام على حفظ سورة البقرة ثمان سنين، وعند تمامها نحر بدنة. أخرجه مالك في الموطأ، وقول الصحابي (١) كذا له حكم المرفوع إلى النبي ﷺ: أي ولم يخالفه غيره ولم يكن للرأي فيه مجال. وهذا لا دخل للرأي فيه، فلو خالفه غيره أو كان للرأي فيه مجال لا يكون قوله حجة. واشتهر هذا الفنّ عن جماعة من الخلف، وهم:
نافع ابن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني القارئ (٢) وعن صاحبه يعقوب بن
ــ
عرض له أي للقارئ عجز بعطاس أو قطع نفس أو نحوه عند ما يكره الوقف عليه عاد من أوّل الكلام ليكون الكلام متصلا بعضه ببعض. ولئلا يكون الابتداء بما بعده موهما للوقوع في محذور كقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا فإن ابتدأ بما يوهم ذلك كان مسيئا إن عرف معناه. وقال ابن الأنباري: لا إثم عليه، لأن نيته الحكاية عمن قاله وهو غير معتقد له، ولا خلاف أنه لا يحكم بكفره من غير تعمد واعتقاد لظاهره.
_________
أجاد وأفاد في هذا المبحث كعادته.
(١) قول الصحابي له حكم المرفوع بثلاثة شروط: ١ - أن لا يعلم له مخالف. ٢ - ليس للرأي فيه مجال. ٣ - ليس معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب.
(٢) هو إمام حرم رسول الله ﷺ، مولى جعونة بن شعوب الليثي، حليف حمزة بن عبد المطلب- ﵁، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو رويم، وأصله من أصفهان، ونشأ بالمدينة، وأقام بها، وكان من الطبقة الثالثة، وانظر ترجمته في: «معرفة القراء الكبار» (١/ ١٠٧ - ١١١)، «غاية النهاية» (٢/ ٣٣٠ - ٣٣٤)، «السبعة» (٥٣ - ٦٤)، «التاريخ الكبير» (٨/ ٨٧)، «الكامل»
(٧/ ٢٥١٥)، «مشاهير علماء الأمصار» (١٤١)، «وفيات الأعيان»
1 / 13
إسحاق الحضرمي البصري (١)، وعن أبي حاتم السجستاني (٢)، وعن محمد ابن عيسى (٣)، وعن أحمد بن موسى (٤)، وعن عليّ بن حمزة الكسائي (٥)،
ــ
ويسن للقارئ أن يتعلم الوقوف، وأن يقف على أواخر الآي إلا ما كان منها شديد التعلق بما بعده كقوله تعالى وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ وقوله:
_________
(٥/ ٣٦٨، ٣٦٩)، «سير أعلام النبلاء» (٧/ ٣٣٦ - ٣٣٨)، «ميزان الاعتدال» (٤/ ٢٤٢)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٢٩٥)، «شذرات الذهب» (١/ ٢٧٠).
(١) هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وكان حسن القراءة كثير الرواية، مشتهرا بجودة التلاوة عالما بالنحو واللغة، وانظر ترجمته في «معرفة القراء الكبار» (١/ ١٥٧، ١٥٨)، «غاية النهاية» (٢/ ٣٨٦ - ٣٨٩)، «طبقات ابن سعد» (٧/ ٣٠٤)، «تاريخ خليفة» (٤٧٢)، «طبقات النحويين» (٥٤)، «وإنباه الرواة» (٤/ ٤٥)، و«وفيات الأعيان» (٦/ ٣٩٠ - ٣٩٢)، «الكاشف» (٣/ ٢٩٠)، «بغية الوعاة» (٢/ ٣٢٨)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٥٤٩).
(٢) هو الإمام سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد، أبو حاتم السجستاني، إمام البصرة في النحو والقراءات واللغة والعروض، عرض على يعقوب الحضرمي، وغيره، روى عنه القراءة: الزردقي، وغيره، توفي سنة ٢٥٥ هـ، وقيل سنة ٢٥٠ هـ وانظر: «غاية النهاية» (١/ ٣٢٠)، «معرفة القراء» (١/ ٢١٩).
(٣) هو محمد بن عيسى بن إبراهيم بن رزين، أبو عبد الله التيمي الأصبهاني، إمام في القراءات، كبير مشهور، أخذ القراءة عن خلاد بن خالد، ونمير، وغيرهما روى القراءة عنه الفضل بن شاذان، وعبد الله بن أحمد البلخي، وغيرهما، صنف كتاب الجامع في القراءات، وكتاب في العدد، وغيرهما مات سنة ٢٥٣، وقيل سنة ٢٤٢ هـ. «غاية النهاية» (٢/ ٢٢٣)، «معرفة القراء» (١/ ٢٢٣).
(٤) هو أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي، الحافظ الأستاذ، أبو بكر بن مجاهد البغدادي، شيخ الصنعة، وأول من سبع السبعة، ولد سنة ٢٤٥ هـ ببغداد وتوفي سنة ٣٢٤ هـ، وانظر: «غاية النهاية» (١/ ١٣٩)، «معرفة القراء» (١/ ٢٦٩).
(٥) هو أبو الحسن على بن حمزة الكسائي، أعلم أهل الكوفة في زمانه بعلم العربية، ومنه نشأ علم الكوفيين، وكان علما مشهورا في زمانه، وكان يؤدب الأمين والمأمون ابني الرشيد، ومات في الري في قرية من أعمالها تعرف بأرنبوية في سنة ٢٨٩ هـ وانظر: «معرفة القراء الكبار»
1 / 14
وعن القراء الكوفيين (١)، وعن الأخفش سعيد (٢)، وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى (٣)،
ــ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* لأن اللام في الأول واللام في الثاني متعلقان بالآية قبلهما. ثم الوقف على مراتب: أعلاها التامّ، ثم الحسن، ثم الكافي، ثم الصالح ثم المفهوم، ثم
_________
(١/ ١٢٠ - ١٢٨)، «غاية النهاية» (١/ ٥٣٥ - ٥٤٠)، «السبعة» (٧٨، ٧٩)، «التاريخ الكبير» (٦/ ٢٦٨)، «الجرح والتعديل» (٦/ ١٨٢)، «مراتب النحويين» (١٢٠، ١٢١)، «طبقات النحويين» (١٢٧ - ١٣٠)، «الفهرست» لابن النديم (٤٥٤٤)، «تاريخ بغداد» (١١/ ٤٠٣ - ٤١٥)، «الأنساب» (٤٨٢)، «وفيات الأعيان» (٣/ ٢٩٥ - ٢٩٧)، «السير» (٩/ ١٣١ - ١٣٤)، «البداية والنهاية» (١٠/ ٢٠١ - ٢٠٢)، «بغية الوعاة» (٢/ ١٦٢ - ١٦٤)، «طبقات المفسرين» للدوري (١/ ٣٩٩ - ٤٠٣)، «شذرات الذهب» (١/ ٣٢١).
(١) القراء الكوفيون جماعة وأشهرهم وأهمهم معرفة هم:
١ - الإمام: أبو بكر عاصم بن أبي النجود الأسدي الكوفي، وانظر ترجمته في معرفة القراء الكبار (١/ ٨٨ - ٩٤)، «غاية النهاية» (١/ ٣٤٦ - ٣٤٩)، «طبقات خليفة» (١٥٩)، «وفيات الأعيان» (٣/ ٩)، «السير» (٥/ ٢٥٦).
٢ - الإمام: أبو عمارة حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات الفرضى وانظر ترجمته في «معرفة القراء» (١/ ١١١ - ١١٨)، «غاية النهاية» (١/ ٢٦١)، «السير» (٧/ ٩٠)، «ميزان الاعتدال» (١/ ٦٠٥)، «شذرات الذهب» (١/ ٢٤٠).
٣ - الإمام أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب، أبو محمد البزار البغدادي، أحد القراء العشرة وأحد الرواة عن حمزة في نفس الوقت، وانظر «غاية النهاية» (١/ ٢٧٢)، «معرفة القراء» (١/ ٢٠٨)، وقد مر ذكر الإمام الكسائي وترجمته في الترجمة السابقة.
(٢) هو أبو الحسن، سعيد بن مسعد المجاشعي بالولاء، النحوي البلخي، المعروف بالأخفش الأوسط، أحد نحاة البصرة، أخذ النحو عن سيبويه، وزاد في العروض بحر الخبب توفي سنة ٢١٥ هـ، انظر «وفيات الأعيان» (٢/ ٣٨٠)، «بغية الوعاة» (١/ ٥٩٠).
(٣) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى، أبو عبيدة التيمي البصري النحوي، العلامة مولى بني تميم بن مرة انظر ترجمته في «تاريخ خليفة» (١٩)، «المعارف» (٥٤٣)، «سؤالات الآجري» لأبي داود (٣/ ٣٠٢)، «المعرفة» ليعقوب الفسوي (٣/ ٣١٥)، «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» (٤٨٩)، «الجرح والتعديل» (٨/ ت ١١٧٥)، «الثقات» (٩/ ١٩٦)، «أخبار النحويين البصريين» (٥٢ - ٥٥)، «تاريخ الخطيب» (١٣/ ٢٥٢ - ٢٥٨)، «وفيات الأعيان»
1 / 15
وعن محمد بن يزيد (١) والقتبي والدينوري (٢)، وعن أبي محمد الحسن بن علي العماني (٣) وعن أبي عمرو عثمان الداني (٤)، وعن أبي جعفر محمد بن
ــ
الجائز، ثم البيان، ثم القبيح، فأقسامه ثمانية، ومنهم من جعلها أربعة: تام مختار،
_________
(٥/ ٢٣٥)، «السير» (٩/ ٤٤٥)، «تذكرة الحفاظ» (١/ ٣٧١)، «الكاشف» (٣/ ٥٦٦٥)، «العبر» (١/ ٣٥٩)، «الميزان» (٤/ ت ٨٦٩)، «شذرات الذهب» (٢/ ٢٤)، «تهذيب الكمال» (٢٨/ ت ٦١٠٧)، «تهذيب التهذيب» (١٠/ ٢٤٦ - ٢٤٨).
(١) هو إمام النحو: أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي، البصري النحوي، الأخباري (صاحب الكامل) انظر ترجمته في «طبقات النحويين واللغويين» (١ - ١٠١)، «تاريخ بغداد» (٣/ ٣٨٠)، «المنتظم» (٦/ ٩)، «معجم الأدباء» (١٩/ ١١٠ - ١٢٢)، «إنباه الرواة» (٣/ ٢٤١ - ٢٥٣)، «وفيات الأعيان» (٤/ ٣١٣)، «العبر» (٢/ ٧٤)، «الوافي بالوفيات» (٥/ ٢١٦)، «البداية والنهاية» (١١/ ٧٩)، «طبقات القراء» (٢/ ٢٨٠)، «لسان الميزان» (٥/ ٤٣٠)، «النجوم الزاهرة» (٣/ ١١٧)، «الشذرات» (٢/ ١٩٠)، «طبقات المفسرين» (٢/ ٢٦٧)، «بغية الوعاة» (١/ ٢٦٩).
(٢) هو عبد الله بن مسلم بن عتيبة، أبو محمد الدينوري وقيل المروزي، نزل بغداد وصنف وجمع وزاع صيته وانظر ترجمته مفصلة في: «طبقات النحويين واللغويين» للزبيدي (١١٦)، «تاريخ بغداد» (١٠/ ١٧٠)، «المنتظم» (٥/ ١٠٢)، «إنباه الرواة» (٢/ ١٤٣)، «وفيات الأعيان» (٣/ ٤٢)، «تذكرة الحفاظ» (٢/ ١٣٣)، «الميزان» (٢/ ٥٠٣)، «العبر» (٢/ ٦٥)، «البداية» (١١/ ٤٨)، «اللسان» (٣/ ٣٥٧ - ٣٥٩)، «الشذرات» (٢/ ١٦٩ - ١٧٠)، «بغية الوعاة» (٢/ ٦٣ - ٦٤)، «السير» (١٣/ ٢٦٩).
(٣) هو الحسن بن علي بن عبيدة، أبو محمد الكوفي، المقرئ النحوي قرأ بالروايات على سبط الخياط، وأبي منصور بن خيرون وغيرهم، كان رأسا في القراءات وتصدى للإقراء مدة وتوفي في شوال سنة ٥٨٢ هـ وانظر «معرفة القراء الكبار» (٢/ ٥٠٤)، «إرشاد الأريب» (٣/ ١٥٥)، «إنباه الرواة» (١/ ٣١٦)، «مرآة الزمان» (٨/ ٢٤٩)، ««المختصر المحتاج» (١/ ٢٨٥)، «المشتبه» (٣٤٣)، «غاية النهاية» (١/ ٢٢٤)، «النجوم الزاهرة» (٦/ ١٠٤)، «بغية الوعاة» (١/ ٥١١).
(٤) هو الإمام عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي مولاهم، الإمام العلم المعروف في زمانه بابن الصيرفي وفي زماننا بأبي عمرو الداني، لنزوله بدانية ولد سنة ٣٧١ هـ، وتوفي
1 / 16
طيفور السجاوندي (١)، وعن أبي جعفر يزيد بن القعقاع (٢) أحد أعيان التابعين وغيرهم من الأئمة الأعلام، والجهابذة العظام، بأن أحدهم آخذا بزمام التحقيق والتدقيق، وتضرب إليه أكباد الإبل من كل مكان سحيق.
[الطويل]:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وما حكاه ابن برهان عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة من أن تسمية الوقوف بالتام والحسن والقبيح بدعة ومعتمد الوقف على ذلك مبتدع. قال لأن القرآن معجز وهو كالقطعة الواحدة فكله قرآن وبعضه قرآن، فليس على ما
ــ
وكاف جائز، وصالح مفهوم، وقبيح متروك، وهذا اختاره أبو عمرو. ومنهم من جعلها ثلاثة: مختار وهو التامّ. وجائز وهو الكافي الذي ليس بتامّ، وقبيح وهو ما ليس بتامّ ولا كاف، ومنهم من جعلها قسمين: تام، وقبيح، فالتامّ هو الموضع الذي يستغني عما بعده كقوله في البقرة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقوله في الفاتحة: وَإِيَّاكَ
_________
بدانية يوم الاثنين منتصف شوال سنة ٤٤٤، ودفن بعد العصر وشيعه خلق عظيم، وانظر ترجمته في «جذوة المقتبس» (٣٠٥)، «بغية الملتمس» (٣٩٩)، «إرشاد الأريب» (١٢/ ١٢١)، «إنباه الرواة» (٢/ ٣٤١)، «تذكرة الحفاظ» (٣/ ١١٢٠)، «العبر» (٣/ ٢٠٧)، «مرآة الجنان» (٣/ ٦٢)، «الديباج المذهب» (٢/ ٨٤)، «غاية النهاية» (١/ ٥٠٣)، «معرفة القراء الكبار» (١/ ٣٤٥)، «طبقات المفسرين» (١٥٩)، وللداودي (١/ ٣٧٣)، «الشذرات» (٣/ ٢٧٢).
(١) هو الإمام العلامة أبو جعفر محمد بن طيفور السجاوندي، للكتاب في الوقف والابتداء وقد طبع مؤخرا.
(٢) هو يزيد بن القعقاع، الإمام أبو جعفر المخزومي المدني القارئ، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور ثقة صالح كبير القدر، وهو شيخ الإمام نافع، عرض القراءة على مولاه عبد الله بن عياش وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وروى عنهم، توفي سنة ١٠٣، وانظر تاريخ ابن معين (٣/ ١٩٢)، «معرفة القراء» (١/ ٧٢ - ٧٦)، «غاية النهاية» (٢/ ٣٨٢).
1 / 17
ينبغي (١)، وضعف قوله غنيّ عن البيان بما تقدم عن العلماء الأعلام، ويبعده قول أهل هذا الفنّ: الوقف على رءوس الآي سنة متبعة، والخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع، ومما يبين ضعفه ما صح عن رسول الله ﷺ أنه نهى الخطيب لما قال: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما» ووقف. فقال له النبي ﷺ: «بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى» ففي الخبر دليل واضح على كراهة القطع، فلا يجمع بين من أطاع ومن عصى، فكان ينبغي للخطيب أن يقف على قوله: فقد رشد.
ثم يستأنف: ومن يعصهما فقد غوى. وإذا كان مثل هذا مكروها مستقبحا في الكلام الجاري بين الناس فهو في كلام الله أشدّ كراهة وقبحا وتجنبه أولى وأحق، وفي الحديث «أن جبريل أتى النبي ﷺ فقال اقرإ القرآن على حرف.
فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف» (٢) كل شاف ما لم تختم آية
ــ
نَسْتَعِينُ لكن الأول أتمّ لكونه آخر صفة المتقين، وما بعده صفة الكافرين. والثاني وإن استغنى عما بعده، لكن له به تعلق ما، لأن قوله اهْدِنَا سؤال من المخاطب، وقوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ موجه للمخاطب، فمن حيث أن الكلام كله صادر من المتكلم إلى المخاطب كان في أوّله تعلق بما في آخره، ومن حيث أن قوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ آخر الثناء على الله تعالى كان مستغنيا عما بعده، فالتام يتفاوت، فالأعلى تامّ، وما دونه تامّ لكنه يسمى حسنا أيضا، ومنه الوقف على قوله تعالى في الصافات: مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ هو وقف تام، لكن على أَفَلا تَعْقِلُونَ أتمّ، لأنه آخر القصة، ولذلك
_________
(١) هذا القول غير سليم تماما، لأن تقسيمات الوقوف لا تنافي إعجاز القرآن بل إن الوقوف السليمة تزيد المعنى وضوحا وبهاء وجلاء، وليس المقصود بالوقف القبيح- مثلا- أن القرآن العظيم به قبيح، بل إن المقصود أن ذلك المعنى الذي ينشأ عن وقف ما سوف يحيل المعنى وهذا هو وجه قباحته، والله أعلم.
(٢) أخرج البخاري في صحيحه (٦/ ٢٢٢) من رواية ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال أقرأني جبريل ﵇ على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف. وهو
1 / 18
عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب، فالمراد بالحروف لغات العرب: أي أنها مفرقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه (١)، على أنه قد جاء في القرآن ما قد قرئ بسبعة أوجه وعشرة أوجه
ــ
يسمى الأول حسنا أيضا، ولا يشترط في التام أن يكون آخر القصة بل أن يستغنى عما
_________
عند البخاري أيضا من حديث عمر (٩/ ٢١ - ٢٣)، وهو عند أحمد في «المسند» (١/ ٢٦٣ - ٢٦٤).
(١) هذا وجه مستبعد جدّا، وترده دلائل كثيرة، ولا يحتمله معنى الحديث وليس هذا مجال الرد عليها، ولكن الراجح الذي استقر عليه المحققون من علماء القراءات واختاره ابن الجزري وانتصر له، أن القراءات كلها صحيحها وشاذها، وضعيفها ومنكرها، اختلافها كلها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها وهي:
الأول: أن يكون الاختلاف في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو «يحسب» بفتح السين وكسرها».
الثاني: أن يكون بتغير في المعنى فقط دون تغير في الصورة نحو: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فقرئت آدم مرة بالرفع على أنها فاعل ومرة بالنصب على أنها مفعول مقدم.
الثالث: أن يكون في الحروف مع التغير في المعنى لا السورة نحو: «يتلوا تتلوا».
الرابع: أن يكون في الحروف مع التغيير في الصورة لا المعنى نحو: «الصراط، السراط».
الخامس: أن يكون في الحروف والصورة نحو: يأتل، يتأل.
السادس: أن يكون في التقديم والتأخير نحو: «فيقتلون، ويقتلون» على بناء الأول للمعلوم والثاني للمجهول والعكس.
السابع: أن يكون في الزيادة والنقصان نحو: «وأوحى، ووحى».
فهذه الأوجه السبعة لا يخرج الاختلاف عنها.
إذا فجميع القراءات سبعية، أو عشرية، صحيحة، أو شاذة، نزلت على رسول الله ﷺ كما قال «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه»، وعلى هذا فليس المقصود بهذه الأحرف هي القراءات السبع التي بين أيدينا فهناك ثلاثة زائدة عليهم، وهي متواترة أيضا، وإنما المقصود ما بيناه، واعلم أن القراءة لكي تكون مقبولة يجب أن تتوفر فيها ثلاثة شروط وهي:
1 / 19
كمالك يوم الدين، وفي البحر أن في قوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ اثنتين وعشرين قراءة، وفي أُفٍّ* لغات أوصلها الرماني إلى سبعة وثلاثين لغة.
قال في فتح الباري: قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وقال مكي ابن أبي طالب، وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء السبعة، وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما. قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة ووافق خط المصحف العثماني لا يكون قرآنا وهذا غلط عظيم (١)، إذ لا شك أن هذه القراءات السبع مقطوع بها من عند
ــ
بعده كما تقرر كقوله تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فإنه مبتدأ وخبر، فهو مستغن عن غيره وإن كانت الآيات إلى آخر السورة قصة واحدة. وبذلك علم أن الوقف الحسن هو التام، لكن له تعلق ما بما بعده، وقيل الحسن ما يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده كما تقرر لتعلقه به لفظا ومعنى كقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ومالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لأن المراد مفهوم، والابتداء برب العالمين وبالرحمن الرحيم وبملك يوم الدين قبيح، لأنها مجرورة تابعة لما قبلها. والكافي ما يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده إلا أن له به تعلقا معنويّا كالوقف على حُرِّمَتْ
_________
١ - موافقتها لرسم المصحف ولو احتمالا.
٢ - موافقتها لوجه من وجوه اللغة.
٣ - صحة إسنادها إلى النبي ﷺ.
وقد جمع الإمام ابن الجزري هذه الشروط الثلاثة فقال في طيبته:
فكل ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالا يحوي
وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان
وللاستزادة راجع «الإرشادات الجلية» (١٦، ١٧).
(١) هذا كلام صحيح، لأن قراءات الأئمة الثلاثة المتممة للعشرة هي قراءات متواترة أيضا عن النبي
1 / 20
الله تعالى، وهي التي اقتصر عليها الشاطبي وبالغ النووي في أسئلته حيث قال: لو حلف الإنسان بالطلاق الثلاث أن الله قرأ القراءات السبع لا حنث عليه، ومثلها الثلاث التي هي قراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف، وكلها متواتر تجوز القراءة به في الصلاة وغيرها، واختلف فيما وراء العشرة، وخالف خط المصحف الإمام، فهذا لا شك فيه أنه لا تجوز قراءته في الصلاة ولا في غيرها، وما لا يخالف تجوز القراءة به خارج الصلاة (١). وقال ابن عبد البر: لا تجوز القراءة بها ولا يصلى خلف من قرأ بها. وقال ابن الجزري: تجوز مطلقا إلا في الفاتحة للمصلي، انظر شرح العباب للرملي. والشاذ ما لم يصح سنده نحو لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بفتح الفاء وإِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفع الله ونصب العلماء، وكذا كل ما في إسناده ضعف لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر عن النبي ﷺ سواء وافق الرسم أم لا. قال مكي: ما روى في القرآن ثلاثة أقسام: قسم يقرأ به ويكفر جاحده، وهو ما نقله الثقات ووافق العربية وخط المصحف. وقسم صح نقله عن الأجلاء وصح في العربية،
ــ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وعلى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ والصالح والمفهوم دونهما كالوقف على قوله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ فهو صالح، فإن قال وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ كان كافيا، فإن بلغ يَعْتَدُونَ كان تاما، فإن بلغ عِنْدَ رَبِّهِمْ كان مفهوما، والجائز ما خرج عن ذلك ولم يقبح. والبيان سيأتي بيانه. والقبيح
_________
ﷺ، وهي داخلة بلا شك في معنى الأحرف السبعة، وهذا مما يقطع باستحالة أن يكون معنى الأحرف السبعة هي القراءات السبع، وقد ألف الإمام ابن الجزري خصيصا لهذا الغرض كتاب منجد المقرئين، ليبين أن القراءات الثلاثة متواترة داخلة في الأحرف السبعة، ليرد على بعض المتوهمين نفي ذلك، وأثبت تواترها، فراجع ذلك فإنه مفيد.
(١) يجب الانتباه إلى أن ما خالف خط المصحف الإمام وضعف إسناده، أو لم يوافق وجها من وجوه النحو، فليس قرآنا فلا يجوز قراءته داخل الصلاة ولا خارجها على أنه قرآن، وإنما قد يستأنس به فقط، وأما كونه يفيد في الأحكام أم لا فهذا خلاف في الأصول شهير.
1 / 21
وخالف لفظه الخط فيقبل ولا يقرأ به. وقسم نقله ثقة ولا وجه له في العربية أو نقله غير ثقة فلا يقبل وإن وافق خط المصحف. فالأول كملك ومالك (١) والثاني كقراءة ابن عباس «وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة» (٢) واختلف في القراءة بذلك، فالأكثر على المنع لأنها لم تتواتر، وإن ثبتت بالنقل فهي منسوخة بالعرضة الأخيرة. ومثال الثالث وهو ما نقله غير ثقة كثير، وأما ما نقله ثقة ولا وجه له في العربية فلا يكاد يوجد. وقد وضع السلف علم القراءات دفعا للاختلاف في القرآن، كما وقع لعمر بن الخطاب مع أبيّ بن كعب حين سمعه يقرأ سورة الفرقان على غير ما سمعها هو من النبي ﷺ، فأخذه ومضى به إلى رسول الله ﷺ، فأمر النبي ﷺ كل واحد أن يقرأ، فقرأ كل واحد ما سمعه، فقال النبي ﷺ هكذا أنزل (٣)، ولا شك أن القبائل كانت ترد على النبي ﷺ، وكان يترجم لكل أحد بحسب لغته، فكان يمدّ قدر الألف والألفين والثلاثة لمن لغته كذلك، وكان يفخم لمن لغته كذلك، ويرقق لمن لغته كذلك، ويميل لمن لغته كذلك. وأما ما يفعله قراء زماننا من أن القارئ كل آية يجمع ما فيها من اللغات (٤)، فلم يبلغنا وقوعه عن رسول الله
ــ
ما لا يعرف المراد منه أو يوهم الوقوع في محذور كالوقف على بسم ورب وملك، وعلى قوله لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا وقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا* ويسنّ للقادر
_________
(١) قرأ: عاصم والكسائي ويعقوب وخلف مالِكِ بإثبات الألف بعد الميم، على اسم الفاعل، وقرأ باقي العشرة ملك على الصفة المشبهة بحذف الألف وراجع «البهجة المرضية» (٨)، «إرشاد المريد» (٢٩).
(٢) الذي يبدو أن هذا تفسير منه لا قراءة، وقد يكون سبب الخلط من الرواة الذين سمعوا منه ذلك التفسير فظنوه قراءة، والله أعلم.
(٣) أخرجه أحمد في «المسند» بإسناد صحيح من حديث عمرو بن العاص.
(٤) جمع القراءات التي في الآية الواحدة حال القراءة أو الصلاة من البدع، وإنما ينبغي لمن جمع القراءات أن ينتهي بكل قراءة إلى تمام المعنى ثم يبدأ من جديد بالقراءة الأخرى، وذلك حتى لا تختلط المعاني ببعضها، وتختلط الوجوه.
1 / 22
ﷺ ولا عن أحد من أصحابه. قاله الشعراوي في [الدرر المنثورة في بيان زبدة العلوم المشهورة] وينبغي للقارئ أن يقطع الآية التي فيها ذكر النار أو
العقاب عما بعدها إذا كان بعدها ذكر الجنة، ويقطعها أيضا عما بعدها إن كان بعدها ذكر النار: نحو قوله وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (١) هنا الوقف، ولا يوصل ذلك بقوله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ (٢) ونحو يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ (٣) هنا الوقف، ولا يوصله بما بعده ونحو وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) هنا الوقف، فلا يوصله بما بعده من قوله لِلْفُقَراءِ ونحو قوله في التوبة: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) هنا الوقف، فلا يوصله بما بعده من قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا (٦) وكذا كل ما هو خارج عن حكم الأول، فإنه يقطع. قال السخاوي: ينبغي للقارئ أن يتعلم وقف جبريل، فإنه كان يقف في سورة آل عمران عند قوله صَدَقَ اللَّهُ (٧) ثم يبتدئ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا (٨) والنبي ﷺ يتبعه، وكان النبي ﷺ يقف في سورة البقرة والمائدة عند قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ (٩) وكان يقف على قوله: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ (١٠) وكان يقف قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ (١١) ثم يبتدئ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
ــ
على شيء من الوقوف أن يقدّم منها الأعلى مرتبة. ولا بدّ للقارئ من معرفة أمور تتعلق بالوقف والابتداء وقد أوردتها في أبواب.
_________
(١) غافر: ٦.
(٢) غافر: ٧.
(٣) الإنسان: ٣١.
(٤) الحشر: ٧.
(٥) التوبة: ١٩.
(٦) التوبة: ٢٠.
(٧) آل عمران: ٩٥.
(٨) آل عمران: ٩٥.
(٩) المائدة: ٤٨.
(١٠) المائدة: ١١٦.
(١١) يوسف: ١٠٨.
1 / 23
اتَّبَعَنِي (١) وكان يقف كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (٢) ثم يبتدئ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى (٣) وكان يقف وَالْأَنْعامَ خَلَقَها (٤) ثم يبتدئ لَكُمْ فِيها دِفْءٌ (٥) وكان يقف أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا (٦) ثم يبتدئ لا يَسْتَوُونَ (٧) وكان يقف ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ (٨) ثم يبتدئ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٩) وكان يقف لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (١٠) ثم يبتدئ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ (١١) فكان ﷺ يتعمد الوقف على تلك الوقوف، وغالبها ليس رأس آية، وما ذلك إلا لعلم لدنيّ علمه من علمه وجهله من جهله، فاتباعه سنة في جميع أقواله وأفعاله.
الفائدة الثانية: في الوقف والابتداء
وهو لغة الكف عن الفعل والقول، واصطلاحا قطع الصوت آخر الكلمة زمنا ما، أو هو قطع الكلمة عما بعدها، والوقف والقطع والسكت بمعنى، وقيل القطع عبارة عن قطع القراءة رأسا، والسكت عبارة عن قطع الصوت زمنا
ــ
الباب الأول: في ألف الوصل وهي تدخل على فعل الأمر المجرّد دون ماضيه ومضارعه ومصدره، وعلى الجميع غير المضارع إذا كان فعلها مزيدا فيه، وعلى الاسم للتعريف أو لغيره، وزيدت في ذلك للحاجة إليها، لأن فعل الأمر المجرّد مثلا ساكن ولا يمكن الابتداء به فاجتلبت الألف ليتوصل بها إلى النطق بالساكن وكان حقها
_________
(١) يوسف: ١٠٨.
(٢) الرعد: ١٧.
(٣) الرعد: ١٨.
(٤) النحل: ٥.
(٥) النحل: ٥.
(٦) السجدة: ١٨.
(٧) السجدة: ١٨.
(٨) النازعات: ٢٢، ٢٣.
(٩) النازعات: ٢٣، ٢٤.
(١٠) القدر: ٣.
(١١) القدر: ٤.
1 / 24