قال سعيد: تريد أن تضحك البنات علي، كأنك تزعم أنه يفوتهن العلم بغايات الرجال، ويعدو خاطرهن أسلوبك الذي أشرت إليه. كلا، فالأفضل أن أكلمها على حدة فلا يدري بنا أحد، دعني وشأني، وانظر كيف أتدخل وأبلغ الغاية، وتكون البنت بين يدي وطوع إرادتي قبل أن ترد طرفك إليك.
ثم إن سعيدا لم يتم كلامه حتى خرجت تلك الفتاة الشقراء تخطر وتتهادى، متصنعة في حركاتها، متلبقة في إشارتها، ومرت من أمام سعيد، فلحظته بطرف الإغواء كأنها تستدعيه، وسارت الهوينا تهتز معاطفها يمينا وشمالا.
فقال سعيد وقد أشرق وجهه حبورا: أرأيت كيف أشارت إلي باتباعها وغازلتني بسحر عينيها؟ فأنا الآن أفصل عنك وغدا تأتيك أخباري، ثم إنه انطلق وراء محبوبته، يقتفي أثر خطواتها مبتهجا مسرورا. ولم تكن برهة من الزمان حتى خرجت عفيفة، وهي الفتاة التي شغف بها فؤاد، وكانت لابسة ثيابا سوداء، وعلى وجهها علامة البؤس والحزن، فجعل فؤاد يتأمل معاني حسنها البديع وجميل قوامها حتى مرت من أمامه، فلم تلتفت إليه، وأسرعت في سيرها فتبعها على بعد قريب منها حتى انتهت إلى عطفة الطريق شمالا في الشارع المعروف بشارع الباب الشرقي، فجعلت تعجل في سيرها أحيانا وتبطئ أحيانا لأفكار كانت تخالجها، فتبدو منها الحركات بحسب تأثير فواعلها، ثم سارت يمينا في شارع البواكي حتى انتهت إلى الصيدلية النمسوية، وقفت قليلا تتفرس، وبعد التردد دخلت إليها، فتقدم فؤاد قريبا من واجهة الدكان ليبصر ما يكون من أمرها، رآها قد دنت من شاب مرتفع القامة، واقف وراء مائدة مستطيلة، وجعلت تكلمه همسا خفيا، وأبصر وجه ذاك الشاب تغير وجبينه قد تقطب، وأجابها برفض طلبها، فألحت عليه وتضرعت فأبى وكلفها بالخروج، فانصرفت ورأسها منكس إلى الأرض، واشتدت على وجهها أمارات الحزن فاستطردت المسير، فتفرس فؤاد أن الفتاة قد التمست شيئا من السموم المحظور بيعها، وإلا فكيف امتنع الصيدلي عن تلبيتها. وبينما كان يجيل هذه الخواطر في رأسه تلفت فلم يبصر الفتاة، فجعل يهرول يمنة ويسارا مفتشا عليها حتى رآها قد دخلت صيدلية أخرى عنوانها الصيدلية السويسرية، كانت على بعد خطوات قليلة من الصيدلية الأولى على رأس الطريق المؤدية إلى شارع العتبة الخضرا، وكان في الصيدلية شاب لطيف حسن الوجه جالسا على كرسي يطالع كتابا، فلما أبصر الفتاة داخلة عليه وقف لها، وسألها بكل تأدب عما تريد، فلما أجابته انقبض وجهه كما انقبض وجه زميله في الصيدلية الأولى، وقال للفتاة بكل حشمة وبشاشة: إنه لا يستطيع إجابة سؤالها، فألحت في طلبها فامتنع وخرجت من الصيدلية فتبعها وهو يعتذر بقوله: أتأسف لكوني لا أستطيع قضاء حاجتك، فإن ما تطلبين ممنوع بيعه بأوامر مشددة من الحكومة، فلا يمكننا مخالفتها إلا بتعريض أنفسنا لمسئولية كبرى وعقوبة جسيمة.
وقد سمع فؤاد كلام الصيدلي فتحير وقال في نفسه: أستغرب والله أمر هذه الفتاة، أي علاقة بين ما تطلبه وبين الحكومة؟ فلا بد أن أستجلي الأمر وأكتشف السر.
وجعلت عفيفة تسرع في سيرها أكثر من الأول، فمشت محاذية محل الضابطة القديم، ثم وقفت كأنها تبغي العود على عقبها، فوقف فؤاد ناظرا إليها، وأحس بعاطفة سرية تقوده، فإذا الفتاة قد أخذت تسعى بعد وقوفها برهة، فتبعها فعطفت سيرا على يمينها في الطريق المؤدية إلى جهة الموسكي المعروفة بشارع الجوهري، وظلت سائرة حتى انتهت إلى صيدلية ثالثة قريبة من شارع الموسكي إلى جهة الشمال عنوانها الصيدلية الفرنسية، فوقفت على بابها تشاور نفسها في الدخول، فبادر فؤاد بحجة أنه يشتري حبوبا للسعال، فدخل الصيدلية وفي نفسه أن يسمع كلام الفتاة وما تطلبه. وكان في الصيدلية ثلاثة أشخاص يظهر أن أحدهم صاحبها وأن الاثنين الآخرين من عماله، فأحدهما واقف وراء التختة ويسد بالفلين والشمع الأحمر القناني، والثاني جالس بقرب مكتب بين يديه الدفاتر، يكتب ويحسب، وكان صاحب الصيدلية مضطجعا على كرسي، وقد غلب عليه النعاس، فبينما نهض الغلام لقضاء حاجة فؤاد دخلت عفيفة متقدمة نحو الشاب الجالس على مكتبه، وكلمته بصوت منخفض، فنظر إليها الشاب مندهشا، وقد سقط القلم من يديه وقال لها: تطلبين الزرنيخ وليس في يدك رخصة من طبيب؟ فسمع فؤاد الخطاب، والتفت إلى عفيفة وتفرس بها، وصادف أن سقطت قنينة من يد الغلام فاستيقظ صاحب الصيدلية من هجعته، ونهض من كرسيه يكلف الغلام بالإسراع في الخدمة وأن ينتبه.
وتقدم نحو عفيفة يسألها عن مطلوبها، فأجاب الشاب الجالس على المكتب أنها تطلب زرنيخا، فقال صاحب الصيدلية: أي زرنيخ ... البوتاس أو الصودا أو النشادر؟ فهذا الدواء موصوف لمعالجة الأمراض الجلدية ولتحسين البشرة، وتستعمله النساء دهانا لتحسين الوجه وتنعيمه.
قالت وقد احمر وجهها خجلا: ليس بي مرض، ولا حاجة لي في دهان وجهي.
قال الصيدلي: لم يكن معناي أنك تطلبين الزرنيخ لنفسك، فقد أغناك الله عنه بجمالك الرايق. أين روشتة الطبيب لأنظر؟
قال الشاب: ليس معها كتابة من طبيب.
قال الصيدلي: لا نستطيع أن نبيع مطلوبك بدون أمر الطبيب، وخصوصا لمن كان في سنك. فما تبغين من هذا الدواء؟ قالت: في بيتنا فيران كثيرة تأكل المتاع، وقد وصفوا لنا الزرنيخ لقتلها. قال: عندنا حبوب جاهزة لإتلافها أعطيك منها ما يلزم. قالت: أفضل أن أركبها بنفسي.
Unknown page