كان شخص ما قد انحنى فوقي، وأخذ يهزني ويحادثني. لم أفهم كلمة واحدة مما قاله، لكن ذلك لم يهمني. شعرت بأنفاس ستلا على وجهي، وأحسست بلسانها يلعق أذني. لقد كتبت لها السلامة. وكتبت لي السلامة. كل شيء على ما يرام.
استيقظت على صوت عواء يشبه صوت عصف الريح الشديدة من خلال سواري السفينة. ونظرت حولي فلم أجد سارية واحدة فوقي، ولا شراعا واحدا، ولم أشعر بحركة تحتي أيضا، ولا بأي نسيم يهب، كانت ستلا أرتوا تنبح، ولكنها على مبعدة ما مني، لم أكن فوق ظهر أية سفينة على الإطلاق، بل راقدا ممددا على الرمال، وتحول صوت العواء إلى صياح، بل إلى صراخ حاد متصاعد ومخيف يخبو صوته فيما يحدثه من أصداء.
وجلست. كنت على شاطئ البحر، منطقة رملية بيضاء عريضة، ومن خلفي أشجار كثيفة وكثة حتى الشاطئ. ثم رأيت ستلا تتواثب في المياه الضحلة. ناديتها فجاءت قفزا من البحر لتحيتي، وذيلها يدور في الهواء بعنف. وبعد أن انتهت من التنطيط ولعقي بلسانها واحتضاني، اجتهدت حتى وقفت على قدمي.
كنت أشعر بضعف في جسمي كله. ونظرت حولي. كان البحر الأزرق الواسع خاويا مثل السماء الصافية الخالية من السحب من فوقي. لم تكن هناك بيجي سو. لم تكن هناك أية سفن. لا شيء. لا أحد. ناديت وناديت مرات على أمي وأبي، وظللت أنادي حتى اغرورقت عيناي بالدموع ولم أعد أستطيع النداء، وحتى أدركت أنه لا فائدة في النداء، ووقفت هنالك بعض الوقت أحاول أن أفهم كيف انتهيت إلى هذا المكان، وكيف تسنى لي أن أنجو، وقد اختلطت الذكريات في رأسي، بعضها يقول إنهما أنقذاني، وبعضها يقول إنني على متن السفينة بيجي سو، لكنني الآن واثق أن هذا محال، لا بد أنني رأيت ذلك في المنام، وحلمت بكل ذلك. لا بد أنني تعلقت بكرة القدم فظللت طافيا حتى ألقتني الأمواج على الشاطئ. وخطرت ببالي كرة القدم عندها، لكنني لم أستطع رؤيتها في أي مكان.
ولم يكن يعني ستلا، بطبيعة الحال، تساؤلي عن الأسباب والعلل، بل ظلت تأتي لي ببعض العصي حتى أقذفها فتجري خلفها ركضا لتحضرها من البحر دون أن يقلقها شيء في الدنيا.
ثم عادت أصوات العواء القادمة من جهة الأشجار، فاستفزت ستلا حتى وقف شعر رقبتها، وانطلقت تجري على الشاطئ وهي تنبح وتنبح حتى تأكدت أنها قد أسكتت آخر الأصداء. ولكن العواء هذه المرة كان موسيقيا يشبه النواح ولا يوحي بأي تهديد على الإطلاق. وقلت في نفسي إنني أعرف مصدر هذه الأصوات. فلقد سمعت أصواتا تشبهها ذات يوم في زيارة إلى حديقة الحيوان في لندن. إنها أصوات قردة «الجيبون»، وكان والدي يسميها «الجيبون الجبانة». ولا أزال أجهل سر هذه التسمية، وإن كان جرس الألفاظ يستهويني. وربما كان ذلك هو السبب الذي جعلني أتذكرها، وقلت لستلا: «ليست سوى قردة الجيبون! الجيبون الجبانة! وهي لن تؤذينا.» ولكنني لم أكن واثقا أنني كنت على صواب.
وكنت أستطيع من الموقع الذي وقفت فيه أن أرى أن الغابة تخف كثافة أشجارها على جانب تل عظيم يقع على مبعدة من الشاطئ، وخطر لي عندها أنني لو استطعت الوصول إلى الصخور الناتئة الجرداء عند القمة فسوف أتمكن من مد بصري إلى مسافة أبعد في البحر. أو ربما كان هناك منزل أو مزرعة إذا ابتعدنا أكثر عن الشاطئ، وقد يكون هناك طريق من الطرق، وعندها أجد من يمد لي يد المساعدة. لكنني قلت في نفسي: لنفرض أنني غادرت الشاطئ فعادا للبحث عني، فماذا يكون حالي؟ وقررت أن من واجبي أن أغتنم تلك الفرصة.
وانطلقت أجري، وستلا أرتوا في أعقابي، وسرعان ما وجدت نفسي في ظل الغابة الرطيب. واكتشفت مسلكا ضيقا صاعدا في التل، ورأيت أنه يمثل الوجهة الصحيحة. وهكذا سرت فيه جريا ثم أبطأت السرعة عندما أصبح التل شديد الانحدار. كانت الغابة عامرة بالكائنات الحية. كنت أسمع وقوقة الطيور وصرخاتها عند ذوائب الأشجار العالية من فوقي، وأصوات العواء القديم ينقلها الهواء كأنها النواح من خلال الأشجار، وإن بدا أنني ابتعدت عنها الآن.
ولكن مصدر قلقي لم يكن أصوات الغابة، بل العيون! إذ شعرت بأن ألف عين مستطلعة تراقبني. وأظن أن ستلا شعرت بذلك أيضا، إذ إنها التزمت بصمت غريب منذ أن دخلنا الغابة، وكانت دائما ما تتطلع إلي طلبا للاطمئنان والراحة. وبذلت قصارى جهدي في ذلك، ولكنها كانت تشعر أيضا أنني كنت خائفا.
ولكن مسيرتي التي كنت أظنها جولة قصيرة بدت لي الآن رحلة كبيرة في داخل تلك الأرض، فبعد أن خرجنا منهكين من وسط الأشجار، صعدنا بصعوبة وجهد جهيد ركاما صخريا حتى استطعنا أخيرا أن نقف فوق القمة.
Unknown page