أما أولئك العلماء الذين لم ترقهم تلك الأبحاث، فقد نبهتهم إلى أبحاث أخرى أشغلت بها عقولهم؛ فأدخلت في أفكارهم أن أهم شيء يجب أن يبحثوا به هو معرفة أيهما تدور حول الأخرى؛ الشمس تدور حول الأرض أم الأرض تدور حول الشمس. ولما عرفوا أن الأرض تدور وأن الشمس ثابتة وحددوا مقدار ملايين الأميال من الشمس إلى الأرض، ابتهجوا ابتهاجا عظيما بهذه الاكتشافات الجليلة، ومن ذاك الحين إلى اليوم وهم يواصلون الأبحاث لمعرفة أبعاد النجوم، ومع أنهم يعلمون حق العلم أن لا نهاية لهذه الأبعاد التي لا يمكن أن يكون لها نهاية لأن عدد تلك النجوم لا يمكن حصره مطلقا، ومثل ذلك لا لزوم لمعرفته لأنها غير ممكنة. وخلا ما تقدم فقد حركت فيهم الميل إلى ضرورة معرفة تسلسل جميع الحيوانات والديدان المختلفة والنباتات المتباينة وجميع الهوام والحشرات الصغيرة التي لا نهاية لها. والأمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار بأن هذه المعرفة لا لزوم لها، فضلا عن أن معرفتها مستحيلة جدا جدا؛ لأن الحيوانات على اختلاف أجناسها لا تقع تحت حصر كالنجوم سواء بسواء، ومع ذلك فتراهم يوجهون جميع قواهم العقلية إلى البحث في مظاهر الطبيعة المادية، ويعجبون في الوقت نفسه بأنهم كلما عرفوا شيئا (مما لا لزوم لمعرفته لهم) يزيد ذلك الشيء غموضا، مما يدعوهم إلى زيادة البحث والتنقيب.
ولقد أفضى بهم ذلك إلى قضية راهنة هي أنهم كلما زادوا في البحث اتسع أمامهم نطاق المباحث، وزادت المواد التي يدرسونها غموضا وتعقيدا. ومما لا ريب فيه هو أن تلك الأبحاث الطويلة لم تجدهم نفعا ولم تفد حياتهم شيئا، غير أن ذلك لا يثبط عزائمهم ولا يزيل اعتقادهم بأهمية ما يشتغلون بدرسه والبحث عنه، ولذلك فهم يواصلون البحث والتنقيب والتعليم والكتابة والطبع ونقل أبحاثهم واكتشافاتهم من لغة إلى أخرى، تلك الأبحاث التي لا فائدة منها وإن كانت أحيانا ذات فائدة فإنها لا تفيد إلا فئة قليلة من الأغنياء، وتجلب في الوقت نفسه الضرر الجسيم للسواد الأعظم من الفقراء؛ حيث تزيد سوء حالتهم وتفسد نظام معيشتهم.
ولو كان لديهم مسحة من الإدراك لفقهوا أن أهم شيء تجب معرفته والوقوف عليه هو تنظيم نواميس الحياة الموضحة بتعليم المسيح إيضاحا ظاهرا، ولكنهم لم يفتكروا قط بذلك وصرفوا نظرهم عنه. وتوصلا لغاياتي فإني أدخلت في أفكارهم اعتقادا أصبح راسخا في أذهانهم ولا يزول منها أبدا، وهو أنهم لا يستطيعون معرفة نواميس الحياة الروحية، وزدت في تضليلهم والتغرير بهم حتى أصبحوا يعتقدون أن كل تعليم ديني - ومن ضمن ذلك تعليم المسيح نفسه - ما هو إلا ضلالات وأباطيل وخرافات وخزعبلات، وأن أحسن طريقة توصلهم إلى معرفة كيف يجب عليهم أن يعيشوا هي العلم الذي ابتكرته وأغريتهم على الاشتغال به، وهو العلم المسمى
Sosiologie (علم أحوال الهيئة الاجتماعية)، وهذا العلم يبحث عن كيفية ما تقدم، فإنهم بدلا من أن يحسنوا نواميس حياتهم بمقتضى تعليم المسيح الدال على ذلك، فإنهم يزعمون بأن درس حياة الأمم السابقة هو أفضل من تعليم المسيح؛ لأنهم يستطيعون من ذلك الدرس استنباط نواميس الحياة الصحيحة، ولا ينقصهم لبلوغ هذه الأمنية غير تطبيق النظامات التي يستخرجونها على الزمان والمكان الموجودين فيه، وأن ذلك خير وسيلة توفر لهم أسباب السعادة ورغد العيش.
ثم إني توصلا إلى رسوخهم في الضلال استنبطت لهم فكرتي شيئا مبتكرا يماثل تعليم الكنيسة، وهو العلم المستخرج من استنتاجات أبحاثهم المختلفة، وجعلتهم يعتقدون أن تلك الاستنتاجات معصومة عن الخطأ مثل تعاليم الكنيسة سواء بسواء.
وما زلت بهم حتى جعلت رجال العلم يعتقدون صحة تعاليمهم وعصمتهم عن الخطأ، حتى أصبحوا ينشرون بين الناس بصورة حقائق ثابتة كثيرا من السفسطات والحماقات والخزعبلات، التي فضلا عن أنها لا لزوم لها فإنها تشغل أفكارهم وتبعدهم عن معرفة الحقائق الراهنة، ونجم عن ذلك أن أولئك العلماء إذا ابتكروا شيئا وأعلنوه بين الناس يؤيدونه بالبراهين والأدلة، ولا يستطيعون إنكاره في المستقبل حتى ولو ظهر أنه من الحماقات غير المحدودة .
وما دمت أحرك فيهم الميل الشديد إلى العلم الذي ابتكرته لهم، فهم لا يزالون متطوعين له، يخدمونه بإخلاص ولا يتحولون عنه، وما داموا على تلك الحال فأنا أكون قرير البال مطمئن الفؤاد وواثقا من أنهم لا يفهمون ذلك التعليم الذي كاد يقضي علينا القضاء المبرم، ويجعل مملكتنا أثرا بعد عين.
11
فقال بعلزبول بعد سماعه هذا الكلام: حسنا حسنا، وإني أشكركم على جهادكم هذا. وقد أشرق وجهه وأبرقت أسرته. ثم استطرد الكلام وقال: ولا ريب أنكم تستحقون المكافأة والجوائز السنية، وسأكافئكم مكافأة تليق بكم.
وما نطق بعلزبول بهاته الكلمات حتى صاح بقية الشياطين المختلفي الشعر المتباينين في الأشكال بين كبار وصغار وذوي أرجل عوجاء ومتناهين في السمن والنحول؛ صاحوا جميعا بصوت واحد موجهين الكلام إلى رئيسهم الأعظم بعلزبول وقالوا له: يظهر لنا أنك قد نسيتنا ولا تريد أن تسمع نتيجة أعمالنا التي لا تقل عن أعمال من تقدموا وسردوها على مسامعك.
Unknown page