قال خليل ساخرا متهكما: شكرا لفضلك، فالله إني أراك كالثعبان تدخل للإفساد والإغواء لا للإصلاح وتأليف الشمل، فلو كنت صادقا في قولك، وكان عزمك على الزواج بابنة غانم أكيدا فأخبره بالعداوة والحقد عليه حتى الممات إن زعم أن عداوتي يسيرة يتهاون بها، ولي الآن كلام يخصك فلا يناسب أن ألقيه على مسمع من امرأتي فتنزعج، فتعال اتبعني. ثم إنه سار نحو الباب وقال: لتعلم أني زوج كريمة وابنتها عفيفة في عصمتي، وقد راقبت حركاتك وعلمت أنك رافقت بالأمس الفتاة إلى البيت فنبهتك لترتدع، فإن أصررت على عنادك لقيت ما لا يرضيك، وفي هذا القول كفاية. وعندما قال ذلك تركه على السلم، وأغلق الباب عليه ودخل مغاضبا على امرأته يسألها عن عفيفة، فقالت: هي في حجرتها، فتقدم إلى باب الحجرة فوجده مغلقا، فجعل ينادي الفتاة باسمها، فلما لم تجبه قالت له كريمة: دعها، فلعلها نائمة، واتركها تسترح قليلا وتستقل من التعب. فلم يصغ خليل إلى هذا الكلام، واستمر ينادي ويضرب على الباب، ثم ذهب إلى الحجرة الأخرى وقبض على قضيب من حديد فلما رأته كريمة قادما وفي يده القضيب، وثبت على القدمين مرتاعة مرتعدة، وقالت: ويك، ماذا تصنع، لعلك تبغي قتلها؟ وأرادت أن تمنعه فدفعها على الأرض وجعل يطرق الباب بالقضيب فكسر قفل الباب، ودخل فلم يجد أحدا، فخرج يصخب ويلعن ويقول: أين الخائنة؟ أين توجهت؟
قالت كريمة: لا أعلم.
قال: هل رأت فؤادا؟
قالت: كلا.
قال: أنت تعلمين مقرها فأخبريني أين ذهبت؟
قالت: لعلها ذهبت إلى الكنيسة تصلي، فهذا يوم الأحد تخرج للصلاة على عادتها فيه.
قال: أحوال المجانين عند النساء شائعة، فابنتك هذه لا بد أن يختل شعورها بكثرة العبادة والركوع والبكاء والنحيب.
قالت كريمة: هكذا عبادة المساكين البائسين.
قال: بئست عبادة تورث الخبل وتحط من قدر القائم بها، فالعبادة الحقيقية لا تقوم بالأعمال الخارجية، وبعد فإني سأمنع عفيفة عن التوجه إلى الصلاة بعد، ولا بد أن تكوني قد علمت أن ابنتك تأخرت في حضورها الليلة البارحة من محل شغلها، والله يعلم أين كانت، فيجب أن أقف على جلية الأمر، إذ لا يدخل في تصوري أنها قامت في شغلها إلى ما بعد نصف الليل بساعتين. وإذ قال هذا الكلام خرج من الحجرة تاركا زوجته كريمة في حال من القلق تتصور ما بدا منه، وكيف قابل فؤادا وأخشن له القول، ثم رجع ساخطا يسب ويلعن، وتذكرت مزيد كلفه بابنتها، فضاق صدرها انقباضا، فجمعت قواها تريد وقوفا لتمشي في الحجرة فلم تستطع رجلاها حملها، فسقطت على الأرض مغمى عليها.
وكان في أثناء ذلك قد جرى في الدور الأسفل حديث بين فؤاد وعفيفة، فإن فؤادا بعد أن فصل عن خليل في أعلى السلم نزل محتدا وجال في خاطره أن يصعد لينتقم من خليل بما رأى من الخشونة وقلة التأدب والغلظة الوافرة، فصرفه عن ذلك افتكاره بأن عفيفة تنتظره تحت، فأجل انتقامه إلى فرصة أخرى، ونزل السلم وانتهى إلى باب الدور الأول فقرعه خفيفا فأسرعت عفيفة في فتحه له وقالت له: ادخل حالا، فهذا محل جارتنا أنيسة وهي الآن غائبة، فدخل وقلبه يخفق، فأغلقت الباب، ودخلت معه إلى حجرة صغيرة فيها شيء يسير من المفروش يدل على فقر صاحبته، وبعد سكوت برهة قالت له: دعوتك سيدي هنا، وقد تأسفت على دعوتي فقلبي يخفق وجناني يضطرب من الخوف أن يعلم عمي بمكاننا، وهو شديد الغضب، جبار عنيد، فلو رأيت أن نخرج عاجلا قبل أن يدركنا، فلا يحصل على ما يكدرك، وفي الوقت سعة لتخرج فلا يعلم بنا أحد.
Unknown page