والآن ينقسم الناس من هذا القبيل إلى معسكرين: أحدهما يجاهد قولا وفعلا في تحريم وصنع تلك السموم ومنع جميع المشروبات الروحية على الإطلاق، وهؤلاء لا يشربون الخمرة ولا يقدمونها لأحد لا في الأعياد ولا في الأفراح، ولا في جميع أشكال الحياة. وثانيهما يتعاطى الخمرة ويسعى لانتشارها. وقد قامت بين هذين المعسكرين حرب عوان اشتد وطيسها وحمي أوارها، وهي عامة في جميع الممالك والحكومات.
إن الناس يعدون الرجل فاضلا إذا كان لا يشرب الخمر في الحانات بل يبتاعها ويأخذها إلى منزله، حيث يشرب منها عدة كاسات قبل الطعام ويقدمها لأصحابه وضيوفه، ويقول الناس عن مثل هذا الرجل إنه إذا سكر ينام في منزله ولا يدري به أحد. يقولون مثل هذه الأقوال الفارغة ولا يحسبون حسابا للأضرار التي تسببها الخمرة لمثل هذا الفاضل المستور، ثم إنه بتقديمها لأصحابه يعودهم على السكر، وبذلك يجني جناية فظيعة على نفسه وعلى الإنسانية.
وأنت أيها الشاب، إذا كنت لم تشرب الخمرة فلا تسمم جسمك بها، وحافظ على طهارتك واستقامتك، ولا تنخدع بكلام غيرك من أولئك الذين قضت الخمرة على أجسامهم القضاء المبرم، وإذا وقعت في الشرك وأغروك على شرب الخمر فإنه لا يسهل عليك فيما بعد استئصال هذه العادة الذميمة. لا تصدق أن الخمر ينعشك ويدخل السرور على فؤادك، إن زمن الشباب الذي تتمتع به هو زمن السرور والانشراح، وما هو ذلك السرور الذي يضيع عقلك ويجعلك والمجنون سواء؟! احذر الخمر أيها الشاب! فإنه يقودك في شبابك إلى ارتكاب المعاصي والموبقات. والويل للشاب إذا زلت قدمه! فإنه يطوح بنفسه إلى مهاوي الفساد والأرجاس، ولا تقوم له بعد ذلك قائمة في هذه الحياة. إن الخمرة أيها الشاب تفقدك في زمن شبابك قوة الإدراك التي منحها إياك الخالق لتقاوم بها العثرات، إنك إذا سكرت ترتكب أمورا يستحيل عليك أن ترتكبها وأنت في عقلك، ولماذا إذن تقود نفسك إلى مثل هذا الخطر المحقق؟!
وإذا كنت أيها الإنسان رجلا كهلا وتعودت على تعاطي الخمرة، فبادر إلى تركها، وإلا فإنها إذا تسلطت عليك ملكتك وأخضعتك إلى سلطانها الغشوم، وإلا فإنك تموت قبل الأوان وتقصف الخمرة عمرك كما قصفت عمر كثيرين قبلك من الشبان والكهول. وأما إذا استرسلت في شربها وداومت على تعاطيها وتقديمها لأصحابك، فإنك تعود زوجتك وأولادك وأخاك وأصحابك على السكر، وتقودهم إلى الهلاك المحقق، وتكون في مثل هذه الحالة لا فرق بينك وبين القتلة وسفاكي الدماء.
لا يجب أن يخطر على بالك أيها الإنسان أنه إذا انقطعت عن تقديم الخمرة في الأعياد والأفراح أنك تترك عادات الوسط المقيم فيه، بل تترك مجاراة جيرانك في عاداتهم الذميمة، دع عنك مثل هذه الأفكار وانسج على منوال أولئك الأفاضل الذين تركوا هذه العادات، وأبدلوا تقديم الخمرة بمأكولات لذيذة وحلويات شهية ومشروبات مرطبة.
ويل ثم ويل للإنسان الذي تأتي بسببه العثرات! خير له أن يعلق في عنقه حجر الرحى ويطرح في البحر. ولذلك أقول لك أيها الإنسان: ابتعد عن إغواء غيرك، ولا تضغط على الناس وتدعوهم إلى شرب الخمرة، واذكر قول الكتاب العزيز القائل: «من ليس معي فهو علي، ومن لا يجمع معي فهو يفرق».
ثم قال الفيلسوف: لماذا يميل الناس إلى إضاعة عقولهم؟ لماذا يقتلون أجسامهم؟ لماذا يسعون إلى الجنون والخبل والذهول؟ لماذا يستعملون تلك المواد المخدرة؟ فإذا لم يشرب الإنسان الخمرة وإذا لم يدخن فإنه يستعمل الحشيش والأفيون والمورفين! لماذا أقبل الناس على هذه المهلكات، لا فرق بين المتدين والمتوحش والعالم والجاهل والغني والمتوسط والفقير؟!
اسأل أي إنسان لماذا يشرب الخمر، ولماذا يتعاطى المخدرات والمكيفات، فيجيبك من ساعته: إني أفعل ذلك ناسجا على منوال الآخرين الذين يشربون لاستجلاب السرور والانشراح والحبور.
اسألوا مدخن التبغ لماذا يدخن، فيجيبك أنه يفعل ذلك للتسلية وطرد الهموم التي تراكمت عليه.
إن أسباب ذلك أستخلصها من مطالعاتي ومن مراقبة الناس ومراقبة نفسي عندما كنت أسكر وأدخن، وهي تنحصر فيما يأتي:
Unknown page