الحملة الفرنسية
قال الرجل: «ليس هذا حديثي كله أيها الأمير، فإن عندي قصة أشد تأثيرا في نفسي من كل شيء، وهي سبب قلقي واضطرابي فأسألك الإصغاء إليها بعد أن تعدني عفوا عن خطئي.»
فقال: «قل ولا تخف عني شيئا.»
قال: «اعلم أيها الأمير أن زوجتي هذه (قال ذلك وتنهد) قد جلبت لها الشقاء بيدي، فإنها ليست من أمثالي المماليك، وهي ليست من بلادي، وإنما ساقتها يد الأقدار إلي بحكم الاتفاق ونتيجة الجهالة.»
فقال الأمير: «ومن هي إذن؟»
قال: «يا سيدي هي ...» ثم خنقته العبرات وسكت، فابتدره الأمير قائلا له: «قل لا تخف!» فوقف الرجل، ثم جثا بين قدمي الأمير وقبل ركبته قائلا: «إنها من أنسبائكم أيها الأمير الجليل.»
فاضطرب الأمير بشير، ثم أوقف الرجل قائلا: «وكيف أمكن أن يكون ذلك؟»
فقال: «إنني حين كنت شابا توجهت مرة مع عمي، أحد أمراء الألفية الذين تولوا مشيخة البلد زمنا طويلا، إلى بلاد الشام؛ هربا من الجيوش الفرنسية التي جاءت إلى هذا القطر تحت قيادة نابليون بونابرت سنة 1213ه (1798) فساقتنا الأقدار إلى جبل لبنان، ولم يعلم بنا أحد. وكنت يا سيدي أميرا على الجبل إذ ذاك، ولكن الجزار والي عكا كان قد غضب عليك واتهمك بالاشتراك مع الجنود الفرنسيين، وكان هدفه أن يولي أولاد الأمير يوسف، وقد بلغني أنه ولاهم، ولكنه لم يرسلهم لاستلام الإمارة لاشتغاله بالفرنسيين وعزمهم على فتح سوريا، وقد كان في علمنا إذ ذاك أنكم من حزب الفرنسيين؛ وبالتالي قد رسخ في نفوسنا حب الانتقام منكم، غير أننا لم نر لذلك سبيلا، فلبثنا نحاذركم ونتربص بكم الموت.
واتفق أننا كنا ذات يوم في إحدى قرى لبنان المجاورة لدير القمر، وكان أهل البلاد في شغل شاغل لخلاف بين أحزابهم، فعزمنا على العودة إلى مصر إذ عرفنا أن الفرنسيين كادوا يخفقون بسبب المنشورات التي كان يرسلها الباب العالي ضدهم، فوردت الرسائل إلى عمي أن يرجع إلى مصر، لينضم إلى رفاقه المماليك. وذات ليلة تأهبنا للرحيل، فهيأنا الخيول وركبنا، وفيما نحن خارج تلك القرية شاهدنا عن بعد شبحا بين الكروم، وكنا قد أرسلنا أحد رجالنا ليأتي لنا بشيء من العنب، وسرنا في طريقنا فعاد إلينا ومعه فتاة تبلغ من العمر أربع عشرة سنة كأنها من حور الجنان، فتأملتها، وذكرت أنني شاهدتها من قبل، وقد مالت عواطفي إليها، ولكنني لم أتجرأ على مخاطبتها، لعلمي أنها من بنات الأمراء.
فلما جاء بها سألته عن شأنها، فقال لي: «إنني رأيتها بين الكروم وقد أمسى عليها المساء، ولما كانت قد رأتني قبل هذه المرة سألتني أن أوصلها إلى بيتها، وهو قريب من هذا المكان، فجئت بها إليك.» ثم همس في أذني: «إنها تصلح أن تكون زوجة لك.»
Unknown page