فيجب على كل واحد أن يقبل على الشغل وإعداد جميع لوازمه المعيشية بنفسه دون أن يعتمد فيها على غيره؛ فإننا لو نظرنا إلى المصائب العديدة التي تحدث بين الناس لوجدنا أن أصلها الحاجة ومصدرها الفاقة والإعواز. وأما الشرور والآثام والفساد والفجور فإن مصدرها البطالة والراحة المتناهية وملء البطون بالمآكل المغذية ذات الدهن الكثير التي تقود الإنسان إلى الشهوات وارتكاب الموبقات.
إن أقدس واجب على الإنسان تفرضه عليه الإنسانية الحقيقية هو سعيه إلى إزالة عدم المساواة الموجودة بين الناس ، وبإزالتها تزول المصائب والويلات وتتلاشى الشرور والشهوات. وإن آمن طريق يوصله إلى ذلك هو العمل الذي يدفع الحاجة، وكذلك ابتعاده عن البطالة ورفاه العيش والتنعم، التي تقوده إلى العثرات وتحرك الشهوات الكامنة في نفسه.
إن تلميذ المسيح الحقيقي يكون في الغالب فقيرا، أو بعبارة أخرى لا يلتفت إلى جمع الثروة واقتناء العربات الفاخرة والخدم والحشم والأتباع، وسكنى القصور الشامخة المفروشة بالرياش النفيس والفرش الوثيرة. أجل إنه يتمتع بجميع الخيرات الجزيلة والنعم الوافرة التي منحه إياها الحق سبحانه وتعالى، وللحصول عليها لا يجب عليه أن يقطن في المدن الآهلة بالسكان الكثيرة الفساد، بل ينبغي عليه أن يتخذ له مسكنا في إحدى القرى ويقضي سحابة نهاره عاملا في الحقول والغابات، ويشاهد في خلال عمله نور الشمس والأرض والسماء والحيوانات الأهلية والبرية، ولا مشاحة في أنه إذا مرض وتألم ومات فإنه يكون في ذلك مساويا لجميع الناس على اختلاف الأجناس، ولكن مما لا ريب فيه أنه يعيش عيشة أسعد من عيشتهم وأصفى وأهنأ، ومما لا ريب فيه هو أن الناس الذين يعيشون مثل هذه العيشة الطاهرة الصافية الأمينة ولم يتطرق إليهم الفساد؛ يعتقدون اعتقادا متينا أن سعادة الإنسان تنحصر في العمل وشقاءه محصور في البطالة، وأنه بدون عمل تطرأ عليه السآمة والملل، ولذلك لا يستطيع البقاء يوما واحدا دون أن يعمل فيه عملا، كما لا تستطيع ذلك النملة والحصان وكل حيوان.
إن تعليم المسيح يعلمنا بأن الإنسان المسيحي الحقيقي - الذي ليس من هذا العالم - يستطيع أن يحصل على السعادة التامة إذا أدرك تمام الإدراك ماهية وجوده في هذه الحياة التي تحتم عليه تحتيما شديدا ألا يستعبد الناس بتشغيلهم الأشغال وتحميلهم الأثقال، ولا يعتمد في أمور معيشته عليهم، بل يجب عليه أن يعمل لنفسه بنفسه ويقدم حياته كلها فدية عن كثيرين.
قال الفيلسوف موجها الخطاب إلى إنسان المدن المتوغل في رفاه العيش والمتناهي في البذخ والخاضع للراحة، ما يأتي: «قم واخرج من خدرك، وطف في المدينة، وقف إلى جانب أولئك الذين يطعمون الجياع ويكسون العراة ويؤوون الغرباء، ولا تخف شيئا، وانتظم في سلكهم، وسر معهم كتفا إلى كتف، واعمل بيديك الرخصتين الضعيفتين أول عمل تصادفه. ولا تأنف من فقير بائس، بل ارفق به وألبسه وأطعمه، ثم اشتغل في الزراعة والأعمال الأخرى. ولا شك أنك ترى نفسك أسعد حالا عما كنت عليه من ذي قبل، وتجد انقلابا في عواطفك يساعدك على السير في طريق العمل والطهارة».
ويقول الفيلسوف: إن الشر الموجود في هذه الحياة ناجم عن القوانين والشرائع المسنونة التي تقيد الإنسان، وتحول بينه وبين الصلاح وطهارة القلب المفطور عليهما، وفي هذا الاجتماع أصبح لكل مشروع وكل أمر قوانين موجهة برمتها لاستعباد الناس وإذلالهم، ولا عجب إذا كانت داعية للشرور والمنازعات.
إن الاشتراكيين يقولون إن الشر محصور في استئثار بعض الناس بالثروة، وحصرها بين أفراد تضافروا على زيادتها والاختصاص بها وحرمان الناس منها، ويعدون جميع الوسائل التي يبذلونها في هذا السبيل جائزة مشروعة، وعلى عكس ذلك الملوك وأرباب السلطات، فإنهم يعتقدون أن الشر محصور في عدم خضوع الناس لسلطانهم وانصياعهم لأوامرهم وإشاراتهم. وهؤلاء وأولئك يستعملون القوة لتنفيذ مآربهم وأغراضهم، ولا ينجم عن مبادئهم هذه المعوجة غير زيادة الشرر وتوفير المصائب والويلات للهيئة الاجتماعية.
وقال عن الاشتراكية ما يأتي: إن الحكومة قابضة بيدها على زمام حرية الرعايا، وتسييرهم كيف شاءت وشاءت أهواؤها، ولكنها مع ذلك لم تستطع - حتى اليوم - أن تتداخل في النظام العائلي الداخلي، ولا في شئون الرعايا الاقتصادية وأحوالهم المعيشية وجنوحهم إلى البطالة أو العمل. ولكن جهاد الاشتراكيين ومبادئهم التي يصرفون قواهم إلى تنفيذها، وأهمها توزيع الثروة على الناس بالمساواة، تدفع الحكومة إلى التضييق على الناس ودخول بيوتهم لتنقيبها وإقلاق راحة سكانها وإزعاجهم، ثم ومن جهة أخرى تراقب حركات الاشتراكيين وسكناتهم، وهي تتدرج في ذلك، ولا يبعد أنه يأتي على الحكومة يوم - إذا دام لها استبدادها - من تعيين نوع الملابس والأطعمة للناس، وجبرهم على الاشتغال بهذه الحرفة دون تلك.
فعمل الاشتراكية مفيد من جهة ولكنه من جهة أخرى سبب كبير لما يستعمل فيه من القوة والمكايد والتهييج في حمل الحكومة على إزعاج الناس وسلب راحتهم، فالقوة لا تفيد صاحبها شيئا، ولا ينجم عنها أقل فائدة إذا أفضت إلى الإضرار بالناس، فهي بهذا المعنى كالحروب التي يرسل فيها الملوك أشد رجال المملكة وأقواهم إلى الموت، ومهما نجم عن تلك الحروب المريعة فلا يعادل ما ذهب بسببها من ضحايا النفوس البشرية، تلك النفوس البريئة التي اضطرت إلى محاربة أقوام لم يسيئوا إليها.
والتخلص من هذا الشر لا يأتي من طريق هدم النظامات الحالية وتغيير حالة المعيشة، وإنما يأتي من طريق فهم الناس ماهية هذه الحياة وإدراكهم كنه وجودهم، ولا يبلغون ذلك إلا إذا بلغت جميع طبقات الناس الكمال الديني والأدبي، ذلك الكمال الذي يزيل غشاوة الجهل عن الأبصار، ويدعو الناس إلى عقد اتحاد عام وألفة متبادلة؛ إذ ذاك يحول الناس حرابهم إلى مناجل ويسيرون تحت أعلام الكمال، وتسود بينهم المحبة والإخاء والمساواة.
Unknown page