وأمامنا بلا ريب في أمين وبثينة نموذجان من ذلك الصنف الأول الرفيع من الناس؛ ليس لأنه مقدر لهما أن يكونا بين الرواد، فقد يتحقق ذلك أو لا يتحقق حسب الظروف والعوامل، ولكن لأنهما من معدن نفيس لا يمكن أن يتدنى. كان أمين يشفق على بثينة من خواطرها الاجتماعية الثائرة ومن تهافتها على الإصلاح ومن تألمها المتواصل لما يعانيه أبناء وطنها ومن قلقها الذهني لخير المجموع. ولكنه فيما بينه وبين نفسه لم يكن إلا صورة من إحساس بثينة ذاتها. فما تقدمت دراستهما المشتركة للنحل والنحالة إلا وكان ما يشغلهما قبل العلم وقبل الكسب الشخصي كيفية انتفاع المجموع بهذا العلم، وكيف يستفيد الاقتصاد القومي منه، وكيف يمكن نشر النحالة العصرية على أحدث المبادئ العلمية بين الشعب رفعا لمستواه المعاشي وترفيها عنه، وكانت رحلاتهما إلى المنحل وجولاتهما فيه وجلساتهما المتنوعة ينتظمها دائما هذا الخاطر النبيل.
قال أمين: سرني يا عزيزتي إقبالك على الدراسة العلمية للنحلة، وقد قرأت وصفك التشريحي وتأملت رسومك الميكروسكوبية البديعة فرأيت بنان الفنانة فيها. - شكرا يا أمين، وحمدا على أن تلميذتك نصف خائبة فقط. - ولماذا تبخسين نفسك حقها يا بثينة؟ - لا بخس ولا انتقاص، ولن أعد نفسي ناجحة حتى أفوز بغايتين: أولاهما: أن أوفر عليك التعب وأحقق الإدارة الكاسبة لمناحلك كما اتفقنا، وينطوي تحت هذه الأمنية تفوقي العلمي، وأين أنا من كل هذا؟ ... وثانيهما: أن أنشر مبادئك الإصلاحية نشرا عاما فيتبدد أمامها الفساد والجهل كما يتبدد الظلام والضباب أمام أشعة الشمس الوهاجة.
فابتسم أمين ابتسامة المؤمن المبشر لرسالته التي أخذت تتمكن من التربة الصالحة وآذنت بالاستقرار فيها. - حقيقة يا بثينة ما استحق أن يولد من عاش لنفسه، ولكن لكي نعيش لأمتنا بل الإنسانية عامة لا بد من التمكن من معرفتنا ومن الوسائل اللازمة لتطبيقها، فالحماسة وحدها لا تجدي، وستتاح لك فرص كثيرة لفحص ما أقول ونقده والنظر في كيفية تطبيقه للصالح العام، فلا كان الخير الذي يختصنا وحدنا ولا كان المذهب الأناني القائل: أخف ذهبك ومذهبك وذهابك.
ولو أني حبيت الخلد وحدي
لما آثرت بالخلد انفرادا
سأحدثك اليوم عن أثاث الخلية وعن ضروب النحل وعن كيفية نشوء النحلة، وأظن أن هذا الحديث كاف بشرط أن تتزودي بقرص من الأسبيرين وقاية من الصداع، وبقرص من الثيامين ضمانا لانتباهك وانتعاشك، كما أني سأكافئك ببعض العسل الشمعي الجديد فسأقطفه خصيصا لك مع تحياتي الشعرية عند أوان الشاي. - أنت متأخر جدا يا أمين بهذه المظاهرة المفتعلة التي تتصنع بها بخس نفسك، لو كنت تقدمت بها منذ أسابيع وأنا لم أزل بعد «مادة خامة» لكان لها بعض المعنى، أما الآن فهي فاترة وبائخة تماما، إن حماستي يا أستاذي النجيب لا تقل ولن تقل عن حماستك، ولن أطالبك الآن بالرهان على تفوقي، ولكن سيأتي يوم قريب يطيب لك فيه هذا الرهان مطمئنا. - لقد زللت، فصفحا، وهلم يا روحي وإلهامي إلى خلية الرصد قبل أن نعود إلى عملنا الرتيب في الخلايا الأخرى.
ولكنهما ما كادا يخطوان بضع خطوات في اتجاه خلية الرصد حتى سمعا «تهليلا» عجيبا في الجو مبعثه آلاف من النحل الطائرة التي كانت تترامى في شتى الجهات كأنها مقذوفات المدافع الرشاشة، ثم أخذت تتكيف في مجموعها في هيئة دائرية وتتجمع رويدا رويدا إلى أن حطت على فرع من إحدى أشجار المشمش التي تظلل المنحل، وقد ترك أمين بثينة مشدوهة لهذا المنظر الساحر وهو يهتف «هذا ثول خرج من إحدى الخلايا» وهرع فأحضر دلوا من الماء ومضخة نثر بها الماء على النحل الطائرة كأنما يوهم النحل بسقوط المطر فدفعها بذلك إلى سرعة التجمع على الشجرة. قالت بثينة: حسبتك يا أمين تقول إننا بقطع بيوت الملكات في الخلايا التي تنشأ فيها نصون طوائفها من الانثيال، وأظن أننا فعلنا ذلك بكل دقة خلال الأسبوع الماضي، فماذا جرى يا عزيزي حتى نفاجأ هذه المفاجأة التي تفسد علينا ترتيبنا، وتفسد على إحدى الطوائف القوية إنتاجها؟ - لا ضرر إن شاء الله ... الواقع أنه قد فاتنا بيت ملكة ربما كان مختبئا في طرف قرص، فلما خرجت منه الملكة العذراء أو أوشكت على الخروج إنثال جانب من الطائفة مع الأم أي مع الملكة الأصلية المخصبة، وكان ما رأينا، وعلينا الآن أن نبحث عن الطائفة التي خرج منها الثول وأن نضعه في خلية جديدة، ونحن لم نخسر شيئا بتغيير مجرى حديثنا، وبتناولنا موضوعات غير التي كنا ننوي الحديث فيها، ومن يدري فقد يسمح لنا الوقت بتناولها أيضا، ولذة الحديث والعمل في المنحل ألا يكونا مقيدين. إن في وسعك وفي وسع أي طالب أن يقرأ كتابا موجزا أو مسهبا عن النحالة في المنزل وفيه الغنية عن كل حديثي، ولكننا هنا نقرأ كتاب الحياة بالقراءة المتسلسلة فيه، بل لنا أن ننظر في أية من صفحاته كما نشاء، فكل منها مستقلة وكل منها مرتبطة بغيرها، وأهم ما يعنينا أن نلم بروحها جميعا، وهذا الإلمام بروح المنحل هو أعظم ما نغنمه، ولا خير في نحال لا يتشرب هذا الروح.
وبعد أن رش أمين النحل بالماء جيدا أحضر من حجرة الأدوات صندوقا مصنوعا من السلك والخشب ذا غطاء وقطعة من النسيج، واتجه مع بثينة إلى حيث موضع الثول، وكان لحسن حظهما في موضع واطئ إذ لم تكن الشجرة مرتفعة، فطلب إليها أن تحمل الصندوق - بعد أن رفع غطاءه - تحت الثوب مباشرة، ثم هز الفرع هزة قوية موفقة فسقطت النحل أو معظمها داخل الصندوق فوضع أمين غطاء الصندوق عليه، ثم غطاه أيضا بقطعة النسيج، وأحله في مكان ظليل بجوار حجرة الأدوات، وكان غرضه من التغطية بالنسيج حجب الضوء بقدر الإمكان عن الثول ليبقى مستكنا في حين أن السلك الذي في الصندوق كفيل بالتهوية الوافية، كما أن وضع الصندوق في الهواء الطلق وفي مكان ظليل بدل إحدى الغرف يحميه من ارتفاع الحرارة المؤذية للنحل. ثم أخذ بثينة وراح يتأمل أبواب الخلايا عله يهتدي إلى الخلية التي خرج منها الثول، فوجد خلية ذات طابقين مأهولين بالنحل، ومع هذا لا يتجلى النشاط عند بابها، فقدر أن الراجح خروج الثول من هذه الخلية. لم يعبأ أمين ولا بثينة بلبس القناع عند جمع الثول من فوق الشجرة؛ لعلمهما بأن النحل المنثالة وديعة وأبعد ما تكون ميلا إلى اللسع، ولو أن الحكمة تقضي بلبس القناع على أي حال اتقاء لأي طارئ. أما وقد اضطرا إلى فتح خلية مأهولة بطائفة قوية فلم يكن بد من التأهب الكامل لذلك، وفتحا الخلية فوجدا في غرفة التربية عددا من بيوت الملكات في أدوار شتى من التكوين، كما وجدا بيتا مرفوع الغطاء دالا على خروج ملكة منه، وسرعان ما وجدا ملكة عذراء تجري كالصبية الطائشة على أحد الأقراص فأعادا هذا القرص إلى الخلية مطمئنين، وعمدا إلى قطع بقية بيوت الملكات اتقاء لأية هجرة تابعة، وهي ما يطلق عليها اسم «التطريد» كما يطلق على النحل المهاجر مع ملكة عذراء اسم «الطرد»، وبعد أن دون أمين ملاحظاته على بطاقة الخلية أغلقها وكتب على واجهة الخلية بالطباشير الحرفين (م ع) إشارة إلى أن فيها ملكة عذراء، ونبه بثينة إلى أنه لن يفتح هذه الخلية اللهم إلا عاسلتها حين يريد فرزها - قبل مرور أسبوعين أو ثلاثة؛ ليعطي الملكة العذراء دون مقاطعة تخيفها فرصة للتلقيح ولوضع البيض في هدوء، حتى إذا ما عاد إلى فتح الخلية كان أمام نتيجة يصح له الاطمئنان إليها.
قالت بثينة: ولكن ألا يجوز أن تضيع الملكة العذراء في أثناء التلقيح، فما الذي نغنمه من الانتظار كل هذا الزمن قبل إعادة الفحص؟ - إن في تصرفنا هذا ضمانا لمنع عصبية الملكة التي قد تلزمها الخلية ولا تشجعها على الخروج للتلقيح، وليس ثمة أسوأ من تهافت المبتدئ على التطلع إلى الملكة العذراء بين يوم وآخر للتأكد من أنها لقحت، فإن نتيجة ذلك اضطراب الطائفة، وتثبيط اهتمام الملكة بالخروج للتلقيح ؛ إذ قد يتغلب الخوف على الغريزة. - أليس من الجائز أن هذه الطائفة قد انثالت بالأمس مثلا في أثناء غيابنا، وأن الخلية التي خرج منها الثول هي غير هذه؟ - هذا جائز لولا أني لاحظت في أقراص هذه الطائفة بيضا عمره يوم واحد، وهو الذي يبدو واقفا على قاعدته دون ميل، وإن جاز لك أن تعترضي بأن الملكة قد تكون باضت بعد ظهر أمس قبل خروجها، وها هو لم يمر - ونحن في الصباح التالي - يوم كامل عليه؛ إذ يجوز أن ينثال النحل عند الأصيل كما ينثال في الصباح وإن كان انثيال الصباح هو الأكثر حدوثا، ومهما يكن من شيء فلدينا حيلة بسيطة وهي أن نجمع في صندوق آخر بقية الثول الجاثمة على فرع الشجرة، وننثر فوقها بعض الدقيق وندعها تطير، فإذا دخل بعض هذا النحل الذي سيتميز بما عليه من بياض الدقيق في هذه الخلية كان ذلك توليدا تاما لاستنتاجنا الأول.
ونفذ أمين قوله فتحقق استنتاجه وسرت بثينة بما رأت، ثم سألته: وماذا تنوي عمله لهذا الثول المحبوس؟ - سأهيئ له خلية صالحة له أزودها بقرص من الحضنة المختومة، وبآخر من البيض واليرقات الصغيرة وذلك من إحدى الطوائف القوية، كما أزوده بقرص من العسل والعكبر من قبيل التشجيع على الاستقرار، ولو أن الحقول وفية الآن للنحل بأزهارها العسلية. فأما الحضنة المختومة ففائدتها أنها تستبقي الثول في خليته الجديدة فلا يفكر في هجرتها، وأما قرص البيض واليرقات الصغيرة فإليه يلجأ النحل لتربية ملكة جديدة لو أن الحظ عاندنا وفقدت الملكة لأي سبب في أثناء إدخال الثول وإقراره في الخلية الجديدة، وأما قرص العسل والعكبر فيزود الثول بحاجته من الغذاء إلى أن تبدأ نحلة السارحة في الجمع الوافي في الحقول، وأما الأقراص الخالية المكملة بها غرفة التربية فلتكون تحت تصرف المملكة في وضع بيضها.
Unknown page