فقال الرئيس: «إن الأمير لا يغفل عن أداء واجباته إبان الصلاة المفروضة في ديننا، وقد خصص غرفة خفية من غرف قصره اتخذها كنيسة يصلي فيها سرا، ولا يعرف تلك الغرفة إلا أفراد قليلون؛ فإن بابها مكسو بما يشبه لون الحائط، حتى لا ينتبه الناظر إلى أن في ذلك الحائط بابا.»
فقال راهب قوي الإيمان: «لا يليق بنا أن نرائي في عقيدتنا، وننكر مخلصنا رغبة في مصلحة دنيانا.»
فقاطعه الرئيس قائلا: «اخفض صوتك حتى لا يبلغ قولك مسامع الأمير فنقع في شر أقوالنا.»
فقال الراهب مقهقها: «أين نحن وأين الأمير بشير؟ أليس بيننا وبينه أكثر من ميلين؟»
فقال الرئيس: «لا أعلم مقدار البعد بيننا وبينه، وإنما أعلم أنه رجل قد خصه الله بما لم يخص به أحدا من الناس غيره، وكأني بجميع هذه الجدران عيون وأرصاد تنقل له الأخبار فيعلم ما يجري بأقاصي لبنان وهو جالس في قصره.»
ولم يكد يتم الرئيس كلامه، حتى سمع طارقا يطرق الباب فوقع الرعب في قلبه وقلوب رهبانه، ولم يستطع أحد منهم النهوض لفتح الباب، فأخذوا يهمسون فيما بينهم ليختلقوا عذرا يبرئون به أنفسهم، وفي أثناء ذلك نهض أحدهم وفتح الباب، وإذا هو برجل أسود اللون طويل القامة غريب الزي، إلى جانبه امرأة مبرقعة عليها ثياب سود حالكات، وعلى يدي الأسود طفل، وكلهم ينتفضون من شدة البرد. فسألهما الراهب عن قصدهما. فقال الرجل: «هل هذا المكان دير؟» قال: «نعم.» قال: «هل تقبلوننا عندكم ضيوفا هذه الليلة؟» قال: «نعم.» وأدخلهما الغرفة وأجلسهما على مقعد بالقرب من الرئيس، فتأملهما الرئيس فإذا هما غريبا الشكل والملامح فسكن جأش الرهبان، وظهر لهم من مجمل حالهما أنهما آتيان من مكان بعيد، وقد قاسيا عذابا شديدا من التعب والبرد.
فبدأ الرئيس بالكلام قائلا: «حقا إنكما قد شرفتمانا هذه الليلة، وحلت البركة بحلولكما عندنا، فمرحبا بكما، من أين أتيتما؟» فأجابه الرجل متأوها: «قد أتينا أيها الأب المحترم من بلاد بعيدة.» فقال الرئيس: «إذن لا بد أنكما محتاجان إلى طعام.» ثم أمر أحد الرهبان فجاءهما بطعام من اللبن والجبن و«القاورمة» والعسل، وبأرغفة رقاق فأكلا وشربا قليلا من الخمر الجيدة المعتقة التي يعز وجودها في غير الأديرة. وقد أماطت المرأة البرقع، في أثناء الأكل، عن وجه كأنه البدر، ومع ما كان يبدو عليه من دلائل التعب والشقاء والحزن والكآبة، فقد كانت تتجلى فيه ملامح المهابة والجلال، فتعجب الجميع من مرافقة هذا الملاك الأبيض لذلك العبد الأسود.
وأمر الرئيس لهما بكثرة الوقود فجلسا يستدفئان ويستريحان، والرئيس يتأمل هيأتهما وملابسهما وحديثهما، فلاح له أنهما ليسا من لبنان، فبدأ الحديث معهما ثانية قائلا: «اسمحا لي أن أسألكما عن سبب مجيئكما إلى هذه القرية في هذا الليل، وإن كان ذلك غير لائق منا، فقد ظهر لي أنكما من بلاد بعيدة، فهل حضرتما من دمشق؟»
فأجاب الرجل: «لا، ولكننا من إحدى قرى تلك المدينة، وفي صباح الغد إن شاء الله نشرح لكم حقيقة حالنا.»
قال الرئيس: «حسنا، يظهر أنكما في حاجة إلى النوم، وقد أعددنا لكما فراشا.» ثم أمر أحد الرهبان أن يأخذهما إلى غرفة وضع فيها مصباح زيتي، وفرش على أرضها فراشان حقيران لكنهما نظيفان مرتبان - واللبنانيون أهل نظافة وترتيب على اختلاف طبقاتهم، حتى أفقر الفقراء منهم لا تستنكف من مؤاكلته أو مجالسته أو النوم في فراشه إذا نزلت عنده - فغسلا أرجلهما بماء ساخن أحضر لهما، ثم سألهما الرئيس عما إذا كان في نفسيهما حاجة إلى شيء بعد ، فقالا: «لا.»
Unknown page