مناقب الشافعي
لأبي بكر أحمَد بْن الحُسَيْن البَيْهَقِي
٣٨٤ - ٤٥٨
تحقيق
السيد أحمد صقر
الجزء الأول
مكتبة دار التراث
٢٢ شارع الجمهورية - القاهرة
المقدمة / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ • الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ • الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ • مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ • إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ • اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ • صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
المقدمة / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
شغف البيهقي بسنة النبي ﷺ، وأنفق حياته في تحصيلها ودرسها وإيصالها نقية بيضاء إلى أبناء الإسلام الذين افترض عليهم ربهم أن يأخذوا ما آتاهم الرسول، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، والذين أمرهم رسولهم الكريم أن يبلغوا عنه مقالته إلى من بعدهم لتكون كلمة الله وكلمة رسوله باقية على وجه الزمان؛ تنير للمسلمين سبيلهم، وتدير على الحق أعمالهم وأقوالهم، وتجمع قلوبهم على عبادة من خلقهم ورضى لهم الاسلام دين عزة وسعادة في الدنيا والآخرة.
* * *
وقد دفعه هذا الشغف العظيم إلى العناية بآثار الشافعي: ناصر السنة، ومؤسس فقهها، وفاتح أقفالها، والذي شهد له أعلام العلماء بأنهم ما عرفوا فقه السنَّة إلا بعد أن استخرج مكنونها، واستنبط فنونها، وجلّى دقائقها ببيانه المشرق المتين، وأسلوبه الجزل الرصين.
وما كانت عناية البيهقي بآثار الشافعي وليدة الخطرة العابرة، والفكرة السائرة، والنظرة الطائرة، بل كانت وليدة التأمل الوثيق، والتفكر العميق، والاعتبار الدقيق، والمقايسة بين ما كتبه أعلام الأئمة الذين قاموا بعلم الشريعة، وبنوا مذاهبهم على مبلغ علمهم من كتاب الله، وسنة رسول الله.
وقد انتهت تلك المقايسة بالبيهقي إلى عرفانه أن الشافعي أكثر الأئمة اتباعا، وأقواهم احتجاجا، وأصحهم قياسا، وأبينهم بيانا، وأفصحهم لسانا،
المقدمة / 7
وأوضحهم إرشادا فيما صنف من كتب في الأصول والفروع جميعا.
ولما فرغ البيهقي من تصنيف مصنفاته في السنة ألَّف كتابا عن منشئ السنة وهو كتاب «دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة ﷺ».
ولما انتهى من ترتيب كتب الشافعي وتصنيفها وتخريج أحاديثها رأي كذلك أن يخص الشافعي بكتاب، وقوَّى من عزمه أن بعض أصحابه اقترح عليه تأليف هذا الكتاب، وفي ذلك يقول: «وقد سألني بعض أصحابنا من أهل العلم والبصيرة أن أجمع كتابا مشتملا على ذكر مولد الشافعي ونسبه، وتعلمه، وتعليمه، وتصرفه في العلم، وتصانيفه، واعتراف علماء دهره بفضله، وما يستدل به على كمال عقله، وزهده في الدنيا، وورعه، واشتهاره بخصال الخير ومكارم الأخلاق - في وقته وبعد وفاته - فأجبته إلى مسألته؛ اقتصارًا مني في ذكر معرفته بالفقه، وحسن مناظرته على تسمية تصانيفه، وطرف من حكاياته دون ذكر كيفية تصرفه؛ فإن العلم به إنما يقع بالنظر في كتبه المصنفة في أصول الفقه ثم في «المبسوط» المردود إلى ترتيب المختصر، ثم في «السنن» حتى خرجتها على مسائل «المبسوط» في مائتي جزء وأكثر، ثم بالنظر في كتاب «معرفة السنن والآثار» والذي أوردت فيه كلام الشافعي على الأخبار، بالجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل في سبعين جزءا، ثم في كتاب «المدخل» المخرج على أصوله.
فيستدل بذلك على صحة أصول الشافعي، وحسن بنائه الفروع عليها، موافقا لشريعة المصطفى في اتباع الكتاب، والسنة، والإجماع، وآثار
المقدمة / 8
الصحابة، والقياس على ما ثبت بأحد هذه الأصول.
وقد اعترف البيهقي بأنه قد سبق إلى التأليف في هذا الموضوع حيث يقول:
«وقد صنف جماعة من أهل العلم في فضل الشافعي، ومناقبه كتبا مشتمله على ذكر ما نقل إليهم من أحواله الجميلة، وأقواله الحسنة، وأفعاله المحمودة، وما خص به من الجمع بين علم الأصول والفروع في أحكام الشريعة، ومشاركة غيره في سائر أنواع العلوم».
ولم يكن البيهقي في حديثه هذا بسبيل ذكرها وذكر أصحابها، ولكنه كان يريد الاستشهاد بما ذكره على صحة جواز أن يكون الشافعي هو المراد بحديث عالم قريش؛ لأن الشافعي كما قال: «قد صنَّف الكتب، وفتق العلم، وشرح الأصول والفروع، وعلا في الذكر بما ألف وشرح، وفتح الله على لسانه العلم الكثير، ومر في آذان السامعين، ووعته القلوب، فازداد على مر الأيام حسنا وبيانا».
ولكن البيهقي قد ذكر في ثنايا الكتاب: الكتب المصنفة في فضائل الشافعي التي روى عنها أو قرأها، وهي:
(١) كتاب أبي سليمان: داود بن علي الأصفهاني، إمام أهل الظاهر (٢٠١ - ٢٧٠)
(٢) كتاب أبي عبد الله: محمد بن إبراهيم البوشنجي، الملكي (٢٠٤ - ٢٩٠)
(٣) كتاب أبي يحيى: زكريا بن يحيى الساجي المتوفى سنة ٣٠٧
(٤) كتاب أبي محمد: عبد الرحمن بن أبي حاتم (٢٤٠ - ٣٢٧)
المقدمة / 9
(٥) كتاب أبي الحسن: محمد بن الحسين الآبري العاصمي المتوفى سنة ٣٦٣
قال السبكي عنه: وهو كتاب حافل رتبه على أربعة وسبعين بابا.
(٦) كتاب الصاحب بن عباد (٣٢٦ - ٣٨٠)
(٧) كتاب أبي منصور: محمد بن عبد الله بن حمشاذ (٣١٦ - ٣٨٨)
(٨) كتاب أبي بكر: محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني المتوفى سنة ٣٨٨
(٩) كتاب الحاكم النيسابوري أبي عبد الله محمد بن عبد الله، المعروف بابن البيِّع، قال عنه ابن السبكي: وهو مصنف جامع (٣٢١ - ٤٠٥)
(١٠) كتاب أبي القاسم: حمزة بن يوسف السهمي المتوفى سنة ٤٢٧)
(١١) كتاب أبي نعيم: أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني المتوفى سنة ٤٣٠
وقد ألّف في مناقب الشافعي قبل البيهقي أو في عصره كثير من العلماء - عدا هؤلاء، لكن لم يشر إليهم البيهقي في هذا الكتاب ومنهم:
(١) أبو حاتم: محمد بن حبان البستي صاحب الصحيح (المتوفى سنة ٣٥٤)
(٢) أبو علي: الحسن بن الحسين بن حمكان الأصبهاني (المتوفى سنة ٤٥٠)
(٣) أبو عبد الله: محمد بن أحمد شاكر القطان (المتوفى سنة ٤٠٧)
(٤) إسماعيل بن محمد السرخسي القراب (المتوفى سنة ٤١٤)
(٥) أبو منصور: عبد القاهر بن طاهر البغدادي (المتوفى سنة ٤٢٨)
(٦) أبو عبد الله: محمد بن سلامة المصري (المتوفى سنة ٤٥٤)
وقد ألف أبو الحسين: محمد بن عبد الله الرازي (المتوفى سنة ٣٤٧) والد تمام الرازي (٣٣٠ - ٤١٤) كتابا مستقلا فيمن روى عن الشافعي،
المقدمة / 10
ولكن البيهقي لم ينقل عنه، وإنما نقل عن كتاب «أسامي من روى عن الشافعي» للدارقطني.
* * *
بدأ البيهقي كتابه ببيان فضل أهل الحديث، وأنهم الطائفة القائمة على إحقاق الحق حتى تقوم الساعة، كما وعد رسول الله، ﷺ.
ثم تحدث عن فضل قريش وما جاء في تخصيصها بالتقديم والاتباع، وأن الشافعي هو المشار إليه بحديث النبي، ﷺ: أن عالم قريش يملأ طبق الأرض علما.
ثم تحدث عما جاء في تخصيص بني هاشم بالاصطفاء وبني عبد المطلب الذين ينتمي إليهم الشافعي، وتفضيل أهل اليمن بالإيمان، والفقه، والحكمة.
ثم فصل القول في حديث: «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» وتأويل بعض العلماء لهذا الحديث بأن الذي جاء على رأس المائة الثانية هو الشافعي.
ثم نقد البيهقي العلماء الذين ظفروا بالوجاهة والثروة عند الرؤساء، ونالوا من الشافعي، ورمَوْه بأنه كان قليل العلم بالكتاب، وأنه لم يكن من أهل الاجتهاد، وأعقبه بالحديث عمن آذى قرابة الرسول أو أراد هوانهم، ثم بين سبب تأليفه للكتاب.
وتحدث بعد ذلك عن مولد الشافعي، ومكان ولادته ونسبه، وأفاض القول في ذلك إضافة شافية مقنعة.
ثم تحدث عن تعليم الشافعي، وما روي في اشتغاله بتعلم الأدب والشعر وعن رحلته وهو ابن ثلاث عشرة سنة إلى مالك بن أنس بالمدينة.
ثم بين خروج الشافعي إلى اليمن وولايته بعض أعمالها، ومقامه فيها حتى
المقدمة / 11
اتهم بالاشتراك في مؤامرة بعض العلويين بها، وحمله إلى الرشيد وحبسه ببغداد، وما كان بينهما من محاورات ومراجعات انتهت بعفو الرشيد عنه، وإكرامه له.
ثم أسهب في بيان المناظرات الرائعة، والمحاورات العلمية الشائقة، التي جرت بين الشافعي وبين محمد بن الحسن الحنفي في مجلس الرشيد، وفي غيره من المجالس بمدينة بغداد ومدينة الرقة، وأن الرشيد كُتِبَ له بخبر تلك المناظرات التي ظهر فيها الشافعي على محمد، وقطع حجته، وطبع على فمه بخاتم الصمت، فأعجب الرشيد بموقف الشافعي الهاشمي، وقال: «وما يُنكَر لرجل من عبد مناف أن يقطع محمد بن الحسن؟» وأمر له بجائزة، ورغب إليه في أن يلازمه كما رغب إليه المأمون في ذلك.
ثم بين مكانة الشافعي عند الرشيد والمأمون، وعودة الصفاء والإخاء بين الشافعي ومحمد بن الحسن، وكتابة الشافعي لكتب محمد، وتأليف الكتاب البغدادي للرد على الأحناف، ورأى الشافعي وغيره في أبي حنيفة وأصحابه.
ثم تحدث عن صحة نية الشافعي، وقصده الجميل في تأليفه لكتبه، وحسن مناظرته لمن خالفه، وغلبته كُلَّ من ناظرة بالعلم والبيان، وذكر نماذج رائعة من تلك المناظرات.
وخلص من هذا إلى الحديث عن دخول الشافعي العراق أيام المأمون للتدريس والتعليم. ثم تحدث عن سبب تصنيف الشافعي لكتاب «الرسالة القديمة» ثم في ذهاب الشافعي إلى مصر، وتصنيفه بها الكتب المصرية الجديدة. وذكر البيهقي في صدر هذا أن الربيع بن سليمان لقيه بمدينة «نصيبين» قبل أن
المقدمة / 12
يدخل مصر، وقال عنه: كان الشافعي يعمل الباب من العلم ثم يقول: يا جارية قومي إلى القَدّاح فتقوم، فتسرج له، فيكتب ما يحتاج أن يكتبه ويرسمه في موضعه، ثم يطفئ السراج ويستقي على ظهره فيعمل الباب من العلم.
. . . وهكذا، فقلت له: يا أبا عبد الله، لو تركت السراج يَقِدُ؛ فإن هذه الجارية منك في جهد، فقال: إن السراج يشغل قلبي.
وقال لي يوما: كيف تركت أهل مصر؟
فقلت: تركتهم على ضربين: فرقة منهم قد مالت إلى قول مالك، وأخذت به، واعتمدت عليه، وذبت عنه وناضلت. وفرقة قد مالت إلى قول أبي حنيفة، فأخذت به، وناضلت عنه.
فقال الشافعي: أرجو أن أقدم مصر - إن شاء الله - وآتيهم بشيء وأشغلهم به عن القولين جميعا.
قال الربيع: ففعل ذلك - والله - حين دخل مصر.
ثم روى البيهقي عن بحر بن نصر الخولاني أنه قال:
قدم الشافعي من الحجاز، فبقى بمصر أربع سنين، ووضع هذه الكتب في أربع سنين. . وكان يضع الكتب بين يديه ويصنّف، فإذا ارتفع له كتاب جاء صديق له يقال له: «ابن هرم» فيكتب، ويقرأ عليه «البويطي» وجميع من يحضر يسمع في «كتاب ابن هرم» ثم ينسخونه بعد. وكان «الربيع» على حوائج الناس فربما غاب في حاجة، فيعلّم له؛ فإذا رجع قرأ الربيع عليه ما فاته.
ثم عقد بابا عظيما ذكر فيه عدد ما وصل إليه من مصنفات الشافعي؛ فذكر في الكتب التي تجمع الأصول وتدل على الفروع ثلاثة عشر كتابا، ثم قال:
المقدمة / 13
«ومن الكتب التي هي مصنفة في الفروع وهي التي تعرف «بالأم» في الطهارات: كتاب الوضوء والتيمم. . إلخ وفي الصلوات والزكوات والصيام، والحج، والمعاملات، والإجارات، والعطايا، والوصايا، والفرائض وغيرها، والأنكحة، والجراح، والحدود، والسير والجهاد، والأطعمة والقضايا والعتق وغيره.
وذكر تحت كل عنوان من هذه العناوين الكتب التي ألفها الشافعي فيها، ثم قال: «فذلك مائة ونيف وأربعون كتابا».
وهذا الباب من أهم أبواب الكتاب؛ لأنه بين فيه الكتب الأخرى - عدا ما سبق - والتي أملاها على أصحابه ورواها عنه الربيع بن سليمان المرادي، وبين الكتب التي لم يسمعها الربيع من الشافعي، والتي يقول فيها: «قال الشافعي ﵀. كما بين فيه كتب الشافعي التي ألفها في القديم، ورواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني، والكتب التي أعاد تصنيفها في الجديد، والكتب التي أمر بتمزيقها، لتغير اجتهاده فيها، والكتب الأخرى التي رواها عنه الحسين الكرابيسي، وأحمد بن يحيى الشافعي البغدادي: أبو ثور، وأحمد ابن حنبل، والحميدي، ويونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وابن مقلاص، والربيع بن سليمان الجيزي - وهو غير المرادي - والحارث ابن سريج النقَّال، والحسين الفلاس، وبحر بن نصر، وغيرهم.
ومن أجمل ما في هذا الباب قول الشافعي: «ألّفت هذه الكتب واستفرغت فيها مجهودي، ووددت أن يتعلّمها الناس ولا تُنْسَبَ إليّ».
المقدمة / 14
ثم عقد بابا ذكر فيه ما يستدل به على رغبة العلماء في عصر الشافعي ومن بعد عصره في كتبه، والاقتباس من علمه، والانتفاع به، وحسن الثناء عليه. وصدره بقوله: «وذلك لانفراده من فقهاء الأمصار بحسن التأليف؛ فإن حسن التصنيف يكون بثلاثة أشياء:
أحدها: حسن النظم والترتيب.
والثاني: ذكر الحجج في المسائل مع مراعاة الأصول.
والثالث: تحري الإيجاز والاختصار فيما يؤلفه.
وكان قد خص بجميع ذلك، رحمة الله عليه ورضوانه»
وذكر في هذا الباب قول الجاحظ: «نظرت في كتب هؤلاء النَّبَغَة الذين نبغوا، فلم أر أحسن تأليفا من المُطّلبي، كأَن فاه نظم دُرًّا إلى درّ».
ثم ذكر ما يستدل به على حفظ الشافعي لكتاب الله، ومعرفته بالقراءات، وحسن صوته بالقراءة. وجعل الباب الذي يليه فيما يستدل به على معرفة الشافعي بتفسير القرآن، ومعانيه، وسبب نزوله.
ثم أتبعه بباب ما يستدل به على معرفة الشافعي بمعاني أخبار رسول الله. وقد بدأه بقول أحمد بن حنبل: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني حديث رسول الله حتى قدم الشافعي فبينها لهم.
وهو باب عظيم أتى فيه البيهقي بمُثلٍ رائعة تدل على أن الشافعي كان - كما قال يونس بن عبد الأعلى - نسيج وحده في هذه المعاني.
ثم أعقب ذلك بباب ما يستدل به على فقه الشافعي، وتقدمه فيه، وحسن
المقدمة / 15
استنباطه. وقد أورد البيهقي في هذا الباب حديث النعمان بن بشير: أنه أتى رسول الله وقال له: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال ﷺ: أكلَ ولدك نحلت مثل هذا؟ فقال: لا، فقال: رسول الله ﷺ: فارجعه».
وقول الشافعي فيه: «حديث النعمان حديث ثابت، وبه نأخذ، وفيه دلالة على أمور.
ومن هذه الدلالات التي ذكرها الشافعي قوله: «وفيه دلالة على أن نُحْل الوالد بعض ولده دون بعض جائز، من قِبَل أنه لو كان لا يجوز كان أن يقال: إعطاؤك إياه وتركه سواء؛ لأنه غير جائز، وهو على أصل ملكك الأول - أشبه من أن يقال: ارجعه. وقوله ﷺ: «فارجعه» دليل على أن للوالد ردّ ما أعطى الولد، وأنه لا يَحْرجُ بارتجاعه. وقد رُوِي أن النبي قال: «أَشْهد غيري» وهذا يدل على أنه اختيار».
وقد خالفت قول الشافعي هذا وعلقت عليه بقولي ١/ ٣٤٧ كيف يكون هذا على الاختيار وقد عدّه ﷺ جورًا؟ الخ
ثم ذكر البيهقي بابا يستدل به على معرفة الشافعي لأصول الفقه، وهو باب عظيم؛ لأن الشافعي أول من صنّف في أصول الفقه.
ويعجبني من نصوصه قول الشافعي:
«وضع الله نبيه من دينه وأهل دينه موضع الإبانة عن كتاب الله - معنى ما أراد، وفرض طاعته. . . فَعِلْمُ الحق كتابُ الله، ثم سنَّة نبيه؛
المقدمة / 16
فليس لمفْتٍ ولا لحاكم أن يفتي ولا يحكم حتى يكون عالما بهما، ولا أن يخالفهما ولا واحدًا منهما بحال، فإذا خالفهما فهو عاص لله به، وحكمه مردود».
ثم ذكر باب ما يستدل به على معرفة الشافعي لأصول الكلام وصحة اعتقاده فيها. فذكر ما يؤثر عنه في الإيمان، وفي دلائل التوحيد، وفي أسماء الله، وصفات ذاته، وأن القرآن كلام الله، وكلامه من صفات ذاته، وإثبات المشيئة لله، وإثبات القدر، وخلق الأفعال، وعذاب القبر، وإثبات رؤية الله في الدار الآخرة.
ثم لم يؤثر عن الشافعي في تفضيل النبي على جميع الخلق، وإثبات الشفاعة له ﷺ.
وما يؤثر عنه في الذنوب التي هي دون الكفر، وما يلحق الميت من فعل غيره.
وما يؤثر عنه في الخلفاء الأربعة، وفي جملة الصحابة، وفي قتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أهل القبلة.
ثم ما جاء عن الشافعي في مجانبة أهل الأهواء وبغضه إياهم، وذم كلامهم، وإزرائه بهم ودَقِّه عليهم في مناظرته إياهم:
وهو فصل بالغ الأهمية.
ثم عقد البيهقي بابا في الاستدلال على حسن اعتقاد الشافعي في متابعة السنة، ومجانبة البدعة.
المقدمة / 17
ومما رواه البيهقي فيه من كلام الشافعي:
«ما من أحد إلا ويذهب عليه سنة لرسول الله، وتعزُبُ عنه، فمهما قلتُ من قول، أو أَصَّلتُ من أصل - فيه عن رسول الله خلاف ما قلتُ - فالقول ما قال رسول الله! وهو قولي!».
ثم عقد بابا عنوانه: ما يستدل به على معرفة الشافعي برجال الحديث.
ذكر فيه ما يستدل به على معرفة الشافعي بأسامي الرواة، وأنسابهم، وتواريخهم، وجرحهم وتعديلهم.
وهو باب جم المنافع، عظيم الفائدة؛ دل على سعة أفق الشافعي في هذا المضمار، ومدى تمكُّنِه منه، واقتداره عليه.
ومن الفوائد التي تُجْتنى من هذا الباب: أن الشافعي وضع كتابه على مالك ابن أنس؛ لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يستسقى بها! وأنه كان يقال للأندلسيين: قال رسول الله. فيقولون: قال مالك!
ومن أجل ذلك قال الشافعي: إن مالكا آدمي يخطئ ويغلط.
ويلي ذلك بابٌ جليل القدر، عظيم الخطر، وهو باب ما يستدل به على معرفة الشافعي بصحة الحديث وعلته.
وباب آخر فيما يستدل به على إتقان الشافعي في الرواية، ومذهبه في قبول الأخبار، واحتياطه فيها.
ثم عقد بابا فيما يستدل به على فصاحة الشافعي، ومعرفته باللغة والشعر الذي هو ديوان العرب. أورد فيه قول أحمد بن حنبل:
المقدمة / 18
«الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه».
وقول الربيع: أقام الشافعي على قراءة العربية وأيام الناس عشرين سنة، وقال: ما أردت بذلك إلا الاستعانة على الفقه.
وقول أبي عثمان المازني: «الشافعي عندنا حجة في النحو».
وقول الأصمعي: «صححت أشعار الهُذَليين على شاب من قريش بمكة يقال له: محمد بن إدريس الشافعي».
وقول الربيع: «كان الشافعي عربي النفس، عربي اللسان، ولو رأيته وحسن بيانه وفصاحته لتعجبت منه، ولو أنه ألف هذه الكتب - على عربيته التي كان يتكلم بها - لم يُقدر على قراءة كتبه».
ثم ذكر بابا للشعر الذي أثر عن الشافعي أنه أنشده لنفسه أو لغيره
وأعقبه بباب ما يستدل به على معرفة الشافعي بالطب، أورد فيه قول حرملة ابن يحيى: كان الشافعي يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب، ويقول: ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى!!!
وتلاه باب ما يستدل به على معرفة الشافعي بالنجوم، وما يؤثر عنه في الفراسة، وإصابته فيها. ثم معرفته بالرمي والفروسية وذكر فيه قول الربيع:
كان الشافعي أفرس خلق الله وأشجعه، وكان يأَخذ بأذنه وأذن الفرس، والفرس يعدو، فيثب على ظهره وهو يعدو.
* * *
ثم ذكر باب ما يؤثر عنه في فضل العلم والترغيب في تعلمه وتعليمه والعمل به. ومن ألطف ما جاء في هذا الباب قول الشافعي:
المقدمة / 19
لو أن أهل كوْرَةٍ اجتمعوا على ترك طلب العلم، لرأيت للحاكم أن يجبرهم على طلب العلم.
وقوله: ليس بعد أداء الفرائض شيء أفضل من طلب العلم.
وقوله: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم.
وقوله: من تعلم علما فليدقِّق؛ لئلا يضيع دقيق العلم.
وقد روى المزني أنه قيل للشافعي: كيف شهوتك للأدب؟
قال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعًا تتنعم به مثلما تنعمت الأذنان!
قيل: وكيف حرصك عليه؟
قال: حرص الجموع المنوع على بلوغ لذته في المال.
وقيل: وكيف طلبك له؟
قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره.
وقوله: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري.
وقوله: المراء في العلم يقسي القلب، ويورث الضغائن.
وقوله: من إذَالّةِ العلم أن تناظر كل من ناظرك، وتقاوِلَ كلَّ من قاوَلَك.
وقوله: كفى بالعلم فضيلة: أنه يدعيه من ليس فيه ويفرح إذا نسب إليه،. وكفى بالجهل شرا أنه يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه.
المقدمة / 20
وقال الشافعي لأبي علي بن مقلاص: تريد أن تحفظ الحديث وتكون فقيها؟!
وإنما قال الشافعي ذلك لأن ابن مقلاص كان كسائر الحفاظ الذين يشغلون أنفسهم بحفظ أبواب الحديث وسردها سردًا، ولا يعملون عقولهم في استنباط ما فيها. ولقد قال الشافعي لإسحاق بن إبراهيم الحنظلي أثناء مذاكرة جرت بينهما: لو كنت أحفظ كما تحفظ لغلبت أهل الدنيا. وقال أحمد بن حنبل: قال لنا الشافعي ﵀: أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا صح عندكم الحديث عن النبي، ﷺ، فقولوا لنا حتى نأخذ به. وقال الشافعي: ما رأيت أحفظ من الحميدي، كان يحفظ لسيان بن عيينة عشرة آلاف حديث. وقال الحميدي: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر فكنت أستفيد منه «المسائل» وكان يستفيد مني «الحديث».
ثم ذكر البيهقي ما يستدل به على اجتهاد الشافعي في طاعة ربه، وزهده في الدنيا، وحضه الناس على هذا الزهد.
ومما جاء في ذلك قول الربيع: خرجت مع الشافعي من «الفسطاط» إلى «الإسكندرية» مرابطا، وكان يصلي الصلوات الخمس في المسجد الجامع، ثم يسير إلى المحرس فيستقبل البحر بوجهه جالسًا يقرأ القرآن في الليل والنهار، حتى أحصيت عليه ستين ختمة في شهر رمضان.
وحكى الربيع أن عبد الله بن عبد الحكم قال للشافعي: إن عزمت أن تسكن مصر فليكن لك قوت سنة، ومجلس من السلطان تتعزّز به. فقال له
المقدمة / 21
الشافعي: يا أبا محمد، من لم تعزّه التقوى فلا عزّ له، ولقد ولدت بغزة، ورُبِّيتُ بالحجاز، وما عندنا قوت ليلة، وما بتنا جياعًا.
وقال له المزني: مالك بد من إمساك العصا ولست بضعيف؟! فقال: لأذكر أني مسافر في الدنيا.
وقال الشافعي: خير الدنيا والآخرة في خمس خصال: غنى النفس، وكف الأذى، وكسب الحلال، ولباس التقوى، والثقة بالله على كل حال.
وقال للربيع: عليك بالزهد، فلَلزُّهد على الزاهد أحسن من الحلى على المرأة الناهد!.
وذكر عند الشافعي فهم القلب فقال: من أحبّ أن يفتح الله له قلبه أو ينوِّره، فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه، وترك الذنوب، واجتناب المعاصي، ويكون له فيما بينه وبين الله خَبِيَّةُ من عمل؛ فإنه إذا فعل ذلك فتح الله عليه من العلم ما يشغله عن غيره، وإن في الموت وذكره لأكثر الشغل.
وفي هذا المعنى يقول أيضًا: من أحبّ أن يفتح الله قلبه ويرزقه الحكمة - فعليه بالخلوة، وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء وبعض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب.
وقال الشافعي للربيع: لا تتكلم فيما لا يعنيك؛ فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها.
وقال ليونس بن عبد الأعلى: لو جهدت كل الجهد على أن ترضي الناس كلّهم فلا سبيل إليه، فإذا كان كذلك فأخلص عملك ونيتك لله ﷿.
* * *
ثم ذكر البيهقي باب ما يستدل به على تمكن الشافعي من عقله، وما يؤثر عنه من الآداب.
ذكر فيه من قول الشافعي هذه الكلمات:
المقدمة / 22
• طبع ابن آدم على اللؤم: فمن شأنه أن يتقرب ممن يتباعد منه، ويتباعد ممن يتقرب منه.
• سياسة الناس أشد من سياسة الدواب.
• إن للعقل حدا ينتهى إليه، كما أن للبصر حدًا ينتهى إليه.
• جوهر المرء في خلال ثلاث: كتمان الفقر حتى يظن الناس من عفتك أنك غنى، وكتمان الغضب حتى يظن الناس أنك راض، وكتمان الشدة حتى يظن الناس أنك متنعم.
• أظلم الظالمين لنفسه: من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مودة من لا ينفعه، وقبل مدح من لا يعرفه.
• إن الله خلقك حرا فكن كما خلقك.
• من سمع بأذنه صار حاكيا، ومن أصغى بقلبه كان واعيا، ومن وَعَظ بقلبه كان هاديا.
• الكيِّس العاقل هو الفطن المتغافل.
• لو أن رجلا سوّى نفسه حتى صار مثل القدح، لكان له في الناس من يعانده.
• الحرية: هي الكرم والتقوى، فإذا اجتمعا في شخص فهو حر.
• لو أن رجلا تصوف من أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق.
• لا يكون الصوفي صوفيا حتى يكون فيه خصال أربع: كسول، أكول، نئوم، كثير الفضول.
• ما دخل قوم بلد قوم إلا أخذ كل واحد منهم سُنَّة صاحبه، حتى إن العراقي ليأخذ من سنة الشامي، والشامي من سنة العراقي.
المقدمة / 23
• إنك لا تقدر أن ترضي الناس كلهم، فأصلح ما بينك وبين الله، فإذا أصلحت ما بينك وبين الله، فلا تبال بالناس.
• تفقه قبل أن ترأس، فإذا ترأست لا سبيل إلى التفقه.
• أصحاب المروءات في جهد.
• التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام.
• من استغضب فلم يغضب فهو حمار، ومن استرضى فلم يرض فهو شيطان.
• التطلف في الحيلة أجدى من الوسيلة.
• ليس بعاقل من لم يأكل مع عدوه في غضارة ثلاثين سنة.
• الشفاعات زكاة المروءات.
• ترك العادة ذنب مستحدث.
• لا تشاور من ليس في بيته دقيق، فإنه مدله العقل.
• الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض عنهم مكسبة للعداوة، فكن بين المنقبض والمنبسط.
• ما أكرمت أحدًا فوق مقداره إلا اتضع من قدري عنده بمقدار ما أكرمته به.
• عاشر كرام الناس تعش كريما، ولا تعاشر اللئام فتنسب إلى اللؤم.
• أقمت أربعين سنة أسأل إخواني الذين تزوجوا: عن أحوالهم في تزويجهم؟ فما منهم أحد قال: إنه رأى خيرًا!
وقال سمعت بعض أصحابنا ممن أثق به قال:
«تزوجت لأصون ديني فذهب ديني ودين أمي وديني جيراني!!!».
المقدمة / 24