خرج أحمد بغريب وببعض حاشيته من رجال الأمير، ودار بهم حول الجزيرة فمروا بالمقياس فشرح لهم كيفية قياس النيل به. ثم ركبوا زورقا عبروا به النيل إلى بر القاهرة، فأعجب غريبا عظم ذلك النهر. وكان على صغر سنه مدركا فطنا محبا لمعرفة حقائق الأشياء، فكان ينظر وهو في الزورق إلى كل من ضفتي النيل متأملا ما هناك من مزارع الحبوب وغياض النخيل، حتى وصلوا إلى بر القاهرة، فنزلوا عند مصر القديمة، فجعل غريب يتأمل مبانيها ويسأل عن كل شيء فيها.
وكان أحمد ينظر إلى ذلك الغلام ونباهته وذكائه ولطفه نظرة الإعجاب، فمروا في أسواق مصر القديمة الضيقة، والناس يشيرون إلى ذلك الغلام الغريب الزي، بما عليه من الملابس اللبنانية التي لم يكونوا تعودوا مشاهدتها، ولا سيما ذلك الجمدان المقصب، وكميه المرسلين من كتفيه، فاستوقف غريبا بناء كبير يظهر أنه قديم العهد في جدرانه تهدم، وهو أشبه بالحصون منه بالبيوت، فسأل الغلام عنه، فقال له أحمد: «إن هذا البناء دير يقال له دير النصارى، فيه كثير من المعابد النصرانية والأديرة.» فداروا حوله من الخارج ومروا ببابه فإذا هو صغير يتوصل إليه بانحدار، ثم وصلوا إلى جداره الجنوبي وبه برجان هائلان قد غشيهما الخراب بينهما أثر عتبة علوية لباب كبير، فقال: «يا عم، إن الأديرة في بلادنا بخلاف ما هي هنا، فإني لم أشاهد مطلقا بناء بهذه الضخامة، ولم أر في الأديرة مثل هذه الأبراج.» فقال أحمد: «صدقت يا سيدي، ولا في سائر الأديرة مثل هذه الأبراج ولا شيء من ذلك، وهذا البناء لم يكن ديرا وإنما هو في الأصل حصن قديم، يقال إن الفرس حين تسلطوا على مصر قبل الميلاد بقرون شادوه ودعوه باسم عاصمة بلادهم إذ ذاك، فعرف بحصن بابل، وفيه تحصن المصريون عندما جاءهم المسلمون فاتحين، تحت قيادة عمرو بن العاص، ثم سكنه الأقباط وغلب عليه اسم الدير.» فأراد غريب الدخول لمشاهدة ما حواه ذلك البناء فطاوله أحمد، كأنه يريد أن يريه شيئا أعظم فسار الجميع حتى مروا بقناطر السباع، فشرح له حديثها إلى أن قال: «إن الملك الظاهر بيبرس أحد سلاطين المماليك بناها لتوصيل الماء من النيل إلى قلعة القاهرة، التي تراها بسفح هذا الجبل.» وكان يظهر من معاملة أحمد أنه يحب الاختصار في الحديث، والعجلة بالمسير نحو القاهرة.
وكان غريب مشغولا عن ملاحظة ذلك بمشاهدة ما حوله من الحقول الخصبة، ثم صعد إلى إحدى الآكام الخربة هناك، فأشرف على قسم عظيم من القاهرة على يمينه جبل المقطم، وعند سفحه قلعة القاهرة. وساروا حتى دخلوا المدينة ومروا بأسواقها وكان غريب يعجب لكثرة الازدحام فيها، لكن أهلها كانوا أكثر تعجبا منه لامتيازه عنهم باللباس والهيئة، وبمن معه من اللبنانيين.
وكانت القاهرة في ذلك العهد ضيقة الطرق، ليس فيها شيء من الشوارع الحديثة المتسعة، أو المبنية على النمط الجديد، ولم يكن فيها شيء من الأشجار التي تحف بشوارعها الحديثة الآن، فإن جهات الإسماعيلية والفجالة وشبرا والتوفيقية، وسائر هذه الضواحي كانت كلها حدائق وبساتين وآكام ومستنقعات، قلما شوهدت فيها المساكن والبيوت.
وقد كان من أكثر الشوارع ازدحاما حينذاك وأطولها الشارع الممتد طولا من باب الحسينية، إلى باب سعادة، يدخل فيه شارع الحسينية والنحاسين والغورية وما وراء ذلك من الصليبة. والشارع الممتد على موازاة ذاك، أوله عند باب الشعرية، وآخره عند باب السيدة زينب، ويدخل فيه باب الشعرية والشعراوي وما بين السورين، وشارع منصور باشا ودرب الجماميز ... إلخ، هذان هما أطول شوارع القاهرة وأكثرها عمرانا، وما بينهما وما جاورهما من الجهات، كالحمزاوي وبركة الفيل ... إلخ.
الدوسة
وما زال الاثنان ومن معهما سائرين، حتى وصلوا إلى بركة الأزبكية فإذا هي حديقة شائقة تحيط بها ترعة محفوفة بالأشجار، فمروا على جسر إلى داخل الحديقة فرأوا الناس يتراكضون إليها مزدحمين، فالتفت أحمد إلى غريب قائلا: «انظر، ها نحن الآن في ما يدعونه بركة الأزبكية، وقد اتفق وصولنا مع وقت احتفال يقال له «الدوسة» فلنغتنم الفرصة لمشاهدتها، ولكن يجب قبل كل شيء أن تحافظ على ما معك من الأشياء الثمينة خوفا من «النشالين» الذين يسرقون أمتعة الناس من جيوبهم وأيديهم، ولا يشعر أحد بهم، والأحسن أن توصي أتباعك بذلك.» فاستخف غريب بهذا التحذير، ولكنه قبل النصيحة بالشكر.
ثم قال أحمد: «انظر يا سيدي إلى هذا الشيخ ذي العمامة، الراكب على هذا الجواد الأصيل الذي تراه يخطو خطا العروس!» فأجاب غريب: «من يكون هذا؟» قال أحمد: «هذا يقال له شيخ السعدية، وعما قليل تراه يمر بجواده فوق ظهور الناس.» ثم أوقفه على مرتفع ليتمكن من المشاهدة. وبعد برهة رأى غريب الرجال ينامون منبطحين على وجوههم، متلاصقين بحيث لا يكون بين الواحد والآخر خلاء، فتألف بذلك جسر من الرجال، ثم جاء ذلك الشيخ وأمامه رجلان ممسكان بلجام الفرس يقودانه نحو ذلك الجسر، فأحجم الفرس أولا ثم تقدم ماشيا على ظهور الناس، والقائدان أمامه ممسكان بلجامه، فأخذ يخطو على مهل، وكلما خطا على رجل نهض ذلك الرجل وراءه تبركا به، فدهش غريب لهذا المنظر، وقلبه يختلج خوفا على أولئك الرجال من الأذى، ولكنه زاد دهشة عندما علم أن أحدا منهم لم يصب بسوء.
وكانت الشمس قد صارت في الهاجرة، فقال أحمد: «قد حان وقت الظهر يا سيدي، ونحن على بعد فرسخ من القصر، ومرادنا مشاهدة ما بقي من المدينة، فهل تقبلون دعوتي لتتناولوا طعام الغداء عندي في منزلي، وهو قريب من هنا، وبذلك نستطيع إتمام جولتنا اليوم، ونعود في المساء إلى القصر؟»
فأجاب غريب الدعوة، وسار الجميع حتى أتوا شارعا وصلوا منه إلى حارة قيل لهم إنها حارة قيسون، فاتجهوا إلى باب كبير عنده بواب بعمامة بيضاء فناداه أحمد، فلما حضر همس في أذنه أن يخبر من في البيت من النساء أن رجالا غرباء سيدخلون البيت فليخلوا لهم السبيل، ثم دخل أحمد وغريب ورجاله فوصلوا إلى صحن مكشوف في صدره باب صغير، يؤدي إلى دار تتصل بغرفة الاستقبال (المندرة) فدخلوها، وجلسوا على المتكئات فقدمت لهم القهوة، ثم تناولوا الطعام جلوسا على بساط حول مائدة عليها أنواع الأطعمة، وفيها الملوخياء والأرز واللحوم المطهية، ثم قدمت لهم القهوة ثانية.
Unknown page