وكان يتخلل ذلك السكون زقزقة الطيور، وقد خرجت من أعشاشها، فيجيبها البحر بتلاطم الأمواج، فسر غريب بذلك المنظر كثيرا، واشتاقت نفسه إلى الركوب والطواف في تلك الجهات المجاورة، والركوب يحلو في تلك الصحراء الرملية، والرمل أجمل ما يكون بعد المطر، فركب جواده وسار ولم يخبر أحدا بذلك. •••
على أن بعض الجند رآه وعرفه، فلما خرج من المعسكر أوغل في تلك الصحراء شرقا، وكأنه يريد أن يركض الفرس فاتجه شمالا إزاء باب عكا، وأخذ يتأمل في أسوار تلك المدينة أو القلعة وحصونها وخنادقها، ثم رأى أمامه آثار قناطر قديمة كان الماء يجري فيها إلى عكا، من مسافة تستغرق أربع ساعات، وفيما هو يتأمل تلك الأسوار عرج به جواده نحو المدينة وهو لا يدري، فما أحس إلا وهو بالقرب من بابها الشرقي، ولم ينتبه إلا عندما سمع صوت إطلاق الرصاص عليه ، فلوى عنان جواده وطلب الصحراء تخلصا من الموت، ولكنه لم يخط بضع خطوات حتى أصيب جواده برصاصة أوقعته صريعا، فأراد الفرار على قدميه فلم يستطع لأن عددا من حرس عكا خرجوا عليه بالسلاح، قبل أن يخرج قدميه من الركاب، فحاول الدفاع فلم يجد إلى ذلك سبيلا، فقبضوا عليه وساقوه مخفورا إلى المدينة فأدخلوه من ذلك الباب، وهو يظن أنه في حلم، فدخل وهو على ما علمت من اللباس الفاخر وملامح الأمراء، وقد أرسل كوفيته فوق رأسه وعلى كتفيه، وجمدانه المزركش بالقصب يسطع فوق قفطان من الحرير صنع في دمشق، وقد تقلد السيف، وتمنطق ب «الطبنجات» والخنجر، وكانت مشيته تدل على أنه ليس من عامة الناس، وكان أهل عكا ينظرون إلى ذلك الأسير نظرة تعجب، ويتحادثون فيما بينهم قائلين: ترى من يكون هذا الشاب؟ أما هو فكان يمشي غير مبال كأنما هو ذاهب إلى بيته، حتى أتوا به إلى القلعة، فدخلوا على عبد الله باشا وإذا هم برجل ربعة، أشمط الشعر، جالس على مقعد يدخن الشبق، مقطب الوجه، عريض اللحية، على رأسه الطربوش العثماني، وبين يديه رجال دولته، وقد وضع الحسام على فخذه، ويظهر من وجهه أنه في حال ارتباك واضطراب وغضب شديد.
فلما دخل غريب الغرفة عرفه عبد الله باشا فناداه منتهرا: ألست ابن الأمير بشير خائن الدولة والأمة؟
فقال غريب: «بلى إنني ابنه، ولكنني لا أرى مسوغا لأن تصفه بهذه الصفة يا سيادة الوالي، ولعلك إذا التقيت بأبي يوما تعرف حقيقة الأمر.»
فقال عبد الله باشا: «بعثت إليه أن يقدم إلي برجاله فانحاز إلى عدونا، فلو ظفرت به لعلمته الطاعة والأمانة، وستبقى أنت عندنا رهينة حتى يقضي الله بيننا وبينه.»
فقال غريب: «لا تكثر من التهديد والوعيد فإن ما نسبته إلى والدي يعد إجحافا منك بحقه، فإنه لم يقصر في الخدمة والعمل لمصلحتك. ألم يكن هو الذي أنقذك من غضب الدولة؟ وساعدك على إخضاع رعيتك؟ أما انحيازه الآن إلى الجنود المصرية فلعل له عذرا يعلمه ولا أعلمه.»
فقاطعه عبد الله باشا قائلا: «ولا عذر له إلا خيانة دولته، وقد قلت لك إني سوف أعلمه الأمانة إن ظفرت به، وما أنا بناقم على إبراهيم بقدر نقمتي عليه، فما هكذا تكون الأمانة والشهامة.»
فقال غريب: «ليسمح لي سيادة الوالي أن أرد قوله وأبرئ والدي من هذه التهمة، ولعلكما إذا اجتمعتما وتفاوضتما تعلم من الذي تصدق عليه أقوالك، فإن الخيانة ليست من شأن الأمير، ولكن ...»
فابتدره الباشا منتهرا وكأنه يريد الوقوف، ونادى بأعلى صوته: «سالم أغا، خذ هذا إلى السجن مغلولا!» فتقدم إليه رجل في لباس الضباط، طويل القامة، جميل المنظر، في نحو الثلاثين، أزرق العينين، أشقر الشعر، في يده سيف مسلول وبجانبه جنديان بالبنادق، وأشار إلى غريب أن يمشي فامتنع غريب، والتفت إلى الوالي قائلا وهو ينتفض من شدة التأثر: «هل اعتدتم أن تكبلوا أبناء الأمراء وتقودونهم إلى السجن مهانين؟ لن أنتقل من هنا حتى تفك أغلالي فأسير بنفسي إلى حيث تشاءون.»
فصاح عبد الله باشا بأعلى صوته: «يا للجسارة، أتعارض أوامري وتمتنع عن الذهاب؟ خذوه حالا من أمامي وإلا قطعت رأسه بهذا السيف.»
Unknown page