وكانت عفيفة مستغرقة في بحار الأفكار غير متنبهة لأحد، وكانت الليلة مقمرة والبدر في تمامه يسطع بأنواره البهية على المياه الجارية، ويتألق بضيائه كالفضة النقية تتماوج موجا خفيفا، فتقدمت عفيفة حتى أصبحت على قيد خطوة من النهر، ونزعت عن رأسها النقاب، فأخجلت بطلعتها البدر الساطع فوقها، ثم أرخت شعرها فانسدل على الكتفين، وجثت على الركبتين رافعة إلى العلا رأسها تضرع وتصلي، وكان الوقت ساكنا والنسيم عليلا، يحرك بلطافة شعرها المسترسل، فلو أن ناظرا نظر إليها خاشعة راكعة شاخصة إلى السماء، رافعة يديها في الضراعة، تناجي ربها صاحب العزة والملكوت، وتأمل بهجة المكان وهيبة الليل لاندهش من ذلك المنظر، وخر خاشعا مثلها لعزة ذي الجلال، وظن الفتاة ملكا هبط من السموات العلا يسبح على الأرض، ويتلو آيات العبادة لربه، وقد أثر هذا المنظر على فؤاد أشد التأثير، فرجفت أركانه، وتوجس أن الفتاة تريد بنفسها شرا، ورآها بعد عشر دقائق قد نهضت، وأضاء وجهها، كأنما الصلاة أزالت عنه ما غشيه من أكدار الهواجس والأفكار، فأنارته وزينته بأبهى زينة التقى والوقار. ثم رآها وقد مدت يدها على جيبها، فأخرجت علبة صغيرة ذهبية قبلتها مرارا كثيرة والدموع تتساقط من عينيها، ثم أعادتها إلى جيبها، وضفرت بيدها شعرها ضفيرتين ربطتهما على عنقها، وحلت شريطة سوداء فربطت ثوبها من أسفل ركبتيها صيانة للأدب والحشمة، وتقدمت قليلا تنظر في الماء فراعها المنظر وتولاها الجزع، وكان البدر قد احتجب وراء سحابة فأظلم المكان، فتربصت الفتاة انجلاء السحابة وتجلي البدر اللامع، وأرسلت بصرها إلى العلا، وهي لا تبدي حراكا. وكان فؤاد يراقبها فلا يتحرك من مكانه، وفي قلبه الاضطراب الشديد والجزع الذي لا مزيد عليه، فلما انقشعت السحابة، وأضاء البدر بنوره، سمع عفيفة تستغيث بأسماء الله العظيمة، ثم صرخت قائلة: «ربي ارحمني ... بين يديك أستودع روحي يا أرحم الراحمين» ... وهمت أن تزج نفسها في اليم، فهب فؤاد من مكانه كالبرق، وقبض على طرف ثوبها قبل أن تندفع، فصاحت مرعوبة، ووقعت على الأرض مغشيا عليها، فنزع الفتى سترته، فجعلها بساطا أضجعها عليه، وحل شعرها المربوط على عنقها والرباط المعقود على ركبتها، وانتظر أن تفيق من إغمائها ليرجع بها من ذلك المكان، وطال عليها الأمد فلم تفق، فانحدر إلى النهر، وبل منديله بمائه، وجعل يرش على وجهها، ويمسح جبينها، فانتعشت قليلا، وفتحت عينيها، ونطقت بغير رشد، ثم تلفتت إلى ما حولها، فكأنها لم تبصر شيئا، فعلم فؤاد أنها في بحرين من شدة الأوهام والخيالات، وأنها لم تملك حواسها، واستمرت كذلك حتى سمعها تهتف قائلة: أبي أبي ... ألست بين يديك؟ وبسطت ذراعيها كأنها تريد معانقة فؤاد ظنا منها أنه والدها المحبوب.
فقال لها فؤاد وقد اضطرب جنانه: التزمي السكون إن شئت رؤيا والدك، واجمعي أفكارك وحواسك وقوتك.
فأطاعت الفتاة كلامه كأنها في حلم، وجعلت يدها على جبينها لتجمع أفكارها بعد الشتات. وجعل الفتى يلاطفها، ويتجمل في خطابها، ويمسح وجهها بالماء، وهي أثناء ذلك لا تهتدي رشدا تصدر منها الحركات على غير انتظام، وتنطق بلا وعي، ثم قالت: أسمع صوتا لطيفا يشبه صوت والدي، ولعله غير بعيد عني، ليحضر قريبا إلي، فأستغني به عن سائر الكون.
فقال فؤاد في نفسه متوجعا للفتاة: يا لها من تعيسة فاقدة السعادة! أنقذتها من الموت، فهل أنقذها من الجنون؟ فإني أراها تختلج اختلاجا، وتبدو حركاتها بلا ترتيب كحركات معتل الشعور.
ثم إنها نطقت كأنها تناجي أباها بقولها: أبي أنت في السماء، وأنا مقبلة إليك مبرأة من العيب والريب، والناس يقولون: إن من يقتل نفسه يصبح في الهالكين، لقد ضلوا سبيلا، إنما ملكوت السموات للمساكين الحزانى، وأنا منهم أقضي أيامي حزينة مسكينة ومعذبة ومحرومة. ثم جعلت رأسها بين يديها، وأذرفت الدموع الساخنة، وقد أفاقت من صرعتها قليلا، وخشي فؤاد أن يعاودها الإغماء من شدة البكاء، فاجتهد في ملاطفتها وتعزيتها وتسكين خاطرها، فانتبهت شيئا فشيئا، ثم انتصبت واقفة تنظر إلى ما حولها قائلة: أين أنا؟ من أحضرني هنا؟ من هذا الشاب؟ أين أبي؟
فقال لها فؤاد: سكني البال، أنت في أمان، وأنا صديقك وبين يديك.
قالت: ليس لي صديق ولا رفيق، أخبرني أين نحن، الوقت ليل وقلبي مضطرب خوفا؟
قال: لا تخافي شيئا، إنك في رفقة صديق أمين مخلص، لا يبغي بك شرا، ثم إنه قادها من يدها نحو الكوبري رجوعا إلى المدينة، فارتعدت فرائصها من رؤية الماء، فسكن فؤاد خاطرها، ومشى بها حتى انتهت إلى الكوبري، فأجلسها قليلا على حافة رصيف الشارع لتملك بعض الراحة، فإن قدميها لم تستطيعا ثباتا من شدة الرجفة، ولبث فؤاد محتارا كيف يوصل الفتاة إلى بيتها وهو لا يعرفه والمسافة بعيدة، والعربات معدومة في مثل هذه الساعة من الليل، فبعد أن استراحت قليلا استأنفت السير، وهي متكئة عليه حتى وصلا الحديقة الصغيرة التي جلست عليها الفتاة قبل حين قريب، فخطر في باله أن يدعها هنالك قليلا وأن يذهب في طلب عربة، ولكنه أشفق أن تعاودها الأفكار في أثناء غيبته فتقتل نفسها، فرأى الصواب أن يقيم معها حتى تكون قد استراحت، وتمر عربة فيجعلها فيها. ولتوسط المكان جملة شوارع كان المحتمل أن يرى عربة خلوا من الركاب، فأقام في مكانه ينتظرها. وكانت عفيفة تقول من حين إلى حين: يا عجبا! ماذا جرى؟ ماذا عملت؟ وكم الساعة الآن؟ ومن جاء بي إلى هذا المكان البعيد؟ كيف أني مقيمة خارجا عن بيتي في هذا الوقت؟ وما حال والدتي وهي لا تراني؟ قالت: أرجوك يا سيدي أن ترافقني في الطريق إلى بيت أمي، فإني لا أبالي بالتعب، واسمح لي أن أتوكأ عليك، وأنت صاحب الفضل والمعروف، وبينما هي تتكلم مرت عربة من أعلى شارع مصر العتيقة المعروف بشارع 24، فاستبشر فؤاد برؤياها، فما لبثت أن دنت منها، فأومأ إلى السائق يستوقفه، وأجلس عفيفة في العربة بعد أن امتنعت وأبت إلا التوجه ماشية على القدمين، وجلس فؤاد إلى جانبها، وأمر السائق أن يسير إلى جهة الأزبكية قريبا من قهوة البورس لظنه أن محل إقامة الفتاة قريب من هنالك، فسارت العربة.
وجعلت عفيفة تنظر حينا بعد حين إلى الفتى متعجبة مستغربة حتى قالت له أخيرا: أخال يا سيدي أني رأيتك، ولكنني لا أتذكر المكان ولا الزمان.
فقال لها فؤاد: لا تجهدي النفس في التفكير، فإنه يلزمك الاستراحة واطمئنان البال، وجعل يواسيها بالقول الجميل ويلاطفها، ويعزي قلبها المحزون متوجعا لها ولوالدتها ولانشغال بالها. ثم جعل يخبرها عن قصته وكيف تتبع أثرها من وقت خروجها من مخزن الخياطة ودخولها إلى الصيدليات الواحدة بعد الأخرى، وكيف أنقذها من كيد الصيدلي، وتبعها إلى كوبري قصر النيل، وأنقذها من الغرق، وكان في أثناء ذلك يتلطف في عتابها ويلومها على فعلها قائلا: إن الكون مخلوق للشقاء والتعب، ولا بد لكل خليقة في حمل ما قسم لها مولاها من الأتعاب والأوصاب بصبر وطيبة خاطر، ولا يليق بأحد معارضة الله في أحكامه، وكل مصيبة - وإن عظمت - فوقها مصائب أعظم. وقد تهون على المرء أتعابه حين يقابلها بأتعاب غيره، وليس على البسيطة مستريح خال من الهم والتعب، وإن الأحزان في الكون أكثر من الأفراح، سنة الله في خلقه، فعلى العاقل البصير أن يكون حمولا غير جزوع، متجلدا لملاقاة الأهوال بالعزم والحزم لتهون عليه مصائبه. وقال: أنت أيتها السيدة نبيهة، وعليك دلائل الذكاء، فيلزمك التصبر على الشدائد، فلكل أمر نهاية، ولا يدوم في الكون فرح ولا ترح، فأشفقي على والدتك، وتأملي مقدار ما تأسى عليك وتجزع حين يبلغها وصول أقل ضرر إليك، فتعروها الأكدار والأشجان، وتكثر أحزانها وأوجاعها، وربما قضت وجدا عليك، وسكنت الرمس قبل الأوان، وتكونين أنت السبب في ذلك والخطيئة مضاعفة، وكانت العربة تسير مسرعة سير السحاب، وعفيفة تصغي إلى كلام الفتى، وقلبها يخفق إلى أن وصلا أمام دكان الخياطة، فقال لها فؤاد: وصلنا إلى محل عملك فأين منزلك لأوصلك إليه؟
Unknown page