فقاطعه غانم بقوله: لعلك جئت تتلو علي صلاة الندامة، فاتلها على غيري، وحدث عن مرادك بلا تمويه، فإني لست ممن ينخدع بزخرف القول كالأغرار، وأنا أعلم أحوالك، ولي خبرة بطويتك وأطوارك، فلا تزعمن أني أصدقك حين تتكلم لتوهمني أن نعمة الله هبطت على قلبك القاسي فألانته، وفاضت روحه القديسة على نفسك الشريرة الخبيثة فأصلحتها، فدع المراء عنك ولا تنطق بالمحال، وتكلم بالصدق، وأخبرني عن سبب حقدك على فؤاد وعن جلية الأمر.
قال خليل: رويدك قليلا، واسمع الخبر مني، فلن أخفي عنك شيئا، ودعني الآن أعترف بجنايتي، فقد أخطأت بحق شقيقتك المرحومة، فتراني لشدة الحزن أكاد أفارق الدنيا، وأنا في كل يوم بكدر مزيد.
قال غانم: رجعت إلى كلامك الأول لتوهمني أنك شديد الأسف والحزن على امرأتك، وتزعم أني أصدق ذلك على علمي بمكرك وطمعك وسوء أخلاقك وخبث سريرتك، وبعد؛ فلو فرضت أن قولك حقيقي لا ريب فيه، وأن النعمة الإلهية شملتك وقدستك، فتبت إلى الله بقلب خاشع، وندمت على ما فرط منك وبدر من البوادر والذنوب، فهل كنت مكلفا باستماع توبتك كأن لي وقتا أضيعه لسماع المراء، وفي الجملة فامرأتك قد توفيت وبليت عظامها، فلو صدقنا بتوبتك وندامتك على ما اقترفت من الذنوب لم يكن ذلك ليعيد لها الحياة من بعد هجعة القبر.
قال خليل وفي صوته أنة الحزن والأسف: أواه أواه ... رحم الله الفائتين، فقد ماتت المسكينة أسى وكمدا كما قضى الرحمن سبحانه ولا مرد لقضائه، ذهبت - رحمها الله - من دار الفناء إلى دار البقاء، وخلفتني أقاسي الهموم، وأتجرع البلوى آسفا على فقدها متفطر الكبد، وهيهات أن يرجع ما فات، فليس لي غير الصلاة والخشوع كفارة عن ذنبي أن يقبل الله صلاتي عليها، وإجلالي ذكرها في كل آن ومكان.
قال غانم: ما أرى والله إلا أن تعانق الرهبانية أو تلزم العزلة في جبل كالناسكين الزاهدين في الدنيا؛ فذلك خير تكفير عما اقترفت من الكبائر وما اجتنيت من الآثام العظيمة؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
قال خليل: كلا، فالتكفير عن الذنوب والسيئات والقيام بالأعمال الصالحات خير من النسك والعزلة، فأنا أستغفر الله سبحانه مولي النعم، ومزيل النقم، فامرأتي قد توفاها الرحمن فلا يفيدها أسفي عليها، بل رأيت الأنفع والأجدر بي أن أبذل مزيد استطاعتي والعناية الفائقة لتعهد شأن الشخص الوحيد الذي حصرت فيها محبتها مدة حياتها وهي ابنتها عفيفة، فإليها وجهت أنظاري وجعلت أيامي إلى آخر نسمة من حياتي وقفا على خدمتها، لعل الله يغفر لي ذنبي الذي جنيته على أمها.
فانذهل غانم لدى سماع هذا القول وجحظت عيناه، وحدق إلى خليل متفرسا به، ثم قال متعجبا: أعفيفة حية؟!
قال خليل: نعم هي حية صحيحة الجسم سليمة، وكنت ظننتها قد ماتت كما ظن غيري، فرأيتها في الأمس، فعلمت فساد ظني.
فانقبض وجه غانم، وتصور أن الفتاة لا تلبث أن تحضر إليه فتجشمه نفقة هو في غنى عنها، فجعل يكثر من السؤال مستفهما عنها، وكان خليل يجاوبه مؤكدا صحة الخبر، ثم سأله غانم: أين كانت من وقت وفاة والدتها؟
فقال له خليل بصوت مرتعش: كانت في حوزة رجل فاسق فاسد النية ذميم الطباع.
Unknown page