مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا
بتعريف حقوق المصطفى ﷺ
للقاضي عيّاض المالكي
سنة ٥٤٤ هـ
تخريج
أبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن السيوطي
المتوفى سنة ٩١١ هـ
تحقيق
الشيخ سمير القاضي
مركز الخدمات والأبحاث الثقافية
مؤسسة الكتب الثقافية
دار الجنان
1 / 1
ملتزم الطبع والنشر والتوزيع دار الجنان ومؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة الأولى
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
دار الجنان للطباعة والنشر والتوزيع
الصنائع - شارع اميل اده
سنتر لطيف - الطابق الثالث - شقة ٣٠٥
هاتف: ٣٤٨٢٥٢
TLX: ٤٣٥١٦MOBACOLE.ATIN.CSRC
ص. ب. ٥٢٧٩/ ١٤
بيروت - لبنان
مؤسسة الكتب الثقافية
الصنائع - بناية الإتحاد الوطني - الطابق السابع/ شقة ٧٨
هاتف المكتب: ٢٤٨٢٦٣ - ٢٤٤٣٦١
المنزل: ٣١٥٧٥٩
ص. ب.:٥١١٥/ ١١٤
برقيًا: الكتبكو - تلكس: ٤٠٤٥٩
بيروت - لبنان
1 / 2
مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
الحمد لله الذي أعطى كل نفس خلقها، وهداها فجورها وتقواها، وألهمها وعافاها وأماتها وأحياها وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أرسله رحمة على من زكّاها ونقمة على من دسّاها لقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ الآية صلى الله عليه وعلى آله صلاة دائمة إلى يوم نشرها وبشراها.
أما بعد:
اعلم أن أعدل أمزجة الحيوان مزاج الِإنسان، وأعدل مزاج الِإنسان مزاج المؤمنين، وأعدل المؤمنين مزاجًا مزاج الأنبياء، وأعدل الأنبياء مزاجًا مزاج الرسل، وأعدل الرسل مزاجًا مزاج أولي العزم، وأعدل أولي العزم مزاجًا مزاج سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
والسبب الذي صار رسول الله ﷺ أعدل الخلق مزاجًا. فإن قاعدة الأطباء أن أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن فكلما كانت أخلاق النفس أحسن كان مزاج البدن أعدل. وكانت أخلاق النفس أحسن. إذا أعلم ذلك، والحق ﷾ قد شهد لرسوله ﷺ بأنه على خلق عظيم. قالت عائشة ﵂: كان خلق رسول الله ﷺ القرآن فلزم من ذلك أن مزاجه أعدل الأمزجة وكانت أخلاقه أحسن الأخلاق.
1 / 5
روى البخاري في صحيحه قال: كان رسول الله ﷺ أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خلقًا وقال خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي أف قط لا لشىء صنعته ولا لشىء تركته لم تركته.
وقال ابن عمر: لم يكن رسول الله ﷺ فاحشًا ولا متفحشًا وكان يقول خياركم أحسنكم أخلاقًا.
وروى البخاري: أن اعرابيًا جذبه برداء عن عاتق رسول الله ﷺ جذبة شديدة حتى أثر ذلك في عنقه ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله ﷺ ثم ضحك ثم أمر له بعطاء. فهو النبي الطاهر المطهر أحسن الناس خَلقًا وخُلقًا ﷺ وعلى آله صلاة دائمة.
وقد عرف له قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع وهذا هو معنى العصمة وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشيًا عليه حتى استتر في إزاره.
ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشى النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئًا من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان ﷺ لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال إني أناجي من لا تناجون. وانظر لما أخبر النبي ﷺ خديجة ﵂ بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره فقالت اجعلني بينك وبين ثوبك فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت: إنه ملك وليس بشيطان معناه أنه لا يقرب النساء.
وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت: إنه الملك يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر والشياطين وأمثال ذلك.
1 / 6
وقد استدلت خديجة ﵂ على صدقه ﷺ بدعائه إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة والعفاف وكذلك أبو بكر ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه وفي الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي ﷺ يدعوه إلى الِإسلام أحضر من وجده ببلدة من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان فيما سأل أن قال: بم يأمركم فقال أبو سفيان: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه، فقال إن يكن ما تقول حقًا فهو نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين. والعفاف الذي أشار إليه أبو سفيان هو العصمة، فانظر كيف أخذ هرقل من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلًا على صحة نبوءته ولم يحتج إلى معجزة فدل على أن ذلك من علامات النبوءة.
وإذا تقرر هذا فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على سيدنا محمد ﷺ. وقد قال ﷺ: ما من نبي من الأنبياء إلا وأتي من الآيات ما مثله أمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي إليَّ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدق المؤمن وهو التابع والأمة.
فكما اعتنى العلماء بالقرآن بعدما وجدوه بحرًا لا تنقضي عجائبه. وطودًا شامخًا لا تتناول غرائبه. ووجدوا له فروعًا لا تحصى فنونه ولا تستقى، كذلك لم يألُ جهدًا في توجيه جهودهم بالبحث والتمحيص في معرفة السيرة النبوية المطهرة من القرآن وكتب السنة حتى جمعوا صورة مبينة رفيعة تهدي الأمة إلى كيفية التأسي به ﷺ في كل شأن وكل جانب من جوانب الحياة الدينية والدنيوية.
فينبغي لكل فرد من الأمة أن يعرف حال نبيه ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة مناقبه وشمائله وفضائله وسيرته في أحواله وأقواله.
ثم إنه لا بد من معرفة اسمه وكنيته ونسبه وعصره وبلده ثم معرفة أصحابه.
1 / 7
وقد عكف كثير من العلماء على تأليف الكتب في سيرة النبي ﷺ وآثاره كما فعل البيهقي وأبو نعيم في دلائلهما وابن سعد في طبقاته وغيرهم.
وأما كتاب القاضي الشفا فقد أبدع فيه كل الِإبداع وسلم له أكفاؤه وكفاءته فيه ولم ينازعه أحد في الانفراد ولا أنكروا مزية السبق إليه بل تشوقوا للوقوف عليه وأنصفوا في الاستفادة منه وحمله الناس عنه وطارت نسخه شرقًا وغربًا.
وقد ذكر ابن المقري اليمني الشافعي ﵀ في ديوانه، أن كتاب الشفاء مما شوهدت بركته وكان قد ابتلي بمرض فقرأه فعافاه الله منه وقال في ذلك:
ما بالكتاب هواي لكن الهوى ... أمس بما أمسى به مكتوبا
كالدر يهوى العاشقون بذكرها ... شغفًا بها لشمولها المحبوبا
أرجو الشفاء تفاؤلًا باسم الشفا ... فحوى الشفاء وأدرك المطلوبا
وبقدر حسن الظن ينتفع الفتى ... لا سيما ظن يصير مجيبا
هذا في كتاب الشفاء بعض الأحاديث الضعيفة ولم يذكر من الموضوع إلا شفا وقد نبه على ذلك كله الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا. وقد مدحه بعض الأدباء بقوله:
عوضت جنات عدن عياض ... عن الشفا الذي ألفته عوض
جمعت فيه أحاديثًا مصححة ... فهو الشفاء لمن في قلبه مرض
الشيخ سمير القاضي مركز الخدمات والأبحاث الثقافية
1 / 8
ترجمة القاضي عياض
اسمه ومولده:
هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض القاضي العلامة عالم المغرب أبو الفضل اليحصبي السبتي، الحافظ سبتي الدار والميلاد أندلسي الأصل. ولد سنة ست وأربعين وأربع مائة قال ابن فرحون قال ولده محمد: كان أجدادنا في القديم بالأندلس ثم انتقلوا مدينة فاس.
وكان لهم استقرار بالقيروان، لا أدري قبل حلولهم بالأندلس أو بعد ذلك. وانتقل عمرون إلى سبته بعد سكنى فاس.
مكانته العلمية:
كان القاضي أبو الفضل إمام وقته في الحديث وعلومه عالمًا بالتفسير وجميع علومه فقيهًا أصوليًا عالمًا بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم بصيرًا بالأحكام عاقدًا للشروط بصيرًا حافظًا لمذهب مالك رحمه الله تعالى شاعرًا مجيدًا ريانا من علم الأدب خطيبًا بليغًا صبورًا حليمًا جميل العشرة جوادًا سمحًا كثير الصدقة دؤوبًا على العمل صلبًا في الحق.
مشائخه:
رحل القاضي إلى الأندلس سنة سبع وخمسمائة طالبًا للعلم فأخذ
1 / 9
بقرطبة عن القاضي أبي عبد الله محمد بن حمدين، وأبي الحسين بن سراج وعن أبي محمد بن عتاب وأبي علي بن سكره، وهشام بن أحمد وأبي بحر بن العاص وخلق. وتفقه بأبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي والقاضي ابن عبد الله محمد بن عبد الله المسيلي. أجازه القاضي الحافظ أبو علي الغساني، وكان يمكنه السماع منه وهو ابن عشرين سنة وإنما دخل القاضي إلى الأندلس بعد موته.
وأخذ بالمشرق عن القاضي أبي علي حسين بن محمد الصدقي وغيره وعني بلقاء الشيوخ والأخذ عنهم وأخذ عن أبي عبد الله المازري، وكتب إليه يستجيزه.
وأجاز له الشيخ أبو بكر الطرطوشي.
ومن شيوخه القاضي أبو الوليد بن رشد. قال صاحب الصلة البشكوالية وأظنه سمع من ابن زيد وقد اجتمع له من الشيوخ بين من سمع منه وبين من أجاز له مائة شيخ.
وذكر ولده محمد منهم أحمد بن بقي وأحمد بن محمد بن محمد بن مكحول وأبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي والحسين بن محمد بن سكره والقاضي أبو بكر بن العربي والحسن بن علي بن طريف وخلف بن إبراهيم بن النحاس ومحمد بن أحمد بن الحاج القرطبي وعبد الله بن محمد الخشني وعبد الله بن محمد البطليوسي وعبد الرحمن بن بقي بن مخلد وعبد الرحمن ابن العجوز وغيرهم ممن يطول ذكرهم.
حياته وآثاره:
قال ابن بشكوال: هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم استقضي بسبتة مدة طويلة حمدت سيرته فيها ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة فلم تطل مدته فيها وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه وقال الفقيه محمد بن حماد السبتي:
1 / 10
جلس القاضي للمناظرة وله نحو من ثمان وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة فسار بأحسن سيرة، كان هينًا من غير ضعف، صليبا في الحق تفقّه على أبي عبد الله التميمي وصحب أبا إسحاق بن جعفر الفقيه ولم يكن أحد بسبتة في عصره أكثر تواليف منه.
قال صاحب الصلة: وقدم علينا قرطبة فأخذنا عنه بعض ما عنده.
قال ابن الخطيب: وبنى الزيادة الغربية في الجامع الأعظم وبنى في جبل المينا الراتبة الشهيرة وعظم صيته.
وفاته:
ولما ظهر أمر الموحدين بادر إلى المسابقة بالدخول في طاعتهم ورحل إلى لقاء أميرهم بمدينة سلا فأجزل صلته وأوجب بره إلى أن اضطربت أمور الموحدين عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة فتلاشت حاله ولحق بمراكش مشردًا عن وطنه فكانت بها وفاته في شهر جمادى الأخيرة وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وقيل إنه مات مسمومًا سمه يهودي ودفن رحمه الله تعالى بباب ايلان داخل المدينة.
تواليفه:
لم يكن أحد بسبتة في عصره أكثر تواليف منه، له التصانيف المفيدة البديعة منها:
- إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم.
- مشارق الأنوار في تفسير غريب حديث الموطأ والبخاري ومسلم وضبط الألفاظ والتنبيه على مواضع الأوهام والتصحيفات وضبط أسماء الرجال وهو كتاب لو كتب بالذهب أو وزن بالجوهر لكان قليلًا في حقه وفيه أنشد بعضهم:
مشارق الأنوار تبت بسبتة ... ومن عجب كون المشارق بالغرب
1 / 11
- وكتاب التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة جمع فيه غرائب من ضبط الألفاظ وتحرير المسائل.
- وكتاب ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفه أعلام مذهب مالك.
- وكتاب الاعلام بحدود قواعد الِإسلام.
- وكتاب الالماع في ضبط الرواية وتقييد السماع.
- وكتاب بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد.
- وكتاب الغنيمة في شيوخه.
- وكتاب المعجم في شيوخ ابن سكرة.
- وكتاب نظم البرهان على حجة جزم الأذان.
- وكتاب مسئلة الأهل المشروط بينهم التزاور.
ومما لم يكمله المقاصد الحسان فيما يلزم الِإنسان.
- وكتاب العيون الستة في أخبار سبتة.
- وكتاب غنية الكاتب وبغية الطالب في الصدور والترسل.
- وكتاب الأجوبة المحيرة على الأسئلة المتخيرة.
- وكتاب أجوبة القرطبيين.
- وكتاب أجوبته عما نزل في أيام قضائه من نوازل الأحكام في سفر.
- وكتاب سر السراة في أدب القضاة.
- وكتاب خطبه وكان لا يخطب إلا بإنشائه.
- وكتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ أبدع فيه كل الِإبداع وسلم له اكفاؤه كفاءته فيه ولم ينازعه أحد في الانفراد ولا أنكروا مزية السبق إليه بل تشوقوا للوقوف عليه واتصفوا في الاستفادة منه وحمله الناس عنه وطارت نسخه شرقًا وغربًا.
1 / 12
شعره:
له شعر كثير حسن رائق فمنه قوله:
يا من تحمل عني غير مكترث ... لكنه للضنا والسقم أوصى بي
تركتني مستهام القلب ذا حرق ... اخا جوى وتباريح وأوصابي
أراقب النجم في جنح الدجا سمرا ... كأني راصد للنجم أوصابي
وله رحمه الله تعالى:
الله يعلم أني منذ لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين
فلو قدرت كتب الريح نحوكم ... فإن بُعدكم عني جنى حين
وله من أبيات:
إن البخيل بلحظه أو لفظه ... أو عطفه أو رفقه لبخيل
وله في خامات الزرع بينها شقائق النعمان هبت عليها رياح:
انظر إلى الزرع وخامته ... تحكى وقد ماست أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
وله غير ذلك.
مصادر الترجمة
شذرات الذهب ٤/ ١٣٨.
تذكرة الحفاظ ٤/ ١٣٠٤.
ديباج المذهب ص /١٦٨ - ١٧٢.
ولمراجعه انظر المستدرك على معجم المؤلف ص/٥٣٢.
1 / 13
ترجمة السيوطي
اسمه ومولده:
قال ابن العمار:
هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين أبي بكر بن عثمان بن محمد بن خضر بن أيوب بن محمد بن الشيخ همام الدين الخضيري السيوطي الشافعي المسند المحقق المدقق صاحب المؤلفات الفائقة النافعة.
ولد بعد المغرب ليلة الأحد مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة.
وعرض محافيظه على العز الكناني الحنبلي فقال له ما كنيتك فقال لا كنية لي فقال "أبو الفضل" وكتبه بخطه.
وتوفي والده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر وقد وصل في القرآن إذ ذاك إلى سورة التحريم وأسند وصايته إلى جماعة منهم الكمال بن الهمام فقرره في وظيفة الشيخوخة ولحظه بنظره وختم القرآن العظيم وله من العمر دون ثمان سنين ثم حفظ "عمدة الأحكام". ومنهاج النووي "وألفية ابن مالك". ومنهاج البيضاوي، وعرض ذلك على علماء عصره وأجازوه.
مشايخه:
أخذ عن الجلال المحلي والزين العقبي وأحضره والده مجلس الحافظ ابن حجر وشرع في الاشتغال بالعلم من ابتداء ربيع الأول سنة أربع وستين وثمانمائة فقرأ على الشمس البرامي صحيح مسلم إلا قليلًا منه، والشفا،
1 / 15
وألفية ابن مالك فما أتمها إلا وقد صنف وأجازه بالعربية وقرأ عليه قطعة من التسهيل وسمع عليه الكثير من ابن المصنف والتوضيح وشرح الشذور، والمغني في أصول فقه الحنفي وشرح العقائد للتفتازاني وقرأ على الشمس المرزباني الحنفي الكافية وشرحها للمصنف ومقدمة ايساغوجي وشرحها للكاتي، وسمع عليه من المتوسط والشافية وشرحها للجاربردي ومن ألفية العراقي ولزمه حتى مات سنة سبع وستين وقرأ في الفرائض والحساب على علامة زمانه الشهاب الشارمساحي ثم دروس العلم البلقيني من شوال سنة خمس وستين فقرأ عليه ما لا يحصى كثره.
ولزم أيضًا الشرف المناوي إلى أن مات وقرأ عليه ما لا يحصى، ولزم دروس محقق الديار المصرية سيف الدين محمد بن محمد الحنفي ودروس العلامة التقي الشمني. ودروس الكافيجي وقرأ على العز الكناني، وفي الميقات على مجد الدين مجد السباع والعز بن محمد الميقاتي، وفي الطب على محمد بن إبراهيم الدواني لما قدم القاهرة من الروم.
وقرأ على التقي الحصكفي والشمس البابي وغيرهم.
مكانته العلمية:
وأجيز بالِإفتاء والتدريس وقد ذكر تلميذه الداودي في ترجمته أسماء شيوخه إجازة وقراءة وسماعًا مرتبين على حروف المعجم فبلغت عدتهم واحدًا وخمسين نفسًا واستقصى أيضًا مؤلفاته الحافلة الكثيرة الكاملة الجامعة المتقنة المحررة المعتمدة المعتبرة فنافت عدتها على خمسمائة مؤلف وشهرتها تغني عن ذكرها وقد اشتهر أكثر مصنفاته في حياته في أقطار الأرض شرقًا وغربًا وكان آية كبرى في سرعة التأليف حتى قال تلميذه الداودي عاينت الشيخ وقد كتب في يوم واحد ثلاثة كراريس تأليفًا وتحريرًا.
قال المؤلف: وكان مع ذلك يملي الحديث ويجيب عن المتعارض منه بأجوبة حسنة وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه رجالًا وغريبًا ومتنًا
1 / 16
وسندًا واستنباطًا للأحكام منه وأخبرا عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث قال: ولو وجدت أكثر لحفظته قال: ولعله لا يوجد على وجه الأرض الآن أكثر من ذلك.
ولما بلغ أربعين سنة أخذ في التجرد للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى والاشتغال به صرفًا والِإعراض عن الدنيا وأهلها كأنه لم يعرف أحدًا منهم.
زهده وعبادته:
يقول متحدثًا عن الِإمام: وشرع في تحرير مؤلفاته وترك الإِفتاء
والتدريس واعتذر عن ذلك إلى أن مات ولم يفتح طاقات بيته التي على النيل من سكناه وكان الأمراء والأغنياء يأتون إلى زيارته ويعرضون عليه الأموال النفيسة فيردها، وأهدى إليه الفوري خصيا وألف دينار فرد الألف وأخذ الخصى فاعتقه وجعله خادمًا في الحجرة النبوية، وقال القاصد السلطان لا تعد تأتينا بهدية قط فإن الله أغنانا عن مثل ذلك. وطلبه السلطان مرارًا فلم يحضر إليه.
ورؤي النبي ﷺ في المنام والشيخ السيوطي يسأله عن بعض الأحاديث والنبي ﷺ يقول له هات يا شيخ السنة، ورأى هو بنفسه هذه الرؤيا والنبي ﷺ يقول له: هات يا شيخ الحديث.
وذكر الشيخ عبد القادر الشاذلي في كتاب ترجمته أنه كان يقول رأيت النبي ﷺ يقظة فقال لي: يا شيخ الحديث: فقلت له يا رسول الله أمِنْ أهل الجنة أنا؟ قال: نعم، فقلت: من غير عذاب يسبق. فقال: لك ذلك.
وقال الشيخ عبد القادر: قلت له كم رأيت النبي ﷺ يقظة فقال: بضعًا وسبعين مرة وذكر خادم الشيخ السيوطي محمد بن علي الحباك أن الشيخ قال له يومًا وقت القيلولة، وهو عند زاوية الشيخ عبد الله الجيوشي بمصر بالقرابة، أتريد أن تصلي العصر بمكة بشرط أن تكتم ذلك علي حتى أموت؟ قال:
1 / 17
فقلت: نعم قال: فأخذ بيدي وقال غمض عينيك فغمضتهما فرجل إلى نحو سبع وعشرين خطوة. ثم قال لي: افتح عينيك فإذا نحن بباب المعلاة فزرنا أمنا خديجة والفضل بن عياض وسفيان بن عيينة وغيرهم. ودخلت الحرم فطفنا وشربنا من ماء زمزم وجلسنا خلف المقام حتى صلينا العصر وطفنا وشربنا من زمزم ثم قال لي: يا فلان ليس العجب من طي الأرض لنا وإنما العجب من كون أحد من أهل مصر المجاورين لم يعرفنا ثم قال: إن شئت تمضي معي وإن شئت تقيم حتى يأتي الحاج قال: فقلت: اذهب مع سيدي فمشينا إلى باب المعلاة وقال لي غمض عينيك فغمضتهما فهرول بي سبع خطوات ثم قال لي: افتح عينيك فإذا نحن بالقرب من الجيوشي فنزلنا إلى سيدي عمر بن الفارض.
وذكر الشعراوي عن الشيخ أمين الدين النجار إمام جامع الغمري ان الشيخ أخبره بدخول ابن عثمان مصر قبل أن يموت وأنه يدخلها في افتتاح سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة وأخبره أيضًا بأمور أخرى فكان الأمر كما قال: ومناقبه لا تحصر كثرة ولو لم يكن له من الكرامات إلا كثرة المؤلفات مع تحريرها وتدقيقها لكفى ذلك شاهدًا.
شعره:
وله شعر كثير جيده كثير ومتوسطه أكثر وغالبه من الفوائد العلمية والأحكام الشرعية فمما أجاد فيه:
فوض أحاديث الصفا ... ت لا تشبه أو تعطل
وقال:
حدثنا شيخنا الكناني ... عن أبيه صاحب الخطابه
أسرع أخا العِلم من ثلاث ... الأكل والمشي والكتابة
1 / 18
وقال:
أيها السائل قومًا ... قالهم في الخير مذهبْ
اتركِ الناسَ جميعًا ... وإلى ربِّك فارْغب
وقال:
عابَ الِإملاه للحديث رجال ... قد سعوا في الضلال سعيًا حثيثًا
إنما ينكر الأمالي قوم ... لا يكادون يفقهون حديثًا
وقال:
لِمَ نرجى العفو من ربنا ... وكيف لا نطمعُ في حِلمهِ
وفي الصحيحين أني أنه ... بعده أرحم من أمهِ
توفي في سحر ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى في منزله بروضة المقياس بعد أن تمرض سبعة أيام بورمٍ شديد في ذراعه الأيسر عن إحدى وستين سنة وعشرة أشهر وثمانية عشر يومًا ودفن في حوش قوصون خارج باب القرافة.
وقد اختصرنا ترجمة الِإمام مع كونه، كثير المناقب والفضائل فهو أشهر من أن أوسع القول فيه. وتصانيفه تعبر عنه، ناهيك ترجمته لنفسه وقد نقلها في كتابه حسن المحاضرة.
والمرجع التي تعرضت بالحديث عنه كثيرة منها الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي ٤/ ٦٥ - ٧٠
وحسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي صاحب الترجمة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة لنجم الدين الغزي ١/ ٢٢٦ - ٢٣١.
شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي ٨/ ٥١ - ٥٥.
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن التاسع للشوكاني ١/ ٣٢٨ - ٣٣٥.
1 / 19
إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون ١/ ١٩١، ٢٢٠، ٢٢٦، ٢٣٠، ٢٧٨، ٤٢١، ٤٧٩، ٢/ ٤٧، ٣٨٧، ٤٦٥، ٥٩١، ٦٢٤، ٦٢٧.
وهدية العارفين للبغدادي ١/ ٥٣٤، ٥٤٤.
وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان ٢/ ١٤٣ - ١٥٨.
معجم المطبوعات العربية لسركيس.
وكشف الظنون لحاجي خليفة.
معجم المؤلفين ٥/ ١٢٨.
وقد ذكر أسماء مؤلفاته في كتابه حسن المحاضرة، يمكنك الاطلاع عليها.
وأما كتابه الذي بين أيدينا فهو كتاب مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا.
وكتاب الشفا هذا هو للِإمام الحافظ أبي الفضل عياض بن موسى القاضي اليحصبي المتوفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة أوله الحمد المتفرد باسمه الأسمى المختص بالملك الأعز الأحمى الخ وهو أربعة أقسام، القسم الأول في تعظيم العلي الأعلى هذا النبي المصطفى ﷺ قولًا وفعلًا وفيه أربعة أبواب: الأول في ثنائه تعالى وفيه عشرة فصول، الثاني في تكميله تعالى له المحاسن خلقًا وخُلقًا وفيه سبعة وعشرون فصلًا، الثالث فيما ورد من صحيح الأخبار لعظم قدره عند ربه وفيه اثنا عشر فصلًا، الرابع فيما أظهره الله تعالى على يديه من الآيات والمعجزات وفيه ثلاثون فصلًا.
والقسم الثاني فيما يجب على الأنام من حقوقه ﵊ وفيه أربعة أبواب: الأول في فرض الِإيمان به والطاعة وفيه خمسة فصول، الثاني في لزوم محبته ومناصحته وفيه ستة فصول، الثالث في تعظيم أمره ولزوم توقيره وفيه سبعة فصول، الرابع في حكم الصلاة عليه وفيه عشرة فصول.
1 / 20
والقسم الثالث فيما يستحيل في حقه وما يجوز وما يمتنع ويصح وهو سر الكتاب ولباب ثمرة هذه الأبواب وما قبله له كالقواعد والتمهيدات وفيه بابان: الأول فيما يختص بالأمور الدينية وفيه ستة عشر فصلًا، الثاني في أحواله الدنيوية وفيه تسعة فصول.
والقسم الرابع وجوه الأحكام على من تنقصه أو سبه وفيه بابان: الأول في بيان ما هو في حقه سب ونقص وفيه عشرة فصول، الثاني في حكم شانئه ومؤذيه وعقوبته وقال وختمناه بباب ثالث جعلناه تكملة لهذه المسئلة في حكم من سب الله ﷾ ورسله وملائكته وكتبه وآل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه خمسة فصول.
وهو كتاب عظيم النفع كثير الفائدة لم يؤلف مثله في الِإسلام شكر الله ﷾ سعي مؤلفه وقابله برحمته وكرمه.
وقد اختصره الشيخ محمد بن أحمد الأسنوي الشافعي المتوفى سنة ثلاث وستين وسبعمائة وشرحه الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسن بن محلوف مخلوف الراشدي الحافظ.
وشرحه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي الشريف الحسني التلمساني سماه المنهل الأصفى في شرح ما تمس الحاجة إليه من ألفاظ الشفا في مجلدين وهو من أجود شروحه فرغ يوم الاثنين رابع عشر من صفر سنة سبع عشرة وتسعمائة. أوله: الحمد لله الذي جعل رتبة العلم أعلى المراتب الخ ذكر فيه أنه لما قرأه نظر فيما يستعين به عليه فلم يجد غير كتاب الحافظ عبد الله بن أحمد بن سعيد بن يحيى الرموري (الزموري) فاقتطع منه ما تمس إليه الحاجة وترك ما فيه من طول عبارته وأضاف إليه كثيرًا من كلام الحافظ أبي عبد الله محمد بن حسن بن محلوف (مخلوف) الراشدي المعروف بايركان إذ وضع عليه ثلاثة شروح الأول كبيرة الغنية في مجلدين والتاني غنية الوسطى وإياه اعتمد وآخر أصغر منه جرمًا. قال ومرادي بالشارح حيث ذكرت الإِمام عبد الله بن أحمد الرموري الخ ومن كلام الشمني وابن مرزوق.
1 / 21