ولقد سار الحال على هذا المنوال، ولكني خشيت أنهم يلحظون هذا الخداع الظاهر والمكر المحسوس فاضطررت لاختلاق «الكنيسة»، ولما آمنوا بالكنيسة اطمأن فؤادي وأيقنت أن مساعينا تكللت بالنجاح، وعلمت أننا نجونا وأن مملكة جهنم عادت للظهور والانتشار، وتجدد بناؤها وغصت رحباتها بالرعايا الذين خضعوا لها وانساقوا إليها.
4
إن بعلزبول لم يستطع التصديق بأن أتباعه كانوا أغزر منه عقلا وأوفر إدراكا وأوسع حيلة، وللتأكد من ذلك سأل محدثه قائلا: ما هي الكنيسة؟
فأجابه بقوله: الكنيسة هي عبارة عن أن الناس عندما يكذبون ويشعرون بأن سامعيهم لا يصدقونهم يتهجمون على الله ويقول الواحد منهم: «والله العظيم إن ما أقوله هو حق لا ريب فيه»، وهذه هي الكنيسة.
ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك أن الناس الذين انتظموا في سلك الكنيسة يعتقدون في نفوسهم القداسة، وأنهم معصومون عن الغلط، بعيدون عن الضلال، ولذلك فمهما اختلقوا من الحماقات والسخافات فلا يستطيعون إنكارها في المستقبل؛ لأن ذلك - على زعمهم - يلحق بهم العار ويظهر نقص تعليمهم وقيمة اعتقادهم.
وزيادة للإيضاح أقول: إن الكنيسة تتم على الطريقة الآتية: أن الناس يؤكدون لأنفسهم وللآخرين أن معلمهم الله الذي - احتراسا على تعليمه الذي علم به الناس من أن تتلاعب به الأفكار وتحوله عن معناه الحقيقي وتشوه جوهر حقيقته - اختار رجالا خصوصيين ليفسروا ذلك التعليم تفسيرا صحيحا، وأعطاهم السلطة المطلقة لكي ينتخبوا لهم بدورهم خلفاء يحافظون على التعليم ويفسرونه تفسيرا مطابقا لأصل وضعه، وهؤلاء وأولئك سموا نفوسهم بالكنيسة، وأصبحوا بعد ذلك يعتقدون اعتقادا ثابتا بأنهم موجودون ضمن دائرة الحق، وليس ذلك لأن ما يبشرون به هو الحق بنفسه، بل لاعتقادهم أنهم خلفاء شرعيون لتلامذة تلامذة تلامذة ذاك المعلم الإله. ومن ذاك الحين أصبح كل واحد من أولئك الناس يدعي أنه عضو عامل في الكنيسة الحقيقية الواحدة (كما كان ذلك في كل مكان وزمان)، وصار كل واحد يعلم طبقا لأهوائه وأمياله، ولا يمكنه أن ينكرها فيما بعد مهما بلغت من الضلال وتضمنت من الأباطيل، ومهما حاول الآخرون إظهار فسادها وعدم مطابقتها للحقيقة.
فقال بعلزبول: ولكن أريد أن أفهم لماذا هذه الكنيسة أضحت تفسر تلك التعاليم وتكرز بها على طريقة موافقة لمصلحتنا؟
فاستطرد الشيطان ذو الوشاح الكلام، وقال: إن الرجال أعضاء الكنيسة جنحوا إلى ذلك؛ لأنهم عرفوا أنفسهم بأنهم هم وحدهم مفسرو شريعة الله والقابضون على زمامها، وبذلوا الوسع لحمل الناس على الاعتقاد بهم بذلك، ومع مرور الزمان أصبح هؤلاء المفسرون الكارزون ملجأ للناس الذين توافدوا عليهم لمناقشتهم ومساءلتهم، فأعطاهم ذلك بعض الامتيازات والسلطة التي أخذت في الازدياد، حتى جاء يوم على أولئك المفسرين عدوا فيه نفوسهم رؤساء لجميع متبعي ذلك التعليم.
ولما أحرزوا السيادة على الناس أخذوا يتدرجون في العظمة والكبرياء، ثم تطرق إليهم الفساد رويدا رويدا حتى غدوا بعد مدة مبشرين للرذائل، فكرههم الناس وأبغضوهم بغضا ظاهرا وأظهروا لهم العداء وصادروهم مصادرة عنيفة، ولم يجد أولئك الرؤساء سلاحا يحاربون به أعداءهم غير القوة، فجعلوا يضطهدون ويقتلون ويحرقون ويعذبون كل من لا يوافقهم على تعاليمهم ولا يخضع لسلطتهم.
ثم إن هذا المركز الذي أصبحوا فيه وقادهم إليه حب السلطة والكبرياء؛ جعلهم مضطرين إلى تفسير ذلك التعليم بما يطابق أهواءهم ويزكي حالة معيشتهم ويبرر تلك الفظائع والجرائم التي يقترفونها مع أعدائهم. والأنكى والأدهى من كل ذلك أن تلك التفاسير الباطلة كان يصدقها أتباع أولئك الرؤساء ويؤمنون عليها ويعتقدون بقداسة أعمال رؤسائهم الفظيعة وأنها موافقة للدين، فينصرونهم وينكلون بأعدائهم تنكيلا فظيعا.
Unknown page